مکائد الحب فی قصور الملوک
مكايد الحب في قصور الملوك
اصناف
وقضت عدة سنين هائمة على وجهها في أوروبا متنقلة بين إيطاليا وسويسرا وفرنسا وغيرها، وهي تسعى في إثبات حق الاعتراف بها أميرة ملكية. وهذه المساعي كلها لم تقترن بغير الخيبة والإخفاق ومكابد الأتعاب وإنفاق المال على أناس تظنهم من ذوي الغيرة والأريحية وأهل النجدة والاستقامة، وبعد الاختبار تجدهم من شر رجال الخبث والنفاق. وفي ذات يوم كتب إليها محام من باريس يستدعيها إليه ليطلعها على ما عنده من الأدلة التي تؤيد دعواها، فخفت مسرعة إليه، فقص عليها قصة غريبة خلاصتها أن دوق أورليان رام أن يصالحها ويزيل ما بينه وبينها من النزاع، وأن والدته (التي هي بالحقيقة والدة لادي نيوبورو) كتبت قبل وفاتها معترفة بالمبادلة التي حصلت بين ابنتها وابن كيابيني. وقال لها في ختام حديثه إن تأييد حقها سهل جدا لا يحتاج إلا إلى مبلغ من المال ينفقه في سبيل المعاملات الرسمية. فنقدته المبلغ المطلوب وكان تسعة آلاف فرنك، وسلمته كل ما عندها من الوثائق والمستندات. ومن ذلك اليوم لم تر المحامي ولا الأوراق التي أخذها منها.
وعلى هذا المنوال أنفقت كل ما عندها من المال، وضحت بصحتها وراحتها، ولم تنل شيئا مما عللت نفسها بالحصول عليه. ولما يئست من إدراك غايتها كتبت قصتها ونشرتها بعنوان: «ماريا ستلا، أو مبادلة صبي قروي بفتاة من أشرف أسرة». وآخر طبعة من هذا الكتاب ظهرت مصدرة بمقدمة للناشر، هذه خلاصتها: «هذه الطبعة الثالثة من هذا الكتاب، وليس في إمكان أحد الحصول على نسخة واحدة من الطبعتين الأولى والثانية، فإن مذكرات ماريا ستلا كانت كجاثوم على صدر لويس فليب فروعته وأزعجته. فأمر رجال الشرطة بضبط جميع النسخ المطبوعة منها، وإنه ليتعذر على أبلغ كاتب أن يصف حوادث قصة أشد منها تأثيرا في قلوب قارئيها، ففيها يكشف الحجاب عن حقيقة لويس فليب، فيبدو كما هو ابن رجل حقير وضيع، ولكن بأسلوب رقيق رزين يملأ النفس روعة والعقل اقتناعا. وبالاختصار نوجه الأنظار إلى كتاب مرقوم بحروف من نار.»
هذا كان آخر سعي سعته ماريا ستلا مدفوعة إليه بعامل اليأس والقنوط، ولكنه لسوء حظها انتهى كالمساعي السابقة بالخيبة والإخفاق، ومن ذلك الحين كفت عن الجهاد في هذا السبيل، وقضت الثلاث عشرة سنة الأخيرة من حياتها معتزلة في غرف الطبقة السفلية من فندق الباث في شارع ريولي في باريس، وعلى جدران الغرفة التي كانت تقيم فيها صور أسرة أورليان التي كانت أشبه بها من صورتها. وعلى نوافذ الغرفة صور شفافة تمثل ستلا وبقية أعضاء الأسرة الأورليانية، فكان المارة يقفون وينظرون هذه المشابهة التامة، ويبدون إطراق الخشوع والموافقة بالشعور الخفي الصامت على صحة دعوى هذه الأميرة المنكودة الطالع. وكانت تسليتها الوحيدة أن تنثر الحبوب في أسكفة نافذتها المفتوحة على مصراعيها لألوف من العصافير الدورية التي كانت تأتي وتلتقطها شاكرة لهذه الأميرة البارة فضلها وإحسانها.
وفي اليوم الثامن والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1843، بينما كانت مطروحة على فراش النزع، سمعت قصف مدافع تطلق إيذانا بافتتاح مجلس النواب، فأفاقت من ذهولها واستعادت شيئا من صوابها وطلبت صحيفة، ثم أسرت إلى من جاءها بالصحيفة قائلة: «أود أن أسمع ما قاله لويس فليب اللص المغتصب.» ثم لفظت النفس الأخير، واستراحت من عذاب خيبة المساعي وعثرات الآمال.
