مقدمة المترجم
حبيب إمبراطورة
تهور وصيفة
مغامرة نسيبة هنري الثاني
فاجعة ملكة القلوب
مجنون متوج
قصة باميلي الغامضة
من حضيض الضعة إلى أوج الرفعة
مدام «لي شفاليه»
سر جزيرة سنت مرغريت
مبادلة غريبة
البولونية الحسناء والإمبراطور
فاجعة في قصر
ابنة أخت الكردينال
التاج في سبيل الحب
سيدة فرسايل المجهولة
اختفاء أرشديوق
ملكة الجمال
ملكة مشعوذة
ملكة بلا تاج
مقدمة المترجم
حبيب إمبراطورة
تهور وصيفة
مغامرة نسيبة هنري الثاني
فاجعة ملكة القلوب
مجنون متوج
قصة باميلي الغامضة
من حضيض الضعة إلى أوج الرفعة
مدام «لي شفاليه»
سر جزيرة سنت مرغريت
مبادلة غريبة
البولونية الحسناء والإمبراطور
فاجعة في قصر
ابنة أخت الكردينال
التاج في سبيل الحب
سيدة فرسايل المجهولة
اختفاء أرشديوق
ملكة الجمال
ملكة مشعوذة
ملكة بلا تاج
مكايد الحب في قصور الملوك
مكايد الحب في قصور الملوك
تأليف
ثورنتن هال
ترجمة
أسعد خليل داغر
قل لمن يحسد الغني ويرثي
لشقاء يحيق بالصعلوك
رب قصر يأويه لهفان ذو شج
و وكوخ يزهو بوجه ضحوك
وإذا كنت في ارتياب فطالع
خدع الحب في قصور الملوك
مقدمة المترجم
قد يتوهم القراء بعد مطالعتهم هذا الكتاب، ووقوفهم على ما فيه من مكايد الحب الغريبة المدهشة، أنه كغيره من قصص العشق والغرام التي يطالعونها في هذه الأيام. ولدفع هذا التوهم أقول: لا يخفى أن قصص العشق والغرام - المترجمة والمؤلفة - مبنية في الغالب على حوادث وهمية تخترعها مخيلة الكاتب، فينسج لها على نول التصور الثوب اللائق بها، ثم يزيد عليه بالتحشية والتذييل ما تمس الحاجة إليه من إيضاح وتفصيل، أو يضيف إليه ما يقتضيه المقام من شرح وتعليق وتوشية وتنميق؛ حتى يجيء نسيج قصته طبق مراده من حيث إحكام السدى وإتقان اللحمة، ويقع سرد حوادثها واتساق تفاصيلها أحسن وقع في نفوس القراء.
وهو قد يبالغ ويغرق في تصوير الحوادث الغريبة المدهشة، فتفعل فعلها المطلوب في ذهن القارئ، ومع شدة استغرابه لها يقبل على مطالعتها بشوق ورغبة؛ إذ يعدها من الممكنات البعيدة. وقد يغلو في تمثيل الحوادث غلوا يجاوز فيها حدود الممكنات، ويجعلها في عداد المستحيلات. وعندي أن النوع الأول هو الجدير باحتذاء مثاله والنسج على منواله لاعتبارات ليس هنا محل الكلام عليها.
وقد تبنى هذه القصص على حوادث تاريخية وقعت في زمان بعيد أو قريب. ولكنك قلما تجد فيها للحقيقة التاريخية سوى ظل زائل ولون حائل، يبدو في الثوب الخلق، أو كأطلال خولة ببرقة ثهمد «تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد»، وما بقي مستنبط من مخيلة الكاتب، ومفرغ في قالب البسط والتفصيل على أحد الوجهين السابق بيانهما.
أما مشتملات هذا الكتاب فليست من جنس الحكايات المصنوعة التي لا حقيقة لها على الإطلاق، ولا من نوع القصص الموضوعة ولها شبه ظل الحقيقة التاريخية، بل هي حوادث حب وغرام حقيقية، جرت في قصور أوروبا وقياصرتها في أوقات مختلفة. وقد تخللها من نصب الحبائل والمصايد، وتدبير الخدائع والمكايد، واقتراف المآثم والمحارم، وتجرع غصص الكوارث والفواجع، ما يدهش العقول ويحير الأفكار وتقشعر لشدة هوله الأبدان. وهي كلها منقولة عن شهود ثقات رأوها بعيونهم وسمعوها بآذانهم ودونوها في تواريخهم.
وأما الغرض من ترجمتها إلى لغتنا العربية فليس مجرد التلهي بمطالعة فواجع المحبين ومصارع العشاق، ولا التسلي بالوقوف على تفاصيل حوادث الختل والمكر والخيانة والغدر، وغيرها من ضروب الإثم والشر، ولا التفكه بما فيها من الوقائع العجيبة الغريبة التي تبهت القارئ وتملأ فؤاده دهشة وحيرة؛ فإن هذه كلها مما يراه في القصص الموضوعة في لغتنا والمترجمة إليها.
وإنما الغرض من ترجمتها هو الاعتبار بما فيها من الأمور المخالفة لما يعهده الناس في قصور الملوك، والمغايرة لكل ما هو عادل وحق وشريف وطاهر وسار وحسن. وفي ذلك عظات كبيرة بالغة؛ أهمها ما يأتي:
أولا:
ليس من الضرورة أن تكون تربة الثروة والجاه والقوة أصلح لإذكاء غرس الفضيلة، من تربة الفقر والضعة والضعف. بل كثيرا ما تكون هذه أصلح من تلك. فنرى من مظاهر خصب الفضائل والآداب في خصاص الصعاليك والوضعاء الضعفاء ما لا نجد له أثرا في صروح أرباب الصوالجة والتيجان وأصحاب السؤدد والشرف .
ثانيا:
ليس من الضرورة أن تكون قصور الملوك والأمراء والأغنياء والعظماء - على فخامتها ورحبها - أعذب موردا وأخصب مسرحا ومرتعا للسعادة من بيوت عامة الناس، بل قد يكون أهل هذه أسعد حالا وأنعم بالا من سكان تلك. وقد لا تجد داخل تلك القصور إذا جست خلالها واستبطنت أحوالها سوى نكد العيش واستفحال البؤس والشقاء.
ثالثا:
أن المال والجمال - وهما من خير النعم والبركات التي أسبغها الله على عباده في هذه الحياة - قد يصيران من شر النقم واللعنات إذا أساء الإنسان استخدامهما ولم يحسن استعمالهما، فيتحول دسمهما إلى سم ولذتهما إلى عذاب وألم.
أسعد خليل داغر
حبيب إمبراطورة
كانت القيصرة كاترين الثانية إمبراطورة روسيا في مقدمة الذين امتازوا في القرن الثامن عشر برفعة القدر وعظمة الشأن وغموض الأخلاق وغرابة الأطوار. ويقول عنها أحد المؤرخين إنها كانت منذ صباها إلى يوم وفاتها عانية بكمال الخضوع والاستسلام لشهوتين تملكتاها، ولم تستطع الانفلات من قيودهما؛ إحداهما عشق الرجال، والثانية شدة الشغف بالمجد. وهذا الشغف أسرفت فيه حتى أفسدته، فتحول إلى غرور وباطل. وقد ظلت أربعين سنة، منذ أورق غصن بهائها النضير، وأشرق بدر جمالها المنير، إلى أن عراها الذبول والأفول بيد الموت؛ وهي منبعثة كل الانبعاث في اقتناص الرجال بشبكة عشقها وغرامها. فكان لها من العشاق سلسلة متصلة الحلقات. وقد قربت كلا منهم إليها في حينه، وأسبغت عليه ما شاء من الحب والغنى والجاه والسلطان، وكانت تقصيهم وتستبدل بهم غيرهم كلما عن لها ذلك كما تفعل في تغيير ملابسها.
وربما لم يقم في الأرض امرأة مثلها في تناقض الخلال وتغاير الصفات. وكان فولتير في طليعة الذين انغمسوا في حمأة الخنوع لها. وهاك بعض ما يصفها به: «كانت أكبر عظيم في أوروبا بلا مدافع ولا منازع. فنفسها محيطة علما بكل الأشياء، وعقلها مدرك كنه القوى جميعها؛ فهي معلمة الفلاسفة، وأوسع معرفة وحكمة من أعضاء مجمع العلوم. إنها ملاك كريم يجب أن يقابله الناس بالخشوع والسكوت. وحيثما أقامت فجنة خالدة ونعيم مقيم.»
وهذه المخلوقة السامية التي يعدها فولتير مجلى الكمال في كل ما يروق العين ويشوق النفس، ويفضلها على جميع سابقيها ومعاصريها من الملوك والقياصرة والعلماء والفلاسفة، تخلت عن الاهتمام بشئون إمبراطوريتها، متفرغة للاستمتاع بأهواء الجسد الفاسدة وشهوات النفس السافلة، غير موجسة خوفا من انتقاد الناس ولا من عقاب الله.
وقلما رزقت امرأة ما رزقته هذه الإمبراطورة من الجمال الذي خلبت به قلوب أعاظم الرجال. وفي روسيا كلها لم يكن لها من شبيهات في بهائها الباهر وحسنها الساحر، سوى نساء قلائل قد لا يجاوزن عدد الأصابع. اسمع ما تقوله عن نفسها في استعدادها لحضور مرقص: «أعمد إلى شعري الطويل الجميل الحالك السواد، فأعقصه مكورا في مؤخر رأسي، وأشده بشريطة حرير بيضاء، وأزينه بباقة ورد نضرة الأزرار والأوراق، وأضع باقة أخرى مثلها في صدري فوق ريطة (ثوب) من حرير رقيقة شفافة، فأبدو بقامة تزدري الغصن لينا واعتدالا، وأفوق جميع أترابي حسنا وجمالا.»
هكذا كانت كاترين الثانية في فجر صباها ومطلع شبابها. وهاك ما يصفها به بونياتوسكي وهي في الخامسة والعشرين، قال: «بلغ جمالها الحد الذي يصل إليه عادة جمال كل امرأة؛ فقد كان شعرها شديد السواد، وبشرتها بالغة حدا لا يوصف من شدة النعومة ونصوع البياض، يزينهما لون زاه زاهر، ولها عينان نجلاوان قال الله كونا فكانتا آية في حسن التكوين، تحت حاجبين كالقوسين، وفوق أنف أقنى وفم جامع من الحسن كل معنى، وقد تفنن فيه بعض واصفيه فقال إنه مخلوق للثم والتقبيل. ولها قامة كالصعدة السمراء في الدقة والاستواء، وابتسامة تفتر بها عن الدر في المرجان، وضحكة يقع صوتها في الآذان أطيب من وقع أعذب الألحان.»
ويقول فولتير في وصفه لها إنه لم ير أجمل من يديها، ولا أشد بياضا ونعومة من جسمها. وقد ظلت غانية بهذه المحاسن الباهرة النادرة إلى وفاتها وهي مشرفة على السبعين.
وليس عجيبا أنها - وهي ممتازة بهذا الحسن الخالب والجمال الجاذب - تفتن ملوك أوروبا وعظماءها، حتى رأيناهم يغلون في تملقها وترضيها ولو بالجثو عند موطئ قدميها. وكانت أذناها مفتوحتين على الدوام لسماع الملث والتملق، وكان العالم مفعما بروح النفاق والرياء، وقد راجت فيه بضاعة المداهنة والمصانعة، وبلغ من شدة غلو القوم فيهما أنهم كانوا يجعلون من يرومون التزلف إليه في منزلة الإله المعبود. ولكن مما حير الأفكار في ذلك الحين، ولا يزال مدعاة حيرتها في هذه الأيام، أن كاترين كانت تختار من بين عباد حسنها وجمالها واحدا بعد آخر، تختصه بميلها إليه وولوعها به على مرأى جميع الناس ومسمعهم.
قلنا إنها عشقت كثيرين، ولكن واحدا منهم امتاز بأنها بلغت من شدة الافتتان به مبلغا عظيما، وبهذه الوسيلة تمكن من امتلاك قيادها والاستئثار بالتسلط عليها؛ وهو بتيومكين.
أما حكاية اتصاله بها فتلخص فيما يأتي:
بعدما توفي زوجها بطرس الثالث ألقيت مقاليد الحكم إليها، فخرجت ذات يوم لتشهد عرض جيوشها. واتفق أن أحد الجنود الفرسان لاحظ أن سيف الإمبراطورة بلا حمالة، فعدا على ظهر جواده وقدم إليها حمالة سيفه، فراقها ما أبداه من نباهة الشأن وسرعة الخاطر، وعبرت عن استحسانها لعمله بابتسامة سلبت لبه وأسكرت قلبه.
وهذه الحادثة البسيطة كانت فاتحة دخول بتيومكين في حياة كاترين، وتمثيله فصلا ذا شأن من رواية تاريخ روسيا في أيامها. وقبل انتظامه في الجيش كان طالبا في جامعة موسكو يستعد في كلية اللاهوت لأن يكون من رجال الدين، لكنه طرد من الجامعة لشدة كسله وإهماله، وكان في الجيش مثلا مضروبا في سوء الأخلاق ونقص الفهم.
وهذه الحادثة نفسها لم يكن فيها ولا في بطلها ما يحيي ذكرها في بال كاترين. ولكن حدث أنها كانت ذات يوم تبحث عما يسليها ويدخل السرور إلى قلبها، فسمعت بجندي مشهور بالبراعة في الألعاب الهزلية المضحكة، ومن فورها أمرت بأن يؤتى به إليها. وعندما وقع نظرها عليه تذكرت أنه بطل يوم العرض. ولما عرض ألعابه أمامها أعجبت كل الإعجاب بما أبداه من الحذاقة والمهارة والجسارة، ولا سيما في تمثيله لها نفسها في كثير من حركاتها وإشاراتها وغير ذلك؛ مما أضحكها ضحكا أسال دموعها على خديها. ومنذئذ بسم الدهر لبتيومكين، فطلع طالع جده وأشرق نجم سعده، فأعلنت شموله بحمايتها واستظلاله بظل رعايتها. وكان بعد في ريق صبوته غير بالغ العشرين سنة، فأمرت بتعليمه اللغة الفرنسوية، وتخريجه في جميع شئون الدولة، وحصرت اهتمامها كله في العناية بمستقبله.
وكان عشيقها الخاص في هذا الوقت غريغوري أورلوف، الذي كان فيما يظن أطول شبان روسيا قامة وأجملهم طلعة. ثم مرت السنون وبتيومكين يتقدم في رتب الجيش، ويترقى من ملازم إلى ما فوقه، حتى بلغ رتبة جنرال. ولما شعر باليأس من حصوله على ما طمحت إليه نفسه؛ أي أن يكون حبيب كاترين المخصوص، عزم أن يترهب ويدخل أحد الأديار، وإذا بكتاب قد جاءه في أحد الأيام من سنة 1773 من كاترين، ولم يخف عليه مضمونه. فإنها أشارت فيه إلى شدة اهتمامها بمستقبله وحرصها على سلامته، وختمته بقولها: «ولعلك بعد الفراغ من تلاوة هذا الكتاب تسأل لماذا كتبته إليك. فاعلم أني كتبته ليتضح لك مبلغ عنايتي بك؛ لأنني دائما أتمنى لك الخير والسعادة.»
ومرادها بهذا ظاهر لا يحتاج إلى شيء من الإيضاح. واتفق أنها اطلعت على ما يثبت خيانة غريغوري أورلوف، فأقصته عنها بعدما ظل وقتا طويلا ينعم بكونه حبيبها الخاص غير منازع من أحد. فاختارت بعده فاسيليتشيكو، ولكنها لم تلبث أن ملته فنقلته إلى موسكو، ووجهت التفاتها إلى بتيومكين، فأدنته منها وبوأته المنزلة التي طالما حن إليها وحسده ألوف من المقربين عليها.
ولا يسع القارئ أن يتصور الفرق الشديد بين هذه الإمبراطورة الفائقة في حسنها وجمالها، وهذا الجندي الذي سلطته على جميع الناس. فقد كان ضخم الجثة، قاتم اللون، خشن الجلد، قبيح الملامح، أعور، وقد فقد إحدى عينيه بالحادثة الآتية:
كان ذات يوم يلعب البلياردو مع ألكسس أورلوف المشهور بضخامة جسده وشدة قوته، وكان هذا في عداد عشاق كاترين المبعدين، فحدث أن بتيومكين فاه بما هاج غيظ أورلوف، وأفضى الأمر بينهما إلى النزاع، فلطم أورلوف بتيومكين لطمة أصابت إحدى عينيه وأفقدتها البصر. وكان هذا التشويه كافيا لأن يقضي على آماله ويحمل كاترين على إقصائه عنها، ولكن الأمر جاء لحسن حظه على خلاف المنتظر، فإنه لسعة مكره أقنعها بأنه فقد عينيه في سبيل الدفاع عن عرضها والذود عن شرفها، فعرفت له هذا الجميل وازدادت تعلقا به وميلا إليه.
هكذا كان منظر بتيومكين عشيق أجمل إمبراطورة في أوروبا مظهرا للقبح والدمامة، ولم يكن هذا بخاف عليه، ولأجله ظل وقتا طويلا يأبى على المصورين أن يصوروه، ولولا شدة إلحاح كاترين وتوسلها إليه لما أذن أخيرا لمصور أن يرسم صورته المحفوظة في قصر الشتاء في بطرسبرج. ولكن هذه الصورة كاذبة؛ لأنها لا تمثل ملامحه الحقيقية التي تعاف العيون النظر إليها لشدة قبحها.
ولم تكن دمامة منظره بأقبح من سوء أخلاقه وسفالة عاداته. قال عنه أحد المؤرخين: «كان بتيومكين دعابة، ولكن أكثر مزاحه مما تبذؤه نفس الحر الأديب. وكان من عادته على الدوام أن يقلم أظافره بأسنانه، ويمعن في حك رأسه الوسخ. وكثيرا ما كان يقضي أيامه في غرفته ليس عليه من الثياب إلا ما يستر عورته، منفوش الشعر وسخ الجسم، وهو يلهو بحك جسده وتقليم أظافره بأسنانه. وكان شديد الإفراط في الأكل والشرب والانبعاث في المسكرات على أنواعها.»
وكان في أسفاره يعيش على الثوم والخبز الأسود. أما في بطرسبرج وكيافو وجاسي وغيرها من أمهات مدن روسيا، فكان يتأنق في تناول أفخر الأطعمة وألذ الثمار وأطيب أنواع الحلوى. وكان بعدما يغادر قصر الإمبراطورة ويخلو في قصره، يخلع الحلة الرسمية ويرتدي جلبابا (جلابية) فضفاضا. وفي هذا اللباس كان يستقبل حتى السيدات. وفي الأرياف كان يلبسه في الحفلات والولائم الرسمية مقتصرا عليه في ستر عريه.
وكثيرا ما كان يعدل عن تعرية ساقيه فيغطيهما بنسيج مطرز بالذهب ومرصع بالألماس وغيره من الحجارة الكريمة.
فماذا كان سر تسلط هذا الجلف على أذكى امرأة في أوروبا؟ يقول أحد المؤرخين إنه في صباه استمالها بما كان يبديه من فرط شغفه وشدة ولوعه بها، ولكنه فيما بعد ذلك كان يواصل التزلف إليها بالإسراف في تملقها وإطرائها.
ومهما يكن من أسباب ذلك، فمن المحقق أن هذا الرجل الوضيع الحقير لم يلبث أن حاز سلطانا مطلقا على الإمبراطورة، فخضعت له وذلت كأنها إحدى إمائه. ويقول مؤرخ آخر إن شغفها به بلغ حد الجنون، وذلك ظاهر مما كانت تخاطبه به في كتبها الغرامية قائلة له: «يا روحي، يا ملكي، يا كنزي الفائق الثمن.» وكان لشدة دهائه ومكره يزيد نار هيامها به اتقادا بقوله لها في رسائله إليها: «عندما رأيتك أول مرة تعلقت أفكاري بك، وسحرني جمال عينيك، فإلى الآلهة أشكو ما أعانيه من حبي لك وشغفي بك، بك وحدك أهيم وإليك أحن، وبغير اسمك المقدس لا تنطق شفتاي، وسوى رسمك الفائق الجمال لا يجول في خاطري.»
وكانت إذا تبسم تطير ابتهاجا وحبورا، وإذا عبس تملكها اليأس واغرورقت عيناها بالدموع، بل لم تكن غلاظة طبعه ووحشية خلقه في مستأنف الأيام إلا ليضرما في فؤادها سعير الوجد والغرام. وما مثلها به في ذلك العهد إلا مثل قيصرة روسيا ورسبوتين في صدر هذا القرن. روى أحد الجالسين معهما حول مائدة الطعام في أحد الأيام قال: «جلس بتيومكين بجانب الإمبراطورة واجما مقطبا، ولم يقتصر على الوجوم وعدم الكلام، بل تعداهما إلى السكوت عن إجابة ما كانت توجهه إليه من الأسئلة، حتى ساءنا الأمر نحن الباقين، وتولانا غيظ وحنق لا مزيد عليهما. ولما فرغنا من تناول الطعام ذهبت الإمبراطورة إلى غرفتها، ثم عادت إلينا وعيناها محمرتان، ومحياها مغشى بسحب الغم والأسى. فإلى هذا الحد كان يبالغ في امتهان عشيقته الملكة غير مكترث لحضوره أمامها وسخ الجسد أشعث عاري الساقين، ليس عليه من الثياب سوى الجلباب، وهي ضاربة صفحا عن ظهوره في أقبح مظهر مناف لقواعد الحشمة والأدب.»
ولما بلغ مراده من امتلاك قيادها والتسلط على أفكارها، طفق يعد لنفسه سبيل الحصول على ما أراد من التقدم والارتقاء، حتى أصبح حاكم روسيا المطلق، يدير شئونها الداخلية وسياستها الخارجية كيفما شاء لا ينازعه منازع. وتعين قائد الجيش العام وأمير البحر الأول، وبات إمبراطور روسيا بالفعل إن لم يكن بالاسم. واستحوذ على كل ما كان في طاقة كاترين أن تمنحه من الألقاب السامية ، والوسامات الرفيعة الشأن، والقصور والعقارات والتحف والنفائس، وجادت عليه فوق هذه كلها بملايين الريالات؛ فكانت حلله الرسمية تسطع بالوسامات المرصعة بأغلى الحلى والجواهر. وخصه جوزيف الثاني بلقب أمير الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وأهدت إليه الإمبراطورة صورتها في إطار مرصع بالألماس، وهو امتياز لم يظفر به غيره من معشوقيها سوى غريغوري أورلوف. وفي أقل من سنتين ارتقى هذا الجندي ارتقاء منقطع النظير، وبات أوفر ثروة وأعرض جاها وأسمى مقاما من جميع رجالات أوروبا. وهذا كله ناله لأن أجمل النساء صورة وأشرفهن رتبة عشقته على قبح شكله وسوء خلقه.
على أن هذا كله لم يكن كافيا لإشباع مطامعه الفائقة الحد، فقال في نفسه: ها أنا الآن إمبراطور روسيا بالفعل، فلماذا لا أكون إمبراطورها بالاسم وأتزوج علانية المرأة التي قلبها في يدي أحوله كيفما شئت؟!
وقد سنحت له فرصة السعي لإدراك هذه الأمنية يوم غادرت الإمبراطورة قصرها إلى أحد الأديار لتقضي أياما في الصوم والاعتكاف للتكفير والاستغفار. فصحبها عشيقها وحاول إرغامها على الاعتراف به قيصرا لها، وجعله زوجا بدل عشيق. فخلع حلته الرسمية المتلألئة بالحلى والجواهر، وارتدى ثوب راهب وشرع يتلو المزامير في فجر كل يوم، وينشد تسابيح الصلاة في المساء، حتى رأى أن الفرصة سانحة والوقت مؤاتيا، فمثل أمام الإمبراطورة وعليه علامات النحول والهزال من مواصلة الصوم والتقشف، وقال لها إنه صمم على اعتزال كل ما في العالم من زخارف وأباطيل، والتماس سلام القلب وراحة الفكر في عيشة الزهد والتفرغ لعبادة الله. وما كان أشد خيبة أمله وضياع أمنية قلبه عندما فاجأته الإمبراطورة بما لم يدر قط في خلده. لم تتوسل إليه أن يعدل عما نوى، ولا عرضت عليه أن يتخذها زوجة له كما توقع، بل صوبت رأيه ووافقته عليه من كل قلبها، وأكدت له أنه بعمله هذا جار على مقتضى الحكمة؛ إذ هو ساع للحصول على خلاص نفسه، وذلك خير وأبقى. وما أبطأت أن أسرعت في الرجوع إلى قصرها، وغادرته يصلى نار الخيبة.
وبعد ثلاثة أسابيع دهشت إذ رأت الراهب القانت الزاهد داخلا إليها، متجملا بأغلى حلة وأنفس رداء، وكانت جالسة تتسلى بلعب الورق هي وبعض سيدات قصرها، فجلس بجانبها وحدق إلى الإمبراطورة المدهوشة بهذه المفاجأة، ثم مد يده وتناول الورق المطبق أمامها على المنضدة وفتحه، وأراها الورقة المفتوحة، وكانت مما تعده فألا حسنا، فهشت له وبشت وقالت: إنك دائما سعيد الطالع! وما لبث أن استرد ما كان له عليها من مطلق السلطان.
على أنه لم يغفل عن استخراج العبرة البالغة من هذه الحادثة، بل اتضح له أن امتلاكه لقلب الإمبراطورة الكثير التقلب لم يكن امتلاكا ثابتا دائما كما ظن. فقد سبق لها أن سئمت وملت كثيرين غيره من العشاق الذين كانوا أشد منه اجتذابا لقلبها وتسلطا على أفكارها؛ فمصيره من كل وجه عرضة لأن يكون كمصيرهم. ومنذ الآن رأى عيني كاترين تبعثان بنظرات الارتياح والاستحسان إلى شاب جميل الطلعة اتخذته كاتبا لها، فتوقع أنها تعده لأن يكون خلفا له. وقد وقع ما كان يخشاه سريعا؛ فإنه تغيب بضعة أسابيع للتفتيش في مقاطعة نوفغورود، وعاد فوجد ذلك الشاب حالا محله.
فهاج بركان غيظه وغضبه على كاترين، وأخذ يقذفها منه بحمم المساب والشتائم، حتى أصيبت من جرائها بأعراض هستيرية، واضطرت لشدة خوفها منه أن تتقي غضبه برد ما كان له من السلطان ورفعة الشأن، ولكنها أفرغت قلبها من حبها له وهيامها به. وهذا ما كان قاصرا همه عليه. فليكن غيره حبيبها وعشيقها ما دام هو قادر أن يكون إمبراطورا. فاكتفى بنيله هذه البغية، وعاد إلى سابق عهده رسول غرام كاترين وسفير عشقها، متمليا لذة تمهيد السبيل لعشاقها كما كان يتمتع بها عندما كان ينعم هو نفسه بمحبتها له.
وما خسره من محبتها له استرد أكثر منه من حيث استئثاره بها وتسلطه عليها. ومن الغريب أنه فاق ما كان عليه من قبل في تملقها وإطرائها ولو بلسانه لا من جنانه. فقد كتب إليها مرة وهو يقود الجيش في إحدى المعارك يقول: «أكتب إليك على بعد آلاف من الأميال وقصارى ما تشتهيه نفسي أن أتفانى في خدمتك، وأضحي بكل عزيز وغال في سبيل رفاهيتك وسعادتك، وتوفير أسباب مجدك وعظمة شأنك، أيتها الأم الحنون، لقد أسبغت علي كل ما عندك من النعم والهبات ولم أزل حيا، ولكن حياتي هذه ستظل وقفا على خدمتك.»
وكانت كاترين تجيبه عن كتبه بمثلها من حيث المجاملة والمصانعة، كقولها له في إحدى رسائلها: «أراك في كتبك إلي تحاول التعبير عما أروم أن أقوله لك. فثق يا صديقي أني لو استطعت لضمنت رسالتي إليك أرق التعابير الدالة على ثبات صداقتي لك.»
وبناء على شدة ثقة بتيومكين بصداقة كاترين، أطلق لنفسه عنان التمادي في ما أراد من الاستئثار بالسلطة والانبعاث في الإسراف والتبذير والتمرغ في حمأة الشهوات الدنسة، وأصبحت أعماله الشاذة ظاهرة للعيان، دلالة على أنه بلغ في غرابة الأطوار مبلغا أشبه بالجنون، بل هو الجنون بعينه. وبينما كان يقود الجيش في محاربة تركيا، كان حسب رواية أحد المؤرخين يقضي معظم وقته في صقل جواهره، والبعث بالهدايا إلى موضوع حبه وغيرها من سيدات القصر. وقد استصحب خمسمائة خادم ومائتي موسيقي، وجوقا كبيرا للرقص والتمثيل، ومائة مطرز وعشرين جوهريا.
ومن غرابة أطواره أنه كان كثير التقلب سريع التحول في آرائه وأفكاره، وكأنه المعني بقول الشاعر العربي:
كريشة في مهب الريح طائرة
لا تستقر على حال من القلق
ففي أقل من ساعة كان يبدو لمجالسيه فرحا مسرورا وكئيبا مغموما، هاشا باشا وباسرا شديد التقطيب والعبوس، رقيق الحاشية لين العريكة، وفظا جلفا إلى الغاية. ومبالغا في الاحتفاء والترحيب بالزائرين، ومفرطا في ردهم على أعقابهم بما لا مزيد عليه من الجفاء والخشونة، يصدر الأمر ثم لا يلبث أن يعقبه بما يلغيه ويناقضه. وكان في إحدى المعارك يختبئ في قبو ويسد أذنيه حتى لا يسمع قصف المدافع، وفي غيرها يقف في الخنادق وقفة الأبطال الصناديد، ورصاص البندقيات يصفر عن يمينه ويساره. وبكلمة نقول عنه إنه كان مجموع متناقضات ومتغايرات.
ولما فاته التمتع بمحبة كاترين الحقيقية حول اهتمامه نحو غيرها من النساء الحسان، وهب يطلق لنفسه عنان التمتع بشهواته حتى في ساحات الكفاح. قال أحد المؤرخين: «كان الأمير بتيومكين يجلس على أريكة موشاة بالأطالس المطرزة بالحلى والجواهر، ومغشاة بالأزهار والرياحين، ومضمخة بغوالي الأطياب، وحوله الغواني بأفخر الحلل وأغلى الحلى، وأمامهن العطور في مباخر من ذهب. وكانت فريدة عقدهن الأميرة دولغورنكي زوجة أحد ضباطه.»
وكانت حفلات الولائم والمراقص تقام متواصلة متلاحقة بلا انقطاع، وهو لاه بها، يتملى لذاتها وينتهب مسراتها، والجيوش تخوض غمار القتال، وتكتوي بنار الطعان، وتضيف إلى رأسه أكاليل انتصارات جديدة مجيدة. قال شاهد عيان يصف انبعاثه في مخازيه وانصرافه لمداعبة محظياته وسراريه: «كان في ذلك الحين يأبى دخول أحد عليه، إلا إذا كان من متملقيه ومطرئيه. وكانت الغرف في قصر الكونتس غالفن مقسومة إلى قسمين؛ أحدهما للرجال، حيث مدت موائد القمار، والآخر للأمير، حيث يجلس على أريكته محاطا بالسيدات.»
وكانت أنباء هذه الفضائح تبلغ كاترين فلا تغضب لها، بل كثيرا ما كانت تنظر إليها بعين المسرة والارتياح. وكانت إذا رأته يعنى بشئون لذاتها وأمور عشقها وغرامها تقابل ذلك بالشكر والثناء. وقد يمل القارئ تلاوة تفاصيل هذه الحوادث الشاذة البالغة غاية الغرابة، ولكنها ليست بغريبة عن طبيعة هذين الشخصين النادرين، ولا عن تاريخ ما كان بينهما من العلاقات الشاذة التي ارتبطا بها مدة عشرين سنة، حتى بعد انقطاع صلات الحب بينهما.
ولما حول بتيومكين صلات العشق والغرام من كاترين إلى وصيفاتها بنات أخته - الواحدة بعد الأخرى - لم يبد على كاترين شيء من علامات النفور والامتناع. ولعل هذه الفعلة الشنعاء كانت أعظم ما في أعماله من موجبات الاستفظاع والاستنكار؛ فإن رسائله إلى بنات أخته - أولا إلى بارب ثم إلى شقيقاتها الأربع - مفرغة في أفحش القوالب التي يستخدمها أهل الخلاعة والدعارة للتعبير عن شوقهم وغرامهم. فقد كتب إلى بارب يقول: «إذا أحببتك حبا أبديا، ولم يكن لنفسي معين سواك، فهل تدركين معنى هذا؟ وهل أثق بقولك لي إنك تحبينني إلى الأبد؟ أحبك يا حياتي حبا لم أختص قط به أحدا قبلك. فقولي لي يا فارينكا (لعل فارينكا لقب بارب) يا حياتي وكل مناي، قولي لي إنك تحبينني، وهو كاف لأن يعيد إلي صحتي ومسرتي وسلامي وسعادتي. إنني ممتلئ بك يا روحي. بك وحدك يا ذات الحسن والجمال. الوداع الوداع. على البعد أعانقك عناقا لا حد له.» وحرارة هذا الشوق انعكست من كتب فارينكا إليه. فمن ذلك قولها له في إحدى رسائلها، وكان إذ ذلك مريضا: «إني في قلق وانزعاج لا مزيد عليهما، فأناشدك الله أن تكتب إلي بما يستطاع من السرعة لتطمئن نفسي ويسكن اضطراب قلبي عليك يا حياتي. أقبلك مرات لا عداد لها.»
وبعدما شفي من مرضه، سرى عن نفسه بالكتابة إليها عقب زيارته لها ورجوعه من عندها قائلا: «فارينكا، يا روحي ومصدر حياتي، لقد نمت ولم تذكري ما جرى، فقبلما فارقتك أضجعتك في سريرك مزودا لك بقبلات تفوق الإحصاء، ودثرتك بجلبابك، ورسمت علامة الصليب على محياك.»
وعندما كتب إليها هذه الرسائل كان في عبه رسالة شوق وغرام من إحدى عشيقاته، وهي من كبيرات نساء القصر جاها وشرفا تقول له: «كيف قضيت ليلتك يا عزيزي؟ لعلك كنت أنعم مني بالا! أما أنا فلم أذق طعم الرقاد ولم يغمض لي جفن. فأنت وحدك موضوع افتكاري، وشغلي في ليلي ونهاري. ولست أجهل شدة محبتك لي، وعنايتك بي. الوداع. حسبي هذا الآن؛ لأني منتظرة قدوم زوجي.»
ولما مل بنات أخته تعلق بمن تدعى براسكوفيا زاكرفسكا، فتصبته وتصباها، ولم يكن شغفها بهواه أقل من ولوعه بهواها. ومما كتبه إليها مرة: «أسرعي إلي، أسرعي يا نور عيني وحياة قلبي. أسرعي يا كنزي الفائق الثمن. بك أوجد وأحيا. وسأقضي حياتي كلها مبرهنا لك أني أحبك حبا يفوق الوصف، بل يشب عن طوق التصور. فمن صميم فؤادي أقبل يديك الجميلتين وقدميك الناعمتين. ولا يخطرن ببالك يا عزيزتي أني أهيم بك مدفوعا بجاذب حسنك وجمالك. لا، ليس هذا مبعث تهيامي، بل إني أرى في نفسك ملاكا مطبوعا على غرار ملاك نفسي. فكلانا واحد، وليس ممكنا أن يفارق أحدنا الآخر.»
وإلى آخر حياته ظل هذا الماجن الخليع عبد لذاته وأسير شهواته، واستمر يلقي شباك مكره وخداعه، ويتصيد حسان النساء واحدة بعد الأخرى، منتقلا متبدلا بسرعة حق لكاترين أن تعد بالنسبة إليها مثال الرسوخ والثبات. وقد قال يوما عن نفسه: «لقد نلت كل ما تمنيت الحصول عليه، ولم يفتني منه شيء. طمحت نفسي إلى السلطة والسيادة، فأحرزت منها ما شئت، وأصبحت مطاع الأمر والنهي. وملت إلى القمار، وكان في إمكاني أن أخسر كل ليلة مبالغ لا تقدر من غير أن أشعر بأقل انزعاج على فقدها. وقضيت مرادي من مآدب وولائم يعجز عن الإنفاق عليها أعظم الملوك ثروة واقتدارا. وعندي من العقارات فوق ما أروم، ومن القصور ما لم يكن لأكبر السلاطين والقياصرة، ومن الحجارة الكريمة ما لا يحصى. فأنا من كل وجه مغمور بالعز والجاه والسؤدد، ومحاط بالثروة والغنى، ولست بحاجة إلى شيء ما على الإطلاق.» ولما فرغ من هذه التأملات عمد إلى إناء من الخزف الفاخر ورمى به الأرض، ثم دخل مخدعه وأقفل الباب وراءه.
وقد بلغ من الاستئثار بهذه العظائم مبلغا قصرت الإمبراطورة كاترين عن مجاراته فيه؛ فإن قصوره كانت مفروشة بأغلى الرياش وأكرم الأثاث، ومزدانة بأنفس ما ابتكرته قرائح رجال الفن في النقش والحفر والتصوير. وكان يقضي وقت الفراغ في عرض هذه التحف والطرائف، ونقلها من مكان إلى آخر، أو بجمع ما عنده من الحلى والجواهر. وفي ذات يوم مل جواهره فباعها، وما عتم أن اشتراها بمضاعف الثمن الذي باعها به.
ولعل أعظم مجالي الأبهة والمجد ومظاهر الفوز والانتصار التي ازدانت بها حياة بتيومكين، هي تلك الرحلة السنية الملكية التي أعدها لسفر كاترين إلى بلاد القرم في جنوب روسيا 1787 لكي تشاهد بعينيها الجوهرة الساطعة التي أضافها حبيبها السابق إلى تاجها الملكي. ولم يرد قط في التاريخ وصف رحلة أعظم شأنا وأبهى رونقا من هذه الرحلة، بل لم يرج قط على ملكة من سلع المكر والخداع ما روجه بتيومكين على كاترين.
وهذه الرحلة الطويلة التي بلغت مسافتها 2000 كيلومتر، قطعت الإمبراطورة بعضها في مركبة فاخرة يجرها ثلاثون جوادا ، وبعضها في مركب يخفره ثمانون سفينة وثلاثة آلاف جندي. وكانت في كل موقف تجد منزلا معدا حافلا بكل ما تشتهيه من أسباب الراحة والرفاهة. وكانت كيفما التفت على جانبي الطريق ترى البلاد والقرى عامرة بسكان تلوح على وجوههم أمارات رغد العيش ونعيم البال، والسهول الفسيحة الواسعة الأرجاء تموج كالبحر بقطعان المواشي، والفتيات يرقصن على نغمات قياثير الرعاة. هذه المظاهر الخالبة الساحرة كان بتيومكين قد سبق وأعدها وحول القفر الماحل الجديب إلى روض مريع خصيب، لتقر برؤيته عينا عشيقة لم يخامرها قط شبه ريب في صحة ما تراه وتسمعه. ولما اجتاز مركبها ضفاف نهر دنيبر إلى البحر الأسود مخفورا بالثمانين سفينة غصت ضفاف النهر بجماهير السكان رجالا ونساء وأولادا، وهم يزحمون بعضهم بعضا لينظروا هذا المشهد البالغ غاية الفخامة، ويقدموا إلى قيصرتهم فروض الولاء والإخلاص. وخلاصة القول إن كاترين اجتازت هذه المسافات الشاسعة محمولة على جناح الابتهاج والحبور والدهشة والاستغراب من كل ما شاهدته من الزينات الفاخرة الباهرة، التي يطول بنا الكلام لو أردنا وصفها بالتفصيل. وهبها ظنت أن لبتيومكين يدا في هذه الزخارف، فمن المحقق أنها لم تشر قط إلى ارتيابها بكلمة واحدة. وقد سافر الأمير نفسه في موكب لا يقل عظمة وفخامة عن موكب كاترين إن لم يزد عليه. وقد سبقت الإشارة إليه سابقا.
ولما عاد من سفره جرى له استقبال لم يجر قط لملك مثله في الأبهة والعظمة والفخامة. وأهدت إليه كاترين مائة ألف ريال وحلة رسمية يتألق صدرها بحجارة الألماس، وقصرا أنفقت على أثاثه ورياشه ستمائة ألف ريال. وهذه الهدايا مع شدة نفاستها وكرامتها لم تكن شيئا يستحق الذكر عند بتيومكين وليد الحظ وربيب الترف. فقد روي عنه أنه أنفق في سفرته هذه سبعة ملايين. وهذا المبلغ مع دلالته على أعظم ضروب الإسراف والتبذير ليس إلا جزءا يسيرا من المائة مليون ريال التي اغترفها من بحر جود كاترين.
على أن كوكب سعده الذي تألق بكمال الضياء في سماء روسيا مدة عشرين سنة كان لا بد له من الخضوع لحكم الأفول، وإن دلت الظواهر على إمكان مواصلته للإشراق الساطع الباهر سنين ليست بقليلة. فقد كان وهو في الثانية والخمسين من عمره ممتعا بصحة ونشاط لا مزيد عليهما، حتى كتبت عنه كاترين حينئذ - في ربيع 1791 - إلى أحد أصدقائها في باريس تقول: «من يشاهد المارشال الأمير بتيومكين يحكم بأن الانتصارات المجيدة التي أحرزها قد جملته وحسنته؛ فقد رجع من ميدان القتال بهيا كطلعة النهار، وطروبا كالهزار، ومشرق الوجه كنجم الصباح. وزاد ما كان فيه من خفة الروح وسرعة الخاطر وشدة البراعة في ابتكار أساليب الهزل والمزاح. وقد هجر عادة تقليم الأظفار بالأسنان، فأصبح مثالا للإنسان الكامل أو لكمال الإنسان.»
وآخر لقاء بين كاترين وعشيقها السابق كان في الحفلة التي أقامها لها في قصر توريدا، الذي كان آخر الهدايا الكبرى التي خصته بها. وكانت هذه الحفلة مما يعجز قلم أبلغ الكتاب عن وصف عظمتها. فقد بذل الأمير بتيومكين كل ما في استطاعته من مظاهر التجلة والتكريم في استقبال كاترين. ولم يترك قط شيئا من أسباب الاحتفال ومظاهر الترحيب إلا وفره وادخره، فلم يستقبلها في القصر كملكة أو قيصرة، بل كإلاهة.
فقد أعد لها ثلاثمائة موسيقي يوقعون على آلاتهم أعذب ما تشنفت بسماعه الآذان من مطربات الألحان، وأقام مرقصا تنكر فيه الراقصون والراقصات، وكانوا من نخبة عظماء روسيا وصفوة نسائها الحسان، وقد رفلوا كلهم بملابس أدهشت الأبصار بغرابة أزيائها وكثرة ما عليها من الحلى والجواهر. ولما مدت موائد العشاء ناءت بحمل صحاف الفضة وأطباق الذهب، وتدفقت الخمور على أنواعها من البواطي تدفق المياه من ينابيعها. ومن كل وجه كانت هذه الحفلة أعظم حفلة جرت في قصور الملوك، وآخر مظهر من مظاهر بتيومكين وعظمته، وكان سرور كاترين بها لا يوصف. وظلت إلى آخر ساعة تأبى الانصراف وتكره مفارقة هذا النعيم المقيم. ولما فرغ الموسيقيون من إيقاع نشيد مخصوص لجلالتها نهضت تستعد للخروج، ومدت يدها لوداع بتيومكين والدموع تتساقط من أجفانها، ولم يكن دونها شعورا، فخر أمامها ساجدا وتناول يدها وبللها بدموعه. وهكذا افترقا ذانك العاشقان فراقا لم يعقبه لقاء.
فبعد أيام امتطى بتيومكين غارب السفر في رحلة بعيدة إلى الأقطار الجنوبية، فلقي فيها حتفه ولم يعد منها. ولما بلغ جاسي أصابه مرض لم يكترث له في أول الأمر، ولا خطر بباله أنه سيكون القاضي عليه. وعلى رغم شدة إنذار الأطباء له وتكرار توسلاتهم إليه، ظل تاركا نوافذ غرفته مفتوحة، معرضا جسمه لنفح الهواء في أوائل فصل الشتاء واشتداد وطأة الزمهرير. وكان يرحض جسده بماء الكولونيا، ويتناول أغلظ الأطعمة بما هو معهود فيه من النهامة والإفراط، ويغتسل بمقادير كبيرة من الخمور وغيرها من السوائل.
ولشدة رغبته في مواصلة السفر، وعلى رغم كون حياته معلقة حينئذ بميزان القدر، أصر على وجوب الرحيل عن جاسي والشخوص إلى نيكولايف. ولكنه لم يسر بضعة أميال حتى أناخ عليه الداء بكلكله، فنقلوه من المركبة وأضجعوه على العشب، وبعد دقائق معدودة أسلم الروح ورأسه على حضن ابنة أخته الأميرة برانتسكي، فمات على قارعة الطريق في صباح يوم من أيام أكتوبر سنة 1791، وانتهت حياة ذلك الأمير الذي ظل مدة عشرين سنة معدودا من أعظم الرجال سطوة وسلطة، وأعرضهم جاها وعزا. وحسبه أنه كان صاحب السلطان الحقيقي في أكبر إمبراطورية.
ولما بلغ كاترينا نعيه أغمي عليها وتحول الدم إلى رأسها، فعالجوها بالفصد. ولما أفاقت لم تجد إلى العزاء سبيلا، فقضت أياما في خلوتها تأبى مقابلة أحد، وهي ممعنة في الحزن والاكتئاب والنوح والانتحاب.
ولكن بعد دفنه في كنيسة القديسة كاترين في خرصون، كتب عنه الكونت دستوبشين يقول: «إنه مذ الآن قد أدرج في طي النسيان، وعاد غير مذكور بلسان إنسان. ولن يذكر في الأجيال المقبلة بسوى اللوم والذم. وقد كانت أعماله كلها متناقضة متضاربة، فكان يمزج عمل الخير بفعل الشر، ويتبع الحسنات أضعافها من السيئات، ويأتي ما ينشئ الحقد والضغينة والمقت والكراهة في قلوب الذين سبق فغمرهم بفيض جوده وإحسانه. وأشهر مظاهر ضعفه أنه كان يعشق كل امرأة يراها، ثم لا يلبث أن يبدل بها سواها. وهذه الشهوة على فسادها وشدة سفالتها كثيرا ما اقترنت بالنجاح، فكنت ترى النساء يتسابقن إليه لمطارحة العشق والغرام تسابق الرجال للحصول على المناصب.»
