مکائد الحب فی قصور الملوک
مكايد الحب في قصور الملوك
اصناف
وفي أواخر حياتها عضها الفقر بنابه ووطئها بمنسمه، فاضطرت لشدة حاجتها أن تبيع كل ما عندها من الحلى والجواهر والأعلاق النفيسة. ولما أنفقت ثمنها على معيشتها وإيفاء ديونها صارت تعيش من صدقات بعض الأصدقاء الأخصاء، من ذلك خمسون جنيها في السنة من الدوق كوينسبري.
وفي سنيها الأخيرة عاشت مع امرأة اسمها مسز كول، وكان لكرور السنين أثر ظاهر في وجهها المغشى بالغضون والتجاعيد. ومما قالته عن نفسها: «إن حياتي في هذا الوقت انقضت بالأكل والشرب والنوم والصلاة والكتابة ومساعدتي لصديقتي مسز كول على قضاء الأعمال المنزلية.»
ثم تملكها الضعف والهرم وأفنى قواها مرور السنين والأيام، فقضت نحبها في صباح اليوم الحادي والثلاثين من شهر مايو سنة 1810. واللغز الذي ظل حله أكثر من خمسين سنة مستعصيا على أهل أوروبا كلها هان صعبه وسهل الوقوف على حقيقته. فبموتها اتضح أن ديون كان رجلا، والطبيب الذي شرح الجثة شهد أمام اللورد ياربورو والسر سدني سمث وغيرهما من كبار الأعيان بأن ديون لم يكن سوى رجل.
وكانت مسز كول أشد الناس دهشة وتعجبا من إعلان هذه الحقيقة؛ لأنها قضت هذه السنين الطويلة في معاشرة ديون وهي موقنة أنه امرأة. ولما وقفت على شهادة الطبيب أغمي عليها وظلت ساعات غائبة عن الرشاد.
سر جزيرة سنت مرغريت
من كان ذلك الرجل العجيب الغريب الذي ظل أكثر من أربعين سنة ملقى في غيابات السجون، فزج أولا في سجن ببنرولو في الألب الإيطالية، ثم في جزيرة سنت مرغريت، وأخيرا في سجن الباستيل؟ وكانت الأوامر المشددة الصادرة إليه في هذه السجون الثلاثة أن يلزم التنكر والاحتجاب حتى عن حراس السجن، ولا يفوه بكلمة تميط اللثام عن حقيقة شخصه؟ وقد أنذر بأن أقل مخالفة منه لهذه الأوامر تقضي بموته؟ وبعد وفاته وتخلصه من الشقاء والعذاب لم يبق لعينه أصغر أثر ولا لمبتدأ قصته أقل خبر؟ ذهب بعضهم أنه كان دوق دي فندوم أحد عشاق آن أوف أستريا زوجة لويس الثالث عشر، وكان الكردينال مازارين يغار منه غيرة شديدة، فكاد له هذه المكيدة تشفيا وانتقاما. وزعم غيرهم أنه دوق مونموث ابن الملك شارل الثاني، وقال آخرون إنه أقرب نسيب للويس الرابع عشر.
والذين عرفوه حقيقة لم يجهلوا خطر الموت الذي يتعرض له كل من يبوح بهذا السر، فإن مدام دي بومبادور وغيرها من سيدات الشرف في بلاط فرنسا بذلن كل عزيز وغال في سبيل الوقوف على هذا السر، وعدن بلا طائل. ورفض لويس السادس عشر رفضا مطلقا أن يفضي به إلى ماري أنطوانيت، وكثيرون من المطلعين على هذه الحقيقة ماتوا وسرها مدفون في أعماق صدورهم.
وأخيرا تمكنت امرأة من هتك الستر؛ فإن لويس الخامس عشر كان قبيل الاحتفال ببلوغه سن الرشاد وإلقاء مقاليد الملك إليه، قد سأل نائب الملك أن يطلعه على هذا السر فأبى، ولكنه باح به لابنته الدوقة دي باري؛ إذ ألقت نفسها بين ذراعيه وهي تبكي وتنتحب متوسلة إليه بلسان عبراتها الغزيرة وزفراتها الحارة أن يفضي إليها بهذا السر المصون. وبعد ساعات كانت الأوراق المتعلقة به في يدي دوق دي ريشليو عاشق الدوقة. والقصة التي كشفت الأوراق عنها حجاب الخفاء كانت أغرب القصص .