ولم يكن في وسع أحد من أولي الحصافة وذوي العدل والإنصاف أن ينكر كون ماريا ستلا ابنة الكونت والكونتس جوانفيل؛ لأن الأدلة على ذلك كانت متوافرة. ومن المحقق أنها لم تكن قط ابنة الشرطي كيابيني الذي ليس بينها وبين أولاده أقل مشابهة في الملامح ولا في الأخلاق، بل كانت أشبه شيء بمدام إدلايد والدوق مونبنسيه ولدي دوق دي أورليان (الكونت جوانفيل). وكثيرا ما كان الناس يخطئون في التمييز بينها وبين أختها مدام إدلايد، ويظنون هذه تلك وتلك هذه. ولم تكن مشابهتها لوالديها الدوق والدوقة أقل من مشابهتها لأختها وأخيها.
ثم إن لويس فليب المبدل بها كان من أبيه كيابيني حذو النعل بالنعل أو صورة طبق الأصل؛ فكان جلفا خشنا في شكله وخلقه وكلامه. وكان أهل أوروبا يعجبون كيف يمكن رجلا كهذا أن يصير ملكا. وكانت فظاظة أخلاقه وغلاظة أفكاره موضوع الهزء والسخرية في قصور الملوك، وهذه الصفات كانت في طفولته وحداثته أوضح وأظهر. قالت مدام جنلس التي كانت مربية أولاد الدوق أورليان (وقد سبقت الإشارة إليها في الفصل السادس): «كنت مضطرة أن أعالج في الدوق دي فالوي (وبعد ذلك لويس فليب) تقويم كثير من الأمور المعوجة وإصلاح عدة عادات فاسدة. أما أخته وأخوه فكانا يختلفان عنه كل الاختلاف، ولم يشاركاه في شيء مما يزدرى ويعاب.»
أما اهتمام الكونت جوانفيل الشديد بأن يكون له ابن بدل ابنة - وعن هذا الاهتمام صدرت هذه المقايضة الجائرة الشائنة - فكان منشأه أن الكونتس قرينته كانت نحيفة جدا، وهي بقية سبعة أولاد توفوا كلهم في طفولتهم، فلو توفيت بلا عقب ذكر ذهبت ثروتها الكبيرة إلى أسرتها ولم ينل زوجها منها شيئا. وأما ما يعترض به على صحة هذه المبادلة بأن ماري ستلا ولدت في شهر أبريل سنة 1773، ولويس فليب (ابن الشرطي) ولد في شهر أكتوبر (أي بعدها بخمسة أشهر) فيرد بأنه لما جيء به ليعمد قال غير واحد من الذين حملوه أنه لم يكن حينئذ أصغر من ابن خمسة أشهر.
البولونية الحسناء والإمبراطور
يقال عن نبوليون الأول إنه بينما كان قادرا أن يلقى جيوش العالم كله مدججة بالأسلحة وغارقة في الحديد والفولاذ وهو «غير هياب ولا نكس وكل»، كان يخور عزمه ويهن جلده أمام بطارية تصوب إليه من عينين جميلتين. كان في استطاعته أن يسحق أوروبا بأسرها تحت قدميه، ويدوخ الممالك ويذل الملوك والقياصرة، ومع هذا كله كان قلبه أضعف القلوب في مقاومة نزعات الهوى وأشدها إزعانا لسلطان الحسن وانجذابا بقوة الجمال. فكنت تراه إذا فرغ من إملاء شروط الصلح على أمة أخضعها بحد سيفه، أخذ يلهو بتلفيق سخافات غرامية يستحي أصغر عاشق من نسبتها إليه.
ولعل عقيلة والسكا امتازت عن جميع النساء الحسان اللواتي سلبن قلبه وخلبن لبه، بأن تسلطها عليه كان أطول مدة وأرسخ قدما. وقد تم لها ذلك على رغم إرادتها. وبذلت في سبيله أغلى ثمن وأعز شيء لديها وهو صيتها الذي ضحت به وجعلته فداء محبتها لوطنها. وهذه القصة الغريبة التي أرويها عن تلك المرأة الجميلة المنكودة الحظ مقتطفة من المصادر السرية التي أماط عنها لثام الخفاء البحاثة المدقق المستر فردريك ماسون.
نامعلوم صفحہ