وبعد سنوات أمر الإمبراطور بولس ابن الإمبراطورة كاترين الثانية عاشقة بتيومكين وحاميته، أن ينبش قبره ويذرى رفاته في الهواء.
تهور وصيفة
وصف أحد شعراء الإنكليز جمال فرانسز جننس الساحر وحسنها الفتان، فقال ما ترجمته: «سبكتها الطبيعة في قالب محاسن لا يمكن التعبير عنها بالكلام، وصقلتها بمصقل ملاحة خالبة العقول وسالبة القلوب. فإشراق محياها يمثل لعين الناظر إليه لمعان جبين الفجر وسناء وجنة الربيع.» هذا وصف وجيز للجمال الرائع الذي ازدانت به هذه الفتاة، وقد مثلت أهم فصل على مسرح العالم في أيام هنري الثامن ملك إنكلترة الملقب بالملك الطروب.
ولدت فرانسز جننس سنة 1648 في سندرج قرب سنت ألبان في إنكلترة، ولم يدر قط في خلد إنسان أنها ستنال شيئا مما أحرزته فيما بعد من علو المكانة عند الأمراء والعظماء، بل كان حينئذ ما بينها وبين ما صارت إليه أبعد مما بين الأرض والسماء. وكان أبوها رتشرد جننس من عامة رجال الأرياف. فلم يكن يتوقع لبناته سوى أن يجدن أكفاء لهن يقترن بهم ويقضين معهم أيامهن في تربية أولاد أصحاء أقوياء، ويعشن عيشة الزوجات الصالحات المشهورات بحسن تدبير البيوت، ولم يخطر بباله ارتقاء إحداهن إلى مصاف الأميرات ودخولها في قصر الملوك.
على أنهن نشأن في أسرة توارثت الحسن والجمال من عهد بعيد، وكان هذا الجمال الأصيل التليد يزداد على توالى الأجيال صفاء ونقاء ورونقا وبهاء، حتى بلغ في بنات رتشرد منتهاه، وأصبح جمالهن المنقطع النظير موضوع حديث أهل البلد، مع أنهن كن بعد طفلات. ولما فتحت أزرار حسنهن، ولاحت لعيون الناظرين أزهار محاسنهن، وهي في طور البلوغ فاح أريجها وذاع صيتها في إنكلترة، وبلغ قصر الملك. ولما عزمت دوقة أوف يورك (زوجة أخي ولي العهد) أن تكون وصيفاتها أجمل الوصيفات في قصور الملوك، لم يعجب الناس حين سمعوا بأنها دعت فرانسز أجمل بنات رتشرد جننس إلى قصرها لتكون فريدة في عقد نسائه الحسان. وعلى الفور نظرت فرانسز إلى نفسها، فإذا بها وهي بعد في السادسة عشرة من عمرها قد انتقلت من عيشة الخشونة في الريف؛ حيث هل هلال حسنها وفتحت زهرة جمالها، إلى عيشة الترف والرخاء والرغد والهناء في أعظم القصور. وهذا الانتقال الفجائي أدهشها إلى الغاية. وعند وصولها استقبلت كواحدة من أعضاء الأسرة المالكة. ولم تبطئ شهرة جمالها أن شاعت وذاعت، وأخذ الناس يتحدثون عنها، ويتسابقون إلى مشاهدتها عند مسيرها في الشوارع أو تمشيها في المتنزهات. ولما رآها دوق أوف يورك وأخوه الملك أعجبا بها كل الإعجاب، وكانا في مقدمة العانين لسلطان حسنها عليهم.
وكان الدوق على الخصوص أكبر مشغوف بحب وصيفة زوجته، فأخذ يتعرض لها في دخولها وخروجها، ويضايقها بالمداعبة والمغازلة ومطارحة أحاديث الوجد والغرام، وهي تنفر منه ولا تعيره أقل التفات. ولما خابت مساعيه بالكلام وعلى لسان الوسطاء، عمد إلى توسيط القلم واستخدام الرسائل؛ فكان كل يوم يلقي بطاقات شكوى الشوق ووصف تباريح الهيام في جيوبها أو فروة يديها. ولكنها كانت في كل مرة تبذل جهدها في أن تجعل الذين يشاهدون وضع هذه البطاقات يرون طرحها لها كما هي غير مفتوحة ولا مقروءة؛ إذ كانت بعدما يضع البطاقات في جيوبها أو في فروة يديها تنفض الفروة أو تفتح منديلها وتلقي البطاقات، فتسقط على الأرض على مرأى المارة ويلتقطها من يشاء.
وكثيرا ما شاهدت الدوقة هذه الحوادث، ولم تجد في نفسها ما يوجب توبيخها لوصيفتها على إعراضها عن زوجها وعدم احترامها له. وعلى هذا المنوال كان حديث جمال فرانسز وتمنعها ملء الألسنة والمسامع بين الكبراء والعظماء.
وكان مما صحت عزيمة فرانسز عليه أن تتخذ جمالها ذريعة لنيل ما طمحت نفسها إليه من الغنى ورفعة الشأن، ولكنها في الوقت نفسه ما كانت قط لتسمح بهذا الجمال النادر المثال لمن لا يدعوها زوجته. وبناء عليه أعرضت بوجه باسر عن جميع الأمراء الذين حاولوا التزلف إليها وردتهم واحدا بعد الآخر يتعثرون بأذيال اليأس والخيبة.
ولما تخلصت من إزعاج رجال القصر لها، وخلا لها جو الاختيار كما تشاء، وقع اختيارها على المركيز دي برني ابن أحد كبار الوزراء عند لويس الخامس عشر. وكان هذا الشاب ملحقا بسفارة فرنسا في لندن. فرأى فرانسز وأحبها وخطبها، وكتب إذ ذاك سفير فرنسا في لندن إلى الوزير أبي الخطيب في باريس يقول له: «إن الآنسة فرانسز جننس التي خطبها ابنك من أجمل فتيات إنكلترة، وهي، مع أنها ليست بطويلة القامة، ذات قد رشيق شائق، يزين محياها لون رائع رائق، ولها شعر طويل جميل شبيه بشعر مدام دي لانجفيل، وذات عينين هما غاية في الحسن والجمال. وقد خصت ببياض بشرة ونعومة جلد لم أر لهما قط مشبها.» ولكن أحلام المركيز بالسعادة والهناء لم تصح؛ فإن والده كان ينوي أن يخطب له غيرها من بنات الأعيان في باريس فدعاه إليه، وبسفره من لندن انتهى الفصل الأول من فصول الرواية المتضمنة حوادث غرام فرانسز.
وفيما هي تتجرع غصص الأسف على خيبة أملها عرض لها خطيب أجمل طلعة وأرفع شأنا من خطيبها الأول؛ ألا وهو دك تالبوت زهرة فتيان إرلندة، وفريدة عقد شبانها في الحسن والغنى والجاه والبسالة والإقدام. وكان فوق هذا كله ممتازا بشدة ذكائه وسرعة خاطره وخفة روحه وحسن أخلاقه. فلم يسع فرانسز أن ترفض طلبه عندما تقدم إليها خاطبا. وعلى الفور شاع خبر خطبته لأجمل فتاة في إنكلترة بموافقة دوقة أوف يورك. ولكن تالبوت كخطيب لم يتمكن من إرضاء فرانسز واكتساب محبتها. وبينما هو يعلل نفسه بتحقيق الأماني، أوعزت إليه أن يبحث عن فتاة غيرها؛ لأنه من طبقة تسمو جدا على طبقتها، وليس بينهما أقل تناسب يضمن لهما سعادة الحياة الزوجية.
ولم يطل انتظارها حتى أسعدها الحظ بالعثور على محب آخر كان مستطير الشهرة بجماله وشدة شغفه بمغازلة النساء والهيام بهن، حتى عد زير عصره وهو هنري جرمن. وكان ذا ثروة كبيرة يبلغ دخله في السنة عشرين ألف جنيه. وكان من أعظم مشتهيات قلبه أن ينال رضى فرانسز وينعم بقربها، لو لم يجد من غرابة أطوارها وإيغالها في المزح والمهازلة ما اضطره إلى التحول عنها.
فقد كانت أشد وصائف القصر الملكي استرسالا في العبث والمجون. ونقل الرواة قصصا كثيرة عن اشتغالها باللهو والمداعبة. فمن ذلك أنها تنكرت يوما في زي بائعة البرتقال، وأخذت تطوف في الشوارع ذهابا وإيابا وهي تنادي: «يا شاري البرتقال»، وظلت ممعنة في السير والنداء حتى زلت رجلها فسقطت وعرف الناس من هي. على أن هذه الحادثة مع شدة غرابتها ليست شيئا يستحق الذكر بالنسبة إلى الحادثة التالية، التي كانت من أكبر الأسباب الباعثة على انصراف قلب هنري جرمن عنها، وهاك تفصيلها:
كان تشارلس الثاني قد أقصى عن بلاطه لورد روتشستر لما اشتهر عنه من الانغماس في حمأة الإثم والدعارة. لكن هذا اللورد عاد إلى لندن متنكرا بزي طبيب ألماني بارع في معالجة الأمراض والعرافة (معرفة البخت)، وأخذ الناس يتوافدون إليه من كل فج للتطبب والوقوف على ما خبأه لهم القدر. وسمعت بصيته الآنسة جننس، وعزمت أن تزوره وتستنطق القدر على يده، فذهبت إليه مصحوبة بوصيفة أخرى اسمها بريس.
وبعد إنعام النظر في طرق التخفي، أجمعتا على التنكر في زي بائعات البرتقال في المسارح والشوارع - كما فعلت فرانسز في المرة الأولى. وما أبطأتا أن بدتا كلتاهما في زي واحد ولباس واحد، فخرجتا وفي يد كل منهما سل فيه برتقال، واستقلتا إحدى المركبات فسارت بهما إلى حيث تسوقها يد القدر وهما مستسلمتان فيها إلى عامل الطيش والغرور. ولما اجتازت بهما المركبة أمام مسرح الدوق، حيث كانت الدوقة والملكة جالستين تشاهدان التمثيل، دار في خلد الوصيفتين أن تدخلا المسرح وتعرضا بضاعتهما على من فيه غير مكترثتين لوجود الدوقة والملكة اللتين تعرفانهما جيدا.
هذا ما خطر لهما، ومن فورهما عملتا بموجبه، ولكنهما إذ دخلتا لم تجدا من الشجاعة ما يكفي لمواصلة هذا الاقتحام، وانبرى لهما أحد المشهورين بالوقاحة وقلة الحياء، فأخذ الآنسة جننس من ذقنها بإحدى يديه وطوق خصرها بيده الأخرى، فذعرت من هذه المفاجأة ذعرا لا يوصف، وانفلتت منه بعنف وبأسرع من وميض البرق، وفرت راجعة إلى المركبة ورفيقتها جارية في أثرها.
وقد تعرضتا لحادث أجل وأخطر شأنا من هذا قبيل وصولهما إلى بيت العراف الألماني؛ فإنهما عندما خرجتا من المركبة وتركتا سلي البرتقال فيها، لقيتا أمامهما الرجل المسمى برونكر، وكان أشد أهل زمانه خلاعة وتهتكا. فلما أبصرتاه أوشكتا أن تذوبا خوفا وهلعا؛ لأنهما علمتا أنه عرفهما. ولكنه لحسن حظهما وعلى خلاف ما ينتظر منه سلك سلوكا لا بأس به؛ إذ إنه اقتصر على شيء من المداعبة المألوفة وانصرف بعدما عنف الآنسة بريس (رفيقة فرانسز) ولامها؛ لأنها أبت أن تصحبه، وأنها لن تحصل في السنة كلها على ما تناله معه في اليوم.
وهذه الحادثة الثانية أيقظتهما من غفلتهما، وأكرهتهما على العدول عن مواصلة أعمال الطيش والاستهداف للمخاطر، فعادتا بما يستطاع من السرعة إلى القصر. وبعد أيام أذاع برونكر خبر تنكرهما في المدينة كلها، وبلغ مسمع هنري جرمن فزاده اقتناعا بصحة ما عزم عليه، ومن ذلك الحين قطع كل علاقة له بفرانسز جننس.
ولكن تقهقر هذا الفتى من الميدان لم يهمها على الإطلاق؛ لأن المعجبين بحسنها وجمالها، والمتسابقين لخطبة مودتها كانوا أكثر من أن يحيط بهم عدد. وممن تقدم إليها خاطبا في هذا الوقت جورج هملتون حفيد لورد إبركورن. وكان شابا وسيم المحيا نبيه الشأن، فسمحت له فرانسز بيدها، ولكنها على ما يقال لم تعطه قلبها مع يدها. وكثيرا ما تساءل الناس لماذا اختارته زوجا لها، وهو على رفعة شأنه وجلال قدره فقير وقير لا يملك شروى نقير؟ لماذا رضيت الاقتران به وهي لم تحبه، ولا شعرت بأقل ميل إليه؟ ولعل اقترانها به كان من الأسرار التي هي نفسها لم تستطع استجلاء غوامضها. وقد احتفل بزفافها إليه وهي في السابعة عشرة، وأنعم عليه الملك تشارلس بلقب كونت. وما عتمت أن صحبته إلى فرنسا حيث تطوع للمحاربة في جيش لويس الرابع عشر، ولقي حتفه في معركة فلندرس تاركا لقرينته ثلاثة أولاد صغار، ليس لهم ما يعيشون عليه سوى معاش زهيد من حكومة فرنسا.
لكنها كانت لا تزال في شرخ صباها وأوج جمالها وعنفوان طموحها إلى الرفعة والشهرة. ومع ترملها وشدة فقرها كانت ترى مجال السعي لبلوغ آمالها واسعا أمامها وبابه مفتوحا، ولديها قلوب كثيرة تتهالك على الخضوع لسلطان حسنها وجمالها. وفي أثناء حداثتها عللت نفسها بأنها لن تموت إلا وهي حاملة لقب دوقة، وأمامها متسع من الوقت للحصول على هذا اللقب، وبلوغ الغاية التي وضعتها نصب عينيها. ولم تخلع ثياب الحداد على قرينها جورج هملتن، إلا كانت مرتدية حلة الاقتران بسفير إنكلترة في فرنسا؛ إذ لقيت في أحد أسفارها تالبوت الذي كان منذ خمس عشرة سنة عرض عليها أن يتزوجها وردته خائبا.
وكان هذا الشاب الإرلندي الجميل قد تزوج بغيرها وفقد زوجته، وظل فؤاده متعلقا بحب فرانسز، فعرض عليها الاقتران بها، ولم تبطئ هذه المرة أن أجابت طلبه بملء الارتياح. ونال الزوجان نصيبا كبيرا من المكانة وعلو المنزلة عند دوق يورك وزوجته.
وحدث بعد اقترانهما أن جيمس الثاني جلس على عرش إنكلترة، وكان لتالبوت منزلة رفيعة عنده، فأنعم عليه بلقب كونت، وولاه قيادة الجيش في إرلندة. فذهب إليها ومعه الكونتس فرانسز. وبعد بضع سنين صحت أحلامها وبلغت المئتاة
1
في مضمار سعيها، وأدركت الغرض الذي كانت تعلل نفسها به وصارت دوقة؛ إذ ترقى زوجها إلى رتبة نائب في إرلندة.
وحينئذ بلغت فرانسز أقصى أمانيها، بل فوق ما كانت تطمح نفسها إليه؛ لأنها لم تنل لقب دوقة فقط، بل كانت نائبة الملكة. وقلما شاهدت إرلندة ملكة ضارعت فرانسز في جمالها وعظمة شأنها ورفعة قدرها. وعلى رغم ما لقيته من الصعاب والمكايد والدسائس، ظلت قابضة على ناصية الحوادث والشئون بيد الحزم والعزم، ومحافظة على ما لها ولزوجها من جلال القدر وكرامة النفس. ولما حدثت معركة بوين وانتهت بانكسار جيش الملك جيمس الثاني، وآذنت شمس عظمتها بالغروب، لم تبرح رافلة بحلة الأبهة والعظمة، وواقفة على قدم العزم والثبات غير جاعلة للقنوط واليأس سبيلا للوصول إليها والاستيلاء عليها.
ثم فوجئت بموت زوجها بعلة قلبية، فانهار صرح عزها، وهوى كوكب سعدها، وأناخ عليها الدهر بكل من البؤس والشقاء ، حتى باتت في أواخر أيام حياتها في حاجة إلى ما يدفع عنها غائلة الموت جوعا، واضطرت أن تتعاطى الخياطة متنكرة. ولله ما كان أعظم الفرق بين تنكرها الاختياري في أيام صباها للهو والتسلية، وتنكرها الاضطراري في بدء الشيخوخة للحصول على القوت اليومي. وبمساعي صهرها دوق مارلبورو تمكنت من استرجاع بعض أملاك زوجها المحجوزة في إرلندة، فعاشت على ريعها واستغنت عن مزاولة الخياطة. وقضت الثلاثين سنة الأخيرة من حياتها الطويلة في دبلن بإرلندة، حيث بلغت قبلا أوج العظمة والكرامة. وفي هذه السنين الأخيرة كان جمالها قد فارقها راكبا جناحي نعامة، ونشأت وفاتها عن سقوطها في إحدى ليالي الشتاء الباردة من سريرها إلى الأرض، ولشدة ضعفها وخور عزمها لم تستطع النهوض ولا الاستغاثة. وفي الصباح وجدوها في أسوأ حالات الضعف، ولم تلبث أن أسلمت الروح. وهكذا قضت نحبها فرانسز جننس التي رشفت في اثنتين وثمانين سنة أحلى كئوس المسرة والهناء، وتجرعت أمر غصص البؤس والشقاء.
مغامرة نسيبة هنري الثاني
حدث ذات يوم في سنة 1766 أنه بينما كان المركيز والمركيزة بولانفيليه يسيران في مركبتهما الفاخرة، يجرها أربعة جياد بين باريس وضواحي قرية باسي، عرضت لهما فتاة صغيرة رثة الثياب حافية القدمين، وعلى ظهرها ولد أصغر منها، وسألتهما صدقة، وقالت وهي تحاول أن تجاري خيل المركبة في مسيرها: «تصدقا يا سيدي بقطعة نقود على يتيمين بائسين من سلالة هنري الثاني ملك فرنسا.»
فرمقها المركيز شزرا وانتهرها معرضا عن توسلاتها. لكن الفتاة لمحت علامات الحنان والمؤاساة بادية على محيا المركيزة، فاستأنفت السير والاستجداء، وكررت قولها السابق. وإذ ذاك التفتت إليها المركيزة وسألتها: «أين تسكنين أيتها الفتاة؟» ولما أخبرتها بعنوان مسكنها قالت لها: «اذهبي الآن، فسوف أنظر في أمرك.»
وفي اليوم التالي بعدما بحثت المركيزة عن هذين الولدين اللذين يدعيان هذا الانتساب السامي استدعتهما إلى قصرها، وساءها ما رأتهما فيه من الضنك والبؤس، وعزمت أن تتبناهما وتعنى بهما وبأخيهما جاك.
ولم يكن في وسع المركيزة أن تتحقق صحة ما يدعيه هؤلاء الأولاد، وقد كفاها باعثا على المبادرة إلى إغاثتهم أنها رأتهم في أشد حالات الشقاء بلا معين ولا منجد. فأقدمت على إنقاذهم من براثن الفقر المدقع. وبعد سنين وقفت على تاريخ ماضيهم، وهو من أغرب ما يروى في تواريخ البشر عن كوارث الدهر ونوائبه.
فقد حدث قبل ذلك بنحو قرنين أن ملك فرنسا هنري الثاني من أسرة فالوي رزق ابنا من إحدى سراريه - وكن كثيرات - فخصه بلقب بارون دي فالوي، وأقطعه كثيرا من الضياع الغنية الخصيبة. ومن صلب هذا البارون خرج عدد ليس بقليل من أعيان فرنسا وعظمائها، ولكن الإسراف والطيش كانا متأصلين في أسرة فالوي، فكانوا كلهم مطبوعين على البطالة والإمعان في الترفه والتنعم وتبيد أموالهم وتبذيرها في سبيل لذاتهم وشهواتهم. وقبل بداءة قصتنا هذه بسنوات قليلة هبط عميد هذه الأسرة من مصاف الأعيان إلى مستوى السوقة، وباع كل ما كان باقيا عنده من العقارات، وأصبح قصره الفخم الأنيق مجلى العفاء والخراب، وزاد على هذا كله أنه تزوج فتاة من أوضع الفتيات شأنا، وهي ابنة حارس غابة الصيد. وانبعث في السكر والخلاعة وقضاء وقته بين الغوغاء، ومزاولة سرقة الصيد والبساتين وعرض ما يسرقه من الطيور والثمار للبيع على أطباق محمولة على رءوس زوجته وأولاده.
قلنا إنه فرط في كل ما ورثه عن أجداده من ثروة وجاه ورفعة شأن، ولكنه ظل حريصا على شيء واحد، وهو وثائق نسبه وحجج انتمائه إلى تلك الأسرة العريقة في الشرف. هذه الأوراق بذل في الاحتفاظ بها جهدا لا يوصف، وكان يخبؤها تحت فراشه القذر الوسخ ويخرجها في أثناء سكره وينظر إليها ثم يستخرط في البكاء والانتحاب ذارفا دموع الأسف على عز ظله زال وشرف لونه حال.
أما زوجته الوضيعة الأصل، فلم يكن لهذه الوثائق من قيمة عندها سوى اتخاذها وسيلة للاستنجاد بالأغنياء والعظماء. وهذا الفكر خطر ببالها أخيرا كأنه بإلهام، فقالت في نفسها: «لماذا لا نذهب بهذه الأوراق إلى باريس ونستخدمها هناك في سبيل الحصول على قليل من المال لسد العوز؟ هناك يجد سليل هنري دي فالوي على الأقل ما يستر عورة فقره ويكفيه تصعير خده للناس بالتسول والاستجداء، ويحول دون تعرضه لتجربة السرقة والسلب.» وبناء عليه نهض اللص الشريف ذات يوم هو وزوجته واثنان من أولادهما وغادروا مظهر شرف الأسرة ومسرح عار سليلها، وساروا قاصدين باريس. وأما ولدهما الثالث ماريان، فإذ كانت أصغر من أن تستطيع قطع هذه المسافة البعيدة مشيا على قدميها، تركاها عند باب بدال (بقال) تستندي جوده وعطفه بصمت أبلغ من الكلام.
ولما بلغوا عاصمة فرنسا لم يظفروا بشيء يحقق الآمال ويصدق الأحلام. فلم يثق أحد بصحة دعواهم، ولا وقفوا في باب إلا صدهم أصحابه وردوهم يتعثرون بأذيال الخيبة والإخفاق، فاضطروا أن يطلبوا خبزهم اليومي، ويدفعوا غائلة الجوع بالتكدية والتسول في الأزقة والشوارع.
وكان الأب (البارون) قد بلغ من العمر أرذله، ولقي من عاديات البؤس والشقاء ما نهك قواه وقوض أركان صحته، فلم يلبث أن قضى نحبه في أحد فنادق باريس. وليس بعيدا أن يكون قد قضى جوعا. وما أبطأت البارونة (زوجته) أن تعزت عنه بالاقتران بعائر أفاق كان من قبل جنديا، واسمه ريموند. ولما نبت به باريس ولم يستطع الإقامة فيها، هجرها مستصحبا زوجته وقد تركا أولادهما لرحمة العالم يعيشون كما شاهدناهم في بداءة هذا الفصل.
وكان من حسن حظهم أن لاقوا المركيزة بولانفيليه، فشملتهم بعطفها وحنوها، وحولت عسرهم يسرا، وأدخلتهم إحدى المدارس المجاورة. ولما بلغت جان - أكبر الأولاد - الرابعة عشرة، أرسلتها المركيزة إلى إحدى الخائطات لتتعلم فن الخياطة، ولكن الفتاة لم تستحسن ذلك، وشق عليها أن تتحمل مشاق التدريب على تعلم هذا الفن وتعنى بأعمال هي من شأن الخدم كالطبخ والغسل وكي الثياب وغيرها. نعم إنها نافعة ومفيدة، ولكنها لا تليق بمن يجري في عروقها دم الملوك. وبعد تكرار التوسلات وذرف الدموع رقت المركيزة لها وأخرجتها من سجنها وأبقتها معها في القصر كوصيفة أو رفيقة. وهذا ما كانت تصبو إليه وتعلل نفسها بالحصول عليه.
وكانت في أثناء وجودها مع المركيزة لا تكف عن ذكر نسبها، وطلب تحقيقه وإثبات صحته، فأوعزت المركيزة إلى أحد علماء الأنساب أن يعنى بالأمر. وبعد قليل جاءها بالخبر اليقين، وقال لها إن دعوى الفتاة صحيحة، وهي سليلة هنري الثاني دي فالوي ملك فرنسا. وبعد بضعة أسابيع ذهبت المركيزة بالأولاد إلى باريس وقصت حكايتهم على الملك لويس الخامس عشر نفسه، فأذن أن تدعى الفتاة جان الآنسة دي فالوي، وأن يلقب أخوها جاك بالبارون دي فالوي ويتعين ضابطا في الحربية، وأن يعطى كل منهم من خزانة الحكومة ثمانمائة ليرة في السنة.
وقد شعرت الأختان بما لنسبهما من العظمة والشرف عندما أعلن الملك رغبته في أن تعتزلا العالم وتقيما في دير، على أمل أن تكونا آخر من ينتسب إلى بيت فالوي. وبناء عليه أرسلت جان وأختها ماريان إلى أحد الأديار، ولكن المركيز كان قد أحب جان وطارحها أحاديث وجده وغرامه، فوجد منها أذنا صاغية. ولما دخلت الدير واصل زيارتها بلا انقطاع حتى اضطرت الرئيسة إلى إخراجهما كلتيهما.
فدخلتا ديرا آخر، ولكنهما لم تلبثا أن خرجتا منه؛ لأنهما بعدما أثبتتا صحة نسبهما لم يبق في طاقتهما وهما سليلتا الملوك أن تعيشا عيشة الزهد والاعتزال. ولكن الضياع التي كانت لأجدادهما لم تزل محجوزة عنهما، فذهبتا إلى الجهة التي فيها تلك الإقطاعات لتطالبا برد حقوقهما المغصوبة. وهناك لقيتا من الحفاوة والإكرام ما يقصر عن وصفه أبلغ الكلام. ونزلتا ضيفتين كريمتين عند سيدة غنية تسمى عقيلة دي سرمونت. وفي بيتها أقيمت لهما الاحتفالات، وأولمت الولائم، وتسابق الضباط الذين في ثكنة لونفيل إلى ترضيهما وخطبة مودتهما. ويقول أحد عارفي الآنسة دي فالوي في وصفها: «إنها كانت رشيقة القوام، وذات عينين زرقاوين تنفثان سحر الجمال، وفوقهما حاجبان سوداوان كأنهما قوسان ترسل عنهما سهام الافتتان إلى قلوب الخليين، ومع أن وجهها كان مستطيلا قليلا، وفمها يزيد في اتساعه عن القدر المطلوب، فإن أسنانها كانت في بياضها وحسن انتساقها كاللؤلؤ المنظوم، يزينها ابتسامة شائقة رائقة. وكانت جميلة اليدين نحيفة القدمين، ولكنها كانت عارية من حلية الأدب.» وهذا النقص كان أهم ما عرفت به في حياتها، وظل أكبر عامل فيما أقدمت عليه ووجهت التفاتها إليه.
وكان في طليعة عشاقها البارون دي لامونت، وهو شاب حسن البزة بهي الطلعة، ولكنه عاطل من حلية العقل والأدب، وقد قبلته الآنسة دي فالوي خطيبا لها بعدما عبثت بضيافة عقيلة دي سرمونت بطول المكث وشدة التثقيل عليها وانتظام زوجها في سلك المغرمين بضيفتها غير المحتشمة.
ولم يمض على اقترانهما وقت طويل حتى رأت جان أنهما في عسر مادي لا يطاق؛ فإن زوجها لم يكن له من الدخل فوق راتبه من الجيش سوى جنيه واحد في الشهر. ولم يبطآ أن أصبحا رازحين تحت حمل دين ثقيل. وكانت البارونة مع شدة وطأة الفقر عليها، لا تنفك تواصل عيشة التبذير والإسراف. وحينئذ لم تر بدا من السعي فيما يخفف عنها أعباء البؤس والشقاء. ومن فورها قصدت ولية نعمتها المركيزة، وقرعت باب جودها وحنوها. وكانت المركيزة إذ ذاك في قصر سافرن نازلة ضيفة على الكردينال الأمير لويس دي روان، وقد أحسنت تمثيل حكاية بؤسها وضنكها، وهاجت الشفقة والرأفة في قلب المركيزة ومضيفها، فأوفت المركيزة ديونها كلها، وبادر الكردينال - وكان من أكبر الخاضعين لسلطة جمال النساء - إلى بسط ظل حمايته عليها.
وبعد اتصالها به واختبارها له وجدته على جانب عظيم من قلة العقل وشدة الغباوة وسفاه الرأي. وكان هذا كله لحسن حظها؛ إذ رأته خير وسيلة يسهل عليها استخدامها لقضاء مآربها. وفيما كانت تمهد السبيل لإدراك بغيتها بذلت جهدها في التقرب إلى سيدات البلاط، فأوهمتهن بأنها صديقة حميمة للملكة ماري أنطوانيت، وأطلعتهن على عدة رسائل مكتوبة حسب الظاهر بخط جلالتها، ولكنها بالحقيقة مزورة بخط أحد أصدقاء زوجها. وفي كل من هذه الرسائل تخاطبها الملكة بقولها: «حبيبة قلبي، وأعز صديقة لي، الكونتس» (متعمدة انتحال هذا اللقب). ولكن هذه الاحتيالات كلها لم تجدها نفعا حتى عند سراري الملك. فأعرضن عنها ولم يعرنها أقل التفات، فوجهت اهتمامها إلى جهة أخرى، ولم تجد ما يشفي غليلها من هذا القبيل سوى التذرع بالكردينال الذي كان في هذا الوقت قد أصبح متيما بها، وعبد رق لها تأمره بما تريد وتنهاه عما تشاء.
وكانت أخلاق الكردينال مظهرا لكثير من مواضع الضعف ووهن العزيمة. واطلعت البارونة جان على أهم موضع منها وصوبت إليه حملات التسلط بما لا مزيد عليه من الدهاء والاحتيال حتى استأثرت به وأخضعته لسلطانها. وخلاصة ذلك أنه لما كان في فينا منذ سنوات اطلعت ماري تريزا إمبراطورة النمسا على أعماله المغايرة للحشمة والأدب والعابثة بكرامة رتبته الدينية، فازدرته واحتقرته، ولم تقتصر على كراهتها له، بل حملت ابنتها ماري أنطوانيت أن تحذو حذوها، فلم تأذن للكردينال في الدخول إلى القصر الملكي في باريس.
وقد قضى وقتا طويلا يسعى في استعطافها وترضيها، واستخدم كثيرا من الوسائط وأنفق مبالغ باهظة من الأموال، فذهبت كلها أخيب من صرخة في واد أو نفخة في رماد. وكان لشدة غروره واعتداده بنفسه يظن أنه إذا تمكن من المثول أمام جلالة الملكة ماري أنطوانيت يستطيع أن يستبيها بفصاحة لسانه وسحر بيانه وحسن صفاته وجمال منظره، ويحول كراهتها له إلى إعجاب واستحسان إن لم يكن إلى غرام وهيام. ولكن هذا الشيء الوحيد - المثول أمامها - لم يقدر عليه؛ لأن ماري أنطوانيت أبت أن تراه إباء مطلقا.
وأمام هذه العقبة الكئود سنحت الفرصة لقرينة دي لاموت - الكونتس جان - واتسع مجال العمل. والإيهام الذي حاولت أن تأخذ نساء القصر بحبائله ولم تفلح، حاولت الآن أن تنصب أشراكه للكردينال. فأوهمته أنها أعز الصديقات على الملكة، ولكيلا تبقي عنده أقل ارتياب من صحة هذا الأمر أرته رسائل جلالتها إليها مفعمة بتعابير الشوق والمحبة والإعزاز، وقالت له إن جلالتها متعلقة بها تعلقا يتعذر وصفه؛ ولذلك هي مستعدة على الدوام أن تجيبها إلى ما طلبت، وليس في وسعها أن ترفض لها التماسا مهما يكن أمره عظيما. ومن أسهل الأمور عليها أن تحمل جلالتها على الرضا عنه والميل إليه، وستبذل جهدها في قضاء الحاجة حتى يتمكن من دخول القصر على السعة والرحب.
فسر الأمير لويس دي روان (الكردينال) بهذا الكلام، وطفق يعلل نفسه ببلوغها غاية المنى حين تعطف عليه الملكة بنظرة وابتسامة. وبعد ذلك - من يعلم؟ - فقد يتمكن بحسن تناوله وبراعة أساليبه أن ينال منزلة في قلبها لم ينلها أحد سواه.
وما عتمت قرينة دي لاموت أن جاءته مسرعة تتلو عليه بشرى نجاح مسعاها، قائلة له إنها تمكنت من إقناع الملكة بإخلاصه وولائه، ومحت ما كان عالقا بذهنها من آثار البغض له والحقد عليه. ثم ناولته رسالة من الملكة إليه تعلن فيها رضاها عنه، فلم يبق عنده مجال للشك في ما حدثته به. والرسالة نفسها أصدق شاهد، وهي مكتوبة بخط الملكة وممضاة: «صديقتك ماري أنطوانيت». وبعدما تلاها هذا الغر الأبله قربها إلى شفتيه وأشبعها تقبيلا. ثم تلتها رسائل أخرى كل منها تفوق سابقتها في عبارات الشوق والمحبة، حتى خيل إلى روان أنه أصبح في أوج السعادة، وأن السيدة العظيمة الشأن التي طالما أبت أن تشاهده، صارت الآن صديقته، بل أقرب إليه من صديقة له كما تدل عباراتها. ولم يبق لتتمة مشتهاه سوى أمر واحد، وهو أن يحظى بمقابلتها ويسعد بتقبيل يدها. وهذا ما وعدت حليفته البارونة أن توصله قريبا إليه، وتسبغ نعمته عليه.
وكان الوعد بالمقابلة أسهل جدا من تهيئتها وتعيين زمانها ومكانها. ولكن السعد الخادم لقرينة دي لاموت أعانها على تذليل هذه العقبة. ففي ذات يوم لقي زوجها فتاة بينها وبين الملكة مشابهة شديدة في الوجه والقامة. فتعرف لها وطلب إليها أن تصحبه إلى بيته. فلما رأتها قرينته سرت بها سرورا عظيما؛ لأنها ضالتها المنشودة. وكان اسمها ليغاي، وهي فقيرة تعيش بما تأخذه من الأجرة على ترتيلها في الكنيسة، فقالت لها جان أنها صديقة الملكة العزيزة، وأن جلالتها طلبت إليها أن تجد لها فتاة تمثل أمرها بخدمة تعينها لها، فتجيزها عليها بمبلغ خمسة عشر ألف فرانك. وعلى الفور أعلنت الآنسة ليغاي استعدادها لهذه الخدمة مبتهجة أشد ابتهاج بشرف خدمة الملكة وعظم مقدار الأجرة.
وبعد أيام زفت جان إلى روان (الكردينال) بشرى وعد الملكة أن تقابله سرا تحت ستار الظلام في حديقة قصر فرسايل. ففاضت كأس بهجته وسعادته، وكاد لبه أن يطير من شدة الجذل، وأخذ يعد الساعات، بل الدقائق والثواني. وفي الوقت المعين دخل الحديقة، وطفق يروح فيها ويجيء وفؤاده يوشك أن يقفز خارجا من فمه من شدة الهياج والاضطراب، وبعد دقائق ظنها ساعات وأياما جاءته الكونتس وأسرت إليه قائلة: «أسرع، فإن الملكة في انتظارك!» والتفت حوله فرأى سيدة في حلة بيضاء قادمة نحوه مستذرية بظل سور الحديقة. فجثا على إحدى ركبتيه وانحنت السيدة فوقه بقامتها الطويلة الرشيقة، ووضعت في يده وردة، وقالت له بلهجة سحرت لبه: «ما أظنك تجهل معنى هذا.» وقبلما تمكن من جمع شمل أفكاره المشتتة فارقته بسرعة وغموض لا مزيد عليهما، ولبث وحده يمطر العشب الذي وطئته قدماها بقبلات شوق أحر من الجمر.
وفي مساء ذلك اليوم كتب إلى ماري أنطوانيت يقول: «إن تلك الوردة الساحرة مغروسة في قلبي. وسأحتفظ بها كل حياتي؛ لأنها تحيي في ذكرى أسعد ساعة في عمري.» ثم سلم الرسالة إلى الكونتس. وبعدما تلتها على انفراد وأوغلت في الضحك والاستهزاء بكاتبها، جعلتها طعام النار. وفي تلك الساعة نفسها كانت الآنسة ليغاي جالسة في أحد المطاعم تراجع في أفكارها الفصل المضحك الذي أجادت تمثيله، والأجرة الكبيرة التي نالتها عليه.
ولم يبق عند الكردينال أقل شك في شغف الملكة بمحاسنه وفوزه بصداقتها، بل بتملكه قلبها. ولشدة سروره وابتهاجه، أعطى الكونتس مبلغ خمسين ألف فرنك، ثم مبلغ مائة ألف فرنك، مصدقا قولها له إن الملكة في أشد احتياج إليهما.
وبعدما قبضت جان هذين المبلغين ذهبت هي وزوجها إلى حيث كانا عندما اقترنا، وهناك قضيا أياما وعاشا عيشة تبذير وإسراف لم يرو التاريخ أشد منها؛ إذ كانا ينفقان المال على الولائم والمراقص جزافا بلا تدبر ولا حساب، حتى لم يبقيا على شيء من المائة وخمسين ألف فرنك، وعادا إلى باريس ينصبان فخاخ المكر والاحتيال.
واتفق حينئذ أن المسيو بومر أحد جوهريي البلاط، كان قد قضى سنين في البحث عمن يشتري قلادة من أنفس الألماس وأغلاه، وهي تكاد تعد نادرة في جمال صنعها وإتقان ترصيعها. وقد أنفق عليها كل ما عنده من المال، ولكنه لم يستطع أن يجد من يقدرها قدرها ويشتريها ويدفع له ثمنها مليونا وستمائة ألف فرنك، وقد عرضها على جميع قصور الملوك في أوروبا وعاد منها كلها بخفي حنين. وبذل جهده في إغراء الملكة ماري أنطوانيت بابتياعها فلم يظفر، فلما ألح مرة على جلالتها قالت له: «لا أجهل أن الملك لا يبخل علي بثمنها، ولكني لا أروم شراءها. فخذها ولا تعرضها بعد الآن.»
فاشتمله اليأس من جراء حبوط مساعيه، ولم يكن يشأ أن يحل عقد نظامها ويبيعها حجارة كلا منها على حدة، ولم يسعده الحظ بلقاء من يريد أو يقدر أن يبتاعها كما هي. وكان كل سنة يتحمل فيها خسارة سبعين ألف فرنك ربا ثمنها. ولم يبق أمامه سوى شعاع أمل ضعيف بإمكان بيعه لهذه القلادة، فكان قد سمع بالكونتس دي لامرت وما بينها وبين الملكة من الصداقة الوثيقة العرى، وقال في نفسه إن كان في استطاعة أحد أن يحمل الملكة على شراء القلادة فإنما هو صديقتها هذه. وبناء عليه ذهب بالقلادة إلى الكونتس راجيا أن تسعى في تحويل الملكة عما عزمت عليه، وإقناعها بوجوب ابتياع هذه الحلية النفيسة.
لكنها قابلت رجاءه بالرفض والامتناع، وأبت المداخلة في هذا الأمر، فعرض عليها رشوة مقدارها ألف فرنك، وإذا بها استشاطت غيظا وحنقا، وأوسعته تأنيبا وتوبيخا، وصرفته من عندها محتقرا مهانا. لكنه تحمل ذلك كله وجاءها مرة بعد مرة. وفي المرة الثالثة آنس بعض علامات الرضا والانقياد، ولم يفتأ يلح ويلمح حتى فاز بحملها على الرضا والقبول، فقالت له: «سأبذل جهدي في السعي، فإن نجحت فعلت ذلك عفوا بلا توقع أقل جزاء. ولكن سواء نجحت أم أخفقت لا أروم أن يرد ذكر اسمي في هذه المسألة.»
وبعد خروجه من عندها زورت كتابا من ماري أنطوانيت إلى روان، وكان حينئذ خارج باريس، تطلب إليه أن يرجع حالا إلى العاصمة؛ لأنها في حاجة شديدة إلى مساعدته على قضاء أمر ذي شأن. وختمت الكتاب بقولها: «فإن شئت أن تفوز بمحبتي فلا تتأخر عن المجيء.» وعلى الفور أسرع الكرة عائدا إلى باريس. ومن الكونتس صديقة الملكة وكاتمة أسرارها اطلع على ما تروم جلالتها قضاءه؛ ألا وهو شراء القلادة لها.
قالت له الكونتس برزانة وحزم: «إن جلالة الملكة تروم إجراء المفاوضات بشأن شراء القلادة بما لا مزيد عليه من التكتم، ولو في الوقت الحاضر، مخافة أن يطلع الملك على ذلك ويغضب. ولما كانت جلالتها لا تستطيع الآن دفع الثمن نقدا، فهي ترغب في أن نيافة الكردينال يضمن الدفع.»
فطابت نفس روان بهذه الثقة الكبرى التي لجلالتها به، وعد ذلك أوضح دليل على تعلق قلبها به. وتم شراء القلادة بمبلغ 1600000 فرنك بضمان الكردينال، مقسطا أربعة أقساط في مدة سنتين بمقتضى صك ممضى بخط الملكة. وتسلمت الكونتس القلادة لكي تعطيها للملكة بيدها. ولا حاجة للقول إنها لم تلبث أن انتزعت حجارة الألماس من القلادة وأعطت أكثرها لزوجها، فباعها في سوق الجوهريين بمبلغ يكفيهما أن يعيشا في سعة ورخاء مدة الحياة الباقية.
ولما كان الكردينال قد أصبح واثقا بحصوله على رضى المليكة ومحبتها، ذهب إلى القصر لتقر عيناه بمشاهدتها، فلم يلق إلا ما كان يلقاه سابقا من الصدود والإعراض والاحتقار والامتهان، ولكنه لشد غروره وغباوته سهل على نفسه تجرع كأس هذه الإهانة بقوله: «ألست واثقا بأني مالك قلبها؟ كفاني هذا. وليس ما لقيته من الصد والإعراض إلا من باب المواربة والتعمية، حتى لا يطلع الآخرون على ما بيننا من الغرام والهيام.» ثم عرض شيء آخر أوجب القلق والانزعاج. وهو أن الملكة شهدت غير واحد من الاحتفالات الرسمية، ولم تكن القلادة في عنقها. وهذه الحقيقة أثارت الريب والشكوك في قلب المسيو بومر. وقد زاد به القلق حتى إنه عندما بعث إلى جلالتها ببيان حساب بعض الأشياء التي ابتاعتها من عنده، انتهز هذه الفرصة وذكرها القلادة، وقال في ختام كلامه: «ويسرني كل السرور أن أرى أغلى قلادة في العالم يزدان بها جيد أجمل ملكة.» فلما قرأت الملكة هذه الكلمات ولم تفهم معناها قالت: «لعله مصاب بالجنون.»
ولكن يوم الحساب وكشف الحجاب كان قريبا، فإنه لما حان وقت دفع القسط الأول وقدره 400000 فرنك، انتظر الجوهري فلم يأخذ شيئا. وكانت قرينة دي لاموت قد أعطت الكردينال مبلغا زهيدا ليدفعه إلى الجوهري ويطلب إليه بالنيابة عن الملكة أن يمهلها في الباقي. وفي هذه الأثناء لاحظ باسنج شريك الجوهري بومر أن إمضاء الملكة على صك القلادة ليس فيه إلا مشابهة قليلة لخطها ... وهذا الشك تحول إلى حيرة وذعر، فذهب باسنج شريك بومر إلى الكونتس مستوضحا. فقالت له إن الإمضاء مزور، والملكة لا علم لها بالأمر، وعليه أن يقتضي المال من الكردينال!
ولما بلغ الملكة خبر هذه الخدعة، حمي وطيس حنقها وغضبها، وازدادت سخطا ومقتا للكردينال، وألحت في وجوب اعتقاله هو وجميع شركائه في هذه الجريمة الشنعاء لينالوا ما يستحقونه من العقاب. وبعد ساعة جيء بالأمير دي روان إلى حضرة الملك والملكة ليسأل عما فعل، فوقف أمامها وقفة ذل وعار حركت ساكن الشفقة عليه من قلوب المشاهدين. وقد استطاع تحمل نظرات الحنق المنصبة عليه من عيني الملك بشيء من التجلد. وأما نظرات الملكة التي لشدة غرامه بها أقدم على اقتراف هذا الإثم الشائن، فقد اخترقت أحشاءه وكادت تذيبه بنارها، فسأله الملك وشرر الغيظ يتطاير من كلماته: «من فوض إليك شراء القلادة لملكة فرنسا؟» فأجابه بلهجة الانسحاق والانكسار: «سيدة دي لاموت. وقد أعطتني كتابا من الملكة، فظننت أن بإطاعتي لأمر جلالتها أكون قد تشرفت بخدمتها.» فاعترضته الملكة بصوت يقذف بحمم السخط والغضب قائلة: «ظننت! ظننت أنك تخدمني! أنت الذي منذ جاء أول مرة إلى القصر لم أكلمه قط بكلمة، ولا وجهت إليه أقل التفاتة!» ولما عرض الصك الموقع بإمضاء الملكة إجابة لطلب الملك صاح: «ليس في هذا الإمضاء من المشابهة لخط الملكة أكثر مما فيه منها لخطي، وزد عليه أنك وأنت الأمير الكردينال تجهل أن الملكة لا تمضي اسمها ماري أنطوانيت فرنسا. فاذهب على الفور واكتب إلى الملكة معتذرا مستغفرا، ولا تنس أنك بأمر الحكومة موقوف رهن التحقيق.»
وبعدما كتب عريضة الاستغفار، أودع هو والكونتس دي لاموت وزوجها والفتاة التي مثلت الملكة سجن الباستيل.