وأهم هذه الأوراق صك هذا عنوانه: «بيان ميلاد وتربية الأمير المنكود الحظ المسجون بأمر لويس الرابع عشر. وقد كتبه مربي الأمير قبيل موته». وإليك خلاصة ما جاء في البيان: «في ظهيرة اليوم الخامس من شهر سبتمبر سنة 1638 وضعت الملكة آن قرينة لويس الثالث عشر ولدا وارثا للعرش بعدما قضت عشرين سنة عاقرا، فسر زوجها بهذه البشرى سرورا عظيما، ولكن سروره هذا كان قصير الأجل سريع الزوال؛ لأن القابلة جاءت إليه وقالت له إن جلالة الملكة مزمعة أن تلد ولدا آخر، فراعه هذا الخبر، وكان قد أنذره بعض الكهان والعرافين بأن الملكة ستلد ابنين معا. وكانوا في باريس يتطيرون من ولادة وليي عهد معا ويعدونها شؤما على الدولة. فسقط الملك في يده خوفا وحيرة، ولم يدر ماذا يفعل. وعلى الفور استدعى الكردينال ريشليو. ولما جاء وعلم بما كان قال: «إذا صح ما تنتظره القابلة وتمت ولادة الابن الثاني فمن الضروري كتمانها، وعدم إطلاع أحد على سرها؛ لأن الابن الثاني قد تطمح نفسه في المستقبل إلى الملك فينازع أخاه التاج والصولجان ويشقان المملكة.»
وقد تم ما توقعته القابلة، وولدت الملكة ابنا ثانيا أجمل طلعة وأنبل شأنا من المولود الأول. ولم يسع الملك أن يخالف مشورة الكردينال، فاستحلف جميع الذين حضروا ولادة الابن الثاني أن يكتموا هذا الخبر. وأعطي الطفل للقابلة بعدما أنذروها بعقاب الموت إن أذاعت قصة ولادته. وبهذا الغموض والتكتم ابتدأت حياة أشقى أمير عاش على وجه الأرض. وهذا الأمير الطفل المنبوذ من والديه والمطرود من قصرهما الملكي لقي بعض الرعاية والعناية في بيت القابلة الحقير، وظلت تتوفر على تربيته حتى جاوز طور الطفولة، فتسلمه منها أحد الأعيان، وكان قد أقسم للملك يمين الاحتفاظ بهذا السر. وعند هذا الرجل الشريف شب الأمير وترعرع وبلغ أشده، فكان فريدة في عقد الشبان المشرقة وجوههم بأنوار الحسن والبهاء، والمتدفقة عقولهم بفيض النباهة والذكاء، وعلى محياه فوق هذا كله ملامح رفعة الشأن وسمو المنزلة وبينة الانتساب إلى الأسرة المالكة. وكان قبيل ذلك قد استكد ذهنه وشحذ غرار أفكاره، وغاص في لجة التأمل لعله يقف على حقيقة نفسه ويعلم من هو. فقد اتضح له أنه لم يكن من عامة الناس؛ وذلك من وفرة المال الذي كان يتدفق عليه بملء السخاء والاحترام الذي كان يعامل به حتى من الوصي القائم على تنشئته وتربيته. فابن من هو؟ من أبوه؟ ومن أمه؟ ولماذا لا يقيم معهما؟ هذه وما أشبهها من الأسئلة كانت تخطر بباله وتتردد على لسانه. ولكنه لم يتمكن من الإجابة عنها ولا استطاع أن يجد لأصله منبت أسلة ولا مضرب عسلة. على أنه بعد طول البحث والتنقيب توصل ذات يوم فجأة إلى حل اللغز ومعرفة السر.
نامعلوم صفحہ