مکائد الحب فی قصور الملوک
مكايد الحب في قصور الملوك
اصناف
فقد اتفق له في أثناء غياب وصيه أن عثر على صندوق مفتوح مملوء رسائل، فدفعه حب الاستطلاع إلى تلاوتها، فوجدها من الملكة والكردينال مازارين (خلف ريشيليه)، ومن مطالعتها وقف على سر أدهشه وكاد يذهب برشاده، وهو أنه ابن ملك فرنسا المتوفى وتوأم لويس الرابع عشر أعظم ملك في أوروبا، والجالس على عرش كان في إمكان هذا الأمير المنبوذ أن يجلس عليه.
وبعد وقوفه على هذه الحقيقة الرائعة سأل نفسه وهو في أشد حالات الهياج والاضطراب: هل هذا صحيح؟ وإذا كان هو ولويس الرابع عشر شقيقين توأمين، فلا بد من وجود مشابهة بينهما تنفي كل شك وارتياب، فسأل وصيه هل عنده صورة للملك، فأجابه سلبا. وكان في المنزل مربية صبية وقد أحبت الأمير حبا جما، وبواسطتها تمكن من الحصول على صورة الملك. ولما نظر إليها وجد كل لمحة فيها تشير إلى ملامحه، وتدل عليه أصدق دلالة كأنها صورته هو لا صورة الملك!
وقد تنازعه إذ ذاك عاملان؛ عامل سرور وابتهاج لاطلاعه على سر طالما ود هتك ستره واستجلاء غوامضه، وعامل غيظ وحنق من إخفاء سر ميلاده عنه وعدم إفشائه له. فاندفع وهو يضطرب بهزة فرح وهزة غضب، وخف إلى الوصي والصورة بيده وصاح: «انظر! هذا أخي! فقد عرفته وعرفت من أنا!» وحقا أنه لم يكن بين فضح السرائر وكشف المخبآت ما هو أوخم عاقبة وأسوأ مغبة من هذا الأمر. فإن وصي الأمير أصيب بصاعقة ذعر وخوف كادت تذهب برشده وصوابه. وعلى الفور بعث رسولا إلى الملك يخبره بما حدث، وبعد ساعات قليلة أصدر الملك الحانق الغضبان أمره بأن يشد وثاق الأمير ووصيه ويزجا كلاهما في سجن ببنرولو في الألب الإيطالية، حيث ضرب الزمهرير والرطوبة أطنابهما، وبلغ من شدة فتكهما بالمسجونين المنكودي الحظ أنهما كانا ينتفان رءوسهم من منابتها ويقتلعان أسنانهم من أسناخها. وفي هذا السجن الرهيب المخيف تجرع وصي الأمير كأس المنية، وكان ذنبه الوحيد شدة ولائه لمليكه وترك رفيقه الأمير يعاني من ضروب الشقاء والعذاب ما كان يفضل فيه الموت على الحياة.»
هذه خلاصة القصة الغريبة المخيفة التي كان نائب الملك حافظا سرها في صندوق فؤاده، وظل ساهرا عليه حتى تغلب حنوه الوالدي على قوة إرادته فباح به لابنته، ولم يدر في خلده أن هذا السر المصون سيذيع ويشيع ويفعم قلوب أهل العالم رهبة وذعرا واستفظاعا واستنكارا، ويطلعهم على حقيقة طالما بذلوا الجهد في معرفتها ولم يستطيعوا، وهي أن هذا الأمير السيئ الطالع والمنكود الحظ إنما هو ابن لويس الثالث عشر وقد قضى عليه أبوه وتوأمه (شقيقه لويس الرابع عشر) بحياة هي من جميع وجوهها شر من الممات، ليظل عرشهما وطيد الأركان ويتمتعا هما بالجلوس عليه براحة وأمان.
أما سوء حالة هذا الأمير التعس الجد بعد وفاة وصيه وصديقه الوحيد، فمن الأمور التي يتعذر وصفها، وقد لا يسهل تصورها. فإنه بعدما قضى أياما يواصل الليل بالنهار في البكاء والانتحاب والحزن والاكتئاب والهياج والاضطراب، عاد فاستسلم بملء الإذعان إلى مشيئة القضاء، وهو ملقى في حجرة دميمة ضيقة محجوبا فيها حتى عن الهواء والضياء، وغير مأذون له أن ينبس ولو بكلمة واحدة مع سجانه الباسر العابس الذي كان يأتيه بالطعام والماء مرتين في اليوم. وليس عجيبا أن يصير بعد هذا كله فريسة في أيدي الهواجس والوساوس، أو أن يستغيث بالموت طالبا أن يسرع في قبضه وإراحته من عذابه.