لكن الفرنسويين على بكرة أبيهم شق عليهم أن يروا أحد أقطاب الكنيسة فريسة العار والشنار بيد الملكة التي كانوا يكرهونها، فأعلنوا مؤاساتهم له واستياءهم من تحقيره إلى هذا الحد. ولما جيء به للمحاكمة استقبلوه على جانبي الطرق كملك، وحين أعلنت براءته ثملت فرانسا كلها براح الحبور والابتهاج.
وكان دي لاموت قد تمكن من الفرار إلى إنكلترة، وأما قرينته فقد حوكمت وحكم عليها بأن تجلد متجردة، وتوسم في كتفها كمجرمة أثيمة، وتقضي حياتها كلها في السجن. فسيقت معولة مولولة مكمومة الفم وموثوقة اليدين والرجلين، ووسمت بميسم حام بالحرف
V - أول أحرف كلمة فالوي - في كتفها، وجلدت جلدا شديدا أمام جمهور غفير من المشاهدين، ثم ألقيت في مركبة بين حية وميتة، فسارت بها إلى السجن. ولما دخلته ورأت أنها سوف تقضي غابر حياتها مع أسفل طبقة من النساء المجرمات، استولى عليها الرعب واليأس، فاستخرطت في النوح والبكاء وذرف الدموع وهي تصيح: «يا لفالوي! يا لفالوي!»
وخلاصة ما يعرف عنها بعد ذلك أنها بمساعدة أصدقائها خارج فرنسا، ورشوة بعض الموكلين بحراسة السجن، تمكنت من الهرب متنكرة إلى إنكلترة حيث لقيت زوجها، ولما تراكمت عليها الديون وكثرت الدعاوى توسلت أن تعيش بما توجر عليه من نشر مذكرات مفعمة بالفضائح والمخازي عن ماري أنطوانيت، بحيث كانت تضطرها أن تقطع لسانها وتشتري سكوتها عنها بمبلغ من المال مرة بعد مرة. وكانت كل مرة تقضي المبلغ المتفق عليه واعدة بالكف والسكوت، ثم تنكث الوعد وتستأنف هتك الأستار عن الأسرار ونشر الأخبار، وزوجها يلذ وينعم بإنفاق ما كانت تناله من المال.
ولما تمادت في نكث مواعيدها للويس السادس عشر، على الوجه السابق بيانه، بلغ الغيظ من رسل الدوق دورليان في لندن مبلغا يفوق الاحتمال، وكانوا قد ابتاعوا منها مذكراتها، فتآمروا على الانتقام منها، وزوروا أمرا بالقبض عليها، وذهبوا إلى بيتها قاصدين اختطافها وأخذها إلى فرنسا؛ حيث يذيقونها غصص النكال. ولكنها بعدما دخلوا غرفتها احتالت عليهم بالخروج لقضاء حاجة، وأقفلت عليهم الباب ، وفرت ملتجئة إلى الطبقة العليا من أحد البيوت المجاورة. على أن أعداءها عالجوا الباب بالخلع والكسر، واندفعوا يفتشون عنها ومراجل الغيظ تغلي في قلوبهم، وما لبثوا أن عثروا على ملجئها، فقرعوا الباب طالبين فتحه وإلا كسروه.
وإذ ذاك أيقنت أنه لا وسيلة للهرب إلا من النافذة، ولم يخف عليها أن مصير فرارها منها إلى الموت. ولكنها لشدة هلعها أقدمت عليه وألقت بنفسها من النافذة، فسقطت في الشارع محطمة الجسم مهشمة الأعضاء. وبعد أيام ماتت، وكان ذلك في اليوم السادس والعشرين من شهر أغسطس سنة 1791، وبهذه الفاجعة انتهت حياة جان دي فالوي سليلة الملوك، وختمت حوادث لم يدون التاريخ أشد منها مغامرة واقتحاما.
فاجعة ملكة القلوب
حدث في سنة 1646 أن امرأة برحت لندن قاصدة دوفر وهي في زي أهل الريف، مرتدية ثيابا رثة، ومعها ولد في ثياب صبي جميل العينين أصفر الوجه. وكانت تارة تقوده بيدها وتارة تحمله مع ما هي عليه من شدة الإعياء. وكان المارة ينظرون إليها بعين العطف والشفقة، وكثيرون من أصحاب المركبات يعرضون أن يقطعوا بهما جانبا من الطريق محمولين في مركباتهم. ولكن المرأة كانت تمتنع عن القبول بلطف وشكر. وأما الولد فكان يرفض كل ما يعرض عليه من هذا القبيل بغيظ وحنق صارخا: «دعني! أنا لست صبيا فلاحا! أنا الأميرة هنريتا الإنكليزية.» وإذ ذاك كانت المرأة تبادر إلى إسكاته بقولها له: «صه!» فيمعن المارة في الضحك.
ومع ما في تصريح الولد من الغرابة، فإنه كان صحيحا لا ريب فيه. وتلك الأطمار البالية كانت تستر عري هنريتا أصغر أولاد تشارلس الأول ملك إنكلترة. وكانت قد ولدت منذ نحو ثلاث سنين في إكستر في أثناء شبوب الحرب الأهلية التي ثلت عرش أبيها وذهبت به إلى المقصلة (الآلة لقطع الرءوس). ولما سقطت إكستر في أيدي الثائرين أخذت هذه الطفلة أسيرة، ووضعت هي وظئرها لادي دلكيث في قلعة سنت جيمس. أما والدتها فكانت قد هربت. وعند سنوح أول فرصة للادي دلكيث خرجت بالطفلة سرا متنكرتين بملابس نساء العامة وأولادهن، وطفقت تجد السير إلى دوفر؛ حيث عبرت البحر إلى فرنسا ذاهبة بالطفلة إلى والدتها الملكة هنريتا ماريا المقيمة في بلاط فرنسا مسقط رأسها.
وبعد وصول ابنتها إليها أعدت لها الحكومة منزلا في اللوفر يعد حقيرا جدا بالنسبة إلى قصرهما الفخم الفاخر في لندن. وعين لها مجلس النواب أربعين ألف ليرة في السنة، وكان هذا المبلغ يكفيها لتعيش بسعة. ولكنها كانت مضطرة أن تبعث بأكبر جانب منه إلى ابنها وأتباعه الذين كانوا في أشد حالات الفقر. وبناء عليه كانت مرغمة أن تعيش عيشة الضنك وتتجرع مرارة الاحتياج حتى إلى الطعام والوقيد. وكثيرا ما قضت ليالي الشتاء الطويلة الباردة هي وابنتها في أرق وحزن وبكاء، وليس لهما ما تدفعان به عضة الجوع وقرس الزمهرير.
ومع ما عانته من شدة البؤس والشقاء وشظف العيش، ظلت محتفظة بعزة نفسها ورفعة شأنها، ولم تبح لأحد بشكوى. ووجهت كل اهتمامها إلى تنشئة ابنتها على الطموح إلى المعالي، باثة فيها روح الشجاعة والإقدام والتعلل بمستقبل سعيد مجيد، يبسم لها عن ثغر الرغد والرخاء، وأقل ما في هذا الطموح أن تصير زوجة لويس الرابع عشر، وكانت والدته أكبر معينة لها على تعليل نفسها بتحقيق هذا الأمل مع ما يلابسه من ظواهر التعذر والاستحالة.
وذلك لأن ابنتها الأميرة هنريتا كانت في طفولتها غير محرزة شيئا من ملامح الحسن والجمال، وكانت عيوبها الطبيعية تزداد ظهورا ووضوحا بما كانت تصاب به على الدوام من الزكام والرمد ووجع الأسنان. فكان من أبعد الممكنات أن الملك وهو من أجمل شبان فرنسا وأشدهم طموحا إلى الجري وراء أميال الشبيبة، يرضى بأن تكون هذه القبيحة المنظر زوجة له. وكان يؤثر عليها بنات أخت مازاران الحسان، ويقضي أيامه في مغازلتهن. ولما أعدت والدته مرقصا لتجمعه بهنريتا أبى إباء مطلقا أن يرقص معها، ولم يذعن لإرادة والدته إلا بعدما هددته بأنها لا تأذن له في الرقص مع غيرها. وعندما عرضت عليه والدته بعد ذلك أن يتزوج هنريتا صاح بملء فيه ساخطا حانقا: «لن أتزوج هذه الفتاة القبيحة المنظر ما دمت حيا.» هكذا عزم، وأصر على عزمه إلى النهاية. ولما أراد الزواج اختار زوجة له إنفانتا ماريا تريزا ابنة فليب الرابع ملك إسبانية.
ولكن غيوم البؤس والخمول التي تلبدت في جو حياة هنريتا ووالدتها لم تعتم أن تقشعت؛ فإن أخاها تشارلس استرد عرش إنكلترة. وكأخت ملك إنكلترة نهضت تلك الأميرة المنبوذة من حضيض الضعة والخمول إلى يفاع الرفعة والظهور. وقد صحب رفعة شأنها إشراق غريب غير منتظر لبدر حسنها وجمالها، وتلك البنت القبيحة المنظر في طفولتها استحالت في السابعة عشرة إلى فتاة فاتنة العقول والأبصار ببهاء باهر وحسن ساحر. لم تكن جميلة بالمعنى المتعارف المبتذل، بل بما كان يتلألأ في عينيها من أنوار السناء والجلاء، ويتدفق في محياها من أمواج خفة الروح ونباهة الشأن وحسن التناول. وكان أخص ملامح جمالها ابتسامتها الشائقة التي كانت تكسو وجهها حلة البهجة وتحليه في عين كل ناظر إليه. وهذه المظاهر الخالبة زانها ذكاء نادر وسرعة خاطر قليلة النظير وخفة روح رائقة وبراعة فائقة في فنون الغناء والموسيقى والرقص. ولا عجب بعد ذلك أن تبيت صاحبة هذه الجواذب قبلة الأنظار، ومحط رجال الأمراء والعظماء يتبارون في خطبتها وطلب الاقتران بها. ويقال إن إمبراطور ألمانيا خطبها غير مرة محاولا أن ترضاه زوجا لها، فلم تجبه إلى ما طلب. وأخيرا رضيت أن تقترن بفليب دوق أورليان أخي لويس الرابع عشر الأصغر، وكان في استطاعتها أن تجد من هو فوقه رتبة ومقاما. وقبيل زفافها إليه زارت بلاط أخيها تشارلس الثاني ملك إنكلترة، فلقيت هناك من مجالي الاحتفاء والترحيب والتجلة والتكريم، ومظاهر الإعجاب بحسنها وجمالها، ما يفوق الوصف، بل يشب عن طوق التصور.
ولكنها بقبولها فليب أورليان زوجا لها، سعت إلى حتفها بظلفها، وقضت على سعادتها قضاء مبرما. ولو أنها بحثت في فرنسا كلها لما وجدت زوجا أقل منه جدارة بها وأهلية لها. قال عنه بعض واصفيه: «كان في حداثته أجمل ولد في فرنسا، فشب على أفسد الأخلاق وأرذل الصفات. ومع شدة جماله كان عاريا من حلية الفضائل . وإذ نشأ وترعرع بين النساء تملكه التفنيق والترفيه، وصار من أكبر المخنثين الذين يضرب بهم المثل. وكان عندما يرتدي ثياب بنت - وكثيرا ما كان يفعل ذلك - يصعب على من يراه أن يصدق نسبته إلى جنس آخر.» وظل حتى جاوز الثالثة عشرة يلبس لباس فتاة. ولما بلغ أشده صار خنثه أظهر وأجلى، فكان يقضي كل يوم ساعات في التجمل والتعطر والتبرج، وعرض نفسه على عشاق من جنسه. وقال عنه سنت سيمون: «كان امرأة بكل عيوبها ونقائصها، ولم يكن له شيء من فضائلها، وظل بعد بلوغه متخلقا بأخلاق الأولاد ضعيف الإرادة مهذارا، غريب الأطوار، كثير الغرور، سيئ الظن، مولعا بالنميمة والسعاية.» فكان والحالة هذه يستحيل على هنريتا أن ترى فيه من أول يوم اقترانها به غير ما يسوءها ويحزنها. وقد قال الدوق لأحد أصحابه: «انتهت محبتي لها بعد أسبوعين.» بل قيل عنه إنه يوم زفافها إليه تركها وذهب يطلب التمتع بلذاته بين جماعة المخنثين.
فهل يعجب أحد بعد ذلك إذا رأى الأميرة هنريتا تعرض عن زوجها الساقط وتلتفت إلى غيره؟ وكان من أسرى جمالها دوق بوكننهام وكونت دي غيش وغيرهما، حتى إن سلفها الملك نفسه الذي أشاح عنها في حداثتها صار الآن في طليعة عشاقها. وقبلما انقضى شهر العسل دعاها إلى فونتنبلو؛ حيث وجدت نفسها إلاهة القصر وجنية الينبوع وحورية الغابة. وهناك أعد الملك إكراما لها حفلات الصيد والرقص والغناء والولائم. وأصبحت زوجة فليب المهجورة مليكة بلاط لويس وقلبه. وهناك خلا الجو لها ولسلفها، فتساقيا كئوس الغرام مترعة، وتمليا لذاذات الهوى صافية من أكدار الرقباء، وقضى فصل الصيف كله ناعما بقربها والتنزه معها في غابة فونتنبلو، وهي غير باخلة عليه بشيء استتماما لمسرات نفسه وشهوات قلبه. لم تمنعه شيئا؛ هكذا قالت هي: «كنت أفضل الموت على عصيانه في شيء.» لم تمنعه شيئا، ولا أبدت أقل اكتراث للرأي العام أو مبالاة بصحتها.
ولما اتصلت هذه الأنباء بمسامع والدة الملك غلت مراجل غيظها، وادعى أخوه الغيرة ادعاء، فتظاهر بالاستياء والاشمئزاز. ولكن لويس سكن غيظ والدته وغيرة أخيه واعدا باجتناب مثل هذه الأعمال في المستقبل. والملوك ليسوا أوفى من رعاياهم بالمواعيد. فكان لويس تحت ستار التودد إلى لويز دي لافالير أجمل نساء الشرف في قصر الأميرة هنريتا، ينتهز الفرص للاجتماع بالأميرة نفسها، فيقضي ساعات خاليا بها وناعما بقربها. وما عتم أن تحول تكلفه حب لويز إلى كلف حقيقي، فهام بها واسترد قلبه من سيدتها إليها.
ولما رأت هنريتا أن سلفها أعرض عنها، وأصبحت مهجورة منه ومن أخيه زوجها، وجهت التفاتها إلى مغرم عان طالما تصباها من قبل، وحاول التقرب إليها ولم يفز بطائل، وهو الكونت أرتو دي غيش. كان هذا الفتى الجميل الطلعة سليل إحدى الأسر العريقة في الحسب والنسب، وكان مع جمال شكله ممتازا بحسن سجاياه. وقد هام بالأميرة هيام قيس بليلاه، ولم تعره حينئذ أقل التفات؛ لأنها كانت مشغولة عنه بسواه.
فلما أخلى الملك قلبه من هواها وشغله بهوى غيرها، أعارت توسلات الكونت دي غيش أذنا صاغية، ولم تقتصر على قبول رسائله التي كان قد بعث بها إليها بواسطة الآنسة مونتالي إحدى وصيفاتها، بل زادت على ذلك أن اطلعت عليها وأجابته عنها. ثم اتصلت بينهما عري المحبة وازدادت توثقا. وفي أحد الأيام أدخلت الآنسة مونتالي إلى مخدع الأميرة امرأة في زي عرافة (مبصرة البخت)، وهي بالحقيقة لم تكن سوى العاشق الولهان دي غيش.
وعندما بلغ لويس الرابع عشر خبر هذه الحادثة استشاط غيظا وغيرة، وأمر على الفور بطرد الآنسة مونتالي وإبعاد الكونت غيش إلى أحد ميادين القتال. وقبيل خروجه لطيته طلب أن يخلو سرا بالأميرة، وأوشكت هذه المؤامرة أن تنتهي بأسوأ العواقب.
وبعد نفي الكونت دي غيش تقدم إلى الأميرة المركيز دي فارد، وكان هذا المركيز من أبهى رجال البلاط طلعة وأشدهم انغماسا في حمأة الدعارة. ولكن الأميرة أشاحت عنه بوجه باسر وردته في صفقة الخاسر؛ لأن قلبها كان لا يزال يصلى نار الأسف على فراق حبيبها دي غيش، وأفكارها مشغولة بالحنين إليه والخوف على حياته من الأخطار المحدقة بها في ساحة القتال . أما المركيز فلم ينثن عن عزمه. ولما خابت مساعي التزلف والتملق عمد إلى وسائل الإكراه، وبعد بذل الجهد تمكن من الاستيلاء على الرسائل التي كان دي غيش قد كتبها إلى الأميرة معرضا فيها بالملك، وهددها بإطلاع لويس الرابع عشر عليها إن لم تجبه إلى ما طلب. ففت هذا التهديد في ساعدها؛ لأنها كانت تفضل الموت على إفشاء هذا السر لسلفها، وتوسلت إلى المركيز أن يرد رسائلها إليها. فقال لها: «يمكنك يا سيدتي أخذها إن أجبت شروطي.» - شروطك؟ إني مستعدة لقبولها أية كانت. فما هي؟ - تعالي إلي في منزل الكونتس دي سواسون، وهناك أخبرك بشروطي قبل تسليم الرسائل إليك.
فوجدت الأميرة نفسها في قبضة يد رجل هو من أسقط رجال فرنسا شأنا وأسفلهم نفسا. ولما رآها مرغمة على الانقياد إلى مشيئته عاملها بما استطاع من التنقص والامتهان. فمن ذلك أنه ضرب لها موعدا لتوافيه في منزل كان بالحقيقة معدا لاجتماع السيدات بعشاقهن، فلم يوافها في الوقت المعين، بل غادرها تنتظر قدومه على أحر من الجمر. وجال في البلاط يخبر أصدقاءه بالمكان الذي تنتظره الأميرة فيه. وبهذه الوسيلة هتك ستار الصون والحصانة عن سيرة أميرة إنكلترة وكريمة الملك تشارلس الأول، وجعل ذكر عارها وشنارها مضغة في الأفواه ولماظة بين الألسنة والشفاه!
أما زوجها، فلم يبد شيئا يستحق الذكر من الاهتمام بمصيرها، بل زاد إسرافا وغلوا في التخنث والتبرج والتهتك على الوجه الذي سبق وصفه. وأطلق للمركيز العنان في تحقير زوجته وسومها أفظع ضروب الخسف والامتهان.
وأما الدوقة - زوجته - فقد برح بها القنوط حتى اضطرت أخيرا أن تلجأ إلى الملك تائبة نادمة مستغيثة برحمته أن ينقذها من جور المركيز الغشوم، فأغاثها وزج دفار في سجن مونبليه وأراحها من فظائعه وموبقاته التي تقشعر لذكرها الأبدان.
وعندما أنقذت من براثنه وجهت اهتمامها للاستظلال بحياة الهدوء والسلام والطمأنينة، متذرعة إليها باختباراتها المرة الأليمة غير ناسية ذكرى طيشها وحماقتها. ولكن ما أصدق القول المأثور: «في كتاب القدر المقضي به على كل إنسان صفحة مخيفة مكتوب في أعلاها هاتان الكلمتان: أماني مقضية.» فقد شربت هذه الأميرة إلى الثمالة كأس المسرات التي أباها عليها زوجها الساقط الشأن. ومع كل ما عانته من ضروب العناء والشقاء لم تدفع كل ما عليها من ثمن ما تملته وتمتعت به. وقد شرعت سحب الفاجعة المزمعة أن تغشى حياتها تنشأ متلبدة فوق رأسها. وكان إهمال زوجها لها قد تحول الآن إلى مقت وكراهية ورغبة شديدة في القضاء على حياتها.
وحدث أنها بعد رجوعها من زيارتها الأخيرة للندن بثلاثة أسابيع طلبت كأسا من شراب الهندبا لتروي ظمأها الشديد (وكانت قبل ذلك بيومين قد حملها طيشها على الاستحمام بنهر السين، فأصابتها برداء شديدة) وبعدما شربت الكأس لم تبطئ أن شعرت بألم يقطع أحشاءها فصاحت: «مسمومة!» فارتج القصر وهرع كل من فيه على صوت صياحها وتألمها مذعورين مضطربين. ورن صدى الحادثة في فرسايل، فخف الملك والملكة، وعند وصولهما قيل لهما إنها مشرفة على الموت، ولما دخلا إليها وجداها تتقلب وتتلوى من شدة الألم، وكادا لا يعرفانها من جراء ما طرأ عليها من الضعف والهزال. أما الأطباء الذين دعوا لمعالجتها فاستخفوا بما تعانيه، وقالوا: «إنه مغص يزول عما قليل.» وبهذا القرار سكنوا مخاوف المشاهدين، فانصرفوا يضحكون ويمزحون. وكان زوجها أقل الناس مؤاساة لها وهي في سكرات الموت.
ولما تحققت أن ساعتها دنت استدعت الأب بوسويه الشهير ليسمع اعترافها الأخير. فقالت له: «سأموت عما قليل. وقد سممت خطأ.» وقالت للسفير البريطاني الذي جاء لعيادتها: «إني في أسوأ حالة كما ترى، وعما قليل أقضي نحبي! ولست بآسفة إلا على الملك، فإنه سيفقد بي الشخص الوحيد الذي كان يحبه حبا خالصا.» ولما سألها السفير عن صحة ما شاع من أمر دس السم لها، اعترض كاهن كان واقفا بجانبها، وقال لها: «لا تجيبي عن سؤال كهذا وقدمي نفسك قربانا لله.»
وظلت إلى آخر دقيقة من حياتها مهتمة لغيرها لا لنفسها. وقبيل وفاتها استدعت إليها الأب بوسويه مرة ثانية، وقالت له إنها عن قليل تموت، وطلبت الصليب، فأعطاها إياه، فقبلته بحرارة، وقالت إنها أحبت الله من كل قلبها. وكانت تجيب الأب بوسويه عن كل ما سألها بوضوح وجلاء كأنها متمتعة بكمال الصحة. وظلت واضعة الصليب على شفتيها حتى لفظت النفس الأخير.
بقي أن نسأل كيف ماتت دوقة أورليان؟ أمسمومة أم حتف أنفها؟ وعن هذا السؤال يجيب سنت سيمون بقوله: «لما نعيت الأميرة إلى الملك استدعى إليه سيمون مورل قهرمان قصرها وسأله بعدما وعده بالعفو عما يكون قد ارتكبه من القصور والإهمال أو الغدر والخيانة، وقال له: «هل ماتت الأميرة مسمومة؟» - نعم يا مولاي. - كيف؟ من سمها؟ «الشفاليه لدرين عاشق زوجها الذي أمرت جلالتك بسجنه. فإنه بعد خروجه من السجن ذهب إلى إيطالية وبعث بالسم من هناك إلى اثنين من خدم سموها.» - وهل عرف أخي شيئا عن هذا الأمر؟ - كلا يا صاحب الجلالة، لم يطلع أحد على هذا الأمر، بل ظل سره مكتوما في صدري وصدر كل من الخادمين.»
أما براءة زوجها من هذه الجريمة الفظيعة فمؤيدة بما قالته زوجته الثانية جوقة بلاتين: «أخبرني خادم مخدع الأميرة الذي اتصل فيما بعد بخدمتي قال: بينما كانت الأميرة وزوجها في الكنيسة في صباح يوم الحادثة، رأيت الخادم آفيا قد تناول كأس سموها ومسحها من داخلها بورقة. ولما سألته لماذا دخل غرفة الأميرة وما شأنه في تناول كأسها، قال لي إنه عطشان يروم أن يشرب، وإذ رأى الكأس يعلوها الغبار مسحها بورقة. وبعد العشاء طلبت الأميرة قليلا من شراب الهندبا، وبعدما شربته صاحت: قد سممت. وجميع الذين كانوا حاضرين تناولوا من الشراب بكئوس أخرى ولم يصابوا بأقل ضرر.»
مجنون متوج
في أحد أيام شهر أغسطس من سنة 1845 عم الفرح والسرور جميع أنحاء بافاريا، واستيقظ الناس على قصف المدافع وقرع أجراس الكنائس تبشيرا بأن قرينة ولي العهد الأميرة ماري - أو ملاك الله كما لقبها البافاريون - قد ولدت وارثا للعرش. وقلما لقي مولود في إحدى الأسرات المالكة ما لقيه هذا الطفل من مجالي الابتهاج والحبور ومظاهر التجلة والتكريم. ولما احتفل بعماده حملته الملكة تريزا بين ذراعيها أمام حوض المعمودية حيث نضح بماء من نهر الأردن. وكثيرون من عظماء الملوك وقفوا كفلاء له. وسمي لودوك
1
باسم جده الملك، وكان لا يزال جالسا على العرش، وباسم القديس لودوك؛ لأنه ولد يوم عيده.
ومع أنه ولد في مهد الرخاء والترف، فقد ربي في طفولته وحداثته تربية الشدة والخشونة، التي كان يجب أن يشب منها أصدق مثال للرجولية الصحيحة. ففي سن الحداثة كان هو وأخوه أوتو المولود بعده يعيشان على أبسط الأطعمة من الخبز والجبن وقليل من اللحم وغيرها مما عافه لودوك واستكرهه، حتى إنه لما بلغ أشده قال: «الآن أصبح زمام أمري بيدي، ولم يبق لأحد سلطة علي. فأطلب ألا يخلو عشائي كل يوم من لحم الطيور وأنواع الكعك.» ولكيلا يتمكن هو ولا أخوه من شراء ما ينعمان بأكله كان المعين لنفقتهما الأسبوعية نحو عشرة قروش. وهذا التقتير الشديد غاظ أوتو فاحتج عليه شاكيا متذمرا. ولما بلغه أن السن الصحيحة تباع بجنيه، ذهب إلى أقرب طبيب أسنان وعرض أن يبيعه أسنانه كلها؛ لأنه غير محتاج إليها.
وهذه الخشونة التي لابست معيشة الأميرين في صغرهما لم تقف عند هذا الحد، بل جاوزته إلى تخريجهما في الصنائع، فتعلم لودوك صناعة البناء، وأوتو صناعة النجارة. وبعدما قضى لودوك وقتا قصيرا يزاول تعلم صناعته عند بناء، ذهب إلى والدته وقال لها بلهجة العجب والافتخار: «أصبحت الآن بارعا في بناء الآجر - الطوب - كأحذق البنائين.» فسألته ضاحكة: «وهل تظن أنك قادر أن تعيش من تعاطي هذه الصناعة؟» فأجابها: «نعم، قادر بسعة وغنى.»
ولكن على رغم هذه الخشونة كلها كان لودوك منذ حداثته مائلا أشد الميل إلى التعلق بحبال الأوهام والهيام في أودية الرؤى والأحلام. وفي ذات يوم رآه مؤدبه مضطجعا محقوقفا على متكأ في غرفة مظلمة، فقال له: «ينبغي لسموك أن تلهو بشيء يشغلك ويدفع عنك سآمة البطالة وملل الفراغ.» فأجابه: «لست في بطالة ولا في فراغ، بل أنا مشغول بالتأمل في عدة أمور، وعلى ما أروم من البهجة والسرور.» وهكذا كان يقضي ساعات مستلقيا على ظهره وسابحا على أجنحة التخيلات. وفي منتصف إحدى الليالي وجدوه جالسا بين المقابر وهو غارق في لجة الهواجس والوساوس.
وكان إذا جالس الغرباء يستولي عليه الخجل والاستحياء، فيجلس مطرقا لا يتكلم ولا ينظر إلى أحد منهم. وكان يبدي اشمئزازا لا مزيد عليه من رؤية الدمامة (قبح المنظر) أية كانت. وإذا شاهد من يكرهه أو لا يستحسنه تقزز وتكره وأغمض عينيه أو اختبأ وراء ستار حتى ينصرف الشخص المكروه.
فهل كان مجنونا؟ لا ريب في أن الخلل العقلي الذي اعتراه في السنين الآتية كانت آثاره ظاهرة في صبوته كما يتضح من القصص الكثيرة التي رويت عنه. فمنها أن أحد ضباط البلاط كان يتمشى يوما في حديقة القصر، فرأى أوتو مطروحا على الأرض وهو موثق اليدين والرجلين، وحول عنقه منديل يشده أخوه لودوك ليخنقه به. ولما بادر الضابط إلى إغاثة أوتو المشرف على الموت اعترضه لودوك وصاح به: «ليس لك حق المداخلة في ما لا يعنيك. وهذا الولد عبدي. وقد عصى أمري فأروم قتله.» وبعد بذل الجهد العظيم تمكن الضابط من إنقاذ حياة أوتو المسكين.
ومع شدة تسلط الهواجس والوساوس والخجل والاستحياء عليه كان ممتازا بالحصول على كثير من صفات الرجولية. وفاق أقرانه بالبراعة في الألعاب الرياضية كلعب السيف والفروسية (حذاقة ركوب الخيل) والسباحة والرماية وغيرها من مقتضيات الحرب والكفاح. وعلى ذكر الفروسية نقول: روي عنه أنه عندما كان يتعلم ركوب الخيل رماه الجواد وأخذ مدربه يضحك عليه لرعونته وطيشه، فحمي غضب الأمير عليه، وبعدما نهض انتهره قائلا: «ليتك تستطيع أن تعلمني السقوط على وجه لا يستدعي سرورك وضحكك علي، ولست أرى ما يضحك في حادثة يتعرض لها أبرع الفرسان.»
وبعدما بلغ أشده أضاف إلى هذه الصفات حسن الهيئة وجمال الطلعة، وكتب عنه من عرفه حينئذ يقول: «كان في الثامنة عشرة من عمره ذا شكل لم تقع العيون على أجمل منه. فكان يميس بقامة طويلة ممشوقة وجامعة لكل محاسن التناسق والتناسب. وشعره الأجعد يلقي على رأسه شبها واضحا لما مثل به اليونان البطولة والبأس . وكان أجمل ما فيه عيناه اللتان كانتا تسطعان ببهاء ساحر جاذب يتعذر وصفه بقلم كاتب. ومن نورهما المغنطيسي كانت تنبثق أشعة حزن عميق يعبر عن القلق والاضطراب العابثين بدماغ صاحبهما.» وهاك ما وصفه به أستاذه وغنر: «كان فائقا في جماله وذكائه. وأما سحر عينيه فيفوق الوصف. فإن فسح الله في أجله كان آية عصره.»
ولما كان ابن ثماني عشرة سنة احتفل بجلوسه ملكا على عرش بافاريا بعد وفاة أبيه، وكان الاحتفال بتتويجه بالغا حد الأبهة والعظمة والفخامة. ولم يلبث أن أخذ يرأس مجالس رجال الحكومة، ويستقبل سفراء الدول بما لا مزيد عليه من البراعة والكياسة والظرف وحسن التناول، واستمال إليه قلوب الرعية بحسن رعايته لهم وعنايته بهم وعطفه عليهم. وخرج في موكب المهابة والجلال يعرض جيوشه لابسا خوذة أنيقة، وممتطيا جوادا أبيض يستحثه بمهمازين من ذهب، وحوله كبار القادة والضباط. وفي هذه المظاهر كلها لم يبد عليه من علامات العته والجنون ما يجعله دون غيره تعقلا وإدراكا. ومع هذا كله كان جنونه كامنا فيه يحاول الظهور على رغم مقاومته له، كما سنرى فيما بعد.
وبعد الاحتفال بتتويجه، سر البافاريون إذ علموا أن مليكهم عازم على الاقتران بابنة عمه الأميرة صوفيا شارلوت. وطفق رجال البلاط يستعدون ليوم الزفاف استعدادا لا مثيل له، ولاحت على محيا الملك أمارات ابتهاج لا مزيد عليه، فقضى معظم أيامه يجول متنزها مع خطيبته إما في مركبته الملكية في شوارع مونيخ، وإما في زورقه في بحيرة ستارنبرغ. ولما جاء اليوم المعين للاحتفال بزفها إليه وجيء بالأميرة إلى الكنيسة، أعلن لودوك رفضه المطلق للذهاب إلى الكنيسة، واضطرت العروس أن تعود من حيث أتت تذرف دموع الكآبة، والناس من حولها يتعثرون بأذيال الخيبة.
ثم فتشوا له عن عروس أخرى، وهي أرشديوقة نمسوية كانت مشهورة ببارع حسنها وجمالها. وكان الأمل وطيدا أن بهاءها المنقطع النظير يمكنها من أن تنال نعمة الرضا والقبول في عينيه. ولكنه إذ كان ذات يوم يتمشى في حديقة قصره، لقي عروسه الحسناء تقطف وردا وهي غير شاعرة بقربه منها، ثم رفعت نظرها فرأته محملقا وعيناه تقدحان شرر الغيظ والحنق، ثم أقبل عليها يوسعها سبا وشتما، فولت مذعورة وهي تبكي وتكتئب، ولم يبق فيها أقل ميل إلى مشاهدته مرة أخرى.
وكان ميله في أيام حداثته إلى العزلة والانفراد قد تجدد فيه الآن مشتدا كل الاشتداد، حتى باتت أعراض جنونه ظاهرة لكل ذي عينين. فكان في النهار يروع بمخاوف هائلة تشب من طوق الحصر. وفي الليل يرى في حلمه وجوها ملطخة بالدماء ملتهبة الشعور وهي محدقة بسريره ترقبه هازئة صافرة، حتى كان من شدة ارتياعه يندفع خارجا من القصر ويركب حصانا ويقضي الليل كله هائما على وجهه في الغابات فرارا من هواجس دماغه وأخيلة أفكاره.
وكان عندما تخف وطأة الوساوس عليه يستدعي مغنيات الأوبرى إليه ليطربنه برخيم إنشادهن، وهو راكب زورقه في حديقة الشتاء التي أنشأها على سطح القصر، وكانت من أبهى جنان الأرض. وكثيرا ما كان يستصحب أشهر مغنيات الأوبرى في ذلك الحين؛ وهي فرولين تشيفسكي. وحدث مرة أنها وهي راكبة معه في الزورق رأته مستغرقا في ذهوله وشرود ذهنه، فأخذت تعبث بشعره، فأفاق من ذهوله مغيظا محنقا، ودفعها بعنف دفعة أمالت الزورق وكادت تفضي إلى انقلابه وغرق من فيه.
وأحيانا كان يتزيا بزي لوهنغرين (الموسيقي الشهير) فيتقلد السيف والترس ويضع على رأسه عفرة طويلة، ويقضي ليله في البحيرة في زورق خفيف تجره أوزة كبيرة وحوله مئات من المشاعل والمصابيح المختلفة الألوان، ومراوح ريش تروح الهواء، والموسيقى تصدح بألحان رقيقة وراء خمائل الأشجار، أو يجلس في الأوبرى وحده صاغيا لإيقاع تلاحين وغنر، حتى إذا سمع ما ساءه ولم يسره، هاج غضبا على الممثلين المنكودي الحظ.
وحدث مرة أخرى لما كان الملك الشخص الوحيد السامع للغناء والمشاهد للتمثيل، أن موضوع الرواية كان يتعلق بهبوب عاصفة عظيمة، فقصفت رعود المسرح وعصفت رياحه، وتلا ذلك أصوات هطول أمطار غزيرة على ما هو مألوف في المسارح، فازداد الملك من جراء هذا هياجا واضطرابا، وصاح صارخا من «لوجه»: «حسن! حسن جدا! شائق إلى الغاية! لكني أروم مطرا حقيقيا. افتحوا أنابيب المياه! لقد رأيت بروقا خاطفة، وسمعت رعودا قاصفة ورياحا عاصفة، فأروم أن أرى سيولا جارفة.» فاعتذر مدير الأوبرى عن ذلك مخافة أن الأمطار تتلف ما في الأوبرى من رياش وزخارف.
ولكن الملك لم يقبل هذا الاعتذار، وأصر على طلب المطر الحقيقي قائلا: «ليتلف ما يتلف. لا بأس، إني أروم الحصول عليه فعجلوا في فتح أنابيبه وإطلاق ميازيبه!» ولم يروا بدا من امتثال أمره، فتدفقت المياه الغزيرة على الأوبرى كلها وغمرت المسرح، وتناول رشاشها حلل المغنيين والمغنيات، وأتلفت كل شيء نفيس طريف. وظل الممثلون والممثلات يوالون التمثيل الغنائي متجاهلين ما هو جار، فسر الملك سرورا لا يوصف، وأخذ يصفق ويصيح: «أحسنتم! أحسنتم كل الإحسان! ليزد إيماض البرق وهزيم الرعد وعصف الزوابع وتهطال الأمطار! زيدوا! زيدوا! ومن يخالف أمري يشنق.»
وزاد فيه حب العزلة والانفراد حتى إن قصوره عادت لا تكفي لإجابة ما تمليه هواجسه وتخيلاته، فصار عندما تحزبه الوساوس وتشد وطأتها عليه يهجر القصور إلى بعض القرى ويقيم في خان أو بيت فلاح. وإذا اتفق أن أحدا عرفه هناك طلب الاعتزال في مكان آخر. ولما كان وزراؤه يعترضون على غيباته المتكررة، كان يجيبهم بقوله: «من المحتم على كل أمير أن يفكر في واجبات دعوته. وهذا إنما يستطيعه إذا اعتزل البلاط وضوضاءه، وخلا بالله في ظلال سكون الطبيعة.»
ولم يقتصر جنونه على هذه الأمور، بل تعداها إلى بناء المعاقل والقصور، فشاد منها كل فخم أنيق حصين، وأنفق عليها - على فرشها وتزيينها - نفقات لا تحصى.
وعلى رغم ما أنفقه من ملايين الجنيهات على هذه القلاع والصروح، ظلت الوساوس والرؤى والأحلام تساوره وتحرمه الراحة والسلام والطمأنينة. وكان لعدم استطاعته النوم يقضي أكثر ساعات الليل في مركبة يجرها ستة من أشد الجياد جريا وإحضارا، فكانت تجري به كالبرق الخاطف وهي تنهب الشوارع نهبا. وكان منظرها في ظلام الليل الحالك أشبه بحكايات الجن؛ إذ يشاهد الناظر إليها شيئا أشبه بأوزة ذهبية ناشرة جناحيها، وداخلها الملك النحيل الجسم الأصفر الوجه، متكئ على نمارق مخمل مطرزة بالفضة والذهب، وهي منورة بنور ساطع أنيق.
ومما زاده عتها وجنونا علمه أن أخاه أوتو حكم عليه بالجنون واعتقل في قلعة نيمفنبرج. فاشتد حزنه على فراقه، وأوجس خوف المصير إلى ما صار أخوه إليه. فغلا في اجتناب الناس غلوا عظيما، واتخذ جنونه شكلا جديدا غريبا، فصار يبصق في وجوه الخدم، وإذا أساء إليه واحد منهم إساءة طفيفة ولو سهوا على غير عمد، كان يبالغ في ضربه والتنكيل به. حتى إنه بلغ يوما عدد الذين أصابهم بالجراح 30، توفي واحد منهم بضربة من قبضة يده. وحكم يوما على خادم رفع نظره إليه أن يتقنع بقناع أسود سنة كاملة، وعلى خادم آخر أن يتزيا بزي أبله ويطاف به على حمار في شوارع مونيخ. وأبى مفاوضة وزرائه إلا بواسطة سياس خيله ومروضيها. وارتأى في يوم أن ينشئ مملكة في بلاد العرب. وفي يوم آخر أن هدد وزراءه بالنفي إلى أمريكا. وأمر مرة أن يجلسوه في مركبة تجرها الطواويس. وطلب مرة أخرى أن يدخن الأفيون ويشرب خمر الرين والشمبانيا في كئوس بلور، وعلى وجوهها أوراق الورد والبنفسج. وغير ذلك من الأعمال الشاذة الغريبة التي يضيق المقام دون وصفها.
هذه الأعمال السيئة تحملها البافاريون في أول الأمر بما لا مزيد عليه من الصبر وسعة الصدر، حتى ضاقت صدورهم وفرغ معين اصطبارهم وعزموا على خلعه، وألفوا لجنة عهدوا إليها فحص قواه العقلية، فقررت أنه مصاب باختلال عقلي لا يستطيع من جرائه أن يحكم شعبه، وأن جنونه هذا لا يمكن إشفاؤه. فلما بلغه قرار اللجنة هاج هياج اللبؤة الفاقدة أشبالها، وصاح قائلا: «لا أعارض في خلعي، وأما الحكم علي بالجنون فلا أطيق احتماله.»
ولما جاء الوفد المعين لإبلاغ خبر خلعه إليه وجدوا القلعة مخفورة بسرية من الجيش كان قد استدعاها لحمايته ومعها جمهور كبير من الفلاحين المسلحين، وهم كلهم مستعدون لسفك دمائهم في سبيل الذود عن مليكهم المحبوب على رغم جنونه. وحينئذ عاد الوفد من حيث أتى. وفي اليوم التالي ذهبوا إلى القلعة فأخبرتهم الحامية أن الملك قضى ليله يهددهم بالانتحار؛ ولذلك أذنوا لهم في الدخول. ولما اجتمعوا به خاطبه الدكتور غودن أحد أعضاء الوفد قائلا له: «يسوءني جدا يا مولاي أن أخبرك بأن أربعة من كبار أطباء الأمراض العقلية قد فحصوا قوى جلالتك. وبناء على تقريرهم تعين عمك الأمير لويتبولد نائب الملك، وسأتشرف بالذهاب مع جلالتك إلى قلعة برغ.» وعلى الفور ساروا به إلى هذه القلعة التي لم يقم فيها سوى يوم واحد.
فإنه في عصر اليوم التالي إذ رآه طبيبه الدكتور غودن مستردا شيئا قليلا من الهدوء والسكون خرج يتمشى به في حديقة القصر. وبعد مغيب الشمس خيم الظلام، وهطلت أمطار غزيرة واستبطأ الحرس رجوع الملك وطبيبه، واشتد القلق والخوف على سلامتهما، وأسرع الحرس في التفتيش عنهما وبأيديهم المشاعل والمصابيح، وركب الدكتور مولر زورقا ومعه رجل آخر، وسارا يبحثان عنه في البحيرة.
قال الدكتور مولر: بينما نحن سائران في الزورق صاح رفيقي فجأة وألقى بنفسه في الماء، وقد غمره إلى ما فوق صدره، وقبض على جثة طافية تسير مع التيار؛ وكانت جثة الملك، ثم جاءت بعدها جثة الدكتور غودن. وعلى أصوات الاستغاثة هرع الحراس إلينا وأخرجوا الجثتين من الزورق. ولم يكن على جثة الملك شيء من آثار الخدوش أو الرضوض بخلاف جثة الدكتور غودن، فإن وجهه كان مغشى بالخدوش، وفوق عينه اليمنى لطخة سوداء كبيرة أشبه شيء بأثر ضربة عنيفة بقبضة اليد، وعلى فمه ابتسامة لطيفة كما كان عهد الناس به في حياته. وهكذا يكون هذا الطبيب الخالد الذكر قد ضحى بنفسه وهو يحاول عبثا إنقاذ حياة مليكه.
وبعد أيام وضعت جثته في كنيسة القلعة وعليها ملاءة حرير بيضاء، وتقاطر شعبه من كل صوب لندبه والبكاء عليه. وكان الحزن عاما وشاملا جميع رعيته رجالا ونساء، كبارا وصغارا، وكأنهم كلهم قد نسوا ما عرفوه من حوادث عتهه وجنونه. ولم يبق في لسان أحد منهم سوى «مليكنا لودوك المحبوب الجميل، النابغة الكريم، الذي أسر القلوب منذ كان ولدا.»
قصة باميلي الغامضة
من يزر مدافن مونمارتر الشهيرة الباقية إلى الآن شاهدة بتقانة رائعة، وناطقة بعظمة خالية، يجد بينها رمسا ساذجا مكتوبا عليه هذه الكلمة «باميلي» فقط، ولا يرى معها تاريخا ولا شيئا آخر يدل أقل دلالة على الشخص المدفون فيه؛ ولذلك توارد على شفاه ألوف من الواقفين عليه هذا السؤال: «من كانت باميلي؟»
وفي أحد أروقة فارسيل الأنيقة صورة مكتوب فوقها «درس القيثارة»، تمثل فتاة بديعة الحسن والجمال، تقلب صفحات كتاب موسيقى. فإذا سألت أحد الحجاب الواقفين هناك: من هذه الفتاة؟ أجابك: «باميلي»، كأن ذكر اسمها كاف للوقوف على كل ما يراد إيضاحه.
والجواب عن هذا السؤال - من كانت باميلي؟ - كان متعذرا حتى في وقت طفولتها وحداثتها حين كانت رفيقة لأولاد الأسرة المالكة. وفي عهد صباها حين صارت زوجة ابن دوق، ولا يزال إلى الآن - بعد مضي نحو قرن ونصف قرن - مودعا أطباق الغموض والخفاء.
في سنة 1777، هاجت خواطر أولاد الدوق دي شارتر - وفيما بعد الدوق دي أورليان - عندما أخبرتهم مربيتهم مدام جنليس بأنه عن قريب يصل إليهم من إنكلترة ولد جميل الصورة ليصحبهم في لعبهم ودرسهم. ولما جاء الولد الغريب، وكان بنتا، سروا به سرورا لا يوصف؛ لأنهم وجدوها تفوق جدا وصف المربية في حسنها وجمالها وخفة روحها وسرعة خاطرها ونباهة شأنها.
وعلى الفور أخذ جميع الذين شاهدوا هذه البنت الصغيرة البارعة الجمال يسألون: من هي؟ ومن أين جاءت؟ وكان نخبة أهل البلاط من رجال ونساء في مقدمة السائلين عنها والمعجبين برائع حسنها وبهائها. ولشدة اهتمامهم بمعرفة هويتها وتعذر ذلك عليهم، شرعوا يتقولون الأقاويل ويذهبون في التخرص والإرجاف كل مذهب. ومما أشاعه بعضهم أن هذه الفتاة ابنة غير شرعية لمدام دي جنليس. وبعضهم أسرف في الإرجاف وعدها نغلة الدوق دي شارتر، وأن الأولاد الذين جيء بها لمجالستهم ومعاشرتهم في الدروس والألعاب إنما هم إخوتها وأخواتها. وبعضهم جمع التهمتين معا زاعما أن الدوق أبوها والمربية أمها.
لكن المربية ماطت اللثام عن حقيقة الفتاة، وأزالت الغموض والخفاء بوضوح وصراحة لا مزيد عليهما، فقالت إنها اتفقت هي والدوق على البحث عن بنت إنكليزية صغيرة تصلح لمرافقة أولاده ومعاشرتهم؛ ولهذا الغرض أرسل الدوق أحد رجال حاشيته - وهو المستر فورث - إلى إنكلترة. وفيما هو ينشد ضالته هناك عثر عليها في إحدى قرى همبشير؛ حيث وجد بنتا عمرها خمس سنوات، زرقاء العينين، ذهبية الشعر، فريدة في حسنها وملاحتها.
وكانت أمها في فقر مدقع. وخلاصة حكايتها أن رجلا يدعى سيمور من أسرة معروفة، أحبها (وكان اسمها ماري سمس)، ولكونها وضيعة الأصل ولم يأذن له والده في الاقتران بها، فر بها إلى نيوفوندلند، حيث ولدت ابنتها وسميت نانسي. ثم توفي زوجها وعادت وابنتها إلى إنكلترة، فأنكرها والداه ولم يعترفا بها ولا بابنتها، ونبذاهما، فاضطرت أن تعمل لتعيش هي وطفلتها. فعرض عليها المستر فورث أن يأخذ ابنتها إلى بلاط فرنسا، حيث يضمن لها مستقبلا باهرا مجيدا، فعارضت في أول الأمر، ولكنها أخيرا قبلت ولم تمانع.
قالت مدام دي جنليس: «ولما مال قلبي إلى باميلي (وهو الاسم الذي أطلقته على هذه الفتاة) وتعلقت نفسي بها، خفت أن تأتي أمها وتطلب مبلغا باهظا من المال لا قدرة لي على دفعه، فاستشرت عدة محامين من الإنكليز، فأشاروا علي بأن آخذ صكا موقعا من والدتها تصرح فيه بأنها سلمت ابنتها إلي بأجرة خمسة وعشرين جنيها. ففعلت بحسب مشورتهم ودفعت المبلغ وأخذت الصك.» وظلت باميلي تحت وصاية مدام دي جنليس حتى بلغت سن الرشاد.
هذه رواية مدام دي جنليس، ولكنها على صراحتها وجلائها لم تكن كافية لقطع ألسنة المرجفين والنمامين. وكانت شدة مشابهة الفتاة لأترابها وعشيراتها تعين على التشكيك في صحة دعوى المربية. وقال أحد المؤرخين المعاصرين: «إن شدة مشابهة باميلي لأولاد الدوق كانت تحمل كل ناظر إليها على أن يظنها أختا لهم لولا وجود نبرة في كلامها.»
أما باميلي نفسها كانت خالية الذهن من جميع الريب والشكوك التي أثارها حولها أهل البلاط، فرتعت في ظلال الرخاء ورغد العيش تجر ذيول الغبطة والهناء، وتجري على مقتضى الأحوال مطبوعة بطابع النشوء في بحبوحة الترفه والترف، لابسة لبوسهما ، كأنها مولودة في مهدهما وسريرهما. وقد تعلقت بها قلوب أولاد الدوق وأحبوها محبة العابد لمعبوده، ونالت مكانة عالية من العطف والإعزاز عند دوق دي شارتر ومدام دي جنليس التي كتبت عنها في مذكراتها ما خلاصته: «كنت مولعة بحبها وكأني بها سحرت لبي وأخذت بمجامع قلبي، وعلى رغم ما كان يبدو منها من الرعونة والطيش، كانت فتنة لكل ناظر إليها؛ لرشاقة حركاتها وخفة روحها.»
وعلى توالي السنين كان غصن جمال باميلي يزداد نضارة وإيراقا، وبدر ملاحتها إنارة وإشراقا. ولما صارت ابنة ست عشرة وصفها بعض عارفيها فقال: «إنها مطبوعة على اختلاب العقول واجتذاب القلوب، فما من فتاة تباريها في سحر النفوس وامتلاك أزمة الخواطر، وجمالها آية في كماله. ومن يسعده الحظ بالظفر بها فقد نال السعادة بحذافيرها!»
وقد خطبها كثيرون من الكبراء والعظماء أصحاب الألقاب السامية والشرف الباذخ، فردتهم واحدا بعد الآخر مفضلة عيشة الحرية واللهو على قيود الحياة الزوجية ولو أنها من ذهب. ويقال إنه كان في وسعها لو أرادت أن تصير دوقة مونبنسيه وإحدى أميرات البلاط، ولكنها رفضت ذلك عندما عرض عليها.
وأخيرا لقيت من حن قلبها إليه وحام طائر حبها عليه، وهو اللورد إدورد فتزجرالد ابن دوق لينستر الأصغر. وكان هذا الشاب الإرلندي الكريم المحتد جميل الطلعة نبيل الشأن، وقد ذاعت شهرة ذكائه ونجابته، وبعد صيت بسالته وشدة بأسه. وقيل إنه هام بها لما شاهدها أول مرة في لوج دوق شارتر في أوبرى باريس، ثم لقيها مرة ثانية في أثناء زيارتها القصيرة للندن سنة 1793. ومنذ اجتمعا أحبا أحدهما الآخر، ولم يلبثا أن اقترنا في تورناي على رغم معارضة مدام جنليس.
وهاك وصفهما في عقد الزواج المحفوظ في تورناي: «إدورد فتزجرالد من لندن، ابن المرحوم دوق لينستر، عمره 29 سنة. وستيفاني كارولين إن سمس المعروفة باسم باميلي من لندن ابنة وليم باركلي وماري سمس.» وهذا العقد ممضى من إدورد فتزجرالد وباميلي سمس وبعض الشهود. ومنه يتضح أنها على رغم الأقاويل التي شاعت عن حقيقة أصلها تزوجت منتسبة إلى الاسم الذي كان لأرملة من همبشير قبل زواجها، وأبوها بركلي لاسيمور كما جاء في رواية مدام جنليس.
والوارد عن نسب باميلي في عقد الزواج يناقضه ما جاء عن نسبها في المجلة الماسونية. وقد ورد في جزئها الصادر في شهر يناير سنة 1794 بما ترجمته: «احتفل بعقد إكليل اللورد إدورد فتزجرالد على الآنسة باميلي كريمة سمو الدوق دي أورليان.» ويقول مور في كتابه: «حياة اللورد إدورد فتزجرالد» ما مترجمه «أن باميلي كانت ابنة مدام دي جنليس من دوق أورليان.»
وعاشت باميلي مع زوجها في إرلندة خمس سنوات في رغد وهناء وصفاء ورفاء، وكتبت يوما إلى مدام جنليس تقول: «إن حياتي هنا أشبه بحلم جميل. ونحن كلانا في سعادة لا توصف، ولأجلها ترينني بعض الأحيان أسائل نفسي بخوف قائلة هل تدوم هذه السعادة لنا؟» ويقول زوجها في رسائله إلى والدته: «تعودت أنا وزوجتي المحبوبة حياة البطالة والكسل. ففي كل يوم نبطئ في الاستيقاظ والنهوض، ونقضي الوقت في المنادمة والمحادثة حتى ينقضي النهار ونحن لا ندري. وقد أقيمت لنا في دبلن عدة احتفالات - ولائم ومراقص - حضرتها زوجتي كلها، وهي مولعة بالرقص. وأود لو أمكنك أن تشاهديها وهي ترقص فكنت تعجبين برقصها البديع الجميل. والجميع هنا يحبونها ويحترمونها.» ثم كتب إليها بعد شهر من بلاك روك قرب دبلن: «جئت أمس بزوجتي المحبوبة إلى هذا المكان، ونحن ناعمان فيه بظلال الراحة والمسرة نمتع عيوننا بمشاهدة كل ما شاق وراق من مناظر الطبيعة، وآذاننا بسماع تغاريد الطيور. وهذا كله يزيدنا بهجة وحبورا، وإن كان وجود زوجتي وحده كافيا ليجعل سعادتي منقطعة النظير.»
ولكن تلك الأيام السارة الجميلة لم يكتب لها البقاء والدوام، وتلك السعادة كانت كما خافت باميلي نفسها معرضة للزوال. فإن اللورد إدورد الذي كانت محبته لوطنه لا تقل كثيرا عن محبته لزوجته لم يعتم أن انساق إلى هجر السلام والراحة بجانب باميلي، واقتحام بحر السياسة العجاج المحفوف بالمغامر والمخاطر. وأصبح من أركان جمعية الإرلنديين المتحدين. واختير للسفر إلى فرنسا ليسعى في إعداد حملة فرنسوية لمهاجمة إرلندة. على أن هذا السعي اقترن بالخيبة والإخفاق. وفي أحد أيام مارس سنة 1798 قبضت الحكومة البريطانية على المتآمرين ما عدا اللورد إدورد، فإنه تمكن من الفرار والاختباء في مكان مخفي عن عيون الحكومة.
وفي أثناء ذلك أقامت باميلي في مسكن حقير في زقاق وراء ساحة مريون، وهي في أشد حالات القلق والاضطراب موجسة كل ساعة خوف سماعها لخبر اعتقال زوجها المحبوب. وكثيرا ما كان اللورد إدورد يخرج من مخبئه تحت ستار الظلام ويزورها ويخلس التمتع بمشاهدتها. وفي إحدى الليالي وصوصت جارية من ثقب مفتاح الغرفة فرأت الزوجين جالسين حول سرير ولدهما، ولشد ما توسلت باميلي إلى زوجها أن يكف عن هذه المغامرة مخافة أن تلحظه عيون الرقباء والجواسيس ويقبضوا عليه. وكان اثنان من سكان المنزل الذي هي فيه يعرفانه جيدا على رغم تنكره وتخفيه. وقال الخادم يوما لرب المنزل: «إني أعرف الرجل الذي يزور السيدة.» - هل تعرفه جيدا؟ - نعم، كما أعرفك، فقد أعطاني حذاءه لأصبغه، ووجدت اسمه مكتوبا عليه من الداخل. ولكن لا يخطرن ببالك أني أسلمه ولو بعشرة آلاف جنيه. وإني مستعد لأن أبذل حياتي فداء عنه وعن زوجته.
ولكن رجال الحكومة لم يبطئوا أن استدلوا على مخبئه فأحاطوا به ذات ليلة بعد رجوعه من زيارة زوجته، وخلعوا باب غرفته ودخلوا وقال له ضابط الجند: «إنك اللورد إدورد فتزجرالد، وأنا مأمور بالقبض عليك، وأرجو ألا تبدي أقل مقاومة.»
ولشدة بسالته وشجاعته آثر الموت على التسليم، فاستل خنجره وحمل على الجنود وكافحهم كفاح الأبطال الصناديد. ولكن كثرتهم تغلبت على بسالته وشدة بأسه، فقبضوا عليه بعد عراك عنيف أصابوه فيه بعدة جراح بالغة تضرج بدمائها. على أنه باعهم حياته بأغلى ثمن؛ إذ كان قد أثخن في كثيرين منهم وغادر ضابطهم مجندلا في زاوية الغرفة يعاني سكرات الموت، وبعدما ذهبوا به إلى القلعة نقلوه إلى نيوغايت. وهناك سألوه هل يروم أن يبعث برسالة إلى زوجته، فأجاب: «لا، ولكن تلطفوا في إطلاعها على خبر مصيري.»
ولما علمت باميلي أنهم قبضوا عليه ودت من شدة بأسها لو أمكنها أن تفديه بنفسها، ولكنها لم تستطع ذلك، فباعت حلاها والهدايا التي جاءتها يوم زواجها، وحاولت أن ترشو حراس السجن بثمنها، فلم يقترن سعيها بالنجاح، وطلبت أن تقاسمه الأسر والاعتقال، فلم تلق أذنا صاغية، بل صدر إليها الأمر بأن تغادر إرلندة بما يستطاع من السرعة، وتترك أولادها ولا تعلل نفسها بأمل رؤية زوجها الذي بلغها أنه في حالة النزع متأثرا من جراحه. وبعيد سفرها أسلم اللورد إدورد الروح وتركها شريدة طريدة. وقبيل وفاته أوصى بكل ما يملكه «لزوجتي اللادي باميلي فتزجرالد عنوان احترامي ومحبتي لها وشدة ثقتي بها.» ولكن الحكومة أصدرت قرارها بحرمانها ما أوصى لها زوجها به.
وقد نعي إليها وهي في لندن عند دوق رتشموند، فحزنت عليه حزنا يعجز اللسان عن وصفه. وفي سنة 1799 برحت لندن إلى همبورغ، ونزلت ضيفة عند صديقة لها، وهي ابنة أخت مدام دي جنليس وزوجة صاحب مصرف كبير هناك. ثم عرفت في همبورغ رجلا يدعى بنكارين، فعرض عليها أن يتزوجها، وأجابته إلى ما طلب مدفوعة لا بداعي الحب، بل لشدة الفقر والاحتياج. ولكن زواجها لم يقترن بشيء من الرفاء والهناء. وفي سنة 1820 أقامت في طولون وهي في فقر لا يوصف.
وبعد إحدى عشرة سنة انتهت حياتها الغامضة الغريبة في باريس، وكان القرار بحرمانها تركة زوجها قد ألغي، فعاشت في سنيها الأخيرة في سعة. وماتت في سن السابعة والخمسين؛ أي بعد فاجعة زوجها بثلاث وثلاثين سنة، وعلى وجهها بقية من حسنها الغابر وعزها الدابر، ولم يعرف عنها سوى المكتوب على ضريحها: «باميلي».
من حضيض الضعة إلى أوج الرفعة
قلما اجتاز شاب شارع بال مال في أوائل القرن الثامن عشر إلا خفق فؤاده عند اقترابه من دكان المستر رني الخياط، واخترق نافذته بنظره لعله يظفر بلمحة من ماري كليمنت التي تتعلم الخياطة عنده. وقد شاع ذكر جمالها الفائق في جميع الألسنة، وبات موضوع حديث الخاص والعام.
وتلك الشهرة المستفيضة التي حازها حسنها البديع لم تكن شهرة باطلة، ولا مموهة بطلاء المبالغة؛ ففي لندن كلها في عهد الملك جورج الثاني لم يشاهد الناس فتاة فاقت ماري كليمنت في بهاء عينيها الساحر، وجمال ابتسامتها المسكر. وقد زان حسنها وجمالها خفر وحشمة لا مزيد عليهما. فإنها كانت على رغم تسابق المارة لاختلاس نظرة إليها أو لمحة منها تقضي نهارها جالسة مطرقة حاصرة نظرها فيما تخيطه، وغير مكترثة لشيء آخر على الإطلاق. قال أحد واصفيها: «لما سبكتها الطبيعة كانت في أحسن حالات الصفاء، وأجلى ساعات الوحي والإلهام؛ ولذلك تسنى لها أن تفرغها في أجمل قالب وأبدع صورة. وقلما يتاح للندن أن ترى محاسن باهرة كهذه مرة في القرن.»
ولا يخفى أن كل علق غال يكون دائما عزيز المطلب صعب المنال. والحصول على كليمنت لم يكن من الهنات الهينات. وهي لعلمها بما امتازت به من القسامة النادرة المثال كانت تعرض عن كل خاطب مهما يكن أرفع منها رتبة ومقاما، ولم تلتفت بعين الرضا والقبول إلا إلى شاب واحد كان فريدة عقد الشبان الحسان، وهو إدورد ولبول ثاني أنجال السر روبرت ولبول رئيس وزراء إنكلترة. وكان منزله فوق دكان الخياط. هذا الفتى خلب لبها بجمال طلعته وحسن صفاته.
وكان في ذهابه وإيابه أمام الدكان ووقوفه في شرفة بيته فوقه يخالسها النظر وهي مكبة على عملها لفقا أو شلا أو تفصيلا. وكلما رفعت نظرها وأرسلته من النافذة وقعت عيناها على إدورد شاخصا إليها، فيلتقي النظران ويمهدان سبيل التعارف والتآلف. وتلك النظرات المختلسة على التبادل عقبها ابتسامات فتحيات في أثناء غفلة الخياط، فاجتماعات على خلوة بمعزل عن الرقباء ولم يكذبا أن وجدا حبال الحب عالقة بهما كليهما.
ولما بلغ ذلك قرينة الخياط اشتعلت غيظا وحنقا على ماري، فأسرعت إليها وأوسعتها تقريعا وتعنيفا، وقالت لها: «ويحك أيتها الطائشة الحمقاء! أبلغ من قدرك أن تعللي نفسك بالحصول على شاب كهذا يفوقك جاها ورفعة شأن؟ ساء فألك!» ثم زادت على هذا أن أوعزت إلى زوجها بطردها من دكانه حرصا على كرامته.
فسقط في يد ماري ولم تجسر أن ترجع إلى بيتها على هذا الوجه، ولم تر بدا من أن تذهب إلى إدورد لتشكو إليه ما أصابها. وبعدما فرغت من شكواها طوقها بذراعيه ومسح دموعها بقبلات عطفه ومؤاساته، وقال لها: «خلي عنك الجزع والهلع، فلن يستطيع أحد أن ينالك بشر أو أذى ما دمت قريبا منك، ومستعدا لبذل روحي في سبيل الذود عنك. وستكونين مذ الآن زوجة لي من كل وجه، ما خلا الاسم، ولا يفرق بيننا سوى الموت.» وهي على الفور حلفت له يمين الأمانة والولاء، وبرت بقسمها إلى آخر دقيقة من حياتها. وعلى هذا الاتفاق تم الاتحاد والاقتران بين الخياطة الوضيعة الحقيرة وبين ابن أعظم رجل سياسي في إنكلترة. وحينئذ لم يدر قط في خلد ماري أن هذا الاتحاد سينمو ويثمر، ويكون من نتاجه فتاة تصير فيما بعد إحدى أميرات الأسرة المالكة، وأم ولد أمكنه أن يلبس تاج الإمبراطورية البريطانية. ولكن تلك الأيام كانت لا تزال بعيدة منها، فعاشت مع زوجها المحب الأمين قريرة العين طيبة النفس.
وقد رزقت منه خمسة أولاد: ثلاث بنات وصبيين، وهؤلاء الخمسة أخذوا الحسن والجمال تراثا عن والديهم. وأتيح للبنات الثلاث أن ينلن من الجاه ورفعة الشان ما لم تنله والدتهن. وتوفيت ماري بعد ولادة ولدها الخامس، وهي في غلواء صباها وشرخ شبابها غير مجاوزة الرابعة والعشرين، فحزن عليها زوجها حزنا ليس في استطاعة أبلغ كاتب أن يعبر عنه. وإذ كان ممتازا بالنبوغ وشدة الذكاء أخذ يرتقي في سلم المعالي، فنال أسمى الرتب والوسامات، وتقلد أرفع المناصب، وكان في استطاعته لو أراد أن يتزوج بأعظم الفتيات حسبا ونسبا، ولكنه أبى ذلك مفضلا أن يعيش حافظا لذكرى زوجته، وقاصرا اهتمامه على تربية أولاده.
وتدرجت الفتيات الثلاث، لورا وماري وشارلوت، من جمال الحداثة إلى بهاء الصبوة، فكن بدورا مشرقة في سماء الحسن والملاحة. قال عنهن أحد المؤرخين: «لم يتفق أن يوجد في إنكلترة ولا في غيرها ثلاث شقيقات مثلهن مستوفيات أقساطهن من الجمال والذكاء والظرف والأدب وسرعة الخاطر. فكن قبلة أنظار الطلاب والخطاب، ومنتهى آمال العشاق والروام من أرباب الغنى والجاه وأصحاب الصوالجة والتيجان. وكنت تراهن حيثما يذهبن محاطات ومتبوعات بجماهير من المعجبين بهن والمتعطشين إلى الفوز بنظرة من عيونهن الساحرة أو ابتسامة من شفاههن الشائقة الآسرة.
وكان عمهن هوارس ولبول شديد المباهاة والافتخار بجمالهن، وكثير الاهتمام بتدليلهن وترفيههن وتوجيه التفات أهل البلاط إليهن. مع هذا كله ورغم كونهن حفيدات رئيس الوزراء ظلت أبواب البلاط موصدة دونهن لحقارة مولدهن وضعة نسبهن من جهة الأم. ولكنهن لم يبالين هذا الحرمان، وفضلن إكرام الناس عامتهم وخاصتهم لهن على بهارج البلاط وزخارفه.
وكانت كبيرتهن لورا أول من تزوجت منهن، فخطبها أخو اللورد البيمرل وهو من كبار رجال الدين، لم يلبث أن ترقى إلى درجة مطران. وفي هذه كتب عمهن إلى أصدقائه فقال: نسيت أن أخبرك بأننا عما قليل عازمون على الاحتفال بزفاف ابنة أخي لورا إلى مطران ونسور أخي اللورد البيمرل. ونحن مسرورون جدا بهذا الأمر، والعروس تليق به من كل وجه، وإن كانت مع شدة جمالها دون شقيقتيها حسنا وبهاء. أما أختها ماري فهي الجمال مجسما، وجميع محاسنها كاملة، ولا عيب فيها سوى أن وجهها كثير الاستدارة، وأما صفاتها فكلها مما يرتمى بعين الاستحسان ويثنى عليه بكل شفة ولسان.»
وبعد بضع سنوات اقترنت الأخت الصغرى شارلوت بالكونت ديسارت. وهكذا رأينا كبرى بنات الخياطة قرينة لأخي لورد، وصغراهن محرزة لقب كونتس. ولكن هذا كله على عظمته وسمو شأنه لا يستحق الذكر بجانب ما خبأه القدر للثانية ماري الحسناء التي أتيح لها أن تقرن نسب أمها الوضيع بنسب الأسرة الملكية؛ أسرة هنوفر.
وبعدما رفضت قبول كثيرين من الأمراء وكبار الأعيان والشرفاء الذين طلبوا الاقتران بها، رضيت أخيرا من كان أكبرهم سنا وأقلهم حسنا وجمالا، وهو الأرل والدغرايف مستشار ولي عهد بريطانيا ومؤدبه. وكان في سنه كأبيها، ولكنها مع هذا فضلته على كل من تقدمه. وفي سنة 1759 خرجت ماري من الكنيسة وهي الكونتس والدغرايف عروس رجل من أكبر عظماء إنكلترة عقلا وشرفا وثروة.
وبعد زواجها بأربع سنين أصيب الكونت بالجدري إصابة لم تمهله بضعة أيام حتى قضى نحبه، فتجرعت عليه الكونتس غصص الحزن والاكتئاب، وقضت وقتا طويلا في حداد ونوح وانتحاب. ثم خرجت من عزلة الحداد وخلوة الحزن لتدهش العالم بجمالها الذي زاد بدره إشراقا وبهاء. وعاد الخطاب يزحمون بعضهم بعضا إليها، من غير أن يظفر أحد منهم بطائل؛ لأن نفسها الطموح إلى المعالي كانت تحدثها بالحصول على زوج يفوق جميع الذين تقدموا إليها. يروى عنها أنها فاجأت أباها ذات يوم وهي بعد ولد بقولها له: «تحدثني نفسي بأني سأصير يوما ما أميرة خطيرة.» - خلي عنك هذا الهذيان. إن ما ترجينه مستحيل؛ فأنت لست سوى فقيرة حقيرة، ويهمك أن تعلمي هذا وترعوي عن طيشك وغرورك. - سأصير أميرة فقيرة.
هذا ما قالته في حداثتها، وقد حققته الأيام. ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت أجمل أرملة في إنكلترة موضوع هيام وليم هنري دوق غلوسستر العزيز الغالي على قلب أخيه الملك جورج الثالث. وكان الدوق في التاسعة عشرة عندما أسر فؤاده جمال أرملة لها ثلاثة أولاد. ومن أول نظرة أضرم حسنها في قلبه «نار جوى، أحر نار الجحيم أبردها»، فطارحها الوجد والغرام، وباح لها بصبابة عبثت به ولعبت وأكلت عليه وشربت، وسلبت من عقله ما سلبت. وعلى رغم ما أبدته الكونتس من المعارضة والممانعة بحجة الفرق العظيم الذي بينها وبينه في السن والمقام، ظل مصرا على طلب الاقتران بها قائلا لها: «إنك عندي أعز من نفسي وأغلى من حياتي. فإن لم تجيبي طلبي فلن أتزوج غيرك، وإني في سبيلك مستعد لأن أضحي بتاج الملك نفسه.»
وحينئذ لم يبق في وسع الكونتس أن تمانع. وفي أحد أيام شهر ديسمبر أعلنت رضاها بأن تصير زوجة له، وكان ذلك في بيتها في بال مال قرب دكان الخياط الذي كانت والدتها منذ نحو ثلاثين سنة تجلس فيه تعمل بإبرتها عند صاحبه. وبموجب هذا الزواج أصبح ممكنا - بل محتملا كل الاحتمال - أن نرى أحد أعقاب الخياطة جالسا على العرش الذي لم يؤذن لإحدى بناتها في الدنو منه.
وقد كتما زواجهما ولم يبوحا بسره إلى أحد. ولكن تعلق الدوق بالكونتس ذاع وشاع، فاستوقف الأنظار وأصبح موضوع أحاديث القوم. ولم تكن ملاحظاتهم مقصورة على ما شاهدوه من ملازمة الدوق لها وعدم انفصاله عنها، بل لاحظوا أيضا أن القائمين على خدمتها يرتدون ملابس شبيهة بالرسمية، وأن حجاب الدوق نفسه يسيرون في خفارتها، ويوفونها من الاحترام ما هو حقيق بالأميرات. هذه الملاحظات وأشباهها وسعت مجال الارتياب والانتباه أمام الخواطر والأفكار، وأطلقت العنان للألسنة المولعة بالغيبة والنميمة، فتناولت الكونتس بما شاءت من التهم.
وكان الأمير لا يقل عن زوجته رغبة في كشف حجاب الخفاء عن زواجهما وطلب رفعها إلى المقام اللائق بزوجة أخي الملك، ولكنه رأى أنه لم يحن بعد وقت مفاوضة الملك في ذلك. وكان الملك قبل هذا قد بلغه أن أخاه دوق كمبرلند قد تزوج مسز هورتن الحسناء، وهي أرملة رجل من دربشير، فحمي غضبه حموا لا مزيد عليه، ودعا أخاه إليه وقال له: «أف لك أيها الأرعن الأحمق! بئس ما فعلت! إن تلك الأرملة التي تزوجتها لن يكون لها أقل صلة وانتساب بالأسرة الملكية. لن تكون شيئا يعتد به على الإطلاق.» - إذن ماذا أفعل؟ - اذهب عني. سر إلى حيث شئت وانتظر ريثما أتمكن من حل هذه المعضلة.
فرجع الدوق على عقبه إلى كاليه حيث كانت زوجته، وأخبرها بما لقيه من أخيه من الانتهار والامتهان.
ولما اتصل خبر هذه الحادثة بمسمع أخيه الأمير وليم زوج ماري، قال في نفسه: «إذا كان هذا مبلغ غيظه وغضبه على أخي فردريك وهو أكبر مني، فكم يكون مبلغهما علي أشد وأعظم؟» ثم إن الإسراع في قضاء هذا الأمر كان ضروريا جدا؛ لأن زوجته كانت مشرفة على الولادة، فإن لم يعترف بزواجه أنه شرعي قانوني عد الولد نغلا.
فلم ير بدا من أن يكتب إلى أخيه الملك ويخبره بأمر زواجه باللادي والدغرايف، ويطلب إليه أن يبعث إليها من قبله من يعنى بها في نفاسها اعترافا بأنها من أميرات الأسرة المالكة. فلما قرأ رسالته استشاط حنقا على أخيه، وعد زواجه شائنا معيبا. وبعدما سكن غيظه قضى ليله في الأرق والبكاء. وقال لواحد من رجاله: «إن قلبي يوشك أن يتفطر حزنا على حادثة أخي وليم؛ لأن محبتي له تفوق الوصف.» ولكنه لم يجبه عن كتابه.
وأخيرا هدده وليم برفع شكواه إلى مجلس الأعيان. فاضطر الملك أن يبعث لجنة مؤلفة من رئيس أساقفة كنتربوري وبعض الوزراء إلى بيت أخيه لينظروا في أمر زواجه، ويرفعوا إليه تقريرا عنه. فجاء في تقرير اللجنة أن الزواج بين الدوق والكونتس حصل حقيقة، ولكن التقرير لم يشر إلى هذا الزواج بكونه شرعيا. فبلغ اليأس من الدوق كل مبلغ؛ لأن ولادة الطفل كانت منتظرة ساعة بعد ساعة، فهرع قبيل نصف الليل إلى قصر رئيس الأساقفة، فوجده مع مطران لندن يستعدان للنوم، فشكا إليهما أمره وألح عليهما أن يذهبا على الفور إلى الملك ويقولا له إن كان عنده أقل شك في شرعية الزواج وصحته فأخوه مستعد أن يزيله. فقال له رئيس الأساقفة: «ليس في إمكاننا أن نذهب إليه في وقت كهذا.» فأجابه بعزم واهتمام: «لن يتاح لأحدكما أن يلقي رأسه على وسادته قبل ذهابكما إلى جلالته!» فذهبا مضطرين غير مختارين.
ولكن الملك أبى أن يجيب طلبهما، وأصر على وجوب إنكار الزواج الأول وعدم الاعتراف به ما لم يحتفل بزواجهما مرة ثانية. فرفض أخوه هذا الاقتراح رفضا مطلقا، واضطر الملك أن يعترف بالزواج، وكان ذلك قبيل ولادة الدوقة ابنا.
وبعدما أعلن الملك اعترافه بصحة اقترانهما زالت العقبات من سبيل ابنة ماري كليمنت، فأصبحت إحدى أميرات الأسرة المالكة، وبلغت غاية ما تمنته وعللت نفسها بالحصول عليه، وتسنى لها الوقوف في أعلى درجات العظمة والمجد، مرفوعة الرأس موفورة الكرامة وقاطعة ألسنة الوشاة والنمامين، وظلت بضع سنوات ناعمة في ظلال الصفاء والرخاء، تجر ذيول الغبطة والسعادة، وترشف كئوس المسرة مترعة.
ولكن الدهر الذي بسم لها مصافيا مواليا عاد فعبس وتجهم. فبعدما أخلص لها زوجها الحب والوفاء، مال عنها بعد سنوات إلى اللادي أليرا كربنتر، وكانت ذات حسن بارع وجمال رائع، فسبت لبه وأسرت قلبه. وبذلت الدوقة ماري جهدها في نصحه وإرجاعه عن غيه، فذهبت مساعيها أدراج الرياح. ولما أعيتها الحيل وتحققت أن زوجها انتزع قلبه منها ووهبه لغيرها، أبت البقاء معه وسعت في الانفصال عنه. وقضت بقية أيامها في عزلة وانفراد متفرغة لإغاثة الفقراء والمساكين بالرفق بهم والتصدق عليهم. ولما توفيت في 23 أغسطس سنة 1807 بعد وفاة زوجها بسنتين لم يكن الاحتفال الملكي الفخم بجنازتها عنوان إيفائها حقها من التجلة والتكريم، بل كانت كما قال ولموت دكسون: «الدموع الغزيرة التي ذرفتها عيون الفقراء البائسين - رجالا ونساء وأولادا - أولئك المتربين المدقعين، الذين طالما زارتهم في بيوتهم وتصدقت عليهم بما خفف وطأة بؤسهم وشقائهم، وحلى مرارة أحزانهم وأدوائهم. هؤلاء كلهم اصطفوا على جانبي الطريق إلى كنيسة سنت جورج في ونسور حيث دفنت الأميرة وهم يبكونها بدموع غزيرة وقلوب كسيرة.»
أما بناتها الثلاث من زوجها الأول، فصارت الأولى منهن كونتس والدغرايف، والثانية دوقة غرافتن، والثالثة لادي سيمور. وكان لها من زوجها الثاني ولدان: أحدهما الأمير وليم فردريك دوق غلوسستر، الذي تزوج الأميرة ماري ابنة عمه الملك جورج الثالث، وثانيهما الأميرة صوفيا، وقد توفيت سنة 1844 عزبة. فلو قدر لماري كليمنت الخياطة أن تعمر قليلا لشاهدت حفيدها زوج ابنة الملك وحفيدتها أميرة خطيرة تدعو الملك عمها.
مدام «لي شفاليه»
تارة كان يبدو جنديا باسلا يذيب قلوب أعدائه فرقا وذعرا حين يحمل عليهم مستلا حساما يفري حده الحديد، ويجرع من يصيبه بضربة غصة الردي. وطورا كان يلوح غادة حسناء ذات جبين كالبدر حسنا وأناقة وقامة، كالغصن لينا ورشاقة، تخلب قلوب الرجال بنظرة ساحرة، وتسكر قلوبهم بابتسامة فاتنة آسرة. وطورا آخر سفيرا مجربا خبيرا بأساليب المكر والدهاء، ومتضلعا من معرفة شئون السياسة غير خاف عليه شيء من مداخلها ومخارجها. وتارة أخرى يتحول إلى سيدة ليس كمثلها في الحذاقة واللباقة وحسن التناول تبهر العيون بما عليها من الجواهر المتألقة، وتدهش الخواطر بما تبديه من آداب الاجتماع وحسن السلوك. هكذا كان الشفاليه ديون عجيبة القرن الثامن عشر، التي قصرت العقول عن إدراك كنهها ولغزه الذي لم يظفر أحد بحله. فكان يتصرف في تغيير جنسه من رجل إلى امرأة ومن امرأة إلى رجل، بخفة ومهارة تدهشان العقول وتحيران الألباب. فإذا رآه الناس اليوم ولم يداخلهم أقل شك في كونه رجلا، رأوه في اليوم التالي موقنين كل الإيقان أنه فريدة في عقد النساء الحسان.
وهذا السر الخفي ظل أكثر من نصف قرن لغزا أعجز حله أهل أوروبا، وكان موضوع أحاديث سيدات الطبقة الأولى في الهيئة الاجتماعية، ومحور مباحثات عظماء الرجال في الأندية ومحاورات العامة في الحانات. وجرت عليه مراهنات كثيرة بمبالغ باهظة كانت سببا لحدوث منازعات ومشاغبات ذات شأن. هذا كله جرى والشفاليه يرمقه بعين الرزانة وثبات الجأش، هاشا باشا ومواظبا على التحول والتغير والظهور بمظهر امرأة أو رجل على حسب ما يخطر بباله وتمليه عليه مشيئته، غير مكترث لحيرة الناس ودهشتهم.
وكانت ولادة هذا الشخص العجيب الغريب في يوم من شهر أكتوبر سنة 1718 في بلدة تونير. وهو من أسرة اشتهر رجالها بالبسالة والإقدام والحصافة والذكاء، وكان أبوه أحد رجال المحاماة في باريس، وقد تقلد عدة مناصب عالية كان فيها عنوان الاستقامة والأمانة. ومن المحقق أن هذا الطفل عرف عند ولادته بأنه صبي، ولما صعدوا به إلى كنيسة نوتردام للاحتفال بتعميده أطلق عليه أسقف تونير هذه الأسماء: شارل جنفيف لويس أغسطس أندريا تيموثاوس، وكتبه في سجل المعمودية «ابن لويس ديون دي بومو من زوجته فرنسوى.»
وفي أربع السنين الأولى من حياته كان صبيا لا ريب فيه، وعليه علامات الصحة والقوة والنشاط. وأول فصل مثله كبنت كان يوم ارتدى حلة أخوات العذراء، واحتفل بانتظامه في هذا السلك في كنيسة نوتردام. وظل ثلاث سنوات معدودا «بنت العذراء».
ولما صار ابن سبع سنوات خلع هذا الثوب وظهر بملابس الصبيان، ثم أرسل إلى باريس حيث دخل إحدى المدارس، وكان يتقدم رفقاءه الصبيان في الاستحمام بنهر السين، ويجلي عليهم حائزا قصب السبق في الدروس والألعاب. فلم يكن حينئذ عند أحد أقل ارتياب في كونه ولدا ذكرا. وظل هذا الاعتقاد شائعا مدة السنين الأربع التي قضاها في كلية مازارين حيث فاق أقرانه في كل شيء. ولكنه عند تثبيته والاحتفال ببلوغه سن الرشاد أضاف اسم «ماري» إلى أسمائه في المعمودية. ثم أكمل دروسه ونال لقب دكتور بالحقوق، وأصبح في عداد المحامين المشهورين، وكان شديد الولع بالألعاب الرياضية، ومع أنه كان ذا قوام قصير نحيل كقوام الفتاة فقد برز في هذا الميدان على كثيرين من الأقران، ولا سيما في اللعب بالسيف، ولعله كان من أبرع اللاعبين به في أوروبا.
على هذا المنوال عاش شارل ديون في العشرين سنة الأولى من حياته، رجلا ممتازا باستكماله جميع صفات الرجولية، ولكنه لما ذهب ليرى أباه وهو على فراش النزع سنة 1749 ودعه أبوه بقوله: «خففي عنك يا ابنتي، فالموت أمر طبيعي كالحياة، وكما أني عنيت بتعليمك كيف تعيشين، هكذا ينبغي لي أن أعلمك كيف تموتين.»
وبعدما تقلب في عدة مناصب اتفق له أن اتصل بمن عرفه للبرنس دي كوني رئيس جواسيس الملك لويس الخامس عشر، فأعجب بمظاهره الأنثوية، ورأى أن ينتفع بها في خدمة جلالة الملك. ومع أنه كان في السادسة والعشرين من سنه، ظل يلوح لعيون الناظرين إليه بوجه فتاة في الثامنة عشرة، رشيقة القوام أنيقة الطلعة. ولشدة براعته في التنكر بزي فتاة، وفرط ذكائه ومهارته في معالجة الشئون السياسية على الوجه الأتم الأكمل، كان من السهل الانتفاع باستخدامه جاسوسا في إحدى عواصم أوروبا، حيث يستعين بجنسه الزائف المصنوع كفتاة على الوصول إلى ما يعجز عن بلوغه كرجل.
وكان لويس الخامس عشر مهتما أشد الاهتمام في إحكام صلات المودة والصداقة مع إليصابات إمبراطورة روسيا لإحباط مساعي فردريك الكبير وحط منزلته عندها، فلم يجد أجدر بهذه السفارة المهمة من شارل ديون المحامي، الذي في استطاعته أن يتذرع بمحاسن أجمل فتاة، وكياسة أحذق الرجال، إلى نيل أرفع مكانة عند الإمبراطورة وحملها على مواصلة المفاوضات السرية مع ملك فرنسا بواسطة الملحنة.
1
فاستدعاه الملك إليه وأبلغه أنه عينه سفيرا في روسيا، وبعد أيام فرغ من اتخاذ الأهبة وخرج لطيته البعيدة؛ غادة بارعة الحسن والجمال، يصحبها الشفاليه دغلاس، وهو أفاق سكوتلندي كان قد لجأ إلى باريس هاربا من الحكم عليه بالموت. وقد وصفها بعضهم يوم برحت باريس إلى بطرسبرغ فقال: «صغيرة الجسم رشيقة القوام وردية الخدين زرقاء العينين كبيرتهما، حلوة المبسم حافلة بكل ما يمهد أمامها سبيل الفوز برضا الإمبراطورة والاستيلاء على قلوب عظماء الرجال في البلاط الروسي.» وقد حملت معها رسالة من لويس الخامس عشر بخط يده إلى إليصابات، وخبأت في طي أحد كتب الحقوق الملحنة السرية لإجراء المفاوضات بها بين الإمبراطورة والملك.
فسرت إليصابات بهذه السفيرة البارعة الحسن والفائقة الذكاء، وبالغت في الاحتفاء بها والالتفات إليها، وبوأتها من فؤادها أرفع منزلة، وجعلتها موضوع أنسها ولهوها في عزلتها وخلوتها، ولما أفضت الآنسة ليا (وهو الاسم الذي أطلقه ليون على نفسه) إلى الإمبراطورة بسر تنكرها متكلفة الخجل والارتباك، وإيجاس خوف اغتياظها من هذه المخادعة، لم تقتصر الإمبراطورة على تسكين اضطرابها وتبديد مخاوفها، بل أسرفت في إكرامها وتقريبها إليها؛ لأنها كانت مشهورة بشدة ميلها إلى محاسن الرجال. وقيل إنها جعلت هذه الآنسة المحتالة قارئتها المخصوصة، فكانت تقضي كل يوم بضع ساعات خالية بها وناعمة بقربها، وأذنت لها أن تقيم في الغرف المعدة في القصر للكونتس كاترين ورنزوف ابنة أخت وزيرها الخاص. وهذا الامتياز النادر المثال - أي شدة الاتصال بالإمبراطورة - أثار الريب والظنون وأطلق الألسنة بالتهم. على أن ديون لم يغفل عن استخدام هذه الفرص السانحة ذريعة للوصول إلى الغرض الذي جاء لأجله، فتمكن من استمالة الإمبراطورة وحملها على عقد محالفة مع فرنسا والنمسا، وهذه المحالفة أفضت إلى نشوب الحرب المعروفة بحرب السبع سنين. ودليلا على رضا إليصابات عن قارئتها ومحبتها لها عهدت إليها القيام بعمل لا يعهد به إلى غير السفير، وهو حمل معاهدة المحالفة إلى ملك فرنسا.
ومما يذكر تأييدا لهذه القصة (المعدودة عند بعض الكتاب أسطورة ملفقة لا صحة لها) وجود صورة لديون في نحو هذا الوقت، تمثله فتاة بارعة الجمال ذات صدر رحب كبير. فإذا كانت هذه الصورة مأخوذة عن رسمها الحقيقي كما نعتقد لم يبق أقل شك في صحة أنثويتها واستحالة كونها رجلا.
وفي السنة التالية عاد ديون إلى روسيا شاغلا لمنصب كاتم أسرار السفارة وفي ملابس رجل، فلقي عند العظماء والكبراء حفاوة وإكراما لا مزيد عليهما. كان موضوع إعجاب الرجال بما أظهره من البراعة في الألعاب الرياضية، ولا سيما اللعب بالسيف. وكان عند السيدات الشريفات موضوع الحيرة والدهشة وآية التعجب والاستغراب، وشدة الرغبة في حل لغز جنسه والوقوف على كنه سره.
وفي هذا الوقت شاعت مسألة جنسه وذاعت، وأصبح التحدث بها ملء الشفاه والألسنة في عواصم أوروبا وأمهات مدنها، وصار للكلام عليها صدى تردده أندية الرجال ومجالس السيدات. ولما رجع إلى باريس تسابق الناس رجالا ونساء إلى استقباله والاحتفاء به، وكان له عند السيدات على الخصوص شأن عظيم. وسأله واحد أن يميط لثام الغموض والخفاء عن حقيقة نفسه، فكان يتخلص من الجواب ببراعة محام وخفة لاعب بالسيف.
ولما طال تغزل الرجال به وإعجاب النساء ببارع حسنه ورائع جماله، سئمت نفسه هذه التملقات، وصحت عزيمته على أن يبرهن للناس أنه وإن كان امرأة لا يعجز عن إتيان ما يفتخر بعمله أشد الرجال ساعدا وأذكاهم عقلا. فاستأذن في الانضمام إلى الجيش ليخوض المعارك الناشبة بين فرنسا وممالك إنكلترة وبروسيا وهنوفر، فأذن له، وظل أشهرا يبدي من البسالة والإقدام في ساحات الصدام ما أدهش الأبطال. وقد تولى قيادة الدراغون وكاد يذهب بعقول الذين كانوا يعدونه امرأة ويقسمون على صحة ذلك أغلظ الأيمان، ويؤيدونها بألف دليل وبرهان. وفي ذات يوم حمل برجاله الدراغون على كتيبة بروسية فمزق شملها كل ممزق، وغادرها كلها قتلى وأسرى وجرحى.
ولما عاد إلى باريس مكللا بغار النصر والظفر كان الدوق دي نافرناي على أهبة السفر إلى إنكلترة لعقد الصلح، فتعين قائد الدراغون كاتما لأسراره، وذهب معه إلى إنكلترة حيث قضى عدة سنوات في المغامرة واقتحام ما لا يحصى من المخاطر، وكانت شهرته قد سبقته وأعد له في بلاط الإنكليز ما شاء من ضروب الحفاوة والتكريم بين رجال العظمة ونساء الشرف. وكان على الخصوص موضوع اهتمام الملكة صوفيا شارلوت قرينة الملك جورج الثالث، التي كثيرا ما خلت به ساعات طوالا متملية لذة محادثته والكلام معه. وأصبح الناس في إنكلترة يلغطون في سر ديون الخفي، ويذهبون في حل لغزه مذاهب مختلفة.
وكثيرات من السيدات دعونه إلى منازلهن في لندن وخارجها، فخرج من لدن كل منهن خروج يوسف من لدن امرأة فوطيفار، وكان هذا مؤيدا لحجة القائلين إنه امرأة.
أما سفير فرنسا في لندن، فصرح غير مرة أمام كثيرين من الأعيان والعظماء بأن ديون امرأة. ولشدة اختلاف الآراء في هذا الموضوع راجت سوق المراهنات على مبالغ باهظة بلغت عشرات الألوف من الجنيهات، وكثيرا ما كانت تؤدي إلى مشاغبات ورفع الدعاوي إلى المحاكم.
وزعم بعضهم أنه لم يكن امرأة فقط، بل كان ذا لحية طويلة، وقد مثله أحد المصورين في هذا الوقت بملامح أنثى نحيلة القد زرقاء العينين صغيرة الجسم صفراء اللون طويلة اللحية، وطول قامتها خمس أقدام وسبع بوصات.
وكان ديون يغضب أشد الغضب عند سماعه هذه الأحاديث والمراهنات والتقولات عليه، وكثيرا ما كان حمو غيظه يدفعه إلى الهجوم على بعض المتعرضين له بهذه المواضيع وإصابتهم بضربات أليمة وجراح بالغة. وعلى إثر ذلك برح لندن ولم يعلم أحد إلى أين ذهب، وفي أثناء غيابه اتسع مجال التخرص والتكهن، ولما عاد اشتد الحجاج واللجاج وحمي وطيس الصخب والشغب، وكان ذلك بين النساء أجلى وأظهر؛ فإن كثيرات منهن بذلن كل ما يستطاع من الجهد في انتزاع سره من صدره، ثم عدن خائبات غير ظافرات بشيء. وبلغ من شدة اهتمام إحدى الفتيات، وهي الآنسة ولكس، أن كتبت إليه رسالة هذه ترجمتها:
الآنسة ولكس تهدي تحيتها إلى الشفاليه ديون وترجو أن يخبرها صريحا أرجل هو أم امرأة كما يعتقد كل واحد؟
ولكنه أعرض عن هذه الرسالة ولم يعرها أقل التفات.