وكان أخوه في باريس ينعم في مسرات الملك ولذاته ناسيا أخاه السجين المسكين إلى ذات يوم؛ إذ كان يفتش في جواهر والدته عن حلية يروم إهداءها إلى إحدى عشيقاته، فعثر على رزمة أوراق مكتوبة بخط والدته فيها إشارة إلى ابنها المنكود الطالع، فتذكر حينئذ أخاه وهاجت به هذه الذكرى ساكن الخوف والقلق. فقد كان في هذا الوقت مشتبكا في حرب ضروس مع كثير من ملوك أوروبا تألبوا عليه وجردوا جيوشهم لقتاله. فإذا استولى أحدهم على القلعة المسجون فيها أخوه في الألب الإيطالية وأطلقه من سجنه، تعرض تاجه لخطر الضياع وحياته للموت. وبناء عليه رأى أن الضرورة تقضي بالإسراع في نقل أخيه إلى سجن آخر يأمن فيه التعرض لهذا الخطر، وسرعان ما أمر بإجراء هذا الاحتياط.
وفي ذات يوم بعدما كان الأمير قد قضى نحو تسع سنوات في سجن ببنرولو جاءه السجان وقال له إن أحد أعيان فرنسا قد أتى، وهو يروم أن يخلو به بضع دقائق، فاضطرب الأمير لهذه المفاجأة وظل برهة يسيرة حائرا مدهوشا لا يستطيع النطق ولا يقوى على الافتكار. فهل حان وقت نجاته وإطلاق أسره بعد أن أعياه الانتظار ونضب معين الاصطبار؟ هذا الفكر خطر بباله فثمل براح المسرة والابتهاج. ولما علم أن الشريف القادم هو المركيز سنكمار، وتذكر أنه من صفوة أعيان فرنسا وشرفائها المشهورين بالذود عن الحرية، وكان في مقدمة الساعين بقتل ريشليو أكبر أعدائه، ازداد إيقانا بأنه آت إليه بشيرا بأن أخاه الملك ندم على ما فعل وأمر بإطلاقه.
وعلى الفور أمر السجان بإحضاره إليه. ولما وقف أمامه وأدى إليه واجب الاحترام قال له: «جئت بأمر جلالة الملك لأسلمك هذه الرزمة الصغيرة. وسأخرج عنك ريثما تكون قد فتحتها واطلعت على أمر جلالته فيها.» ثم خرج المركيز وأغلق باب السجن وراءه، وما عتم الأمير أن فتح الرزمة، فسقط منها قناع حديدي كان لسقوطه على الأرض رنة عقبها صراخ الأمير بصوت اليأس والقنوط ووقوعه مغشيا عليه.
قال فولتير في كتابه «عصر لويس الرابع عشر»: «وبعد أيام جيء بسجين تحت ستار التكتم والخفاء إلى جزيرة سنت مرغريت مقابل ساحل فرنسا. وكان شابا متوسط القامة أو هو فوق المتوسط قليلا، وعليه أظهر ملامح الجمال والشرف. وفي أثناء مجيئه إليها كان مقنعا بقناع من حديد يشد من طرفه الأسفل المحاذي لذقنه بلوالب صغيرة من فولاذ كي يسهل عليه تناول الطعام وهو لابس القناع. وكانت الأوامر بقتله إن حاول نزع القناع صريحة لا مرد فيها.»
وفي هذا السجن الجهنمي قضى الأمير تسعا وعشرين سنة والقناع الحديدي على وجهه نهارا وليلا؛ لأن في نزعه ولو دقيقة واحدة خطر اطلاع الناس على المشابهة التامة التي بينه وبين لويس الرابع عشر الملك العظيم المجيد. ولم يجسر قط أحد من عارفي هذا السر أن يفوه بكلمة عنه مخافة أن يصيبه ما أصاب صاحبه.
نامعلوم صفحہ