وبعدما أمضيت معاهدة الصلح رجع بها إلى فرنسا، فأنعم عليه الملك بوسام سنت لويس الملكي ولقب فارس، وعاد إلى إنكلترة سفيرا مؤقتا. ولكن أعداءه كانوا يكيدون له المكايد وينصبون المصايد للإيقاع به والإجهاز عليه، وكانوا يتهمونه بأنه يفشي أسرارهم ويسرف في تنقصهم والوقيعة بهم. وممن تصدى لشارل ديون وتعمد مناوأته الكونت دي غرشي الذي خلفه سفيرا لفرنسا في البلاط الإنكليزي.
وكان دي غرشي من كبار أعيان فرنسا وأصحاب الحول والطول فيها، ومن أنصار المعارضين للملك والناقمين عليه. وأهم ما وجهوا التفاتهم إليه القضاء على إدارة الجواسيس التي كان ديون من أكبر عمالها، ولما اطلع الملك لويس على مقاصدهم بعث إلى الشفاليه ديون برسالة ينذره فيها بالأخطار المحدقة به، وينصح له بارتداء ملابس سيدة والاختباء في أحد أحياء لندن؛ لأن إقامته في منزله غير سليمة العواقب، ولكن ديون لم يكن ممن يسهل ترويعه. وكان ذا قلب لا يرهب الخطر. فازدرى أعداءه ولم يحفل بوعيدهم وتهديدهم. على أنه لم يهمل الحذر والتوقي، فاحتاط لنفسه بأن حصن منزله ودعا إليه بعض الأصدقاء المخلصين للاستعانة بهم عند الحاجة.
ومما اتخذه من الاحتياطات استعدادا للطوارئ أنه علق مصباحا ينير الليل كله، واحتفظ بمحضأ
2
حام يظل بجانبه نهارا وليلا. وكان عنده من الأسلحة ثماني طبنجات وبندقيتان وبعض الخناجر. أما الحامية فكانت عبارة عن بعض جنود الدراغون الذين كانوا مدة خدمتهم في الجيش تحت لوائه، وبينهم بعض شذاذ الآفاق الذين التقطهم ديون من شوارع لندن. هؤلاء أقاموا في أقباء المنزل (أي الطبقة السفلى أو «البدرون»)، وكان عليهم ألا يمنعوا ضباط الشرط الفرنسويين من دخول المنزل إذا حاولوا ذلك في أية ساعة كانت. وبعدما يدخلون يلتفتون حولهم ويسدون عليهم طرق النجاة، وكان عليه هو أن يراقب الحصون. ومما اتفقوا عليه أنه إذا ظفر الأعداء به يشير إلى رجاله بعلامة مخصوصة لكي يهربوا وينجوا بأنفسهم عندما يشعل الألغام المخبوءة تحت الغرف الكبرى والدرج.
وكان في بعض الأحيان إذا أقدم على مزايلة حصنه يخرج كميا مدججا بالأسلحة، ومنذرا كل من تحدثه نفسه بمحاولة القبض عليه بأنه على الفور يرميه فيصميه، أو يرمي نفسه ويوردها رمسه. وقال أحد المؤرخين بعدما ذكر إنذاره هذا: «ولا ريب في أنه كان قادرا على إخراجه من القوة إلى الفعل.»
وقد وقف دي غرشي على هذا الإنذار، وكان قد جاءه بلاغ من الحكومة البريطانية تنذره فيه بأنه بموجب شريعتها لا يمكنها أن توافق على اعتقال الشفاليه ديون ولا على ضبط أوراقه. وبناء عليه عدل السفير عن المكيدة التي كان يدبرها لاختطاف ديون وأخذه إلى فرنسا، وعزم على السعي بالفتك به سرا؛ فتصنع المسالمة والمصافاة ودعا الشفاليه إلى وليمة عشاء احتفالا بالمصالحة، فقبل ديون الدعوة، ولكنه ارتاب بها فذهب متحرزا متيقظا وعيناه مفتوحتان لرؤية كل شيء. وبينما كان آخذا بأطراف الحديث مع السفير رأى حاجب غرشي يدس سما في خمره، فكتم ذلك وتجاهله ولم يشرب الخمر. وبعد أيام استدعت محكمة لندن السفير متهما بمحاولة سم غيره، واعترف الحاجب بجريمته، لكن غرشي احتمى بامتياز كونه سفيرا، وأبى أن يحاكم.
وفي ذات ليلة كان ديون راجعا إلى منزله، فحملت عليه عصابة من السفلة المأجورين، ولكنه استل حسامه وأعمله في أقفيتهم فجندل ثلاثة منهم ونكص الباقون على أعقابهم هاربين، وبذل أعداؤه كثيرا من المساعي لإغرائه بالرجوع إلى فرنسا فلم يفلحوا.
وكان غرضهم من حمله على العودة إلى فرنسا أن يستردوا منه أوراقا تتضمن رسم خطة مدبرة من قبل لويس الخامس عشر نفسه لمهاجمة إنكلترة بعد إمضاء معاهدة باريس بشهرين. وكان أعداء الملك مستعدين لبذل كل غال نفيس في سبيل الحصول على هذه الأوراق، ومما يصح اتخاذه أوضح دليل على تفاني ديون في الأمانة والإخلاص لمليكه وشدة حرصه على كرامة نفسه وعزتها، استعداده لبذل نفسه في سبيل الاحتفاظ بهذه الوثائق وعدم التفريط فيها. وقد عرض عليه زعماء الحزب المعارض في مجلس النواب البريطاني عشرين ألف جنيه ثمن هذه الأوراق، وكان حينئذ صفر اليدين وفي أشد حالات الفقر المالي، فرفض قبول هذا المبلغ الباهظ بشمم وإباء لا مزيد عليهما. فأعجب لويس بشدة ولائه، وجعل له راتبا سنويا قدره نحو عشرة آلاف جنيه.
وبعد وفاة لويس الخامس عشر ساءت حالة ديون واضطر أن يسعى بواسطة بومارشيه في تملق الملك الجديد والتزلف إليه، ولكنه في هذه الأثناء ارتكب غلطة فظيعة؛ إذ اعترف بأنه امرأة. وهذه الغلطة اضطرته على رغمه أن يظل منتحلا هذه الجنسية إلى يوم وفاته. ويظهر أنه أفضى بهذا الاعتراف نفسه إلى المسيو غودن الذي صحب المسيو بومارشيه إلى لندن؛ فقد قال: «لقيت الآنسة ديون في وليمة العشاء التي أولمها اللورد ولكس حاكم لندن، فباحت لي وعيناها مغرورقتان بالدموع بأنها أنثى، وأرتني آثار الجروح التي أصابتها عندما قتل جوادها تحتها وداستها حوافر الخيل وغادرها أعداؤها مطروحة في ساحة القتال ظانين أنها ماتت.»
وهذا الاعتراف عاد على ديون بأوخم العواقب، وحال دون إجابة طلبه لأن يعاد تعيينه سفيرا لفرنسا في لندن. وألحت عليه حكومة فرنسا في وجوب ارتداء الملابس المخصصة بالجنس الذي اعترف بالانتماء إليه.
ومن أدلة تماديه في الخرق والغباوة أنه كتب عن نفسه في حاشية صك الاتفاق الذي عقده مع المسيو بومارشيه لاستمرار حصوله على الراتب السنوي، الذي سبقت الإشارة إليه ما ترجمته: «وقد تحقق كون الآنسة ديون أنثى بشهادة كثيرين من الأطباء والجراحين والقوابل والوثائق الرسمية.» وعلاوة على ذلك عاهدت (نشير إليها بصيغة المؤنث حسب إقرارها) أن ترتدي ملابس امرأة. وبناء عليه وخوفا من خسارة الراتب، عزمت ديون على العمل بموجب الاتفاق. وفي اليوم السادس من شهر أغسطس سنة 1777، ظهرت في لندن أول مرة تميس بحلة فاخرة ومزدانة بأغلى الحلى والجواهر. وفي اليوم التالي أولمت وليمة كبيرة دعت إليها كثيرين من الصديقات والأصدقاء، وبرزت أمامهم بحلتها الشائقة وحلاها النفيسة.
وبعد أيام برحت لندن إلى فرنسا بعد غياب طويل وهي في بذلة قائد دراغون وصدرها محلى بالوسامات التي عندها، فاستاء رجال الحكومة من عملها هذا، وهددوها بقطع الراتب إن لم تبادر إلى الظهور بملابس امرأة، فاعتذرت بأنه ليس عندها الآن من الملابس ما يليق بها الظهور فيه. وعلى الفور أهابت الملكة ماري أنطوانت بخياطتها الخاصة وأمرتها أن تخيط لديون كل ما هي في حاجة إليه.
وبعد بضعة أسابيع ذهبت لتزور والدتها العجوز بعد غيابها عنها ثماني عشرة سنة، فاستقبلت ولدها الضال، وخاطبتها بصيغة المؤنث مع كونها مثلت أمامها في ثياب رجل. ثم رجعت إلى قصر فرسايل وارتدت الحلة الجديدة التي أمرت الملكة بخياطتها لها، وحضرت الاحتفال بعيد سنت أرسولي في حلة زاهرة باهرة وهي معطرة بالأطياب ومحلاة بالأساور والقلائد والشنوف والخواتم.
وبعد بضع سنوات قضتها معتزلة في بلدة تونير مسقط رأسها غادرت فرنسا عائدة إلى إنكلترة حيث عزمت أن تقضي بقية أيامها، وكانت أعظم تسلية لها الارتياض بما كانت تزاوله في أيام صباها وهو اللعب بالسيف. وقد أظهرت فيه براعة أدهشت حتى أبطال هذا الفن المعدودين في بلاد الإنكليز.
وكانت في هذا الوقت قد أصبحت في أول العقد السادس من عمرها، ومع ذلك أقدمت على منازلة سنت جورج في اللعب بالسيف، وهو أشهر لاعب به في أوروبا، وقد حدث نزالها في كرلتون هوس بحضور ولي العهد، وكان لها الكفة الراجحة على خصمها.
وفي أواخر حياتها عضها الفقر بنابه ووطئها بمنسمه، فاضطرت لشدة حاجتها أن تبيع كل ما عندها من الحلى والجواهر والأعلاق النفيسة. ولما أنفقت ثمنها على معيشتها وإيفاء ديونها صارت تعيش من صدقات بعض الأصدقاء الأخصاء، من ذلك خمسون جنيها في السنة من الدوق كوينسبري.
وفي سنيها الأخيرة عاشت مع امرأة اسمها مسز كول، وكان لكرور السنين أثر ظاهر في وجهها المغشى بالغضون والتجاعيد. ومما قالته عن نفسها: «إن حياتي في هذا الوقت انقضت بالأكل والشرب والنوم والصلاة والكتابة ومساعدتي لصديقتي مسز كول على قضاء الأعمال المنزلية.»
ثم تملكها الضعف والهرم وأفنى قواها مرور السنين والأيام، فقضت نحبها في صباح اليوم الحادي والثلاثين من شهر مايو سنة 1810. واللغز الذي ظل حله أكثر من خمسين سنة مستعصيا على أهل أوروبا كلها هان صعبه وسهل الوقوف على حقيقته. فبموتها اتضح أن ديون كان رجلا، والطبيب الذي شرح الجثة شهد أمام اللورد ياربورو والسر سدني سمث وغيرهما من كبار الأعيان بأن ديون لم يكن سوى رجل.
وكانت مسز كول أشد الناس دهشة وتعجبا من إعلان هذه الحقيقة؛ لأنها قضت هذه السنين الطويلة في معاشرة ديون وهي موقنة أنه امرأة. ولما وقفت على شهادة الطبيب أغمي عليها وظلت ساعات غائبة عن الرشاد.
سر جزيرة سنت مرغريت
من كان ذلك الرجل العجيب الغريب الذي ظل أكثر من أربعين سنة ملقى في غيابات السجون، فزج أولا في سجن ببنرولو في الألب الإيطالية، ثم في جزيرة سنت مرغريت، وأخيرا في سجن الباستيل؟ وكانت الأوامر المشددة الصادرة إليه في هذه السجون الثلاثة أن يلزم التنكر والاحتجاب حتى عن حراس السجن، ولا يفوه بكلمة تميط اللثام عن حقيقة شخصه؟ وقد أنذر بأن أقل مخالفة منه لهذه الأوامر تقضي بموته؟ وبعد وفاته وتخلصه من الشقاء والعذاب لم يبق لعينه أصغر أثر ولا لمبتدأ قصته أقل خبر؟ ذهب بعضهم أنه كان دوق دي فندوم أحد عشاق آن أوف أستريا زوجة لويس الثالث عشر، وكان الكردينال مازارين يغار منه غيرة شديدة، فكاد له هذه المكيدة تشفيا وانتقاما. وزعم غيرهم أنه دوق مونموث ابن الملك شارل الثاني، وقال آخرون إنه أقرب نسيب للويس الرابع عشر.
والذين عرفوه حقيقة لم يجهلوا خطر الموت الذي يتعرض له كل من يبوح بهذا السر، فإن مدام دي بومبادور وغيرها من سيدات الشرف في بلاط فرنسا بذلن كل عزيز وغال في سبيل الوقوف على هذا السر، وعدن بلا طائل. ورفض لويس السادس عشر رفضا مطلقا أن يفضي به إلى ماري أنطوانيت، وكثيرون من المطلعين على هذه الحقيقة ماتوا وسرها مدفون في أعماق صدورهم.
وأخيرا تمكنت امرأة من هتك الستر؛ فإن لويس الخامس عشر كان قبيل الاحتفال ببلوغه سن الرشاد وإلقاء مقاليد الملك إليه، قد سأل نائب الملك أن يطلعه على هذا السر فأبى، ولكنه باح به لابنته الدوقة دي باري؛ إذ ألقت نفسها بين ذراعيه وهي تبكي وتنتحب متوسلة إليه بلسان عبراتها الغزيرة وزفراتها الحارة أن يفضي إليها بهذا السر المصون. وبعد ساعات كانت الأوراق المتعلقة به في يدي دوق دي ريشليو عاشق الدوقة. والقصة التي كشفت الأوراق عنها حجاب الخفاء كانت أغرب القصص .
وأهم هذه الأوراق صك هذا عنوانه: «بيان ميلاد وتربية الأمير المنكود الحظ المسجون بأمر لويس الرابع عشر. وقد كتبه مربي الأمير قبيل موته». وإليك خلاصة ما جاء في البيان: «في ظهيرة اليوم الخامس من شهر سبتمبر سنة 1638 وضعت الملكة آن قرينة لويس الثالث عشر ولدا وارثا للعرش بعدما قضت عشرين سنة عاقرا، فسر زوجها بهذه البشرى سرورا عظيما، ولكن سروره هذا كان قصير الأجل سريع الزوال؛ لأن القابلة جاءت إليه وقالت له إن جلالة الملكة مزمعة أن تلد ولدا آخر، فراعه هذا الخبر، وكان قد أنذره بعض الكهان والعرافين بأن الملكة ستلد ابنين معا. وكانوا في باريس يتطيرون من ولادة وليي عهد معا ويعدونها شؤما على الدولة. فسقط الملك في يده خوفا وحيرة، ولم يدر ماذا يفعل. وعلى الفور استدعى الكردينال ريشليو. ولما جاء وعلم بما كان قال: «إذا صح ما تنتظره القابلة وتمت ولادة الابن الثاني فمن الضروري كتمانها، وعدم إطلاع أحد على سرها؛ لأن الابن الثاني قد تطمح نفسه في المستقبل إلى الملك فينازع أخاه التاج والصولجان ويشقان المملكة.»
وقد تم ما توقعته القابلة، وولدت الملكة ابنا ثانيا أجمل طلعة وأنبل شأنا من المولود الأول. ولم يسع الملك أن يخالف مشورة الكردينال، فاستحلف جميع الذين حضروا ولادة الابن الثاني أن يكتموا هذا الخبر. وأعطي الطفل للقابلة بعدما أنذروها بعقاب الموت إن أذاعت قصة ولادته. وبهذا الغموض والتكتم ابتدأت حياة أشقى أمير عاش على وجه الأرض. وهذا الأمير الطفل المنبوذ من والديه والمطرود من قصرهما الملكي لقي بعض الرعاية والعناية في بيت القابلة الحقير، وظلت تتوفر على تربيته حتى جاوز طور الطفولة، فتسلمه منها أحد الأعيان، وكان قد أقسم للملك يمين الاحتفاظ بهذا السر. وعند هذا الرجل الشريف شب الأمير وترعرع وبلغ أشده، فكان فريدة في عقد الشبان المشرقة وجوههم بأنوار الحسن والبهاء، والمتدفقة عقولهم بفيض النباهة والذكاء، وعلى محياه فوق هذا كله ملامح رفعة الشأن وسمو المنزلة وبينة الانتساب إلى الأسرة المالكة. وكان قبيل ذلك قد استكد ذهنه وشحذ غرار أفكاره، وغاص في لجة التأمل لعله يقف على حقيقة نفسه ويعلم من هو. فقد اتضح له أنه لم يكن من عامة الناس؛ وذلك من وفرة المال الذي كان يتدفق عليه بملء السخاء والاحترام الذي كان يعامل به حتى من الوصي القائم على تنشئته وتربيته. فابن من هو؟ من أبوه؟ ومن أمه؟ ولماذا لا يقيم معهما؟ هذه وما أشبهها من الأسئلة كانت تخطر بباله وتتردد على لسانه. ولكنه لم يتمكن من الإجابة عنها ولا استطاع أن يجد لأصله منبت أسلة ولا مضرب عسلة. على أنه بعد طول البحث والتنقيب توصل ذات يوم فجأة إلى حل اللغز ومعرفة السر.
فقد اتفق له في أثناء غياب وصيه أن عثر على صندوق مفتوح مملوء رسائل، فدفعه حب الاستطلاع إلى تلاوتها، فوجدها من الملكة والكردينال مازارين (خلف ريشيليه)، ومن مطالعتها وقف على سر أدهشه وكاد يذهب برشاده، وهو أنه ابن ملك فرنسا المتوفى وتوأم لويس الرابع عشر أعظم ملك في أوروبا، والجالس على عرش كان في إمكان هذا الأمير المنبوذ أن يجلس عليه.
وبعد وقوفه على هذه الحقيقة الرائعة سأل نفسه وهو في أشد حالات الهياج والاضطراب: هل هذا صحيح؟ وإذا كان هو ولويس الرابع عشر شقيقين توأمين، فلا بد من وجود مشابهة بينهما تنفي كل شك وارتياب، فسأل وصيه هل عنده صورة للملك، فأجابه سلبا. وكان في المنزل مربية صبية وقد أحبت الأمير حبا جما، وبواسطتها تمكن من الحصول على صورة الملك. ولما نظر إليها وجد كل لمحة فيها تشير إلى ملامحه، وتدل عليه أصدق دلالة كأنها صورته هو لا صورة الملك!
وقد تنازعه إذ ذاك عاملان؛ عامل سرور وابتهاج لاطلاعه على سر طالما ود هتك ستره واستجلاء غوامضه، وعامل غيظ وحنق من إخفاء سر ميلاده عنه وعدم إفشائه له. فاندفع وهو يضطرب بهزة فرح وهزة غضب، وخف إلى الوصي والصورة بيده وصاح: «انظر! هذا أخي! فقد عرفته وعرفت من أنا!» وحقا أنه لم يكن بين فضح السرائر وكشف المخبآت ما هو أوخم عاقبة وأسوأ مغبة من هذا الأمر. فإن وصي الأمير أصيب بصاعقة ذعر وخوف كادت تذهب برشده وصوابه. وعلى الفور بعث رسولا إلى الملك يخبره بما حدث، وبعد ساعات قليلة أصدر الملك الحانق الغضبان أمره بأن يشد وثاق الأمير ووصيه ويزجا كلاهما في سجن ببنرولو في الألب الإيطالية، حيث ضرب الزمهرير والرطوبة أطنابهما، وبلغ من شدة فتكهما بالمسجونين المنكودي الحظ أنهما كانا ينتفان رءوسهم من منابتها ويقتلعان أسنانهم من أسناخها. وفي هذا السجن الرهيب المخيف تجرع وصي الأمير كأس المنية، وكان ذنبه الوحيد شدة ولائه لمليكه وترك رفيقه الأمير يعاني من ضروب الشقاء والعذاب ما كان يفضل فيه الموت على الحياة.»
هذه خلاصة القصة الغريبة المخيفة التي كان نائب الملك حافظا سرها في صندوق فؤاده، وظل ساهرا عليه حتى تغلب حنوه الوالدي على قوة إرادته فباح به لابنته، ولم يدر في خلده أن هذا السر المصون سيذيع ويشيع ويفعم قلوب أهل العالم رهبة وذعرا واستفظاعا واستنكارا، ويطلعهم على حقيقة طالما بذلوا الجهد في معرفتها ولم يستطيعوا، وهي أن هذا الأمير السيئ الطالع والمنكود الحظ إنما هو ابن لويس الثالث عشر وقد قضى عليه أبوه وتوأمه (شقيقه لويس الرابع عشر) بحياة هي من جميع وجوهها شر من الممات، ليظل عرشهما وطيد الأركان ويتمتعا هما بالجلوس عليه براحة وأمان.
أما سوء حالة هذا الأمير التعس الجد بعد وفاة وصيه وصديقه الوحيد، فمن الأمور التي يتعذر وصفها، وقد لا يسهل تصورها. فإنه بعدما قضى أياما يواصل الليل بالنهار في البكاء والانتحاب والحزن والاكتئاب والهياج والاضطراب، عاد فاستسلم بملء الإذعان إلى مشيئة القضاء، وهو ملقى في حجرة دميمة ضيقة محجوبا فيها حتى عن الهواء والضياء، وغير مأذون له أن ينبس ولو بكلمة واحدة مع سجانه الباسر العابس الذي كان يأتيه بالطعام والماء مرتين في اليوم. وليس عجيبا أن يصير بعد هذا كله فريسة في أيدي الهواجس والوساوس، أو أن يستغيث بالموت طالبا أن يسرع في قبضه وإراحته من عذابه.
وكان أخوه في باريس ينعم في مسرات الملك ولذاته ناسيا أخاه السجين المسكين إلى ذات يوم؛ إذ كان يفتش في جواهر والدته عن حلية يروم إهداءها إلى إحدى عشيقاته، فعثر على رزمة أوراق مكتوبة بخط والدته فيها إشارة إلى ابنها المنكود الطالع، فتذكر حينئذ أخاه وهاجت به هذه الذكرى ساكن الخوف والقلق. فقد كان في هذا الوقت مشتبكا في حرب ضروس مع كثير من ملوك أوروبا تألبوا عليه وجردوا جيوشهم لقتاله. فإذا استولى أحدهم على القلعة المسجون فيها أخوه في الألب الإيطالية وأطلقه من سجنه، تعرض تاجه لخطر الضياع وحياته للموت. وبناء عليه رأى أن الضرورة تقضي بالإسراع في نقل أخيه إلى سجن آخر يأمن فيه التعرض لهذا الخطر، وسرعان ما أمر بإجراء هذا الاحتياط.
وفي ذات يوم بعدما كان الأمير قد قضى نحو تسع سنوات في سجن ببنرولو جاءه السجان وقال له إن أحد أعيان فرنسا قد أتى، وهو يروم أن يخلو به بضع دقائق، فاضطرب الأمير لهذه المفاجأة وظل برهة يسيرة حائرا مدهوشا لا يستطيع النطق ولا يقوى على الافتكار. فهل حان وقت نجاته وإطلاق أسره بعد أن أعياه الانتظار ونضب معين الاصطبار؟ هذا الفكر خطر بباله فثمل براح المسرة والابتهاج. ولما علم أن الشريف القادم هو المركيز سنكمار، وتذكر أنه من صفوة أعيان فرنسا وشرفائها المشهورين بالذود عن الحرية، وكان في مقدمة الساعين بقتل ريشليو أكبر أعدائه، ازداد إيقانا بأنه آت إليه بشيرا بأن أخاه الملك ندم على ما فعل وأمر بإطلاقه.
وعلى الفور أمر السجان بإحضاره إليه. ولما وقف أمامه وأدى إليه واجب الاحترام قال له: «جئت بأمر جلالة الملك لأسلمك هذه الرزمة الصغيرة. وسأخرج عنك ريثما تكون قد فتحتها واطلعت على أمر جلالته فيها.» ثم خرج المركيز وأغلق باب السجن وراءه، وما عتم الأمير أن فتح الرزمة، فسقط منها قناع حديدي كان لسقوطه على الأرض رنة عقبها صراخ الأمير بصوت اليأس والقنوط ووقوعه مغشيا عليه.
قال فولتير في كتابه «عصر لويس الرابع عشر»: «وبعد أيام جيء بسجين تحت ستار التكتم والخفاء إلى جزيرة سنت مرغريت مقابل ساحل فرنسا. وكان شابا متوسط القامة أو هو فوق المتوسط قليلا، وعليه أظهر ملامح الجمال والشرف. وفي أثناء مجيئه إليها كان مقنعا بقناع من حديد يشد من طرفه الأسفل المحاذي لذقنه بلوالب صغيرة من فولاذ كي يسهل عليه تناول الطعام وهو لابس القناع. وكانت الأوامر بقتله إن حاول نزع القناع صريحة لا مرد فيها.»
وفي هذا السجن الجهنمي قضى الأمير تسعا وعشرين سنة والقناع الحديدي على وجهه نهارا وليلا؛ لأن في نزعه ولو دقيقة واحدة خطر اطلاع الناس على المشابهة التامة التي بينه وبين لويس الرابع عشر الملك العظيم المجيد. ولم يجسر قط أحد من عارفي هذا السر أن يفوه بكلمة عنه مخافة أن يصيبه ما أصاب صاحبه.
وليس في استطاعة كاتب على وجه الأرض أن يصف ما تحمله هذه السنين الطويلة من صنوف الآلام والذل والعذاب. هذه الرزايا كلها أناخت عليه فعبثت بعزة نفسه وصوحت زهرة آماله، وجعلته يتوقع بذاهب الصبر دنو أجله ليستريح من مكابدة شقاء لا يستطيع إنسان أن يتحمله. وأعجب من هذا كله أنه كابد هذه الشدائد جميعها ولم يفه قط بكلمة تذمر أو شكوى. وهذا الصبر العجيب النادر المثال أثر حتى في أقسى السجانين قلبا وحملهم على التوجع له والعطف عليه.
وفي السنين الأولى التي قضاها سجينا في الجزيرة حاول غير مرة أن يتصل بالعالم، واستخدم لذلك عدة طرق فلم ينجح، ومنها ما رواه فولتير قال: «كتب اسمه بسكين على إناء فضي ورماه من النافذة إلى زورق كان بجانب سور السجن، فالتقطه صاحب الزورق وكان صيادا، وأخذه إلى حاكم الجزيرة، فلما رآه أخذته رعدة الخوف وصاح بالصياد: هل قرأت المكتوب عليه؟ وهل رآك أحد تحمله إلي؟ - إني أجهل القراءة. وقد وجدته الآن ولم يرني أحد.
ولم يؤذن للصياد في الذهاب إلا بعدما تحقق الحاكم أنه أمي لا يعرف القراءة والكتابة، وأنه لم يشاهده أحد. وحينئذ قال له: «اذهب. فمن حسن حظك أنك جاهل لا تعرف القراءة».»
ويقال إن راهبا لقي مرة في الماء بجانب السجن قميصا مطويا من كتان نقي، وقد كتب عليه الأمير خلاصة قصة ولادته والمعاملة الجائرة التي عومل بها. فذهب به الراهب المنكود الحظ إلى الحاكم، ولما سأله حلف له أنه لم يقرأ المكتوب عليه، ومع ذلك وجدوه بعد يومين قتيلا في فراشه، وكان من ضحايا هذه المكيدة الشيطانية التي كادوها لهذا الأمير المسكين.
ويظهر أنه حتى الموت نفسه كان من الكائدين له والمؤتمرين عليه؛ لأنه على رغم تمنيه لنفسه كل يوم في صلواته، أبى أن يصغي إليه ويبادر إلى إنقاذه مما يعانيه. وبعد تسع وعشرين سنة قضاها في جزيرة سنت مرغريت بما هو أمر من الموت، نقلوه إلى الباستيل الذي مع شدة صعوبة الإقامة فيه عده جنة بالنسبة إلى ما قاساه من الأهوال في سجن الجزيرة.
ويقال إنه في مدة إقامته في هذا السجن لم يمنعوا عنه شيئا مما كان يطلبه، سواء كان من مواد الأطعمة أو من أدوات التسلية. ولكن هذا كله لم يخفف شيئا من شدة وطأة ذله وشقائه. وكانوا في هذا الوقت قد استبدلوا بقناعه الحديدي قناعا من مخمل (قطيفة)، ولكنه كان كالقناع السابق لا يفارق وجهه دقيقة واحدة ليلا ونهارا. وإذا عاده الطبيب في أثناء مرضه كان مأذونا له أن يكلمه، ولكن من وراء القناع. وكان يقدر أن يريه لسانه بشرط ألا يبدو معه أقل شيء من ملامح وجهه. وظل على هذه الحالة إلى آخر يوم من حياته، وهذا اليوم صار لحسن حظه قريبا؛ لأن القناع الكريه المخيف - حديديا كان أم مخمليا - ظل ثلاثا وأربعين سنة حاجبا الملامح التي لو سفرت لدلت على حقيقة نسب صاحبها. فلفظ نفسه الأخير والقناع مشدود على وجهه.
وهاك ترجمة ما جاء في تقرير السجن عن وفاته: «يوم الاثنين في 19 نوفمبر سنة 1702 توفي السجين المقنع الذي جيء به من سجن جزيرة سنت مرغريت، وقد توفي فجأة فلم يتمكن من تناول السر المقدس، على أن علامات الضعف والهزال ظهرت عليه منذ أمس. وفي الساعة الرابعة بعد ظهر اليوم التالي في 20 نوفمبر دفن في مقبرة كنيسة القديس بولس. وأنفق على دفنه 800 فرنك.»
هكذا كانت نهاية هذا الأمير وهو في الخامسة والستين من عمره، ولو قدر له أن يدخل الحياة بضع ساعات قبل ميلاده لكان من أعظم ملوك العالم مجدا وعظمة واقتدارا. وكان حتى اسمه مجهولا عند الذين دفنوه، ويقال إنهم قطعوا رأسه مبالغة في الحرص على إخفاء معالمه، ووضعوا مع الجسد بعض المواد الكيماوية للتعجيل في محو رسمه وطمس ملامحه. وقد أتلفوا جميع الآنية والأمتعة التي استعملها. فأذابوا المعدنية منها وأحرقوا الملابس والمفروشات بالنار، ونزعوا ما على جدران سجنه من الورق مخافة أن يكون تحته شيء ينم على أعظم جريمة سود اقترافها صفحات تاريخ الإنسانية.
مبادلة غريبة
حدث في سنة 1782 أن اللورد نيوبورو برح وطنه ويلس في بريطانيا إلى توسكانا في إيطاليا لقضاء بضع سنوات في عزلة وانقطاع عن كل شاغل. ولم يخطر قط بباله أن يد القدر سوف تستخدمه لتمثيل فصل رائع ذي شأن في قصة أدهشت العالم كله بشدة غرابة حوادثها ووقائعها، مع أنه أقل الناس تأهبا خلقيا واستعدادا طبيعيا لما وكل إليه تمثيله والقيام به.
فقد كان رجلا ساذجا خاليا من جواذب حسن الطلعة ونباهة الشأن، وعلى جانب عظيم من الرزانة والوقار وفي أواخر العقد الرابع من سنه. وقد فجعته المنون منذ عهد قريب بفقد زوجته كريمة اللورد إغمونت. وكان من كبار الأغنياء، ولكنه بدد مقدارا عظيما من ثروته في الإنفاق على بناء الحصون والقلاع، وتجنيد كتيبة من المطوعة للدفاع عن الوطن، واضطر أن يرهن بعض عقاراته. فغادر ما له في ويلس من أملاك ومقتنيات وسار في طيته إلى جنوب أوروبا كئيبا مغموما، ومعه ابنه البالغ عشر سنوات.
فألقى عصا الترحال في فلورنس عاصمة توسكانا الجميلة ذات القصور الباذخة والكنائس الفخمة والحدائق الغناء، وهناك عاش عيشة رجل رث الملبس شحيح الكف غريب الأطوار. والشيء الوحيد الذي كان يرتاض به من وقت إلى آخر، إنما هو ذهابه إلى المسرح لمشاهدة التمثيل. ومن هذا الارتياض الطفيف الضئيل نشأت حوادث هذه القصة الغريبة.
فإنه كان بين ممثلات الأوبرى في فلورنس فتاة امتازت ببهاء باهر وحسن ساحر. وهذا الجمال الرائع البارع صادف من اللورد نيوبورو قلبا خاليا، فتمكن منه وهاج فيه لواعج الغرام بعدما أخمدها مر السنين والأيام، فأمال اللورد أذنا صاغية لصوت الحب الجديد الهاتف في فؤاده، وعلل نفسه بسعادة الحصول على هذه الغادة الحسناء.
وفي ذات يوم جاء الممثلة كتاب فتناوله أبوها وقرأه، ثم أمرها أن تسرع في لبس ثيابها استعدادا لاستقبال زائر. وكان هذا الزائر اللورد نيوبورو. وبعد تكرار الزيارة قال إنه رأى الفتاة في الأوبرى فأعجب بحسنها وجمالها، والآن يروم الاقتران بها. فرفضت الفتاة قبوله رفضا باتا، ولكن أبويها أكرهاها عليه إكراها قائلين لها إن اقترانها برجل غني شريف كهذا يعود بالنفع الجزيل عليها وعليهما. وفي اليوم الحادي والعشرين من شهر فبراير سنة 1786 كتب سفير بريطانيا في فلورنس يقول: «احتفل اليوم بزفاف ابنة شرطي إلى اللورد نيوبورو وهي في سن الثالثة عشرة.»
وعلى رغم ما أبدته الفتاة من المجاهرة برفضها وامتناعها عن قبولها الاقتران برجل يبلغ من العمر ما يبلغه جدها، ظل أبوها وأمها مصرين على وجوب إذعانها لمشيئتهما ولم يصغيا إلى توسلاتها ولا رثيا للدموع الغزيرة التي ذرفتها، وقالا لها: «خلي عنك البكاء والنحيب وافرحي وافخري بأن حسن الحظ أتاح لك الاقتران برجل شريف غني كهذا، يحبك ويحنو عليك ويرفعك إلى رتبة السيدات الشريفات. وكان يجب عليك أن تجثي أمامه على ركبتيك وتقبلي يده، وتشكري له عطفه عليك وإحسانه إليك.» وهكذا تم الاحتفال بزفاف ماريا ستلا شبيني ابنة الشرطي إلى عريسها الكهل في كنيسة سانتا ماريا نوفلا في فلورنس، وأصبحت العروس من ذلك اليوم تلقب بلادي نيوبورو.
ولكن لنرجع بضع عشرة سنة قبل تاريخ هذا الزفاف لنرى في أية حالة ظهرت اللادي ماريا ستلا نيوبورو أول مرة على مسرح حياتها العجيبة الغريبة. ففي قرية مودغليانا في سفح جبال الأبنين فتحت عينيها وشاهدت العالم الحافل بالأسرار الخفية الغامضة. هناك في سجل كنيسة القديس أسطفان مكتوب : «ماريا ستلابترونيلا ولدت أمس لأبيها لورانزو فردينند كيابيني أحد رجال الشرطة، ووالدتها فنشينتا دليجنتي. كلاهما من أعضاء هذه الكنيسة، وعمدت في اليوم السابع عشر من شهر أبريل سنة 1773.»
وكانت ماريا ستلا بكر والديها، وقد ولد لهما بعدها بنون وبنات، وأول شيء تذكره من أيام طفولتها قساوة والدتها عليها وإساءة معاملتها لها، إذ كانت قاصرة محبتها وحنوها على أولادها الآخرين غير مختصة ستلا بشيء منهما على الإطلاق. على أن أباها كان لحسن حظها يرأف بها ويحنو عليها. وقد وجدت نعمة في عيني الكونتس كاميليا بورغي، فكانت تدعوها إليها لتقضي أياما عندها، وتعود حاملة شيئا كثيرا من المنح والهدايا؛ ولهذا شق عليها جدا عندما جاء بها أبوها من قرية مودغليانا إلى فلورنس، حيث ترقى إلى رتبة ضابط الشرط. ولكنها سرت إذ أخذت تتعلم الغناء والرقص، وطفحت كأس مسرتها عندما تسنى لها وهي ابنة عشر سنوات أن تظهر على مسرح الأوبرى. وبعد ذلك بثلاث سنوات ظهرت على مسرح آخر من مسارح هذه الحياة.
ولم تكن تعلم شيئا عن الفصول المزمعة أن تمثلها على المسرح، ولا عما خبئ لها فيه من خير أو شر، فقضت الأيام الأولى بعد اقترانها في خلوة وعزلة منقطعة للنوح والبكاء، لا تكلم زوجها إلا إذا اضطرت للكلام اضطرارا. ولم يرزق اللورد نيوبورو شيئا من أساليب سلامة الذوق وحسن التناول التي يستطيع بها أن يستميل قلب زوجته الفتاة إليه. وكان شديد الغيرة سيئ الخلق متناهيا في الشكاسة وغرابة الأطوار. وإقامته هو وزوجته مع أهلها تحت سقف واحد لم يسفر عنها أقل تحسين في حالة المعيشة، بل زادتها سوءا واضطرابا. وفي ذات يوم نشب في الأسرة خلاف أفضى إلى الملاكمة والمضاربة، فخرج اللورد من البيت وقلبه يصلى لظى الحقد والحنق، ولكن زوجته أبت أن تصحبه، فكتب إليها ينذرها بعزمه على البخع والانتحار إن لم تبادر إلى اللحوق به والسكنى معه، فأجابته عن رسالته بما ترجمته:
عزيزي الشيخ المعتوه، إن أبلغ برهان تستطيع تقديمه على محبتك لي هو أن تعمل بموجب إنذارك .
وكان الصبر على هذه الحالة السيئة متعذرا وخارجا عن طوق الإمكان. ومما زادها حرجا وسوءا في عيني اللورد أن حماه والد زوجته كان لا ينفك ممعنا في إرهاقه وإزعاجه بطلب المال (ثمن قبوله بزفاف ابنته إليه) غير جاعل لمطامعه الأشعبية حدا من الرضا والقناعة. ولما طفح الكيل وطما السيل، ولم يبق في استطاعة اللورد تحمل شيء من هذا الإعنات الفادح، نهض في صباح يوم من صيف سنة 1792، ونفض غبار إيطاليا عن قدميه وذهب بقرينته راجعا إلى ويلس حيث استقبلهما أصدقاؤه وعمال أرضه بحفاوة وترحيب لا مزيد عليهما. ومما قالته لادي نيوبورو في وصف هذا الاستقبال الباهر: «حل المستقبلون خيل مركبتنا وجروها إلى غلينليفون يخفرنا ستمائة رجل. وأقيمت لنا معالم زينة عمت جميع القرى المجاورة والجبال المحيطة، فكانت كلها بارزة في حلل الرياحين والأزهار مزدانة بالأعلام والأنوار. ولم يبق أحد من كبار القوم وأعيان البلاد إلا هرع للسلام علينا، ودامت هذه الاحتفالات متواصلة مدة ستة أشهر.»
ثم عاش الزوجان في صفاء ورفاء وهما يتنقلان بين ويلس ولندن، وولدت اللادي نيوبورو للورد ابنين ترقيا كلاهما إلى رتبة البارونية. ثم توفي اللورد، وبعد وفاته بثلاث سنين تزوجت البارون إدورد سترنبرغ أحد أعيان روسيا، فولدت له ابنا، ولم تطل مدة اتصالها به؛ إذ حدث بينهما من النفور والخصام ما قضى بانفصالها عنه. وفي غضون هذه السنين كلها لم يخطر ببال ماري ستلا أقل خاطر أوجب توجيه التفاتها إلى السر العميق الذي يكتنف ولادتها، وكان مزمعا أن يغشى ما بقي من حياتها بضباب حالك كثيف.
ففي سنة 1820 - أي بعد زواجها الثاني المشئوم بعشر سنوات - انكشف لها الحجاب عن السر الذي ظل مكتوما عنها إلى الآن. فإنها ذهبت إلى فلورنس ومعها ابنها من زوجها الروسي لتزور أباها الذي كان في غاية الضعف والانحلال، وكانت مزمعة أن تواظب على العناية به، وإنفاق كل ما تمس الحاجة إلى إنفاقه في سبيل تطبيبه وتمريضه، ولكنها دهشت إذ رأت جميع من في البيت يعارضون ويعوقونها عن الاتصال بأبيها، ووجدت أباها نفسه غير مقبل عليها الإقبال المنتظر. وبدل احتفائه بها كابنته البكر العزيزة استقبلها بفتور، وكان في حديثه معها يخاطبها بلقب ميلادي (يا سيدتي)، واتضح لها أنه يفكر في شيء غامض غير معلوم عندها؛ إذ كان من وقت إلى آخر يتمتم مشيرا إشارة خفية إلى خطأ ارتكبه، وإلى جميل لابنته عليه ويكرر ذكر أسماء عرفتها في أيام حداثتها.
وفي ذات يوم دخلت عليه فوجدته مشرفا على الموت، فتناولت يده فضغط يدها بكل ما بقي له من القوة وتفرس في وجهها وحاول الكلام، ولكنها لم تستطع أن تلتقط من فمه سوى هذه الكلمات: «يا إلهي! مبادلة! مبادلة غريبة!» وهي على غرابتها لم يكن لها عند ستلا معنى صريح. وما أبطأ كيابيني أن أسلم الروح.
وبعد بضعة أشهر اتفق لها أن ظفرت بضياء إيضاح أزال ظلام الإبهام؛ فإنها تسلمت رسالة موضوعة في غلاف معنون بخط كيابيني نفسه، وفيها يبوح بسر مدهش غير مجرى حياة ستلا تغييرا تاما. ويقول إنه أوصى أحد أصدقائه بحفظ هذه الرسالة، وبعد وفاته يوصلها إليها. وفيما يلي خلاصة ما جاء فيها: «أعترف لك يا ستلا بأنك لست ابنتي، لست ابنة رجل قروي خامل وضيع، بل أنت بحق الولادة سليلة مجد رفيع وشرف باذخ. فقبل ولادتك بأربعة أشهر جاء إلى قريتنا رجل غريب جليل القدر عظيم الشأن ومعه زوجته يحف بهما عدد كبير من الخدم والحشم والأتباع. وقيل إنهما من صفوة أعيان فرنسا وكبار أغنيائها، وكانت قرينته على أهبة الولادة كما كانت زوجتي. وكان هذا الرجل الغريب على جانب عظيم من اللطف والوداعة، وقد دعاني إليه ونفحني بمبلغ كبير من الدراهم، وجاء لي بعدة كئوس من الخمر المعتقة. وبعدما تجاذبنا أطراف الحديث في مواضيع مختلفة قال لي إن الضرورة تقضي أن يكون المولود الذي تضعه الكونتس (زوجته) صبيا لا بنتا، وذلك لأسباب لا محل لذكرها. وألح علي أن أوافقه على ما يأتي وهو مبادلة ولدينا - ولدي وولده - إذا ولدت زوجتي ذكرا وولدت زوجته أنثى.
وقد بذلت جهدي في أن أثنيه عن عزمه وأحول دون مرامه فلم أستطع؛ لأنه تغلب على إرادتي وحملني على الانقياد إلى إرادته بما أفرغه علي من الرشا والبراطيل ومواعيد الحماية والرعاية وغير ذلك مما أغراني بالرضا والقبول. وقال لي إنه سيعنى بتربية ابني أتم عناية، وإنه سيشغل بعد بلوغه سن الرشاد أسمى محل في أوروبا. وقد جرت الأمور كما توقعت الكونتس، فإنها ولدت بنتا وولدت زوجتي صبيا. وعلى أثر ولادتهما عملنا بموجب الاتفاق، فأخذت ابنتهما وأعطيتهما ابني، وبعدما أكملت الكونتس أيام نفاسها رجعت هي وزوجها وابني وجميع الخدم والحشم من حيث أتوا. وكان هذا آخر عهدي بهم.
وبقيت مدة سبع سنين أتناول مبالغ باهظة من المال ومعها وصايا مشددة بوجوب كتمان السر، وإنذارات مخيفة بالعقاب الذي ينالني إن بحت به لأحد. وقد حذروني على الخصوص من إفشاء السر لك. ولم يطلع عليه من أهل بيتي سوى زوجتي وابني الأكبر، وهذا يوضح لك شدة اهتمامهم بمنع المحادثات بيني وبينك؛ لأنهم علموا يقينا أني منذ وقت طويل ندمت على ما فعلت، وكنت دائما مستعدا بملء التلهف أن أبذل كل ما أستطيعه من التكفير والتعويض. ولا يسعني أن أصف لك مقدار الشكر والابتهاج اللذين شعرت بهما عندما جاء اللورد الإنكليزي وتزوجك وبوأك ذروة الشرف التي أنت جديرة بها بحق ولادتك. ولما رجعت إلى إيطاليا عذبني القلق، ولذ علي الاهتمام لكي أطرح نفسي عند قدميك، وأعترف لك بكل شيء، وأرجو صفحك. ولكن هذه الأمنية العظمى لم يتح لي الفوز بها وأنا بعد في قيد الحياة. فمن صميم فؤادي أبتهل إليه تعالى أن يسهل سبيل وصول هذا الاعتراف إليك بعد وفاتي. وحينئذ تصفحين عني، وبهذه التعلة أموت مستريحا عن توبيخ الضمير.»
ولنترك للقارئ أن يتصور الشعور الذي استولى على أفكار ماري ستلا عندما طالعت اعتراف هذا الرجل في آخر ساعة من حياته؛ لأن شعورا كهذا إن لم يتعذر تصوره فهو بلا ريب يشب عن طوق الوصف حتى بقلم أبلغ الكتاب. وإعلان هذا السر العجيب الغريب أماط لديها لثام الغموض والخفاء عن محيا أمور كثيرة كانت تعرض لها في الماضي ولا تستطيع إدراك كنهها واستجلاء خوافيها، كالفرق الشاسع بين بياض بشرتها وجمال طلعتها ورقة طباعها وسمرة بشرة أختها وإخوتها وخشونة طباعهم. ومحبة الكونتس بورغي التي لا بد أن تكون قد علمت شيئا عن سر ولادتها، أو على الأقل ارتابت في دعوى انتسابها إلى أحد رجال الشرطة، ومجافاة قرينة كيابيني وأولادها لها ووقوفهم حجر عثرة في سبيل محادثتها لأبيها، ومعنى كلمة «مبادلة» التي فاه بها أبوها قبيل وفاته ولم تفهم معناها.
وقد غاظها جدا وقوفها على مبلغ الحيف الذي حاق بها عند ولادتها، ولكن هذا الغيظ تغلب عليه افتكارها في حقيقة نسبها وعلمها بأنها ليست ابنة قروي، بل كريمة رجل شريف الأصل كريم المحتد، وأن اللورد الإنكليزي الذي اقترنت به لم يفقها في حسب ولا في نسب، بل كانا كلاهما متساويين متشاكلين. وهذا الفكر أنشا فيها شدة الاهتمام لمواصلة السعي والتنقيب لبلوغ أعماق هذا السر، ومعرفة أبويها الحقيقيين، والمطالبة بالحقوق التي تستمدها من ولادتها.
ولم تتوقع أقل فائدة من الاستعانة بأسرة كيابيني؛ لأنها لم تنس سوء معاملتهم لها واستخفافهم بها. وتذكرت أن خادمي الكونتس بورغي الطاعنين في السن كانا لا يزالان في قيد الحياة، فصحت عزيمتها على الذهاب إليهما وإلى الكاهنين اللذين كانا مستودعا لسر اعتراف كيابيني والكونتس. وقد أجابها أحد الكاهنين عن سؤالها بقوله إنه كان دائما يظنها ابنة دوق توسكانيا. وأجابها الآخر بقوله إنه واثق كل الثقة بكون والديها هما دوق ودوقة جوانفيل. فرجعت من عندهما وهي في حيرة أشد من حيرتها السابقة.
وعلى الفور ذهبت إلى فلورنس وقابلت الخادمين الباقيين عند أهل الكونتس بورغي. ولما وقع نظرهما عليها صاحا: «لله ما أشد المشابهة بينك وبين الكونتس جوانفيل!» وقصا عليها قصة غريبة تؤيد اعتراف كيابيني وهو على فراش النزاع؛ وهذه خلاصتها: «في سنة 1773 شاهدا الكونت جوانفيل وقرينته في قرية مودغليانا. وكان الكونت جميل الصورة وعلى وجهه أثر نقطة أو بثرة. وقد لاحظا حينئذ أن الكونت كان مواظبا على مجالسة الشرطي كيابيني الذي كانت زوجته مثل الكونتس على أهبة الولادة.»
وبعدما أخبراها بالمبادلة التي حدثت عقب ولادة السيدتين قالا لها: «أسرع الكونت في الانطلاق سرا إلى بريسيغلا حيث عرف أمره وقبض عليه. أما الكونتس فبقيت حتى أكملت أيام نفاسها ثم برحت القرية ومعها طفلها - ابن كيابيني - ولم نرها بعد ذلك. وكانت الكونتس بورغي قد اطلعت على سر هذه المقايضة فرثت لحالة الطفلة سليلة المجد والشرف، وظلت تخصها بعطفها وحنوها وتشملها بعنايتها حتى انتقل بها كيابيني من القرية إلى فلورنس.»
فبعدما سمعت اللادي نيوبورو رواية هذين الخادمين وهي تؤيد اعتراف كيابيني وإقرار أحد الكاهنين، لم يبق عندها أقل شك في كونها ابنة الكونت جوانفيل. وكان عليها أول كل شيء أن تبحث عن هذا الكونت لتعلم من هو. ومن فورها ذهبت إلى جوانفيل في إقليم شمبانيا، وهناك اتضح لها أن لقب دي جوانفيل مختص بأسرة دوق دي أورليان.
ثم شخصت إلى باريس لظنها أنها خير مكان لمواصلة البحث عن هذا الرجل الشريف الذي لم يبق شيء من الريب في كونه أباها. فأقامت في أحد الفنادق الكبيرة، ونشرت الإعلان الآتي في أهم الصحف: «في سنة 1773 سافر الكونت دي جوانفيل إلى إيطاليا وأقام فيها برهة يسيرة، فإذا رام وارثه الاطلاع على شيء يهمه جدا أن يعرف عنه فليأت إلى فندق ... في شارع ...»
وما انتشر هذا الإعلان في الصحف حتى جاءها رجل سمين ضخم الجثة يتوكأ على عكازتين مدعيا أنه موفد من قبل الدوق أورليان، وقال لها: «إن سمو الدوق أعار إعلانك جانب الاهتمام؛ لأنه وارث الكونت دي جوانفيل.» فسألته: «وكيف ذلك؟» فأجابها: «لا يخفى على سيدتي أن أبا سموه المرحوم دوق دي أورليان كان يلقب أيضا بالكونت دي جوانفيل. وهذا اللقب كان يطلقه على نفسه في رحلته إلى إيطاليا قبل ولادة ابنه الدوق الذي أنا آت من قبله.» ثم سألها عن التركة المزمعة أن تئول إلى سموه، فقالت له إن الأمر لا يتعلق بتركة ما على الإطلاق، بل بالبحث عن سر ولادة له ارتباط بزيارة الكونت دي جوانفيل إلى إيطاليا سنة 1773. فلاحت على وجه الرسول لوائح الخيبة، وما أبطأ أن ودعها وانصرف. وبعد ذهابه سألت عنه، فعلمت أنه أخ غير شرعي لدوق دي أورليان المتوفى وعم دوق دي أورليان الحالي الذي عرف فيما بعد باسم الملك لويس فليب. وبعد أيام ذهبت اللادي نيوبورو إلى رواق الصور في القصر الملكي، ومعها ابنها الصغير من زوجها الروسي. وفيما هما واقفان يشاهدان الصور صاح بها ابنها قائلا وهو يشير إلى إحدى الصور: «انظري يا أماه! انظري هذه الصورة! ما أشد مشابهتها للسنيور كيابيني!» فنظرت اللادي إلى الصورة، فإذا هي تشبه من كانت تظنه أباها في كل لمحة من ملامحه، وسألت عنها أحد الحجاب، فقال إنها صورة سمو الدوق دي أورليان. وحينئذ وضحت لها الحقيقة وضوحا لم يبق معه أقل أثر للشك والارتياب، وتحققت أن أباها إنما هو الدوق أورليان المتوفى (المعروف سابقا باسم الكونت جوانفيل)، فهي والحالة هذه أميرة من الأسرة المالكة، والدوق أورليان الحالي والمزمع أن يصير ملك فرنسا إنما هو ابن الشرطي كيابيني المتخذ بدلا منها.
وهذه الحقيقة الناصعة أحدثت في أفكارها انقلابا رائعا، وولدت فيها ثورة عنيفة. فقد كانت حتى الآن واثقة بأنها من أصل شريف، ولكن لم يدر قط في خلدها أن شرف أصلها يسمو بها إلى هذه الدرجة، فتكون وليدة البيت الملكي وأشرف سيدة في فرنسا. وعلى الفور قفلت راجعة إلى إيطاليا لتواصل التحري والبحث عما يزيدها تمكنا من الأخذ بناصية هذه الحقيقة، ولم تعتم أن ظفرت بضالتها المنشودة.
ففي بريسيغلا لقيت بعض الطاعنين في السن الذين تذكروا صدور أمر نائب الكردينال في رافنا بالقبض على كونت فرنسوي تطابق أوصافه ملامح البادية على صور الدوق دي أورليان. ومما قاله لها أحد المحامين في رافنا أنه لما جيء بالكونت المعتقل إلى الكردينال وخلا به وعلم من هو، أطلقه لساعته. وشهد لها رجل آخر بأنها ابنة هذا الكونت؛ أي الدوق دي أورليان المتوفى.
ثم ذهبت إلى فلورنس وطلبت إلى محكمة مطرانها أن تحقق هذه المسألة، وتنقح شهادة ميلادها المدرجة في سجل كنيسة مودغليانا. وبعد البحث المدقق أصدرت اللجنة التي تألفت للنظر في هذا الأمر القرار الآتي: «اتضح بعد البحث المدقق أن الكونت لويس دي جوانفيل استبدل بابنته ابن لورانزو كيابيني، وأن الآنسة جوانفيل عمدت باسم ماري، وقيل عنها زورا أو كذبا إنها ابنة هذا الرجل.»
وكان هذا القرار الأسقفي الشاهد بأنها ابنة الكونت جوانفيل من أفعل الوسائل لتأييد صحة نسبها. ولكن بقي عليها أن تبرهن أن الكونت لم يكن إلا الدوق دي أورليان الذي هي بكره.
والمساعي التي بذلتها في هذا السبيل آلت لسوء الحظ إلى تكدير صفوها وتنغيص عيشها في بقية حياتها. وكان خيرا لها وأبقى ألف مرة أن تعيش وتموت كابنة كيابيني التوسكاني ولا تعنى بإثبات صحة نسبها، وتلاقي ما لاقت في سبيله من العناء والعذاب.
ولم يخف على كثيرين من أهل المكر والاحتيال أن اللادي نيوبورو في حاجة شديدة إلى رجال يضافرونها على إثبات حقها ورفع دعواها إلى الملك لويس الثامن عشر. فتسابقوا إليها من كل حدب وصوب يعرضون عليها مساعدتهم لها وسعيهم في تحقيق مقصدها. وقد نجحوا كلهم في اقتناصها بحبائل خداعهم وابتزاز ما لها من غير أن تنتفع بأقل معونة أو تظفر بأصغر فائدة. فكان كل واحد منهم يقبض المبلغ الذي يطلبه أجرة سعيه، ويعللها بالأماني الكاذبة والمواعيد الباطلة، وهي لسلامة نيتها تصدقه وتتكل عليه، ثم يذهب فلا يعود إليها، ولا تتمكن من معرفة شيء عنه على الإطلاق.
وقضت عدة سنين هائمة على وجهها في أوروبا متنقلة بين إيطاليا وسويسرا وفرنسا وغيرها، وهي تسعى في إثبات حق الاعتراف بها أميرة ملكية. وهذه المساعي كلها لم تقترن بغير الخيبة والإخفاق ومكابد الأتعاب وإنفاق المال على أناس تظنهم من ذوي الغيرة والأريحية وأهل النجدة والاستقامة، وبعد الاختبار تجدهم من شر رجال الخبث والنفاق. وفي ذات يوم كتب إليها محام من باريس يستدعيها إليه ليطلعها على ما عنده من الأدلة التي تؤيد دعواها، فخفت مسرعة إليه، فقص عليها قصة غريبة خلاصتها أن دوق أورليان رام أن يصالحها ويزيل ما بينه وبينها من النزاع، وأن والدته (التي هي بالحقيقة والدة لادي نيوبورو) كتبت قبل وفاتها معترفة بالمبادلة التي حصلت بين ابنتها وابن كيابيني. وقال لها في ختام حديثه إن تأييد حقها سهل جدا لا يحتاج إلا إلى مبلغ من المال ينفقه في سبيل المعاملات الرسمية. فنقدته المبلغ المطلوب وكان تسعة آلاف فرنك، وسلمته كل ما عندها من الوثائق والمستندات. ومن ذلك اليوم لم تر المحامي ولا الأوراق التي أخذها منها.
وعلى هذا المنوال أنفقت كل ما عندها من المال، وضحت بصحتها وراحتها، ولم تنل شيئا مما عللت نفسها بالحصول عليه. ولما يئست من إدراك غايتها كتبت قصتها ونشرتها بعنوان: «ماريا ستلا، أو مبادلة صبي قروي بفتاة من أشرف أسرة». وآخر طبعة من هذا الكتاب ظهرت مصدرة بمقدمة للناشر، هذه خلاصتها: «هذه الطبعة الثالثة من هذا الكتاب، وليس في إمكان أحد الحصول على نسخة واحدة من الطبعتين الأولى والثانية، فإن مذكرات ماريا ستلا كانت كجاثوم على صدر لويس فليب فروعته وأزعجته. فأمر رجال الشرطة بضبط جميع النسخ المطبوعة منها، وإنه ليتعذر على أبلغ كاتب أن يصف حوادث قصة أشد منها تأثيرا في قلوب قارئيها، ففيها يكشف الحجاب عن حقيقة لويس فليب، فيبدو كما هو ابن رجل حقير وضيع، ولكن بأسلوب رقيق رزين يملأ النفس روعة والعقل اقتناعا. وبالاختصار نوجه الأنظار إلى كتاب مرقوم بحروف من نار.»
هذا كان آخر سعي سعته ماريا ستلا مدفوعة إليه بعامل اليأس والقنوط، ولكنه لسوء حظها انتهى كالمساعي السابقة بالخيبة والإخفاق، ومن ذلك الحين كفت عن الجهاد في هذا السبيل، وقضت الثلاث عشرة سنة الأخيرة من حياتها معتزلة في غرف الطبقة السفلية من فندق الباث في شارع ريولي في باريس، وعلى جدران الغرفة التي كانت تقيم فيها صور أسرة أورليان التي كانت أشبه بها من صورتها. وعلى نوافذ الغرفة صور شفافة تمثل ستلا وبقية أعضاء الأسرة الأورليانية، فكان المارة يقفون وينظرون هذه المشابهة التامة، ويبدون إطراق الخشوع والموافقة بالشعور الخفي الصامت على صحة دعوى هذه الأميرة المنكودة الطالع. وكانت تسليتها الوحيدة أن تنثر الحبوب في أسكفة نافذتها المفتوحة على مصراعيها لألوف من العصافير الدورية التي كانت تأتي وتلتقطها شاكرة لهذه الأميرة البارة فضلها وإحسانها.
وفي اليوم الثامن والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1843، بينما كانت مطروحة على فراش النزع، سمعت قصف مدافع تطلق إيذانا بافتتاح مجلس النواب، فأفاقت من ذهولها واستعادت شيئا من صوابها وطلبت صحيفة، ثم أسرت إلى من جاءها بالصحيفة قائلة: «أود أن أسمع ما قاله لويس فليب اللص المغتصب.» ثم لفظت النفس الأخير، واستراحت من عذاب خيبة المساعي وعثرات الآمال.
ولم يكن في وسع أحد من أولي الحصافة وذوي العدل والإنصاف أن ينكر كون ماريا ستلا ابنة الكونت والكونتس جوانفيل؛ لأن الأدلة على ذلك كانت متوافرة. ومن المحقق أنها لم تكن قط ابنة الشرطي كيابيني الذي ليس بينها وبين أولاده أقل مشابهة في الملامح ولا في الأخلاق، بل كانت أشبه شيء بمدام إدلايد والدوق مونبنسيه ولدي دوق دي أورليان (الكونت جوانفيل). وكثيرا ما كان الناس يخطئون في التمييز بينها وبين أختها مدام إدلايد، ويظنون هذه تلك وتلك هذه. ولم تكن مشابهتها لوالديها الدوق والدوقة أقل من مشابهتها لأختها وأخيها.
ثم إن لويس فليب المبدل بها كان من أبيه كيابيني حذو النعل بالنعل أو صورة طبق الأصل؛ فكان جلفا خشنا في شكله وخلقه وكلامه. وكان أهل أوروبا يعجبون كيف يمكن رجلا كهذا أن يصير ملكا. وكانت فظاظة أخلاقه وغلاظة أفكاره موضوع الهزء والسخرية في قصور الملوك، وهذه الصفات كانت في طفولته وحداثته أوضح وأظهر. قالت مدام جنلس التي كانت مربية أولاد الدوق أورليان (وقد سبقت الإشارة إليها في الفصل السادس): «كنت مضطرة أن أعالج في الدوق دي فالوي (وبعد ذلك لويس فليب) تقويم كثير من الأمور المعوجة وإصلاح عدة عادات فاسدة. أما أخته وأخوه فكانا يختلفان عنه كل الاختلاف، ولم يشاركاه في شيء مما يزدرى ويعاب.»
أما اهتمام الكونت جوانفيل الشديد بأن يكون له ابن بدل ابنة - وعن هذا الاهتمام صدرت هذه المقايضة الجائرة الشائنة - فكان منشأه أن الكونتس قرينته كانت نحيفة جدا، وهي بقية سبعة أولاد توفوا كلهم في طفولتهم، فلو توفيت بلا عقب ذكر ذهبت ثروتها الكبيرة إلى أسرتها ولم ينل زوجها منها شيئا. وأما ما يعترض به على صحة هذه المبادلة بأن ماري ستلا ولدت في شهر أبريل سنة 1773، ولويس فليب (ابن الشرطي) ولد في شهر أكتوبر (أي بعدها بخمسة أشهر) فيرد بأنه لما جيء به ليعمد قال غير واحد من الذين حملوه أنه لم يكن حينئذ أصغر من ابن خمسة أشهر.
البولونية الحسناء والإمبراطور
يقال عن نبوليون الأول إنه بينما كان قادرا أن يلقى جيوش العالم كله مدججة بالأسلحة وغارقة في الحديد والفولاذ وهو «غير هياب ولا نكس وكل»، كان يخور عزمه ويهن جلده أمام بطارية تصوب إليه من عينين جميلتين. كان في استطاعته أن يسحق أوروبا بأسرها تحت قدميه، ويدوخ الممالك ويذل الملوك والقياصرة، ومع هذا كله كان قلبه أضعف القلوب في مقاومة نزعات الهوى وأشدها إزعانا لسلطان الحسن وانجذابا بقوة الجمال. فكنت تراه إذا فرغ من إملاء شروط الصلح على أمة أخضعها بحد سيفه، أخذ يلهو بتلفيق سخافات غرامية يستحي أصغر عاشق من نسبتها إليه.
ولعل عقيلة والسكا امتازت عن جميع النساء الحسان اللواتي سلبن قلبه وخلبن لبه، بأن تسلطها عليه كان أطول مدة وأرسخ قدما. وقد تم لها ذلك على رغم إرادتها. وبذلت في سبيله أغلى ثمن وأعز شيء لديها وهو صيتها الذي ضحت به وجعلته فداء محبتها لوطنها. وهذه القصة الغريبة التي أرويها عن تلك المرأة الجميلة المنكودة الحظ مقتطفة من المصادر السرية التي أماط عنها لثام الخفاء البحاثة المدقق المستر فردريك ماسون.
في صباح اليوم الأول من شهر يناير سنة 1807، غصت بلدة برونيا التي بين بولستك ووارسو بأقدام ألوف من الزائرين القادمين إليها من العاصمة البولونية والأماكن التي حولها، وهم أشد ما يكون من حالات التلهف والاشتياق توقعا لمشاهدة نبوليون بونابرت، الذي كان مزمعا أن يمر في ذلك اليوم ببرونيا في طريقه إلى وارسو بعدما كان قد أخضع النمسا تحت قدميه، وألهب ظهر روسيا بسوط الفتك والتنكيل، ورمى جيوش بروسيا بحجارة من سجيل. هذا الفاتح العظيم الذي طبقت شهرة انتصاراته الخافقين، وأفعم صيت بطشه قلوب أهل أوروبا رعبا وذعرا، عده البولونيون مخلصا لهم، يعيد إليهم مجدهم الغابر، وعلى يده يستردون استقلالهم، ويجمعون شتيت شملهم، ويتبوءون مكانهم السابق بين دول أوروبا.
وأخيرا دنت الساعة المنتظرة وأقبلت المركبة التي تقل المنقذ العظيم داخلة به إلى بولونيا. فخف الجماهير يزحمون بعضهم بعضا للتيمن بمشاهدته والاحتفال باستقباله، ورددت جوانب الجو صدى أصواتهم وهي تضج بالهتاف له والاحتفاء به ضجيجا كهزيم الرعود القاصفة. وأحاطوا بمركبته إحاطة السوار بالمعصم، وارتفعت أيديهم إلى ما فوق رءوسهم تحييه وترحب به وتبتهل إليه. وإذ ذاك ارتفع من وسط الجمهور صوت عذب ينادي: «دعوني أمر. تنحوا من طريقي. أود أن أراه طرفة عين فقط.» فأجاب الجموع المحتشدة هذا الطلب، وإذا بفتاة حسناء يتألق نور الغيرة والحمية من عينيها الزرقاوين، ويتقد لظى البسالة والحماسة من وجنتيها الورديتين، قد اخترقت صفوف الألوف، ووقفت وجها لوجه أمام نبوليون وصاحت بأعلى صوتها: «أهلا وسهلا بالزائر العظيم الكريم. إن تعلقنا بشخصك المبجل لا يمكن التعبير عنه حتى بأبلغ الكلام، وابتهاجنا بمشاهدتك في البلاد التي تتوقع على يدك الإنقاذ يفوق الوصف، بل يشب عن طوق التصور.»
ولما رن صوتها الرخيم في أذني نبوليون التفت إليها ورفع قبعته تحية لها، وناولها طاقة زهر قائلا: «خذي هذه علامة سروري بكلماتك الحلوة، وأرجو أن نجتمع ثانية في وارسو؛ حيث أتملى مرة ثانية سماع هذه الكلمات العذبة من شفتيك الجميلتين.» ثم سارت به المركبة وهو يلوح بقبعته مودعا جماهير المستقبلين الذين شيعوه بالهتاف والدعاء، وملتفتا إلى الفتاة الجميلة التي حمل إليه صوتها الرخيم خلاصة تحية الأمة البولونبة وولائها.
وهذه الفتاة التي صار لها شأن يذكر في حياة نبوليون كانت ماري والسكا من أسرة بولونية معروفة ولكنها فقيرة إلى الغاية، وهي ابنة أرملة لها خمسة أولاد غيرها. وقد شبت على أمرين تمكنا منها؛ هما: محبة الله ومحبة وطنها الرازح تحت أثقال الظلم. وقبل بداءة قصتنا بثلاث سنوات - حين كانت ماري ابنة خمس عشرة سنة - كانت وهي أجمل فتاة في بولونيا قد تزوجت بأغنى أهل بلادها وأشرفهم حسبا، وهو أنستاس والسكا، ولكنه كان طاعنا في السن كأنه جدها. وبعد سنة ولدت له ابنا، فقصرت محبتها عليه، ووجهت كل اهتمامها إليه. ولأجله على الخصوص كانت تحن شوقا إلى ذلك اليوم الذي فيه يحطم وطنها العزيز نير ظالميه ويسترد حريته واستقلاله. ولأجله أقدمت على مقابلة نبوليون الذي به تعلقت آمالها وآمال قومها. ولم يخطر حينئذ ببالها أنها وهي تحامي عن بولونيا كانت تضحي بأغلى شيء عندها وتقدمه على مذبح محبتها لوطنها.
ولما رجعت عقيلة والسكا إلى بيتها عزمت أن تكتم ما فعلته في برونيا عن زوجها وغيره من أقرب الناس مودة إليها، وألا تبوح بسر طاقة الزهر التي أعطاها إياها نبوليون لأحد، بل تودعه صدرها إلى آخر يوم من حياتها. ولكن نبوليون أراد غير ذلك، وكان قد سأل عن هذه الغريبة الجميلة التي شغلت أفكاره، وعرف عنها ما يهمه، وبعث إليها الأمير جوزيف بونياتوسكي يدعوها من قبله إلى حضور حفلة رقص تقام إكراما له.
فأخذت منها الحيرة والارتباك كل مأخذ، وسألت الأمير: «لماذا يروم الإمبراطور أن يختصني بهذا الشرف؟ وكيف عرفني؟» فأجابها: «إن الجواب عن هذين السؤالين من شأن جلالته وحده، وأما أنا فإطاعة لأمره جئت إليك أدعوك إلى حفلة الرقص. ولعل العناية الإلهية اختارتك لتعيدي إلى وطنك حريته واستقلاله.» ولكنها سدت أذنيها عن سماع كلامه، وقالت له إنها لا تستطيع الحضور ولا ترومه. وما كاد الأمير يصل إلى الإمبراطور ويخبره برفضها دعوته حتى خف إليها عظماء بولونيا واحدا بعد واحد يتوسلون إليها أن تجيب الدعوة. ولما اقترنت هذه التوسلات بأمر مشدد من زوجها لم يبق في وسعها الإصرار على المخالفة. فأقدمت على هذه المحنة بخوف ووجل لم تعرف لهما سببا. فارتدت حلة من حرير أبيض، ووضعت على رأسها إكليلا من ورق الأشجار وذهبت إلى المرقص. ولما دخلت استوقف جمالها أنظار المدعوين، وهرع بونياتوسكي لاستقبالها مرحبا بها، وقائلا لها: «إن الإمبراطور منتظر قدومك بفروغ صبر، وقد سره حضورك سرورا لا مزيد عليه. وقد أمرني أن أطلب إليك أن ترقصي معه.»
فاعترضته قائلة: «لكنني لا أرقص، ولا أريد أن أرقص.» - إن رفضك للرقص معه يضرم نار سخطه وغيظه، ونجاح هذه الحفلة - حفلة الرقص - متوقف عليك. - يسوءني ذلك إلى الغاية، ولكن ... ولكنني ... بالحقيقة لا أستطيع الرقص، وأرجو أن تطلب إلى الإمبراطور العدول عن الرقص معي.
ولم تفرغ من النطق بآخر كلمة حتى التفتت فرأت الإمبراطور واقفا أمامها وهو يقول لها بصوت سمعه جميع الحضور: «أبيض على أبيض، ونور على نور!» ثم همس في أذنها: «عللت نفسي باجتماع آخر يختلف عن هذا الاجتماع بعد ...» ولكنها ظلت مطرقة، فلم تبسم له ولا نظرت إليه. ولم يلبث أن تركها ومضى.
ورجعت ماري والسكا تلك الليلة مثقلة بالهم والقلق. لم تجهل أنها أساءت التصرف، ولكنها لم تستطع خلاف ذلك. فماذا يعني الإمبراطور باهتمامه بامرأة وضيعة مثلها؟ لم تعلم سبب هذا الاهتمام، وقد داخلها الخوف منه، ولم ترد أن تراه بعد الآن. وفيما هي جالسة في مخدعها تفكر في هذا الأمر فتحت خادمتها الباب وناولتها بطاقة مكتوبا فيها: «لم أر غيرك. لم يرقني سواك. فإياك أبتغي. أجيبي على الفور وسكني روع «ن».»
فلما تلت هذه المطارحة الغرامية اضطرب قلبها واضطرمت وجنتاها، وبيد الغيظ والحنق طوت البطاقة وقالت للخادمة: «لا جواب!» ولما استيقظت من نومها في صباح اليوم التالي رأت خادمتها بجانب سريرها ومعها بطاقة ثانية من نبوليون، فلم تفتحها، بل وضعتها مع البطاقة الأولى في غلاف وأمرت بإرجاعهما إلى صاحبهما. واستولت عليها حيرة كادت تذهب بصوابها؛ لأنها لم تدر ماذا تفعل. لم تجسر أن تخبر زوجها، ولم يكن لها من تستشيره في أمرها وتستعين به على كشف الغمة وتفريج الأزمة.
وفي ذلك اليوم جاء المارشال دوروك وكبار رجال الحكومة وعظماء الأمة طالبين أن يروها، فأبت أن تقابل أحدا منهم معتذرة بكونها مريضة . ولكن زوجها لج في حملها على الخروج من مخدعها إليهم، وحضور وليمة العشاء التي دعاها نبوليون إليها.
فلم يسعها أن تصر على الإباء والامتناع، بل لم تر بدا من الإذعان لمشيئة زوجها وإلحاح رجال أمتها الذين لم يكتفوا في محاولة إقناعها بالتوسلات والبينات، بل شفعوا ذلك كله بالإنذار قائلين لها أن إصرارها على الرفض يضر بمصلحة الوطن، وينافي ما هو معهود بها من التفاني في خدمته والذود عن استقلاله. فأجابتهم إلى ما طلبوا، وعقدت عزمها على التعرض للمحنة الثانية التي كانت شرا من الأولى وأسوأ مغبة. وصدر الأمر إلى عقيلة فوبان وصيفة الأمير بونياتوسكي أن تعنى بتدريبها وتخريجها في آداب البلاط وأساليب التبرج والتزين، والجلوس حول مائدة الكبراء والعظماء. ولزيادة إقناعها وتذليل كل عقبة في سبيل انقيادها جاءها كتاب بتوقيع أعيان بلادها يذكون فيه نار حميتها ومحبتها لوطنها.
ومما جاء في هذا الكتاب قولهم لها: «اذكري إستير الإسرائيلية المذكورة في العهد القديم من الكتاب المقدس، وقولي لنا: هل تظنين أنها بذلت نفسها إلى أحشويرش الملك حبا له وهياما به؟ فقد بلغ من شدة خوفها منه أنه أغمي عليها عندما نظرته. إذن لم يكن حبها له الباعث على العمل بموجب إرادة عمها مردخاي، بل ضحت بأغلى شيء عندها في سبيل إنقاذ وطنها. وبهذا الإنقاذ تعظمت وتمجدت. ونحن نرجو أن تحذي حذوها وتتمجدي بإنقاذ وطنك!»
قال المستر ماسون: «استعانوا على إغرائها واستمالتها بكل وسيلة: بوطنها وأصدقائها ودينها وعهدي الكتاب المقدس القديم والجديد (التوراة والإنجيل)، بهذه كلها توسلوا لإغواء فتاة ساذجة غرة، بلا تجربة ولا اختبار وهي ابنة ثماني عشرة سنة، وليس لها مرشد صالح ولا مشير أمين حكيم.» وهذه المساعي كلها كانت ملحقة برسائل الشوق والغرام من قبل نبوليون. ومن ذلك قوله لها في إحدى رسائله: «هل ساءك مني شيء؟ أراك في غفلة عني غير مكترثة لي. ونار شغفي بك تكاد تحرقني. لقد كدرتي صفاء راحتي وسلامي! فارثي لفؤادي المسكين المعذب بهواك، وامنحيه قليلا من الغبطة التي يصبو إلى نيلها بقربك.»
وفي الوقت المعين لتناول العشاء ذهبت ماري، فاستقبلها المدعوون مبالغين في الاحتفاء بها، مستبشرين بنيل ما تصبو إليه نفوسهم على يدها. ولم تخرج تحية نبوليون لها عن حد المجاملة البسيطة، فاقتصر على قوله لها: «بلغني أن عقيلة والسكا متوعكة المزاج، فأرجو أن تكون الآن قد نالت الشفاء التام.» ولكن عينيه كانتا في أول تناول الطعام موجهتين إليها كأنهما مجذوبتان بقوة المغنطيس، وكانت أفكاره كلها مشغولة بها عن غيرها. وبعد الفراغ من تناول الطعام دنا منها وتناول يدها وضغطها بعامل الوجد، وقال لها وعيناه شاخصتان في عينيها: «لا. لا! إن ربة هاتين المقلتين الجميلتين، وهذه السيماء الرقيقة الأنيقة، لا يسعها الإصرار على القطيعة والصد. لا يمكنك أن تسري بتعذيبي إلا إذا كنت أقسى النساء قلبا وأخلاهن من عاطفة الشفقة والحنان.»
ولما انصرف المدعوون خرجت بها عقيلة فوبان، وأقبلت السيدات المدعوات عليها يتملقنها قائلات لها: «لم يرمق واحدة منا بنظرة، بل كانت عيناه شاخصتان إليك. فقد سحرت لبه واستوليت على مجامع قلبه، فلك أن تفعلي به ما تشائين، وخلاص بولونيا في يدك.»
وبعد وصولها إلى منزلها غائصة في لجج التأمل والافتكار جاءها المارشال دوروك يحمل إليها رسالة من سيده، فسلمها إياها وطفق يحاول إقناعها بما عرف به من فصاحة اللسان وقوة البرهان قائلا لها: «أفي استطاعتك أن ترفضي طلب رجل لم يجرؤ أحد قط أن يعصي له أمرا؟ إن ضياء مجده الساطع يغشاه الآن سحاب غم. ولك أن تبدديه إن شئت بزيارة قصيرة يسعد فيها بمشاهدتك.»
وبعد انطلاقه فتحت الرسالة وقرأت فيها ما يأتي:
إن قلبي ذاب أو كاد يذوب شوقا إليك، وإذا شئت ففي استطاعتك أن تتغلبي على جميع الموانع التي تحول بيني وبينك. وصديقي دوروك يمهد السبيل. فتعالي تعالي! جميع طلباتك تجاب! وسألحظ وطنك بعين الرعاية والاهتمام متى رأيتك ترثين للقلب المعذب الذي بين جنبي «ن».
فقد صرح لها نبوليون بأن استقلال بولونيا متوقف عليها. وبعين التصور رأت وطنها العزيز مطلقا من قيود الاستعباد ومستردا حريته واستقلاله. وهذا كله متوقف على عملها، على تضحيتها بشرفها. فهل في إمكانها أن تدفع هذا الثمن؛ الثمن الغالي المخيف، وتبذله في سبيل وطنها؟ فساورها القلق والاضطراب، وحمي وطيس النزاع في أفكارها بين عوامل الرفض والمقاومة، وبواعث الإذعان والتسليم. ولكن قوة المقاومة فيها كانت قد خارت وكلت من جراء توالي الهجمات العنيفة التي انصبت عليها مرة بعد مرة كما رأينا. وفي هذه الحملة الأخيرة وهنت وكفت عن المقاومة، وعزمت ماري والسكا أن تلقى نبوليون على انفراد وتقول له صريحا إنها لم تستطع أن تشاطره الحب، وتتوسل إليه بشرفه أن يخلي قلبها من حبها وينقذ وطنها.
وفي منتصف الساعة الحادية عشرة ليلا سير بها في عربة مغلقة حملتها تحت ستر الظلام إلى مدخل القصر السري، حيث لقيها حاجب أدخلها إلى غرفة وأجلسها على كرسي في حضرة نبوليون.
ومن خلال الدموع الغزيرة المنهلة من سحب أجفانها رأت نبوليون جاثما عند قدميها، يسكن اضطرابها بكلمات الاستعطاف التي أبت أذناها أن تصغيا إليها. ولما أشار في أثناء كلامه إلى بعلها ووصفه بكونه شيخا هرما، تنبهت أفكارها الشاردة ووثبت عن كرسيها وثبة الغيظ والحنق محاولة الفرار، ولكنه أمسكها بعزم ولطف وأرجعها إلى مكانها، وأخذ يحاول إقناعها بالميل إليه، قائلا لها إنه يتعذر عليها أن تحب رجلا طاعنا في السن كهذا، وأن اقترانها به غير طبيعي وهي غير مقيدة به شرعا، وإنه مستعد بأن يعوضها منه محبة لم تحلم قط بمثلها، ويمنحها جاها وشرفا، ويبوئها أسمى منزلة بين نساء العالم، ولأجلها يعيد إلى بولونيا استقلالها السابق ومجدها الغابر.
على أنها ظلت مصرة على الرفض والامتناع، ولم تجبه بشيء سوى سكب الدموع الغزيرة. وإذ ذاك قال لها نبوليون: «اذهبي يا حمامتي الوديعة واستريحي، ولا تخافي النسر، فلن يكون له عليك أقل سلطان بسوى الحب. وهذا الحب لا يرضيه منك إن لم يكن خارجا من صميم فؤادك. ولسوف تحبينه وتتسلطين عليه في كل شيء؛ في كل شيء، هل سمعت؟» ثم سار بها نحو الباب ولم يفتحه لها إلا بعدما وعدته بزيارة أخرى في الليلة التالية. وهذا الوعد اضطرت لتعليله به ثمنا لنجاتها منه.
وفي صباح اليوم التالي جاءتها الخادمة بكتاب ومعه طاقة أزهار جميلة وعتائد نفيسة، فتحتها الخادمة فإذا هي تتضمن شيئا كثيرا من الحلى الغالية المرصعة بالألماس. فلما وقعت عينا عقيلة والسكا على هذه الجواهر المتلألئة بضياء شمس الصباح، خطفتها من يد الخادمة وألقتها في أرض الغرفة آمرة بردها إليه على الفور. وأما الكتاب فهذه ترجمته:
ماري، يا عزيزتي ماري الجميلة، إني مشتاق جدا إليك وأتوقع زيارتك بذاهب الصبر. أفلا تأتين؟ فقد وعدتني أن تزوريني. وما أظنك تخلفين وعدك هذا. وإن أخلفت فالنسر يطير إليك. بشرني أصدقائي بأني سأراك على العشاء. أرجو أن تقبلي طاقة الأزهار. ولتكن علامة سرية تربطنا أحدنا بالآخر أمام الحضور، وسوف نتمكن بواسطتها من التخاطب على مرأى منهم وهم لا يشعرون. وعندما أضع يدي على صدري تعلمين أني غارق في لج الافتكار بك، وعليك حينئذ أن تضعي يدك على طاقة الأزهار. ليكن قلبك مشغولا بمحبتي يا ماري العزيزة. واجعلي يدك دائما على طاقة الأزهار.
ولم تر عقيلة والسكا بدا من حضور العشاء، فذهبت ولكنها أبت أن تأخذ معها طاقة الأزهار التي اقترح نبوليون أن تكون علامة سرية بينهما. ولما أبصرها قادمة بدونها حياها بفتور وجفاء، وأعرض عنها ولم يعن بمحادثتها. وبعد الفراغ من تناول العشاء بعث إليها المارشال دوروك، ولم ينصرف من عندها حتى وعدت أن تزور الإمبراطور في تلك الليلة.
على أنها في هذه المرة ذهبت غير موجسة سوى شيء قليل من الخوف والجزع اللذين أوجستهما في المرة الأولى، فاستقبلها مبالغا في الرفق بها والعطف عليها، وهي كانت ساكنة الجأش مطمئنة النفس واثقة بشرفه. ولكنه لم ينس مجيئها إلى العشاء على غير ما أراد، فقال لها بالجهد: «كنت أؤمل أن أراك مرة ثانية.» ثم سألها لماذا لم تحضر العشاء على الوجه الذي وصفه لها، ولماذا رفضت قبول جواهره وأزهاره. فظلت ساكتة لا تحير جوابا، فاستاء من هذا السكوت أشد الاستياء، وعده إهانة لا يسعه الصبر عليها.
فقال لها بلهجة الغيظ والحنق: «أروم أن تعلمي أني أقصد التغلب عليك. فعليك، نعم عليك، أن تحبيني؛ فقد أعدت اسم بلادك وهي مديونة لي بوجودها، وسأفعل أكثر من هذا لها. انظري هذه الساعة في يدي، فكما أني أحطمها أمامك هكذا أمزق بولونيا وجميع أمانيك إن خيبت أملي وأبيت قبول قلبي وبخلت علي بقلبك.» ثم رمى الحائط مقابله بالساعة التي في يده فتحطمت.
فلما شاهدت بركان غيظه ينفجر هذا الانفجار الهائل الذي يطير أمامه قلب أعظم رجل في أوروبا شعاعا سقطت مغشيا عليها، وعندما أفاقت وجدت نبوليون المخيف يمسح دموعها بيد العطف واللطف.
فانتهت المعركة منجلية عن فوز نبوليون، ولم تر عقيلة والسكا مندوحة عن التسليم بما قضاه القدر، متعزية بأنها بذلت نفسها في سبيل خلاص بولونيا. وجعلت تزوره يوما بعد يوم، ولم يكن فتورها إلا ليزيد نار غرامه استعارا واضطراما. وحينئذ هجرها زوجها، ولكنها تعوضت منه بأنها أصبحت بطلة بولونيا.
ولم يسمع قط عن رجل أحب زوجته كما أحب نبوليون ماري والسكا، فلم يسر إلا بقربها، حتى إن تعلقه بها كان أشبه شيء بالعبادة، ولكنها لم تبطئ أن تحققت أن تضحيتها بنفسها ذهبت باطلا، فقد عللها بالمواعيد غير أنه لم يف لها بشيء منها، واعتذر لها عن إخلافه وعده بقوله إني أحب وأود أن أذود عن حقوقها، ولكن الواجب علي لبلادي فوق كل شيء، فلا يسعني أن أهرق الدم الفرنسوي في غير مصلحة فرنسا نفسها.
ولا ريب في أنها أصبحت الآن تحب نبوليون حبا مجردا عن كل غرض آخر. ولم يكن في استطاعة أية امرأة كانت أن ترفض محبة رجل كهذا، وتغض النظر عن رؤية قاهر العالم بأسره جاثيا عند قدميها يترضاها ويستعطفها، إلا إذا كان قلبها من حجر لا من لحم ودم.
ولعل الأيام التي قضتها معه في فنكنشتين كانت أسعد أيامها. هناك كانت تنعم بقربه، وتأنس بصحبته، وتتناول طعامها معه، وتقضي ساعات طويلة في محادثته، وتتملى محبة ذلك الرجل العظيم الذي كان يأتمر بأمرها وينتهي بنهيها. ولما سألها أن تصحبه إلى باريس رفضت أن تجيب طلبه، فقال لها: «لا أجهل أنك تقدرين أن تعيشي بدوني، ولكن مع أنك لم تحبيني كما أحببتك، لا يسعك أن تبخلي علي بدقائق أتملى فيها كل يوم سعادة الجلوس بجانبك والتمتع بمشاهدتك، والناس كلهم يحسدونني عليك، ويعدونني أسعد إنسان على وجه الأرض.»
فرافقته إلى باريس، وبعد سنتين ولدت ابنا سمته ألكسندر فلوريان جوزف كولونا والسكا. وأقامت في بيت صغير أنيق كان يزورها نبوليون فيه ويواصلها بكل ما يدل على استمرار محبته لها.
وظلت مقيمة على ولائه كل أيام عزه ومجده، ولما دالت دولته وزال ظل سلطانه ونفي إلى جزيرة القديسة هيلانة، وتوفي زوجها الأول، تزوجت بالجنرال الكونت أورنانو أحد أبناء عم نبوليون. وعندما بلغه خبر اقترانها به استاء أشد الاستياء، وغمه جدا أن يرى المرأة التي أحبها وقتا طويلا حبا يفوق الوصف تنساه في ساعة محنته.
ولكن حياتها لم تطل، وبعدما ولدت ولدا لزوجها هذا توفيت في شهر ديسمبر سنة 1817، وكلمة «نبوليون» على شفتيها.
فاجعة في قصر
«سيكون ملكه محفوفا بالقلاقل والاضطرابات أكثر جدا مما كان ملك أبيه، وسيتزوج امرأة من عامة الشعب. وسيفقد عرشه وهو ابن سبع وعشرين سنة وأسرته تبيد معه.»
هذه الكلمات النبوية ألهم فلاح ريفي أن ينطق بها قبل أيام الملك المشار إليه فيها بسنين طويلة، ولا بد أنها خطرت ببال الذين سمعوا ذات يوم من شهر أغسطس سنة 1876 قرع الأجراس وقصف المدافع في مدينة بلغراد مبشرة بولادة وارث لعرش السرب. وقلما اتفق لطفل ملكي أن يربو في أحوال أسوأ من الأحوال التي ولد فيها هذا الطفل؛ لأن بلاد السرب كانت حينئذ خائضة غمار حرب عوان ضد تركيا، وأجراس الفرح والسرور التي رنت أصواتها في بلغراد أجابتها من ساحة القتال دمدمة البندقيات وجلجلة المدافع، وهي ترسل من أفواهها رصاص الموت والبوار وقذائف الخراب والدمار. وكانت البلاد بحذافيرها تئن رازحة تحت أثقال الفقر والضيق والتذمر والدسائس والمكايد، وكان الملك والملكة أنفسهما في نزاع وخصام حول سرير طفلهما.
ومع تفاقم الخلاف واحتدام الخصام بين الملك ميلان والملكة ناتالي حتى في مستهل حياتهما الزوجية، كانا كلاهما شديدي التعلق والارتباط بولدهما إسكندر الذي كان مطبوعا على اجتذاب جميع القلوب إليه؛ فقد ورث عن أمه جانبا كبيرا من جمالها وملاحتها، وكان في حداثته يفوق غيره من الأولاد في حسن طلعته وشدة ذكائه، فشب قوي الإرادة صعب المراس. ومما يروى عن جرأته وصراحته أن أباه خطب في مجلس النواب وأطال الكلام، فمل ولي العهد الصغير ودعا إليه أحد رجال البلاط وأسر إليه: «قل لأبي إنه تكلم كثيرا وينبغي له أن يرجع إلى البيت؛ لأني أروم أن أكلمه في مسألة.» ولما حياه الشعب مرة تحية الولاء، سأل رجلا واقفا بجانبه: «لماذا يضجون ويصخبون؟» فأجابه: «لأنهم يحبونك.» فصاح بأعلى صوته قائلا: «إن كنتم تحبونني كما تدعون فألقوا قبعاتكم في الماء.» وعلى الفور رموا قبعاتهم صعدا في الهواء فسقطت في نهر الساف.
ومع ما كان عليه من قوة الإرادة كان كريم النفس، متحليا بفضيلة الاعتراف بالخطأ والرجوع عنه. قيل إنه كان يوما سائرا في بلغراد مع مؤدبه، فلقيا وزيرا عصاميا وضيع النسب، وكان ولي العهد لا يميل إليه، فقال لمؤدبه: «إني لشدة قصر نظري لا أتمكن من معرفة هذا الرجل كلما رأيته فأظنه خادما.» فانتهره المؤدب قائلا له: «لا يليق بك أن تتكلم هكذا عن رجل يستحق التجلة والاحترام؛ لأنه بجده واجتهاده ارتقى وارتفع. ولعلك تذكر أن أجدادك كانوا رعاة خنازير.» فوجم إسكندر عند سماع هذا التوبيخ العنيف، ثم تناول يد مؤدبه وهزها هزة الأسف والندم وصاح: «اصفح عني واغفر لي. إني آسف على ما بدر من خشونتي.»
بهذه السجايا السامية الرائعة كان إسكندر مزدانا يوم ارتقى إلى عرش سربيا الذي أكره أبوه على إخلائه. وكان إسكندر إذ ذاك في أواخر السنة الثانية عشرة من عمره، وحدث في مساء اليوم السابق لإعلان تنزل الملك ميلان عن العرش أن إسكندر جاء إلى أبيه يحييه حسب عادته كل ليلة قبل اضطجاعه في سريره، فرفعه الملك بين ذراعيه ونظر في وجهه مليا، وقال له: «ماذا تفعل عندما تصير ملكا؟» وفي صباح اليوم التالي دخل مخدع ابنه وناداه بلهجة المحبة والمسرة: «عم صباحا يا صاحب الجلالة.» فرد إسكندر التحية برزانة ووقار وبلا أقل دهشة أو تعجب. فسأله أبوه: «كيف عرفت أنك صرت الآن ملكا؟» فأجابه: «من سؤالك لي أمس ليلا عرفت أنك تروم أن تجعلني اليوم ملكا.» وبعد ساعات أقسم الملك ميلان يمين الولاء لابنه الصغير، وأطلقت المدافع إيذانا بتوليته، وغصت شوارع بلغراد بمواكب الجماهير الهاتفين «ليحي الملك إسكندر!» ولم يخطر ببال أحد من أولئك المسرورين بجلوسه على العرش والداعين له بطول العمر أية فاجعة رهيبة مزمعة أن تصيبه وتتخرم حياته في شرخ شبابه وعنفوان صباه.
ومن يلق نظرة على الأحوال التي رافقت هذا الملك الصغير السن في أيام حداثته، لا يعجب مما يراه بعد ذلك في أخلاقه من النشوز والشذوذ، بل يعجب كل العجب من كونها وقفت عند هذا الحد ولم تجاوزه إلى ما هو شر منه وأسوأ. وكان أبوه الآن قد أخرج من سربيا منفيا وغير مأذون له في الرجوع إليها. وأمه التي كانت كأبيه في شدة محبته له ممنوعة منعا باتا عن مخاطبته بكلمة، وأسرف أوصياؤه في التضييق عليه، وحالوا دون تنشئته على الوجه الأمثل الأكمل، وحرموه معاشرة أصدقاء من سنه، ولم يأتوه بمؤدب عاقل حكيم يهذب أخلاقه ويقوم اعوجاج سيرته، وقصروا اهتمامهم على أن يربوه ويعودوه أن يكون مطبوعا بطابع مشيئتهم وعاملا على ما فيه مصلحتهم، فأقاموا رجلا ينام على حصير خارج مخدعه، فكان يرقد الساعة الثامنة مساء ويستيقظ الساعة الخامسة صباحا كما كان يفعل الملك نفسه. وكان مأمورا من قبل الأوصياء ألا يأذن لأحد في الدخول بعد الساعة العاشرة، وأن يخبرهم باسم كل من يدخل قبل ذلك الوقت.
ومع هذا الضغط الشديد الخانق نشأ إسكندر حائزا قسطا كبيرا من مروضات الجسد ومثقفات العقل. فقد برع براعة فائقة في السباحة وركوب الخيل، وكان باسلا شجاعا لا يهاب الموت ولا يعرف معنى للخوف. وشب على الشعور بالواجب وعدم التردد في الأمور .
ولم تطل مدة جلوسه على العرش حتى أبدى من قوة الإرادة وثبات العزم ما أدهش عقول الشعب. وكان في أول الأمر قد تحمل إرهاق أوصيائه له وجورهم عليه، صابرا متجلدا لا يبدي تذمرا ولا يبوح بشكوى. حتى زادوا إمعانا في تهضم جانبه والاعتداء على حقوقه، ومن شدة غلوهم في ظلمه أنهم منعوا والدته التي كانت مقيمة في بلغراد حتى من الدنو إلى قصره الذي كانت أبوابه مقفلة في وجهها. فظلت تسعة أشهر محرومة لمحة من وجهه إلا عندما كان يمر بجوار بيتها مع رجال بلاطه. ولما شكت إلى أحد الأوصياء هذه المعاملة الجائرة أجابها بكتاب مملوء هجاء وازدراء.
وفي أحد الأيام دعا الملك إسكندر أوصياءه ووزراءه إلى عشاء أولمه لهم في قصره، وفيما هم جالسون يتناولون الطعام نهض الملك ووقف أمامهم وشكر لضيوفه عموما والأوصياء خصوصا خدمتهم له وعنايتهم به، وطلب إليهم أن يمضوا صك إلغاء الوصاية عليه والنيابة عنه، خاتما كلامه بقوله: «ومن الآن فصاعدا لا يكن في سربيا كلها مشيئة تأمر وتنهى سوى مشيئتي. وبأمري المطاع أقول لكم أيها السادة إنكم ستقضون هذه الليلة هنا، وغدا أنظر في إطلاق أسركم.» ولم يفرغ كلامه إلا وقد فتحت أبواب القاعة، ودخلت طائفة كبيرة من الجنود شاهرة حرابها، وبذل الأوصياء والوزراء جهدهم في حمله على العدول عما أمر تارة بالتوسل والاستعطاف، وطورا بالوعيد والتهديد، فلم يظفروا بطائل. وقضوا ليلتهم معتقلين في قاعة الطعام. وفي صباح اليوم التالي أعلن بلوغ الملك سن الرشد واستقلاله عن الأوصياء والنواب.
وفي هذا الوقت كانت والدته الملكة ناتالي مقيمة في قصر ساشينو قرب بيارتز (في فرنسا)، وفي أثناء زيارته لها لقي دراغا ماستشين إحدى وصيفات والدته وأجمل امرأة في سربيا، فوقع حسنها منه موقعا سبى لبه وأسر قلبه. ويقال إنه فيما كان يستحم ذات يوم أشرف على الغرق، واتفق أن دراغا كانت حينئذ واقفة على الشاطئ بثوب الاستحمام تراقب السابحين والمستحمين، فرأت الخطر المحدق بالملك، وعلى الفور اندفعت إلى معونته وكادت تفقد حياتها في سبيل إنقاذه من الموت غرقا. وكان عملها هذا أوضح دليل على شدة بسالتها، وهو في الوقت نفسه برهان جلي على فرط ولائها للملك. وهاتان الخلتان - البسالة والولاء - إذا اقترنتا بالبهاء الباهر والحسن البديع الساحر كان للمجموع أكبر تأثير في قلب كقلب الملك إسكندر؛ ولذلك نراه عما قليل بات صبا والها متيما بغرام هذه البطلة الحسناء.
وكانت دراغا أرملة تكبر الملك بتسع سنين، وهي رشيقة القد ترفة البنان ناعمة الأطراف بيضاء البشرة وردية الخدين، ولها عينان نجلاوان إن شاءت ذابتا رقة وحنوا، أو نفثتا سحرا يخلب القلوب ويفتن العقول. ويزين قامتها الهيفاء شعرها الطويل الجميل. وجملة القول أن دراغا غاية الشاعر المقصودة وضالة المصور المنشودة، وهي مخلوقة لتستعبد قلوب الرجال. ومع أنها ليست من محتد رفيع شريف لم تخل من دم كريم يجري في عروقها؛ لأنها حفيدة نقولا لونيفيتزا أعز صديق للأمير ميلوش أوبرنوفيتش الأول جد الملك إسكندر. ولما كانت فتاة قضى عليها نكد الطالع أن تقترن بمهندس بوهيمي ساقط خليع، وبعد بضع سنوات ذاقت فيها أمر كئوس الشقاء والعناء، تركها أرملة ولم يخلف لها سوى مبلغ لا يستحق الذكر. فظلت مدة عائشة في بلغراد عيشة الفقر والمسكنة، وكانت تسليتها الوحيدة أن تحضر جمعية الترانيم الكنسية مرة في الأسبوع. هناك كانت ملكة سربيا المستقبلة تجلس على مقعد من خشب يطوقها أحد العامة بذراعه وهي تنشد أناشيد سربيا الشجية. وفي ذلك الحين وهي في أسمى درجات الحسن والبهاء وأسفل دركات البؤس والشقاء، رأتها الملكة ناتالي فأعجبت بحسنها، واتخذتها وصيفة لها، ولم يخطر قط ببالها ما كان مزمعا أن ينتج من هذا الاتخاذ.
وكانت الأيام التي قضاها إسكندر في بيارتز بعدما توثقت عرى المعرفة بينه وبين دراغا كلها بهجة وصفاء ورغد وهناء؛ إذ كان يقضي كل ساعة مع هذه الأرملة الجميلة الطلعة الخفيفة الروح الحسنة التناول، وهي تشوقه وتروقه حتى بات أسير غرامها. وبلغ من شدة تسلطها عليه أن وزراءه طفقوا يشتكون قائلين إن الملك لا يفعل شيئا قبلما يستشيرها فيه. وإذا كان حاضرا مجلسهم وعرض له شيء ذو شأن لا يجيب الوزراء عنه ما لم يسألها عنه بالتلفون، وبموجب رأيها يعمل.
وهذا المستقبل المجيد الذي بسم لها عن ثغر السعادة ورفعة الشأن لم تهش له في أول الأمر، ولا أقبلت على انتهاز فرصته السانحة، بل ولته جانب الإعراض. وكانت إحدى صديقاتها في البلاط قد لمحت إلى المجد المزمعة أن تناله بمشاركتها للملك إسكندر في أبهة التاج والصولجان، فانتهرتها بمزيد الاستياء وقالت لها: «كفي عن هذيانك وأريحيني من شقشقة لسانك. نعم إن الملك يحبني، وهذا لا أنكره، بل أعترف به بملء التباهي والافتخار، وأنا أحبه حبا لا يقل عن العبادة إن لم يزد عليها، ولكن لا يخطرن ببالك أني أحول بينه وبين الواجب عليه لعرشه ومملكته. يجب عليه أن يتزوج أميرة ذات حسب ونسب؛ إحدى بنات الملوك والقياصرة في أوروبا، فيستعين بها على توثيق صلات القربى والتعارف مع الكبراء والعظماء. وأما أنا فحسبي أن أضحي بسعادتي في سبيل حصوله على السعادة التامة.»
وهذا التصريح يدل على شجاعتها الأدبية وما عندها من إنكار النفس. وليس من ريب في أنها عنت كل كلمة منه، وكانت فيما عزمت عليه صادقة غير كاذبة. ولكن عندما ينشب الكفاح بين الحب والواجب، فالنصر يكون في الغالب حليف الأول، وهذا ما حصل الآن. ويقال إن دراغا ظلت ثلاث سنوات متوالية ترفض رفضا باتا أن تجيب طلب إسكندر وتكون زوجة له وتصبح في عداد ربات التيجان في العالم.
وكانت الملكة ناتالي غافلة عن هيام ابنها بوصيفتها، وعدت كثرة تردده إليها من قبيل اللهو والتسلية، ولكنها لما اطلعت ذات يوم على كتاب من ابنها إلى دراغا ورأت ما فيه من بينات تصبيها له وتسلطها عليه، استشاطت غيظا وسخطا عليها. واتفق أنها كانت قبيل ذلك في باريس، فقال لها أحد العرافين المدعين معرفة الغيب: «إنك تحفظين في صدرك حية سامة سوف تلدغك يوما ما لدغة مميتة.» وبعد اطلاعها على الكتاب تحققت صدق النبوءة، وعلى الفور طردت دراغا، فخرجت تجر ذيل الخزي والعار.
ولو أن ناتالي تعمدت إلقاء دراغا في حضن ابنها لم يكن في استطاعتها أن تجد وسيلة أشد وأفعل من طردها لها من قصرها. فإن الملك عندما بلغه ما أصاب حبيبته خف إليها على جناح السرعة ليؤاسيها ويعزيها ويستعطفها متوسلا إليها أن تجيب طلبه وترضى أن تكون شريكة حياته قائلا لها: «عندما تصبحين زوجتي - زوجتي الوحيدة - تبيتين في أمن ولا يبقى لأحد أقل سلطان عليك. فامنحيني هذا الحق؛ حق حمايتك والدفاع عنك.» وحينئذ لم يبق في وسع دراغا إلا الرضا والإذعان. ومن تلك الدقيقة صدر حكم القضاء والقدر على هذين العاشقين المنكودي الحظ.
ولما بلغ وزراءه خبر عزمه على الاقتران بها أسرعوا إليه وشددوا في نصحه وإنذاره بالعدول عن هذا الخرق والطيش، وأروه سوء المغبة ووخامة المصير. ولكنه أعار كلامهم أذنا صماء، وقال لهم بحدة وهياج: «ليس في العالم كله سوى امرأة واحدة أحبها وأفضلها على كل شيء حتى على تاج الملك. وهي وحدها قادرة على تسليتي وتعزيتي، وبقربها فقط أستطيع أن أنسى مرارة حياتي الماضية، وأنال ما تشتهيه نفسي من المسرة والهناء. ومهما يكن من نتيجة اقتراني بها فإياها وحدها أروم أن تكون زوجة لي.» وهكذا صارت دراغا الفقيرة البائسة أرملة المهندس الوضيع الحقير ملكة سربيا.
ولما بلغ أباه هذا الخبر، وكان إذ ذاك في باريس، غلت مراجل غضبه وصاح: «يا له من أمر هائل مخيف! حقا إنه يفوق الإدراك ويتعدى حد التصديق. وإن رضي السربيون بهذه المرأة ملكة لهم كانوا أجدر أهل الأرض بتقمص الخزي والعار. أفهكذا يفعل ابني! ابني الوحيد إسكندر؟! إنها لمعرة تصمه بوصمة الاحتقار إلى الأبد. وكنت دائما أخاف عليه من الوقوع في شرك إحدى النساء الشريرات، وها قد وقع الآن وقضي على أسرتي؛ على أسرة أوبرنوفي!»
وكأني به نطق بهذه الكلمات بروح الوحي والإلهام؛ لأن ما أنذر به ثم بعد وقت غير طويل، وارتقاء دراغا عرش السرب مهد سبيل السعاية بها والكيد لها والائتمار عليها. لم تستطع أن تحسن التصرف في شيء، وكان إسراف زوجها في تدليلها وترفيهها عبارة عن أمضى سلاح شهره أعداؤها عليها، ولم يبق للسربيين حديث في ليلهم ونهارهم سوى تنقصها وتعييرها واتهامها بكل ما يلبسها ثوب العار والشنار ويوغر الصدور بنار كرهها، والسعي في تطهير العرش من رجاساتها. ومما نقموه عليها شدة تعجرفها وكبريائها وإفراطها في التبذير والإسراف، وعجزها عن ولادة وارث للعرش، وسعيها في ترشيح أخيها له. وهذه التهمة الأخيرة جلت على غيرها من التهم، وكانت أكبر سبب مباشر لوقوع الكارثة العظيمة التي هز العالم قاطبة هول اقترافها. •••
والمشهد الأخير من هذه الفاجعة الملكية كان بعد منتصف الليل في يوم من شهر يونيو سنة 1902، وكان إسكندر ودراغا قد دخلا مخدعهما ليناما حسب عادتهما كل ليلة، وعلى رغم الخوف الذي كان يساورهما (لأنهما كانا قد أنذرا غير مرة بالمخاطر التي تتهددهما) رقدا ولم يعرهما شيء من الأرق والقلق. وخيم السكوت على القصر الذي كان ملاك الموت باسطا عليه جناحيه؛ لأن المتآمرين كانوا قد طوقوه بالجنود ليتمكنوا من إجراء ما أرادوا بلا أقل مقاومة.
وانسل بعض الضباط النشاوى بحميا الخمر وشهوة سفك الدم إلى القصر متذرعين إلى دخوله من منفذ في مؤخره، وكانوا قد رشوا حراس بابه ففتحوه لهم، واندفعوا إلى داخله وهم يطلقون الرصاص بلا شفقة ولا هوادة على الخفراء الذين ظلوا إلى تلك الساعة موالين لملكهم، وخفوا صاعدين إلى الطبقة العليا، ووقفوا أمام باب الغرفة حيث يرقد الملك والملكة، وكانا قد استيقظا على أصوات إطلاق الرصاص وجلبة الثائرين، ووقفا متلاصقين والاضطراب يحفهما من كل جانب، وبذل قائد الحرس جهده في صد الثائرين فلم يستطع، وكانوا قد جاءوا بفأس فأخذوا يعالجون فتح الباب بضربات شديدة منها، ولما تحقق قائد الحرس أنه لا فائدة من المقاومة، قال لهم: «احلفوا لي أنكم تبقون على الملك لكي أطلب إليه أن يفتح لكم.» فحلف له بعضهم، وحينئذ صاح صوته بأعلى: «افتح يا مولاي، افتح، إن ضباط جيشك الواقفين هنا لا يريدون بك شرا.» وعلى الفور انفتح الباب ووقف القتلة السفاحون وجها لوجه أمام مليكهم ومليكتهم، وكلاهما في ثياب النوم، ولكنهما كانا ثابتي الجأش لا يبديان شيئا من الخوف والجزع.
ثم انفصل الملك عن الملكة وتقدم إلى أعدائه، وقال لهم بلهجة الحزم والرزانة: «ماذا تريدون مني في ساعة كهذه؟ أهذه علامة إخلاصكم لمليككم؟» فلبث الضباط هنيهة صامتين وقد استولى عليهم الذعر في حضرة ملكهم وفريستهم، وكان بينهم ضابط يمتاز بجسارته وإقدامه، فصاح بهم: «ويلكم أيها الجبناء الرعاديد! ما بالكم واقفين وقد غل الرعب أيديكم، وشل الخوف قلوبكم! انظروا ها أنا ذا أري الملك ولائي وإخلاصي.» قال هذا وصوب مسدسه نحو الملك وأطلقه عليه، فخر جريحا بين ذراعي دراغا.
وإذ ذاك هب الضباط الباقون بأسرع من لمح البصر مقتدين به في إطلاق الرصاص على فريستهم حتى مزقوا جلديهما وجسديهما، ثم استلوا سيوفهم وأعملوها فيهما ثأيا وتمثيلا تقشعر لهما الأبدان. وصرخ قائدهم الكولونيل ماستشين: «اقذفوا بهما من النافذة! اطرحوا جثتيهما إلى الكلاب.» وكانت دراغا قد فارقت الحياة، فجروا جسدها المغشى بالجراح وفيه ما فيه من آثار التمثيل والتفظيع وألقوه من النافذة إلى حديقة القصر، ثم ألقوا بعدها جثة الملك إسكندر، وكان فيه بقية من الرمق، فأجهزوا عليه وقذفوا به إلى الحديقة وهم يصيحون: «ليحي الملك بطرس! ليحي الملك بطرس (وهو الملك بطرس قرجيورجيفتش الذي ملك بعد إسكندر.)» ثم تصاعدت أصواتهم تشق عنان الهواء فرحا وابتهاجا باقتراف جريمة ترتعد لشدة هولها وفظاعتها فرائص الإنس والجن.
وظلت جثتا الملكين مطروحتين في الحديقة ساعتين حتى جاء تشريكوف سفير روسيا وطلب إلى قائد السفاحين الكولونيل ماستشين (صهر دراغا) أن يدخلهما إلى القصر ولا يتركهما في المطر الذي أخذ حينئذ يهطل بغزارة. وإذ ذاك أدخلوهما إلى طبقة القصر السفلي.
وبعد الفراغ من ارتكاب هذه الجناية الشنعاء أصيب السفاحون بمس من الجنون، فطفقوا يمرحون ويرقصون ويصخبون صارخين بأعلى أصواتهم، ويندفعون كالثيران الثائرة من غرفة إلى غرفة وهم يطلقون مسدساتهم على الصور والمرايا والآنية الخزفية النفيسة، ويحطمون بالفئوس سرير الملكين ويتلفون كل غال كريم على منضدة الملكة. ثم أمروا الخدم أن يأتوهم بالخمر المعتقة من مخزن الملك، فشربوا وازدادوا سكرا وعربدة.
ولم يكتفوا بكل ما اجترحوه من الموبقات، بل زادوا عليها أن فتكوا قبل طلوع الفجر بجميع الموالين من الوزراء والضباط، وبينهم أخوا دراغا؛ وهما شابان في مقتبل العمر، لقيا حتفهما معا وخرا صريعين أحدهما بجانب الآخر، متجرعين كأس الردى ببسالة الأبطال الصناديد. ولم يكف القتلة عن سفك الدماء البريئة حتى تهددهما سفير النمسا بزحف الجيش النمسوي على بلغراد إن لم يضعوا حدا لهذه الفظائع المنكرة.
وهكذا تمت نبوة ذلك الفلاح واغتيل الملك إسكندر وملكته الجميلة التي كللت محبتها سني حياته الأخيرة بتاج الرغد والصفاء، ولكنها جلبت عليه وعليها شر عقبى، وختمت تاريخ الأسرة المالكة بأفظع فاجعة.
ابنة أخت الكردينال
قالت عقيلة دي فالروي لغاستون دي أورليان مشيرة إلى فتيات جميلات كن موضوع إعجاب ندماء الملك لويس الرابع عشر في القصر الملكي: «هل تنظر هؤلاء الفتيات؟ إنهن الآن فقيرات ولكنهن عما قليل سيصبحن ربات قصور فاخرة وثروة وافرة وحلل نفيسة وحلى غالية، وربما نلن فوق هذا كله عزا ومجدا.» وقد حققت الأيام صدق ما أنبأت به عقيلة فالروي، فتم بحرفه؛ لأن أولئك الفتيات اللواتي شغفن قلوب رجال لويس بحسنهن الباهر وجمالهن الساحر كن بنات أخت الكردينال مازارين، وقد أتاح لهن القدر أن يطلعن فيما بعد كواكب بهجة وبهاء ساطعة بين نجوم الحسن في سماء الهيئة الاجتماعية في أوروبا. فصارت ثلاث منهن دوقات وواحدة كونتس، والخامسة زوجة أحد كبار الأغنياء في إيطاليا.
ولما تمكن مازارين من بلوغ ما كانت نفسه تطمح إليه، وبات أكبر رجالات فرنسا قوة وثروة، وتملك فؤاد الملكة حنة النمسوية (ابنة فليب الثاني ملك إسبانيا وزوجة لويس الثالث عشر) وأصبح عاشقها الوحيد غير منازع (وقيل إنه كان زوجها) استدعى من إيطاليا بنات أخته الأرملة عقيلة مانشيني ليرتعن في ظلال عزه وسؤدده، ويستعين بهن على مد رواق سلطانه.
وعندما وصلن إلى بلاط فرنسا لقين ما يعجز القلم عن وصفه من الحفاوة والتكريم، وخصتهن الملكة نفسها يعطف وحنان لا مزيد عليهما، وأنزلتهن عندها منزلة أولاد لها، وجعلتهن رفيقات لعب وتسلية لابنها الفتى الملك لويس الرابع عشر ولأخيه الدوق دي أنجو الصغير، وأصبح جميع الذين في القصر يترضونهن، ويبذلون جهدهم في العناية بهن.
وكن كلهن بارعات في الحسن والجمال، ولكن هورتنس كانت بإجماع الذين عرفوها أبرعهن حسنا، ولم تلبث أن امتازت من شقيقاتها بالمكانة الرفيعة التي حازتها عند خالها، بحيث تملكت قياده وجعلته لها أطوع من بنانها. وقد يستلمح القارئ شيئا كثيرا من أخلاقها وصفاتها من مطالعة ما كتبته إلى خالها من إيطاليا وهي بعد ابنة عشر سنوات. قالت:
لقد سرني أني رأيتك تشمل هورتنس الصغيرة بشرف تذكرها والافتكار بها. ولعل دي كوتانس يتمكن من أن يصف لك مبلغ ابتهاجي بالهدية التي قدمها إلي بالنيابة عنك. وإنني موقنة بصحة ما قاله لي عن فوزي بشيء من محبتك. وغاية ما أتمناه من صميم فؤادي أن أبقى ناعمة بهذه المحبة. والله أسأل أن يرعاك بعين عنايته، ويهب لي أن أبقى دائما جديرة بشرف انتسابي إليك وشمولي برعايتك. وحسبي هناء وصفاء أن أكون ابنة أختك الوضيعة المطيعة التي تحبك من كل قلبها.
هورتنس دي مانشيني
وشرعت تعبث بقلوب الرجال وهي بعد في هذه السن. وكان أرمان دي لابور ابن المارشال مليراي أول من أسره حبها وسحره حسنها، وهي كما قلنا ابنة عشر سنوات. وأقسم ليعتزلن العالم إلى صومعة إن لم يتمكن من الاقتران بها. ومما قاله حينئذ وهو يهذي من حمى الوجد والغرام: «إن تم لي ما أروم وصارت زوجة لي فلا أبالي إن مت بعد ذلك بثلاثة أشهر!» ولكن الكردينال أبى عليه ذلك، ولم يرض به زوجا لابنة أخيه.
ولم يكن دوق سافوي شارلس عمانوئيل بأحسن حظا من أرمان، فإنه شخص إلى باريس ليخطب أشرف فتاة في فرنسا؛ أي شقيقة الملك. ولكنه لما رأى هورتنس أغمض عينيه عن الأميرة وحصر سعيه في الحصول على ابنة أخت الكردينال، وإلا عاد من حيث أتى ولم يطلب غيرها. وكاد يظفر بما أراد؛ لأن مازارين لم يطمع بزوج لابنة أخته أشرف منه، ولكن الدوق اشترط شروطا لم يقبلها الكردينال. وهكذا نراها وهي في مطلع صباها تزاحم لخطبة ودها وطلب يدها شبان يحسدها عليهم أشرف فتيات فرنسا.
وكان لويس نفسه وأخوه الدوق دي أنجو ممن تصباه هواها وتيمه جمالها، وكانت تطارحهما كليهما الوجد والغرام، وتبالغ في إخضاعهما لسلطان غنجها ودلالها، ولو شاءت لاستطاعت الاقتران بأيهما أرادت. ولما يئس لويس من أمل استمالتها إليه وجه التفاته نحو شقيقتها ماري التي كانت دونها حسنا وبهجة، ولكنها أرق منها جانبا وألين عريكة.
ولما بلغت هورتنس أشدها إذ بهلال البهاء الذي طلع في أفق حداثتها قد أشرق في فلك المحاسن بدرا منقطع النظير في كمال جماله وجمال كماله. قال بعض واصفيها: «ليس للون عينيها شبه بين ألوان العيون المألوفة، لم يكن أزرق ولا أشهب ولا أسود، بل كان مزيجا من هذه الألوان الثلاثة. فقد استأثرت حدقتاها بما في العيون الزرق من الطلاوة والحلاوة، وبما في العيون الشهب من السناء والبهاء، وما في العيون السود من تألق النور وتوقد النار، فلم يكن لهما نظير في هذا الجمال المثلث البديع. وكان لابتسامتها قوة على تليين أقسى القلوب، وعلى أنفها سيماء النباهة والنبالة البادية آثارهما على سائر ملامحها. ولها في صوتها رنة عذبة رخيمة تأخذ بمجامع قلوب المنصتين إلى حديثها، وكان لبياض لونها الناصع نقاء وصفاء يتعذر وصفهما، ولشعرها الأسود الناعم جعدة خفيفة أشبه بإكليل جمل مضفور على رأسها الأنيق.» هذا مجمل وصف هورتنس عندما فتحت زهرة صباها وأشرق بدر قسامتها وأصبحت معدودة أجمل فتاة في أوروبا.
ولم يبلغ من كثرة العشاق والمحبين حول غادة حسناء ما بلغ منهم حول هورتنس ابنة أخت مازارين. ومع أن قلبها مال إلى غير واحد منهم فإن خالها الصعب المراس كان يردهم على أعقابهم واحدا بعد الآخر، وبينهم اثنان أتيح لكليهما أن يكونا من أصحاب التيجان؛ وهما بطرس الثاني ملك البرتوغال وتشارلس الثاني ملك إنكلترة. ولو دار في خلد مازارين أن جلوس تشارلس على عرش إنكلترة كان هكذا قريبا، لما عارض في زف هورتنس إليه لتشاركه في لبس تاج الملك، ولكنه لم يتوقع حصول ذلك في وقت قريب، ولا رأى من الصواب أن يتصدى لإغضاب القابضين على أزمة الحكم في لندن في ذلك الحين. وبعد بضعة أشهر بلغه أن تشارلس الذي أبى أن يجيب طلبه لما جاءه خاطبا ابنة أخيه قد ظفر بالاستيلاء على العرش، فبعث إليه من فوره متعمدا يعرض عليه هورتنس ومعها أربعة ملايين جنيه. ولكن هذا العرض جاء متأخرا، فإن تشارلس رفض بلطف وأدب ما سبق وترجى الحصول عليه كشريد طريد.
ولم يجهل مازارين أن أيام حياته أصبحت معدودة، ومن الواجب عليه أن يبادر إلى البحث عن زوج جدير بابنة أخته المحبوبة، التي كانت مزمعة أن ترث أكبر جانب من ثروته. وبعدما أعاد النظر في جميع أسماء الذين تقدموا إلى خطبتها، ورفض قبولهم واحدا بعد الآخر لأسباب مختلفة، انتهى به الأمر في الغربلة والفرز إلى رفض الجميع ما عدا الخاطب الأول المركيز مليراي، الذي رده الكردينال منذ سنوات يتعثر بأذيال الخيبة، ولكنه ظل مقيما على ولائه لهورتنس. وفيما كان مازارين على فراش النزع أجاب طلب المركيز، وحمل الملك على أن يرقيه إلى رتبة دوق دي مازارين، وبعدما فرغ من هذا الأمر أسلم الروح.
وبعد أيام أهدى إليها خطيبها خزانة كبيرة مملوءة بالتحف الغالية والطرف النفيسة. من ذلك اثنا عشر ألف طبنجة صغيرة مصوغة من ذهب، فأهدت جانبا كبيرا منها إلى إخوتها وأخواتها، وألقت بالباقي من نافذة قصر مازارين لتتمتع بمشاهدة عدد كبير من الخدم يزحمون بعضهم بعضا في حديقة القصر لالتقاطها.
وكانت قيمة نصيب هورتنس من تركة خالها لا تقل عن خمسة ملايين جنيه، علاوة على ما يخصها من قصره - قصر مازارين - وما فيه من الطرائف التي لا تثمن. ولكن هذه العروس كانت من أنكد العرائس حظا وأسوأهن طالعا؛ لأن الدوق دي مازارين كان من أقبح شبان فرنسا صورة وأغربهم أطوارا وأقربهم إلى العته والجنون. وكان عرضة لتسلط الغيرة العمياء عليه أو استئثار الهوس الديني به. فما فعله مرة أنه أخذ مطرقة بيده ودخل أروقة قصر مازارين الحافلة بأغلى العاديات وأكرم الآثار القديمة، وشرع يحطم الأنصاب والتماثيل والصور بحجة أنها مغايرة لذوقه. قالت الدوقة: «لم أكلم خادما إلا طرده في اليوم التالي. ولم يزرني أحدهم مرتين إلا منعه من دخول القصر. وإن رآني أفضل إحدى خادماتي على غيرها لأسباب يستوجب التفضيل، أخرجها من خدمتي. ولم يكن يأذن لي في مشاهدة أقربائي ولا أقربائه.» وبهذه وغيرها من أعمال العنف والإرهاق أفعم قلب زوجته غما ويأسا. وقد تحملت غرابة أطواره وقساوته بصبر وجلد نادري المثال. ولكنها لما رأته أضاف إلى هذه الفظائع فظائع أخرى وبدد أموالها بالإسراف والتبذير ومد يده إلى جواهرها وحلاها، هجرته ملتجئة إلى دير أخوات سنت ماري.
وفي هذا الدير وجدت سيدة من نساء الأشراف كان زوجها قد سعى في إدخالها إليه. وما لبثتا أن تعارفتا وشرعتا في مداعبة الراهبات ومشاكستهن تارة بالرقص أمامهن، وطورا بازدرائهن والاستهزاء بهن. ومما فعلتاه مرة أنهما سكبتا حبرا على الماء المقدس ونضحتا الراهبات به. ومرة أخرى شرعتا تركضان في مخادع النوم وتقلقان راحة الراهبات وترشان أسرتهن بالماء. ولما فرغ معين صبر الراهبات عليهن شكون أمرهن إلى الملك، فأمر بنقلهما إلى دير آخر حيث عوملتا بالشدة والعنف.
وإذ لم تطق هورتنس الإقامة تنكرت في ليلة حالكة الأديم بلباس رجل، وهربت مصحوبة بإحدى خادماتها وهي متنكرة مثلها، ومعهما رجل يدعى كوبرفيل كان قد أعد لهما جوادا أركبهما عليه، وسار هو في خفارتهما راكبا على جواد آخر. ولما وصلت إلى ميلان (في إيطاليا) وجدت أختها ماري وزوجها في انتظارهما.
ولكنها لم تسر بملاقاة أختها لها، وودت أن تكون بمعزل عن جميع أنسبائها، فخلت في المسكن الذي اختارته لنفسها، ولم تأذن لأحد في الدخول عليها من غير الخدم وكوبرفيل الذي صحبها في هربها من الدير، وتعرضت في علاقتها به لذم الناس ولومهم؛ ولذلك لم تطل إقامتها في ميلان؛ إذ غادرتها إلى دير ثم انتقلت إلى بلدة أخرى.
وفي ميلان تمتعت هورتنس ما شاءت بمغازلة كثيرين من المحبين والعشاق. ولما برح كوبرفيل إيطاليا شغل مكانه عندها غير واحد من أهل الصبابة والهيام، مثل جاكس بلبيف النورمندي، وهو شاب بارع الحسن والجمال، والمركيز دي غريلو، والكونت دي مورسن، وسواهم من الذين تصبتهم وتيمتهم، وأذكت بينهم نار الغيرة والحسد، حتى ملت الاغتراب وسئمت مغازلة العشاق والأحباب. فعادت أدراجها إلى فرنسا يحدوها روح التوبة والندامة، وهناك تمكن الملك بعد مواصلة السعي من حملها على قبول راتب زهيد يدفعه إليها زوجها، بشرط أن يؤذن لها في الإقامة وحدها منفصلة عنه.
وفي الربيع التالي رجعت إلى رومية حيث وجدت أختها في أسوأ حالة من جراء إعراض زوجها عنها وشدة قساوته عليها. فإن محبته السابقة لها تحولت إلى فتور واشمئزاز ثم إلى بغض وكراهية، ولما شكت إليه هذه المعاملة الجائرة وعيرته غدره وخيانته، حاول أن يدس لها سما يذهب بحياتها، وحينئذ لم تر ماري بدا من الفرار والنجاة بنفسها، ورفعت أمرها إلى لويس فوعدها بحرس ينتظرونها على حدود فرنسا ويأتون بها. وعندما تم لها ما أرادت أخبرت أختها هورتنس بما عزمت عليه، وطلبت إليها أن تصحبها في فرارها، وانتهزت له فرصة غياب زوجها وخرجت مع أختها ليلا في مركبة مقفلة يحرسها رجلان. وسارت المركبة بما يستطاع من السرعة إلى سيفيتا فيكا؛ حيث توقعتا أن تجدا سفينة في انتظارهما لتسافرا عليها.
ولما وصلتا إليها أرسلتا أحد الرجلين اللذين معهما إلى السفينة التي كانت مزمعة أن تنتظرهما في مكان يبعد أربعة أميال من البلدة ليخبر ربانها بقدومهما. ثم غادرتا المركبة ودخلتا حرجة كثيفة قرب الشاطئ، ورقدتا فيها إلى الصباح حيث استيقظتا ووجدتا الرسول قد عاد وأخبرهما بأنه لم يعثر على السفينة في المكان المعين. وإذ كانت خيول المركبة قد برح بها السير وباتت غير قادرة على استئنافه، تركتاها وسارتا ماشيتين تكابدان ما لا يوصف من شدة الحر والتعب واضطراب البال لعدم وصول السفينة المنتظرة.
وعلى رغم هذه المشقات كلها واصلتا المسير بصبر ورباطة جأش حتى وصلتا إلى المكان المعهود، فرأتا فيه بدل السفينة الواحدة سفينتين، فاختارتا أكبرهما وصعدتا إليها، ولكن ربانها طلب أجرة أكثر جدا مما وقع الاتفاق عليه، مهددا لهما بأنه يقذف بهما من على ظهر السفينة إن لم تدفعا إليه الأجرة التي طلبها على الفور. ولم يسعهما إلا الإذعان والقبول. وكان كولونا (زوج ماري) قد علم بفرارها، وبعث رجالا على جناح السرعة يبحثون عنهما برا وبحرا.
وبعد تسعة أيام قضتها الشقيقتان في السفر بحرا وتعرضتا غير مرة لإخطار الغرق رست بهما السفينة في سيوتا (بلدة فرنسوية في جنوب مرسليا الشرقي) حيث استأجرتا جوادين وأغذتا عليهما سرى الليل إلى مرسليا. وعند وصولهما إليها أرسلا رجلا إلى لويس يخبره بقدومهما، ولكن هذا الرسول وقع في كمين على الطريق؛ حيث بات مجندلا بين حي وميت. ولم تلبث الأختان أن وجدتا الأعداء والمصاعب محدقة بهما من كل جانب، وذلك بسعي كولونا. ثم بلغهما ما زادهما قلقا وجزعا، وهو أن بعض الجنود كانوا قادمين إلى مرسليا للقبض على الدوقة هورتنس بأمر زوجها الدوق دي مازارين.
فلم يبق لهما أقل أمل بالوصول إلى باريس. وبلغ اليأس من هورتنس أن تركت شقيقتها وفرت إلى سافوي معللة نفسها بأن أميرها الدوق شارل عمانوئيل الثاني الذي كان أحد عشاقها وطالبي الاقتران بها ينجدها في كربتها وينقذها من الضيق المحيق بها. وقد حقق الأمير رجاءها، فإنه لقيها مرحبا بها مكرما وفادتها، وعلى الفور أعد لها قصرا وأنزلها فيه وبالغ في الاحتفاء بها. وظلت مقيمة عنده على ما شاءت من الإعزاز والإكرام إلى يوم وفاته، وحينئذ أوعزت إليها أرملته أن تلتمس لنفسها ملجأ في مكان آخر. وإذ كان السفر إلى فرنسا متعذرا عليها، وكانت لا تود الرجوع إلى إيطاليا، لم يبق أمامها سوى إنكلترة، فصممت على الرحيل إليها وسارت تقطع المسالك المتعادية والمسافات المترامية على ظهر جواد، مجتازة سويسرا وألمانيا وهولندا.
وكان تشارلس الثاني ملك إنكلترة لا يزال يذكر ابنة أخت الكردينال التي سلبت لبه وأسرت قلبه، وكان في استطاعتها الاقتران به لو أرادت عندما كان في منفاه. وقد أبصر بدر جمالها مشرقا بنور يبهر النظر ويفوق ضياء جميع الكواكب الطالعة في سماء بلاطه. فبسط لها ذراعي الترحيب والاحتفاء، وبوأها أرفع منزلة بين محظياته، وجعل لها راتبا سنويا قدره أربعة آلاف جنيه.
وبعدما كانت شريدة طريدة إذا بها قد بلغت من سمو المنزلة ورفعة الشأن ما لم يخطر في بال إنسان، فإن الملك جعلها أقرب الناس إليه، وشملها بعنايته ورعايته، وباتت قبلة أنظار الذين في قصره من الجلساء والأخصاء. وصار التغزل بحسنها وجمالها والتغني ببهائها وسنائها موضوع الأناشيد في أفواه الكبار والصغار؛ ومما أنشده فيها والر شاعر البلاط قوله مترجما:
تنقل الشمس في أبراجها انطلقت
هورتنس من بلد تجري إلى بلد
ونحونا أقبلت تغزو بمقلتها
كل القلوب فلا تبقي على أحد
وفي هذا الوقت كان جمالها الرائع قد بلغ أوج كماله فجلت به على جميع أترابها والمنافسات لها من المحظيات المشهورات في الحسن، كدوقة بورتسوث ودوقة كليفلند وغيرهما. وعلاوة على جمالها المنقطع النظير كانت ذات براعة ونباهة شأن وسرعة خاطر نادرة ساحرة، وبهذا كله خلبت العقول وسلبت القلوب، واستعبدت أكبر رجال إنكلترة وأعظمهم شأنا. حتى إن سنت أفرموند صرح جهارا بكونه عبد رق لها، وبأن أكبر شرف يناله في حياته أن يتاح له أن يراها كل يوم، وأن يكون كاتم أسرارها وشاعرها وحامي ذمارها. وعد الملك تشارلس وجودها معه الوسيلة الوحيدة لجعله أسعد الناس حالا وأنعمهم بالا. وهذا الافتتان بها - وهو أشبه شيء بالجنون - صحبه إلى قبره، ويظهر أنها انغمست في كل ما كان في بلاط الملك من الخلاعة والتهتك والدعارة وغيرها من مفسدات الأخلاق. وانقادت على الخصوص إلى رذيلة القمار انقيادا ضحت في سبيله بكل شيء، وصارت تقضي الليالي جالسة إلى مائدة المقامرة من المساء إلى الصباح، وكثيرا ما كانت خسارتها تبلغ ألوفا من الجنيهات. ولما خسرت كل ما عندها من النقود، واشتدت حاجتها إلى الدراهم، استعانت بزوجها، فأبى أن يساعدها وقال لها إن أفضل شيء تفعله هو أن تعلن إفلاسها.
وكانت في هذا الوقت قد ناهزت سن الأربعين وصارت جدة، ولكن جمالها كان باقيا في ريعان بهائه وإشراقه، وبه ظلت محاطة بالمحبين والعشاق وبينهم الشفاليه دي سواسون ابن أختها أولمبيا. هذا الشاب أولع بهوى خالته، وبلغ من شدة شغفه بها وغيرته عليها أنه دعا مناظره في هواها إلى البراز، وكان من أعيان نروج، واسمه البارون دي بارير، فأصابه بجرح بالغ أرداه بعد أيام. وهذه الكارثة راعت هورتنس، فظلت أسابيع في غرفتها لا تقابل أحدا وهي مرتدية ثياب الحداد، وعازمة أن تقضي أيامها في دير. ولكن هذا العزم لم يلبث أن زال، وعادت هورتنس إلى ما كانت عليه من الانصباب على القمار وغيره من الرذائل الشائعة المستفيضة في البلاط.
وزادت على الانغماس في القمار الإيغال في السكر، فأفرطت في تعاطيه حتى عبث بصحتها وهد أركان قوتها، فلفظت نفسها الأخير وهي في الثالثة والخمسين. وكانت قد قضت الأسبوع قبل وفاتها لم تذق فيه سوى المسكر. وعندما نعيت إلى زوجها الدوق دي مازارين نقل جسدها إلى فرنسا، وكان يأخذه معه في تجواله من مكان إلى آخر.
التاج في سبيل الحب
من يزر مكتبة جامعة لوند في أسوج ويهمه الوقوف على بعض الأمور العجيبة الغريبة يجد فيها رزمتي رسائل غرام تحتويان على ما يعد من أهم المكتوب في هذا الموضوع. وعلى مر السنين والأيام حال بياض ورق الرسائل إلى صفرة قائمة يعلوها الغبار، وفي كثير منها خفي سواد الحبر فأصبح مطموسا تكاد العين لا ترى الحروف المكتوبة به. ومع أن الأنامل التي تحركت في تسطيرها قد شلها الردى وحولها إلى تراب، فإن كلماتها لا تنفك تختلج بعامل الحب الذي أوحى بها منذ أكثر من مائتي سنة. وفي كل صفحة منها وصف شائق شامل لجميع الأدوار التي تتقلب فيها حوادث الحب والغرام. فمن قطيعة وصد ويأس إلى تلاق وتواصل وتشاك وتباك، ومن غيرة وتظلم وتنافر إلى مصالحة ومسالمة ومسامرة ومنادمة، وغيرها من الأمور التي ربطت قلبي هذين العاشقين برباط الحب المتين، وفي سبيله ضحى أحدهما بحياته وبذل الآخر حريته وتاجه. •••
ولدت صوفيا دورثيا - بطلة فاجعة من أعظم فواجع الحب في تاريخ البشر - في قلعة سل (في ألمانيا) في يوم من شهر سبتمبر سنة 1666، وهي ابنة جورج وليم دوق سل من زوجة غير شريفة المحتد اسمها إليونور دولبروز ابنة مركيز فرنسوي، كانت على جانب عظيم من الحسن والجمال. ومع ولادتها في قصر ملكي وكون أبيها كبير أسرة برونسويك لونبرغ العريقة في المجد والشرف فإن أنسباءها وذوي قرباها وأصحاب الشرف الأسمى والمقام الأسنى أنكروها وتبرءوا منها، وكان أشدهم ازدراء لها واستهزاء بها الدوقة صوفيا زوجة إرنست أغسطس أخي دوق سل، وجدة جيمس الأول ملك إنكلترة.
ومع هذا الاستقبال الشائن الذي لقيته صوفيا دورثيا من أنسباء أبيها نالت أكبر محبة وأعظم إعزاز من والديها وأهل بلاط سل. وهذا كله لا يستعظمه من ينظر الآن إلى صورتها في أحد متاحف الصور الجميلة، ويشاهد على محياها المحاسن الباهية الباهرة التي خصتها بها الطبيعة وجعلتها أجمل فتاة في عصرها. وتدرجت في سني حداثتها مترقية في كل ما جعلها كعبة الأفكار وقبلة الأنظار. وقضت هذا الطور - طور الحداثة - في فرح وسرور ولعب ولهو مع أولاد من سنها، بينهم الفتى الجميل الكونت فليب فون كونغسمارك الذي اتصل بها فيما بعد اتصالا انتهت فيه حياة كل منهما بفاجعة أليمة.
ولما كانت دورثيا ابنة عشر سنوات ذهب أبوها دوق سل بزوجته - والدة دورثيا - التي كانت دونه في شرف المحتد إلى الكنيسة، حيث احتفل باقترانهما رسميا أمام أهل البلاط، وكان ذلك بموافقة إمبراطور ألمانيا. فأصبحت إليونور المنبوذة المحتقرة زوجة ملك سل، وارتقت ابنتها إلى مصاف الأميرات. وهذا الشرف العظيم اتفق أنها نالته عندما بلغ هلال جمالها التمام، وبات موضوع حسنها ورفعة شأنها ووفرة غناها حديث الخاص والعام.
وبعدما كانت موضوع الهزء والازدراء عند دوقة صوفيا - زوجة عمها - المتغطرسة صار لها عندها شأن عظيم، وعزمت أن تخطبها لابنها جورج لويس؛ لأنها رأتها فائقة في حسنها وجمالها وعلمها وتهذيبها وكثرة ثروتها؛ لأنها وارثة أبيها الوحيدة. فباتخاذها زوجة لابنها تمهد سبيل الاتحاد بين إمارتي سل وهنوفر. وكان زوجها إرنست أغسطس صاحب عرش الإمارة الثانية.
وكانت الدوقة صوفيا معروفة بمضاء العزيمة وقوة الإرادة، فما أبطأت أن مهدت عقبات الموانع وذللت أعناق الصعاب وعقدت إكليل ابنها على ابنة عمه الأميرة صوفيا دورثيا. أما العروس فقد قال فيها بعض واصفيها: «إنها كانت حنطية اللون سوداء الشعر نجلاء وردية الخدين جميلة المبسم طويلة العنق، وجميع ملامحها وأعضاء جسدها متناسقة متناسبة على ما يرام من حسن الانتظام وجودة الالتئام. وقد استوفت قسطها من فصاحة اللسان وسرعة الخاطر وسلامة الذوق، وضربت بسهم كبير في العلوم والآداب وفنون الرقص والموسيقى وغيرهما.» أما الفتى الأمير جورج لويس الذي لنكد طالعها اختير زوجا لها، فكان لسوء الحظ جلفا فظا أخرق سيئ الأخلاق وفاسد الآداب.
وهذا العقد كان من أشأم عقود الزواج طالعا وأسوئها مصيرا، ولما علمت الأميرة دورثيا به انقضت عليها صاعقة الغم والأسى، وعندما قدم إليها أبوها هدية الدوقة صوفيا، وهي تمثال صغير لصورة جورج لويس مرصع بالألماس ضربت به عرض الحائط ضربة عنيفة، سحقته ونثرت حجارة الألماس في أرض الغرفة. ولم ترض أن تشاهد خطيبها إلا بعدما ألحت عليها والدتها وذرفت دموع التوسل والاستعطاف. وحين وقعت عيناها عليه سقطت مغمى عليها في حضن والدتها، ولما وقفت بجانبه يوم الاحتفال بزفافها إليه في كنيسة قلعة سل غشيت المعبد ظلمة مطبقة تكاد تلمس باليد، وحالت جلجلة السحب والعواصف دون سماع شيء من أصوات الكهنة والمرتلين.
وإن لم تكن غلطة زوجها وصاعقته كافيتين لإخماد أنفاس سعادتها وتصويح زهرة هنائها في فجر صباها - وكانت ابنة ست عشرة سنة فقط في يوم عرسها - فقد زاد عليهما ما لقيته من العنت والانزعاج في أسلوب معيشتها في بلاط هنوفر؛ حيث حفتها مجالي الأبهة والسؤدد، ومظاهر العظمة والفخامة، وقيدتها أغلال الاحتفاظ بقواعد المعاشرة وآداب السلوك. فلا يؤذن لها في الخروج من القصر إلا في مركبة فخمة مذهبة تجرها الجياد المطهمة يعلو جيادها الخفراء والحجاب ويتقدمها العداءون. هذه الزخارف والبهارج ثقلت وطأها على العروس الحديثة السن، فحنت نفسها إلى عيشة اللهو والمرح في ظلال حديقة القلعة في سل مع رفيقاتها ورفقائها أيام حداثتها. ومما ضاعف أسباب الحسرة والوحشة عندها أنها لم تسعد قط في بلاط هنوفر بسماع كلمة لطف أو برؤية نظرة حنان تتعوض بهما ما فقدته من حنو والدتها ولطف أبيها. لم تجد شيئا ينسيها لذة قبلات الأم وابتسامات الوالد. فلم يكن لها من التعزية سوى معاشرة وصيفتها التي استصحبتها، فكانت تخلو بها متذكرة مسرات أيامها الغابرة.
وكان شقاء حالها ينمو ويزيد على مر الشهور وكرور السنين؛ لأن إهمال زوجها لها وعدم مبالاته بها تحولا شيئا فشيئا إلى جفاء فقسوة فشراسة وحشية، فإنه لم يكتف بتخليه عنها وإغفاله لها، بل زاد عليها أن نقض عهد محبتها وتبدل بها على مرأى ومسمع منها الهيام بغيرها، كعقيلة بوش وعقيلة فون شولنبرغ الضخمة الجسم والخشنة الملامح التي جعلها فيما بعد عندما صار ملك إنكلترة دوقة كندل. ولما وبخته زوجته على خيانته ونكثه لعهد المحبة والولاء استشاط غيظا وحنقا، وأمعن في تنقصها وتحقيرها. وقد رزق منها ابنا وابنة، ولكن هذه العلاقة الجديدة بينهما قصرت على أن ترده عن غيه وتستميله إلى الفتاة التي عاهدها على الولاء والوفاء.
فليس عجيبا بعد هذا أن نرى الأميرة دورثيا ناشطة من عقال الخضوع للذل، وقد أبت عليها عزة نفسها احتمال الضيم، وتاقت إلى المؤاساة والمحبة، فأتاح لها القدر الحصول عليهما كلتيهما متنكرتين في صورة غارة خطيرة؛ فبعد زواجها بست سنوات جاء إلى بلاط هنوفر الكونت فليب كونغسمارك أليف حداثتها، وقد أضحى الآن شابا في الثامنة والعشرين من سنه، جميل الطلعة نبيل الشأن ذائع الصيت في البسالة والإقدام، وقد استطارت شهرة بأسه وشجاعته في أنحاء أوروبا، وكان ممن يشار إليه بالبنان في شدة ذكائه وكثرة غناه وفرط سخائه، فلقي في بلاط هنوفر ما يستحقه من الحفاوة والإكرام. ولكونه جنديا متفوقا في الفنون العسكرية ولاه الدوق أرنست هنوفر قيادة حرسه، وأصبحت أبواب القصر مفتوحة أمامه يدخل ويخرج منها كلما شاء. وكانت الأميرة دورثيا رفيقته في اللعب منذ عشر سنوات أشد سكان القصر ترحيبا به؛ إذ وجدت به خير جليس ينصت إلى سماع شكواها المرة بملء الشعور والمؤاساة.
وقد يتعذر تصور موقف أشد تعرضا للخطر من موقف خلو الأميرة بصديقها الحميم القديم؛ فإن محبة كونغسمارك في أيام حداثته لدورثيا الصغيرة - تلك المحبة الطاهرة النقية - أخذت تتحول الآن شيئا فشيئا إلى غرام وهيام. وهذا الشغف الشديد الذي تملك فؤاده جرف تياره قلب صوفيا دورثيا، ولكن لا على رغمها، بل برضاها واختيارها. ولما ذهب الكونت إلى بلاد المورة لمحاربة الأتراك أخذ قلب الأميرة معه، ومن هذا الوقت ابتدأت المكاتبات بينهما وانتهت بمقتل كونغسمارك.
فمما قاله لها في أول رسالة بعث بها إليها: «ما أغلى ما أتكلفه في سبيل محبتي لك. فهل يتاح لي أن أتمتع بمشاهدتك مرة أخرى يا حياتي وإلهتي؟ ومجرد افتكاري في احتمال انقطاع الأمل من تلاقينا هو عندي عبارة عن الموت، بل شر منه. فلا يخطر هذا الاحتمال على بالي إلا ويدفعني إلى البخع والانتحار. ولكن لما كان من المحتم علي أن أعيش، فإن حياتي تكون دائما وقفا عليك.» ثم كتب إليها بعيد ذلك: «أعندك أقل ريب في حبي لك؟ إنه يفوق الوصف، والله على ما أقول شهيد. وليس الغم الذي أعانيه سوى نتيجة مفارقتي لك، وقد يصعب عليك تصديق كلامي هذا، ولكنه كلام رجل شريف لم يتعود الكذب قط. إذن ثقي بما أقوله لك، واعلمي أن جزعي كثيرا ما يشد وطأته علي حتى أوشك أن أغيب عن صوابي ... ولولا كتابك الذي بعثت به إلي لكنت في شر حال. إني بملء الرضا والمسرة مستعد أن أضع عند قدميك حياتي وشرفي ومستقبلي وكل ما أملكه.»
وكثيرا ما كانت هذه الرسائل تتضمن وصف ما يعانيه من تباريح الغيرة واليأس. فقد كتب في واحدة منها يقول: «لقد ساءني ما آنسته في كتابك من الفتور، وقضيت ليلي في أرق وحزن ويأس، فجثوت على ركبتي والدموع تنهال من سحب أجفاني، وابتهلت إليه تعالى أن يريحني من حياتي إذا صح أنك هجرتني ونسيتني.»
ثم كتب إليها في رسالة أخرى: «لا يسعني أن أصف لك شدة حزني وأسفي عندما علمت أنك كنت بين ذراعي غيري. إن محبتي لك أشبه بالعبادة، بل هي العبادة نفسها. ومع هذا كله لا يمكنني أن أراك لغيري. إن عذابي من جراء هذا الأمر يفوق جميع أنواع العذاب التي في جهنم. فمتى ترأفين بي وتعطفين علي؟ متى أتغلب على ما أراه فيك من فتور وقلة اهتمام؟ أأظل إلى الأبد محروما التمتع بلذة مسرة تامة خالية مما يكدر صفاءها؟ إن مسرة كهذه أنشدها عندك، فإن لم تسعديني بالحصول عليها فعلى الدنيا كلها السلام.» ولما رقت الأميرة له وضربت له موعدا لاجتماعهما كتب إليها يقول: «أرى الدقائق في عيني أطول من السنين. فمتى تحين الساعة الثانية عشرة؟ متى يأتي الأجل المضروب؟ الليلة! نعم، نصف الليل أعانق أجمل غادة، وأقبل أعذب ثغر. حقا إن سروري يكاد يقتلني!»
ولم تكن رسائل الأميرة إليه تقل عن رسائله إليها من حيث وصف لواعج الشوق وتباريح النوى؛ فقد كتبت إليه مرة تقول: «جرعني فراقك مرارة لا أنساها إلا إذا ذقت حلاوة لقائك. إن احتمال فراقك فوق طوقي، ووقتي أقضيه بالبكاء حتى يغشى علي. لقد أحببتك حبا يفوق جميع ما عرفه الناس من حب النساء للرجال. والحق أقول لك إن حبي هذا سينتهي بحياتي.» ولما كان كونغسمارك في ساحة القتال ساورتها المخاوف فكتبت إليه: «إن كنت تحبني فابذل ما تستطيعه من العناية بنفسك والمحافظة على حياتك. وأقل مكروه تصاب به يكون سببا للقضاء على حياتي. ولكن ... يا لسروري وابتهاجي حين ألقاك عائدا إلي سالما! حينئذ يتعذر علي أن أملك قياد نفسي، فيفتضح أمري لدى كل من يراني. ولكن هذا لا يهمني؛ لأنك أهل لأن أضحي في سبيل هواك بكل عزيز وغال.»
وكتب إليها كونغسمارك جوابا عن إحدى رسائلها يقول: «طلبت إلي أن أزيدك إثباتا وتوكيدا لحبي لك. فاعلمي أني لن أحول عن عهد ولائي ما دام في عروقي قطرة دم، وما دام في صدري نفس يتردد. فأنت أغلى ذخر عندي وأنفس كنز. وإني لأبذل كل ما في العالم ثمن قبلة من شفتيك الحلوتين. إني أكره الحرب وأمقت كل ما يقضي بفصلي عنك. فمن لي بأن أكون دائما معك في الحياة والموت؟»
وبعدما وصلا إلى هذه الحالة من شدة شغف كل منهما بالآخر، لم يبق في إمكانهما أن يظلا في مأمن من عيون الرقباء والعذال. وخافت الأميرة على الكونت من كيد الكائدين، فتوسلت إليه أن يكف عن المجيء إليها فأجابها: «لا أنقطع عن زيارتك إلا إذا انقطعت عن العالم بأسره وصرمت حبل حياتي بيدي.»
وقد تلاقيا عدة مرات خلسة، وكانا في كل دقيقة منها عرضة لخطر الوقوع في أيدي الرقباء والجواسيس. وكتبت إليه الأميرة مرة عن موعد لقاء، فقالت: «أتوقع طروقك من الساعة العاشرة مساء إلى الساعة الثانية بعد نصف الليل. ولست تجهل العلامة أو الإشارة التي اتفقنا عليها، وباب السور يبقى دائما مفتوحا. فلا تنس إبداء الإشارة الأولى. وسأنتظرك تحت الأشجار. وبفروغ صبر أتوقع قدومك. ولو كان الفرح يقتل لم يبق علي. ولسوف تجدني كما تعهدني مستعدة لأن أمتعك بقبلات حارة فتأسف أشد الأسف على ارتيابك في صدق مودتي.» أما شدة ابتهاجهما بهذه الاجتماعات السرية على رغم المخاطر المحدقة بهما فقد فاقت الوصف، وأشار إليها الكونت غير مرة في رسائله إلى الأميرة؛ من ذلك قوله: «لا أستطيع أن أنسى تلك الدقائق الحلوة اللذيذة. فما كان أعظم سرورنا وأشد اغتباطنا. ليت تلك الدقائق تحولت إلى شهور وسنين وصارت العمر كله، أو ليتها على الأقل تعود من وقت إلى آخر. بل ليتني قضيت نحبي في آخر دقيقة منها ثملا براح حبك ورحيق ثغرك.»
ولكن من المعلوم أن سعادة كهذه لا يكتب لها طول البقاء، بل تكون دائما قصيرة العمر وسريعة التحول والزوال؛ لأنه كان لهذين العاشقين المستهامين كثيرون من الأعداء في بلاط هنوفر، وجميعهم واقفون لهما بالمرصاد يبثون عليهما العيون والأرصاد، ويخفون الحبائل والمصايد، وكان أشدهم اجتهادا في التنكيل بهما الكونتس بلاتن محظية دوق هنوفر، فإنها كانت قد سبقت وعرضت لفون كونغسمارك وراودته عن نفسها، فأعرض عنها مزدريا لها ومستخفا بها، ومضرما في قلبها نار ضغينة لا تعرف الخمود. وحدث أن كونغسمارك أقام حفلة ذات ليلة تنكر فيها الراقصون والراقصات وحضرتها الأميرة وغيرها من أعضاء الأسرة المالكة، وفيما كان المدعوون جالسين حول مائدة الطعام سقط قفاز الأميرة على غفلة منها، ورأته الكونتس بلاتن، فسولت لها نفسها الشريرة انتهاز الفرصة السانحة للانتقام، والتقطت القفاز وأخفته، ثم طلبت إلى كونغسمارك أن يخرج معها لقضاء بضع دقائق تحت خميلة في الحديقة، وهناك أوغلت في مداعبته ومغازلته وشغلته عن سماع وقع خطوات، حتى وقف رجلان أمامهما في ضوء القمر؛ وكانا الكونت بلاتن وجورج لويس زوج الأميرة، فاضطربت الكونتس وصاحت تنذر كونغسمارك وتستعجله في الهرب، وفي أثناء فرارها ألقت القفاز عمدا، فالتقطه جورج لويس وعرف أنه لزوجته، فحمي غضبه، وكان منذ وقت طويل يرى ما يريبه من العلاقات بين زوجته وكونغسمارك. والآن لم يبق عنده أقل شك في أنه هو ذلك الرجل الطويل القامة الذي أبصره في ضياء القمر يفر بالأميرة من أمامهما.
وقد اقترنت هذه المكيدة بالنجاح الذي توقعته الكونتس؛ فإنها أسفرت عن وقوع خصام شديد بين جورج لويس وزوجته. وأخذت الأمور تسير سيرا حثيثا نحو الخاتمة المحزنة، وظل العاشقان الوالهان ثملين براح الغرام وغافلين عن الخطر المحدق بهما.
ففي مساء يوم من شهر يونيو كتبت الأميرة إلى كونغسمارك تدعوه إلى موافاتها في جناح القصر المختص بها، فأسرع إليها مفتكرا ومتقلدا سيفا قصيرا تحت ثيابه، وأدخلته الوصيفة إلى حجرة الأميرة. وكان جواسيس الكونتس يراقبونه، فساروا في أثره حتى دخل الحجرة، وذهبوا على الفور وأخبروا الكونتس، فطيرت الخبر إلى دوق هنوفر، ففوض إليها أن تضع أربعة جنود من حملة الرماح والفئوس خارج غرف الأميرة ليعتقلوا كونغسمارك عند خروجه منها. ولم تبطئ بأن جاءت بأربعة الجنود وأقامتهم على أبواب الغرف، وأصدرت إليهم أمرها قائلة: «يجب أن تقبضوا عليه حيا أو ميتا.»
وبعد ساعات قبل الكونت الأميرة قبلة الوداع وانطلق جذلا مسرورا حتى وصل إلى الباب الذي دخل منه، وكان قد غادره مفتوحا، فإذا به مقفل! وفيما هو يدور ليعود من حيث أتى انقض عليه الجنود الأربعة من مكمنهم واصطادوه كالجرذ في الفخ. ولكنه عزم أن يموت موت الجندي الباسل في ساحة القتال، فاستل حسامه وحمي وطيس الكفاح بين أربعة هاجمين على واحد، وهذا الواحد أشد من الأسد بأسا وإقداما، ومن أبرع رجال أوروبا في استعمال السيف. فعاجل أحد الأربعة بضربة جندلته قتيلا وأتبعه الثاني، وإذ ذاك انشطر حسامه شطرين وأصابته ضربة فأس على رأسه فخر صريعا، وتلتها طعنة رمح اخترقت حشاه، ولكنه عند سقوطه صاح: «أبقوا على الأميرة! أبقوا على الأميرة البريئة!»
وكانت الكونتس بلاتن مختبئة وراء الباب وشاهدت فريستها مطروحا مضرجا بدمائه، فبرزت إليه تجرعه غصص التشفي والشماتة، وكان لم يزل فيه بقية رمق، فلما رآها حانية عليه تلحظه بعين الفرح والسرور شرع وهو يلفظ النفس الآخر يمطرها بوابل اللعنات حتى أسعر نار غيظها وحنقها، فرفعت رجلها ووطئت فاه بأخمص قدمها.
وبعد دقائق معدودة قضى كونغسمارك نحبه واسم الأميرة التي بذل حياته في سبيل محبتها ملفوظ مع آخر نفس خرج من فمه. وقبل طلوع الفجر جروا جثته إلى حفرة مملوءة بالجير، فألقوها فيها وأخفوها عن الأنظار.
وبعد أيام قضتها الأميرة متقلبة على جمر الانتظار علمت بمصرع حبيبها، فبلغ منها الحزن واليأس مبلغا يفوق حد التصور. وكانت منذ سنوات قد كتبت إليه تقول: «إن حياتي مرتبطة أشد الارتباط بحياتك؛ فلن أعيش دقيقة بعدك.» والآن لم يبق لها بعد موته سوى أمنية واحدة؛ وهي أن تموت وتدفن بجانبه. ولكن المراقبة الشديدة التي أحيطت بها من كل جانب حالت دون مرامها، وغادرتها تتجرع مرارة اليأس. •••
وبعد مقتل كونغسمارك فتشوا منزله وأخذوا أوراقه التي أعلنت مطالعتهم لها خفايا علاقات الأميرة بعاشقها، وشدة كراهيتها لآل هنوفر عموما وزوجها خصوصا، فلم يبق عند أحد أقل ريب في خيانتها، فنقلوها إلى قرية أهلدن البعيدة حيث شددوا عليها المراقبة، وبعد قليل صدر الحكم بطلاقها من زوجها. ومن ذلك الحين عدت ميتة في صورة حية، فانقطع ذكر اسمها في بلاد هنوفر، وحذف من صلوات الكنيسة، ومحي من السجلات الرسمية، وأوصدت دونها أبواب بلاط أبيها، فقضت اثنتين وثلاثين سنة رهينة أسر ذاقت فيه أمر صنوف الإرهاق والإذلال، ولم يكن يرجى لها الخلاص منه إلا بالموت، ولم يؤذن حتى لوالدتها أن تراها. وهذا الحرمان كان أمر جرعة في كأس عذابها وعقابها.
وفي سنة 1714 ارتقى زوجها إلى عرش بريطانيا باسم جورج الأول على أثر وفاة الملكة حنة. ولما بلغها هذا الخبر لم يبد منها أقل زفرة حزن أو أسف على ما أضاعته من العظمة والمجد في حرمانها حق التمتع بلقب ملكة إنكلترة، ولم تطلب سوى منحها حق حرية الحياة. وهذا الحق أباه زوجها عليها ولم يسمح لها به، وبعد ثلاث عشرة سنة أجاب الموت ملتمسها وأراحها من عذابها، والتابوت الذي ضم رفاتها ألقي في قبو القلعة بما لا مزيد عليه من الازدراء والاحتقار ريثما يصدر أمر زوجها الملك بدفنها. ثم نقلت جثتها ليلا إلى كنيسة سل؛ حيث دفنت تحت المذبح من غير أن يصلى عليها.
وبعد شهر برح جورج الأول لندن إلى هنوفر، فلما وصل إلى تخوم هولندة، وكان الوقت نصف الليل ألقيت إليه رسالة من نافذة المركبة وسقطت على ركبتيه، وكانت هذه الرسالة من زوجته المتوفاة تعنفه فيها على شدة إساءته إليها وجوره عليها، وتدعوه إلى الحضور معها في غضون سنة، ويوم للمحاكمة أمام كرسي الديان العظيم، فلم يفرغ من تلاوة الرسالة إلا سقط مغشيا عليه. ولم يعتم أن أسلم الروح ومضى ليقف أمام محكمة الله العادلة. وكانت وفاته في المكان الذي ولد فيه - قصر أونسبروك - منذ سبع وستين سنة.
سيدة فرسايل المجهولة
في يوم من شهر مايو سنة 1858 احتشد جمهور غفير أمام منزل عليه رقم 11 من شارع مارشه الجديد في حي سنت لويس من فرسايل يتلون بمزيد الدهشة والاستغراب ورقة كبيرة مكتوبا عليها بيان تركة رجل معدة للبيع، وهذا الرجل كان في حياته كلها معروفا باسم الآنسة هنريت جني سافليت دي لانج. وقد أمعنوا في القهقهة والضجيج ساخرين من الأشياء المعروضة للبيع، «بينها أدوات زينة امرأة وثلاثين حلة معظمها من الحرير وغيرها.»
ولو أن صاعقة انقضت على فرسايل لكان ذعر سكانها أقل جدا من ذعرهم حين علموا أن الآنسة دي لنج كانت رجلا! ولم يكن في فرسايل من يجهل هذه الآنسة العجوز الهرمة الطويلة القامة الضاوية العجفاء، التي كانت في أواخر أيامها كالخيال من شدة النحول والهزال، وكانوا يرونها كل يوم في الأسواق والشوارع إما لشراء ما تروم ابتياعه وإما للتطوف والتجوال، ووراءها زرافات من الصبيان يزعجونها بصخبهم وضوضائهم.
فمن كانت هذه المرأة المجهولة التي جالت بينهم كل يوم غير ملتفتة إلى أحد ولا حافلة بأحد؟ هذا سؤال ظل سنين طويلة ملء الأفواه تردده الألسنة والشفاه، ولم يستطع أحد أن يجيب عنه، وكانوا يعلمون أن لها أصدقاء كثيرين من ذوي المقامات الرفيعة والمناصب السامية.
والآن قد توفيت وزاد سر حياتها غموضا وخفاء. كانت الآنسة دي لانج رجلا قضى هذه السنين كلها متنكرا في زي امرأة، وتمكن من حفظ سر التنكر مكتوما. ولما ذاع بعد وفاته اتسع للناس مجال التكهن والتقول والبحث عن حقيقة الرجل وأسباب تنكره، فزعم بعضهم أن هذه السيدة المجهولة لم تكن سوى دوفين (لقب ولي العهد في فرنسا سابقا) الذي كان منذ سنين بعيدة قد فر من سجنه، وذهب إلى حيث لا يعلم أحد عنه شيئا، فلا يبعد والحالة هذه أن تكون الآنسة دي لانج لويس السابع عشر صاحب الحق الشرعي في عرش فرنسا؛ لأنها بالغة السن التي كان يجب أن يبلغها هو لو بقي حيا. وعلاوة على هذا كله تذكروا المشابهة التي كانت بينها وبين والد دوفين أي لويس السادس عشر - الملك المقتول. وهذا الزعم تناقلته الألسنة، وسمع به سكان فرسايل فرسخ في أذهانهم كلهم أن السيدة الخفية هي دوفين الضائع، الذي عاش بينهم عيشة الذل والشقاء وغيره - الذي اغتصبه عرشه - تمتع بما شاء من العظمة والمجد والرغد والصفاء.
ولكن هذا يخالف ما روته الآنسة عن نفسها؛ فإنها منذ خمسين سنة جاءت إلى باريس مدعية بأنها ابنة م. سافلت دي لانج الذي كان أمين الخزانة الملكية في عهد لويس الخامس عشر. وقالت إن أباها جر الخراب على نفسه بأن أقرض الكونت دارتوي خمسة ملايين فرنك ومات فقيرا متربا، وغادرها بائسة تعيش على أبواب أهل النجدة والمرحمة. وبعد زوال عهد الذعر والإرهاب جعلت لها الحكومة راتبا سنويا جزاء إخلاص أبيها وأمانته. وأعدت لها مسكنا في قصر فرسايل. وهذا وذاك تعويض حقير عن ملايين الفرنكات، ولكن إذا كان الكثير خيرا من القليل، فالقليل خير من العدم.
وكثيرون من عظماء رجال فرنسا وشريفات نسائها عطفوا على الآنسة دي لانج المنكودة الحظ، ومدوا إليها أيدي المساعدة ورحبوا بها في قصورهم وأنديتهم. وكان صوانها مفعما بالهدايا النفيسة الفاخرة من الأمراء والأميرات، وشملتها الملكة إميليا والأمير لويس نبوليون برعايتهما وجعلاها تحت حمايتهما.
ومع هذا كله لم يلح على وجهها أقل شيء من علامات طيب النفس ونعيم البال، بل كانت على الدوام عرضة للقلق والانزعاج مذعورة مروعة ومسلوبة الراحة والطمأنينة، ولا تستطيع القرار في مكان واحد، بل كانت تنتقل من محل إلى آخر في باريس وفرسايل كالحركة الدائمة التي لا تعرف السكون حتى أحصي عدد عنواناتها المتغيرة بالمئات، وفيها كلها ظلت محاطة من كل جانب بحجب الغموض والخفاء بين الذين تساكنهم وتجاورهم، فلا يستطيعون أن يعرفوا عنها شيئا على الإطلاق. ولا بد أنها كانت على شيء من المحاسن الشائقة الجذابة، فقد عرض لها في حياتها حادثتا عشق وغرام كانتا كلتاهما موضوع حديث الخاص والعام، وفي إحداهما استعدت للزواج حتى باتت منه قاب قوسين أو أدنى. وكان أحد الخطيبين كاتبا في الحكومة والآخر ضابطا في الجيش. وهذا الأخير ظل ست عشرة سنة مقيما على ولائه لها وغرامه بها، ويقال إنه مات متجرعا غصة تركها له وفصمها لعقد خطبته.
ومن رسائل هذا الضابط يستدل على أن حبيبته نغصت عيشه وكدرت صفاء هنائه بنشوزها وغرابة أطوارها. وقد كتب إليها سنة 1831 يقول: «لم يستطع مرور الزمن أن يغير شيئا من شعوري نحوك. وهذا الشعور أنت التي أنشأته في منذ سنين عديدة. ومع ذلك أراك لا تزالين تسرين بعذابي، تروعيني كل يوم بالتهديد والتعنيف والازدراء. وعلى رغم هذا كله لا أنفك مستعدا لعمل ما تأمرينني به.» ولكنه بعد ثماني سنوات يحطم نير استعبادها، ويكتب إليها قائلا: «يخيل إلي أنه لا سبيل إلى ترضيك. ففي كل يوم أذرف دموع الأسف والندامة على معرفتي لك، وألعن اليوم الذي لقيتك فيه.»
ومما يدل على شدة تمكنها من استمالة العشاق إليها وإغرائهم بها ما كتبه إليها خاطب آخر، قال: «لم أجسر على أن أرجع إليك نقابك بنفسي. وإني لآسف على تحميلك مئونة انتظاره، فأرده إليك الآن مصحوبا بألوف من القبلات.» ثم كتب إليها بعد ذلك يقول: «كم يمكنني أن أمتع نفسي بمشاهدتك هذه الليلة؟ ولك أن تكتبي إلي بأن تربطي حجرا صغيرا بالرسالة وترميها من النافذة، فإذا كنت في منزلك حين رجوعي الساعة التاسعة، فإني أقف في النافذة وأشير لك بعزمي على الخروج فتخرجين أنت أيضا، وستكون الإشارة ما تسمعينه من إيقاعي على كمنجتي.»
هذا ما فعلته في أيام صباها؛ إذ كانت قادرة - مع أنها رجل - على اجتذاب قلوب الشبان واصطيادهم بحبل المغازلة والمراودة. وظلت نصف قرن تمثل هذا الفصل؛ فصل ادعاء كونها فتاة بما لا مزيد عليه من النجاح، حتى إنه لم يخامر أحدا قط أقل شك في جنسها. واستمرت تقبض الراتب من الحكومة بادعاء كاذب وباسم مزور، وتنعم بمجالسة ومعاشرة أشرف الأسر في فرنسا. ولما أصابها المرض الأخير الذي ذهب بحياتها في شارع مارشه الجديد عنيت اثنتان من جاراتها بتمريضها والسهر عليها. وفي صباح أحد الأيام دخلتا غرفتها فوجدتاها ميتة على فراشها، وجيء بطبيب يكتب شهادة الوفاة والإذن في الدفن. وفيما كان الاستعداد جاريا في تكفينها ووضعها في التابوت اهتز المكان بضجيج الدهشة والاستغراب، وتناقلت الألسنة بسرعة البرق خبر كشف السر المكتوم؛ أي كون الآنسة المتوفاة رجلا. وبعد يومين صدر أمر الحكومة بدفن «الآنسة» في مقبرة سنت لويس بنفقة فرنكين وخمسين سنتيما!
ولما فتحوا المنزل الحقير الذي كان سفليت مقيما فيه في شارع مارشه الجديد وجدوا فيه من الأمتعة والأعلاق والعروض التي لن يخطر على بال إنسان الاهتمام بجمعها، فمن كراسي متباينة الحجم متغايرة الطرز إلى موائد مختلفة الأشكال، وآنية طبخ متنوعة وحلل من حرير مبعثرة، وآنية خزف مكسرة، وزجاجات فارغة وبراميل محطمة، وعشرات من النقب (التنانير) المختلفة الألوان، وقبعات ونمارق ووسائد وأطر صور (براويز) وطاقة زهر في أصيص من خشب ومحقنة زنك. ووجدوا في صوان مقدارا كبيرا من المنسوجات الحريرية الفاخرة وأوراق بنك بقيمة 21000 فرنك. وفي صندوق كبير عدة أردية من المخمل النفيس وتسعة آلاف فرنك ذهبا. وفي صندوق صغير سندات مالية على الحكومة بقيمة ألوف من الفرنكات، ويقول المسيو لينوتر الذي لخصت عن كتابه تفاصيل هذه القصة: «من العجيب أنه لم يرد ذكر المواسي بين المتروكات!»
ولم يعثروا بين هذه المتروكات على أقل شيء يستعان به على معرفة شخصية صاحبها الذي اتخذ كل ما استطاع من الحيطة والحذر لكتمان سره في صدره ودفنه معه في قبره. والقبس الوحيد الذي ألقى بعض الإيضاح على ظلام الإبهام الحالك إنما هو البيان الآتي، وقد وجدوه مكتوبا على قصاصة ورق بحروف غامضة مطموسة:
لقد جاء اليوم الذي فيه أهتك سر الخفاء عن خطاياك الفظيعة. أفلا ترى أن جميع الذين حولك أخذوا يستشفون سر ريائك ونفاقك؟ فعليك الإسراع في تطهير نفسك من أرجاس الشر وأدناس الإثم ... الوداع أيها الوحش الضاري الذي تقيأته الأبالسة. عد إلى أورليان لبيع الجبن والتوابل. الوداع يا ميشيل!
أفكان اسمه سابقا ميشيل وكان يتعاطى بيع الجبن والتوابل في أورليان؟ ومن كان هذا الرجل - أو المرأة - الذي ظل سر حقيقته أكثر من أربعين سنة موضوعا لأحاديث الناس وضربهم في مفاوز الحدس والتخمين؟ ويقال إن بعض معاصريه عاشوا وماتوا وهم يعتقدون أنه لم يكن سوى دوفين فرنسا. ورجح غيرهم أنه في أيام صباه قتل ابنة سفليت وادعى أنه هو هي رجاء تمكنه من إثبات حقه في الخمسة ملايين فرنك التي أقرضها أمين الخزانة الملكية للكونت دارتوي. ولم تزل الحقيقة مجهولة حتى كشف عنها المسيو لينوتر حجاب الخفاء بعد وقت طويل قضاه في البحث والتنقيب، وهي لا تقل غرابة عما سبق ذكره من تاريخ سيدة فرسايل المجهولة.
ويؤخذ مما رواه لينوتر أنه كان في باريس في بدء الثورة الفرنسوية رجل يدعى م. سفليت دي لانج أمين الخزانة الملكية الذي عرض نفسه للإفلاس يوم أقرض أخا لويس السادس عشر عدة ملايين من الفرنكات، وكان أرملا وله ابنة وحيدة جميلة تسمى جني. ولما بسط حكم الذعر والرعب رواقه كان هذا الرجل في طليعة الذي طلبوا النجاة بالفرار، فهرب بابنته إلى بريتون قاصدا السفر إلى إنكلترة حيث يقيم حتى تسكن عاصفة المخاوف والاضطرابات. وفي طريقه لقي شابا نبيه الطلعة فصيح اللسان عرض عليه أن يكون دليله إلى بريتون؛ لأنه يعرف طريقها جيدا فقبل منه ذلك بالشكر. ووجده في أثناء الطريق خير رفيق يفيد ويسلي.
ولما وصل م. دي لانج إلى سنت مالو وجدها غاصة بالغرباء المهاجرين العازمين على اجتياز البحر إلى إنكلترة، وبينهم الآنسة جين فرنسوى ابنة المركيز دي ت. التي كان أبوها قد أرسلها لتلتجئ إلى إنكلترة مصحوبة بخادم طاعن في السن عازما على اللحوق بها فيما بعد. وعلى الفور تمكنت عرى المعرفة والصداقة بين الفتاتين - ابنة دي لانج وابنة المركيز دي ت. - وطلبت الأولى منهما إلى أبيها أن يسمح لصديقتها وخادمها بالسفر معهما، فأجاب أبوها طلبها، واستعد المهاجرون الخمسة (دي لانج وابنته ورفيقهما الذي يدعوه ليونتر ب. وابنة المركيز دي ت. وخادمها) للسفر على سفينة من سنت مالو إلى بليموث.
وبعد مسيرة يومين قال لهم ربان السفينة إنه لأسباب مهمة لا يستطيع الذهاب إلى إنكلترة، وإنه ذاهب بهم إلى همبورغ. وعلى رغم ما أبدوه من الاحتجاج والاعتراض ظل مصرا على عزمه، وسار بهم إلى همبورغ. وهناك توالت عليهم الكوارث والمصائب، فأصيب خادم جين دي ت. بداء عضال أماته بعد وصولهم إلى همبورغ بثلاثة أيام. ثم أصيب الباقون بعد بضعة أسابيع بحمى التيفوس، فأودت بحياة م. دي لانج وبابنته جني من بعده. وفيما كانت جني على فراش النزع صاحت بأعلى صوتها مخاطبة صديقتها جين فرنسوى: «لا تنسي أن الكونت دراتوي غادرني أموت فقيرة، وأن عليه لأسرتي دينا قدره خمسة ملايين فرنك!»
فلم يبق من خمسة المهاجرين سوى جين فرنسوى ابنة المركيز دي ت. والمسيو ب. هذان وجدا الفقر ينيخ بكلاكله عليهما وينشب أظفاره فيهما، فاضطرا أن يسكنا في قبو ويناما على أكداس الخرق والشعب اليابس. وكتبت جين غير مرة إلى والديها مستغيثة مستجيرة فلم تظفر بجواب، ولما اشتدت عليها حلقات الضنك والضيق وخيل إليها أن والديها تخليا عنها ولم يهتما بإنقاذها من مخالب الجوع، اضطرت على رغمها أن تجيب طلب رفيقها - الصديق الوحيد الباقي لها في العالم - وتعيش معه سرية له.
واتضح فيما بعد أن هذا الرجل ب. كان من شر الأوغاد الأنذال المطبوعين على الخيانة والغدر والخداع والاحتيال، وبعدما أوقع هذه الفتاة في شرك الاقتناص والاغتصاب، حدثته نفسه الأثيمة أن يسعى في استرداد جانب من ملايين دي لانج، فكتب عدة كتب إلى الكونت دراتوي بإمضاء جني دي لانج المتوفاة كابنة دائن الكونت، ولكنه لم يفز بطائل إما لعدم وصول كتبه إلى الكونت وإما لعدم اكتراثه لها.
وقضت جين فرنسوى عدة سنوات تعاني مرارة الفقر والعار والأسر عند هذا الطاغية، حتى انتهت الثورة وجاد عليها الزمان بالعتق والإطلاق. ولكن هذا الإطلاق خافته عندما سنحت فرصته خوفا لا يقل عن شدة تمنيها له قبل حصولها عليه. وراعها جدا إمكان اطلاع أهلها على السلوك الذي أكرهتها الأحوال القاهرة عليه. وبعدما قضى والداها وقتا طويلا في البحث عنها عرفوا مقرها، وبعثوا رسولا يجيء بها إلى بريتاني. وكان الخبيث ب. قد بلغه أن الرسول قادم، فاختفى عن الأنظار قبل وصوله.
وظلت جين فرنسوى مدة طويلة بعد رجوعها إلى بيت أبيها تقاسي آلام الذكرى لعارها الغابر، وخوف افتضاح السر المدفون في أعماق صدرها. ولكن على توالي السنين ضعفت الذكرى وقل الخوف. ولما جاءها الكونت دي س. ر. خاطبا سرها أن تصير زوجة له؛ لظنها أنها أصبحت في مأمن من اتضاح أمرها وافتضاح سرها. وبعد اقترانها بهذا الكونت بدت في مقدمة كواكب الحسن والجمال التي أشرقت في ذلك الحين في سماء بلاط البوربون، وذاعت شهرة جمالها كما انتشر صيت برها وتقواها.
وفي ذات يوم من سنة 1815 وقفت امرأة غريبة على بوابة قصرها، وطلبت أن ترى الكونتس التي أمرت على الفور بإدخالها إليها. وبعد خروج الخادم رفعت نقابها وسألت الكونتس: «هل عرفتني؟»
فارتعدت فرائص الكونتس من شدة الذعر؛ لأنها من فورها عرفت الرجل ب. الذي أذلها، وهو المشارك لها في هذا السر المخيف الذي تفضل الموت على انكشاف ستره. أما هو فصاح بلهجة الظافر المنتصر: «أراك عرفت صديقتك القديمة جني سفليت دي لانج. حسن. فلنبحث في الأمر بملء الصراحة.» ثم شرع يعلن خطته والكونتس مسلوبة الرشد مشردة الأفكار، وخلاصة ذلك أنه عزم أن يمثل شخصية جني دي لانج المتوفاة، وباسم ابنة الرجل الذي أقرض الكونت دارتوي خمسة ملايين فرنك، يطالب برد هذا المبلغ إليه. ولكي يتمكن من السير في هذه الدعوى يحتاج إلى من يشهد له بصحة دعواه، ويؤيده بماله من سمو المنزلة ورفعة المقام في البلاط. والكونتس وحدها قادرة على قضاء هذه الحاجة. فإن أجابت اقتراحه ظل سر حياتها في همبورغ مكتوما، وإلا فهي أدرى بالنتيجة.
فوقعت في حيرة وارتباك لا مزيد عليهما؛ لأنها كانت من جهة مهددة بإفشاء سر لو ذاع لقضى عليها وعلى زوجها بعار وشقاء مدة حياتها. وكانت من جهة أخرى مضطرة أن تصير آلة في يد شر إنسان تحت السماء. وبعد التأمل اختارت الأمر الثاني، وفازت الآنسة «جني دي لانج» بالحصول على مساعدة صديقة تمهد لها سبيل الوصول إلى ما عللت نفسها بإحرازه.
ولم تقصر الكونتس في شيء من المساعدة التي وعدت بها. فعرفت «الآنسة دي لانج» لجميع صديقاتها وأصدقائها حتى للأسرة المالكة، وأطنبت في إطرائها ووصف فضائلها، وأذكت في القلوب نار الرأفة بها والشفقة عليها، وتمكنت من حمل الحكومة على منحها راتبا سنويا ومسكنا في قصر فرسايل، وغيرهما من المنح والامتيازات، ولكنها لم تستطع أن تساعدها على تحصيل شيء من ملايين دي لانج؟ أما المخاوف التي كابدتها الكونتس في هذه الأثناء من احتمال إفشاء عشيقها السابق لسر عارها مدفوعا إليه بعامل اليأس من نيل ما كان يرجوه - هذه المخاوف التي كانت تتجرع غصة عذابها كل ساعة - فإني أتركها لتصور القارئ. ولم تكن أهوال معيشتها في همبورغ شيئا مذكورا في جنب عذاب الفكر الذي قاسته في هذا الوقت العصيب الرهيب.
على أن «الآنسة جني» وفت بوعدها لكتمان السر، ولم تقتصر على الاحتفاظ به، بل أعانت الكونتس على التمكن من مساعدتها بتكلف الظهور فيما وصفتها به من الصفات الحميدة، فمثلت فصل امرأة مظلومة مقهورة أحسن تمثيل، وحذقت كثيرا من الأعمال الخاصة بالنساء كالطبخ والخياطة والتطريز وغيرها، وأتقنت صناعة مغازلة الرجال ومراودتهم. واستمالت إليها قلوب كثيرات من السيدات الشريفات بما كانت تبديه أمامهن من سعة الصدر وحسن الصبر على تحمل مصاب فقرها بالشكر.
ولكن من المحال أن تدوم الحال على هذا المنوال؛ لأن الكونتس سئمت الإقامة على هذا الذل الشائن، فأطلعت زوجها على سر حياتها الماضية واستودعت نفسها صفحه ورحمته، وتمكنت من تحطيم قيود الاستكانة والانقياد إلى مشيئة ذلك الوغد الزنيم، وأغلقت دونه أبواب قصرها وأبواب قصور أصدقائها الواحد بعد الآخر.
فلما رأى ما حدث وتحقق إفلات فريسته من يده اضطر إلى التسليم بالواقع، ولم يبق له أقل حول أو طول على أن ينال الكونتس بالأذى، وشعر بخطر القبض عليه ووقوعه في يد الحكومة. ومن ذلك الحين تملكه القلق والاضطراب وعدم القرار في محل واحد، فأخذ يجول من مكان إلى آخر، والتزم العزلة والانفراد واجتناب معاشرة الناس، وكانت خاتمة حياته وغرابة أطواره على الوجه الذي سبق بيانه حين عرف الناس أن الآنسة جني سفليت دي لانج المقيمة في شارع مارشه الجديد إنما هي رجل.
اختفاء أرشديوق
ما أكثر القصص التي تروى عن أمراء هاموا بحب فتيات دونهم حسبا ونسبا، وفي سبيل محبتهم لهن ضحوا بكل عزيز وغال من زخارف الملك وبهارج العظمة والجلال. ولكن هذه القصص كلها مع ما فيها من غرائب الحوادث ومدهشات الوقائع ليست شيئا يستحق الذكر بالنسبة إلى قصة جوهان سلفاتور أرشديوق النمسا التي لا تزال حوادثها إلى الآن مدعاة الدهشة والاستغراب، ولا يبرح سرها مودعا زوايا الغموض والخفاء. ولا ينفك الفصل الأخير منها غير مكتوب، ومن يتح له أن يعيش ويقرأه فسوف يرى فيه حوادث أعجب وأغرب من حوادث الفصول السابقة.
كان جوهان سلفاتور ابن الغراندوق ليوبولد وأقرب نسيب إلى إمبراطور النمسا، وقد ولد وفي عروقه أشرف دم ملكي، وأعد له القدر أن يتمتع فيما بعد بتراث سني مجيد، ومهد له دخول أسمى مقام يزينه عرش معدود من أفخم عروش العالم. وفي حداثته لاحت عليه مخايل نجابة ونبالة بشرت بأنه سيكون أسطع كوكب في سماء هذا المقام؛ فقد رزق أكبر قسط من جمال الطلعة وذكاء العقل ونباهة الشأن، ومنذ صغره سمت به نفسه لأن يكون عالما كبيرا وجنديا شهيرا. وقد أوتي ملكة تعلم اللغات وقريحة وقادة في نظم الشعر، ونبوغا فائقا في الموسيقى وتضلعا في العلوم الطبيعية. ولكنه أولع على الخصوص بعلم الحرب، وقبلما بلغ أشده كان ملما بأكثر القواعد والمسائل المتعلقة بهذا العلم.
وكان خيرا له أنه لو اجتنب التعرض للشئون العسكرية؛ لأنه كان كلما أوغل في الدرس والبحث والتقصي يزداد سخطا وكراهة للطرق العسكرية القديمة المستخدمة في بلاده. ولم يضره ذلك لو أنه كتم آراءه أو استعمل الحكمة والكياسة في إعلانها، ولكنه لسوء الحظ لم يكتمها ولا لزم خطة الاعتدال في نشرها؛ فقد طبع على الثورة والإصلاح. وكان نظير كثيرين ممن هم كذلك لا يتأنى في وضع آرائه، بل يندفع مستعجلا محتدا في عرضها وإذاعتها. وأول خطأ ارتكبه في هذا القبيل نشره رسالة انتقد فيها المدفعية النمسوية، وحمل أشد حملة على نظامها مبينا ما فيه من العيوب الفاضحة، فحمي غيظ قادة المدفعية وكبار ضباطها من هذا الانتقاد الجارح، حتى اضطر الإمبراطور نفسه أن يوبخه على طيشه وتهوره.
ولكن الأمير جوهان لم يكترث لحنق القادة واستياء الإمبراطور، وخيل إليه أنه مرسل لإصلاح الجيش النمسوي، ولا بد من تأدية هذه الرسالة. وبعدما نشر رسالته المشار إليها طبع كتابا عنوانه «التدريب والتمرين» انتقد فيه خطط النمسا الحربية انتقادا هتك فيه ستر عيوبها ونقائصها من أولها إلى آخرها. فلما انتشر هذا الكتاب أحدث رجة هياج في البلاد، فوقع أحسن وقع عند عامة الشعب وصغار الضباط، وانقض كالصاعقة على بلاط الملك ووزارة الحربية، وأثار في النفوس دهشة وغيظا لا يعبر عنهما بالكلام. وأخذ قادة الجيش وكبار ضباطه يتساءلون قائلين أما من وسيلة لكسر يراع هذا الثائر وقطع لسانه؟
أما الأرشديوق فنظر إلى العاصفة التي حرك ساكنها هاشا باشا، وكان في استطاعته أن يهش ويبش لأن الأمة مؤيدة له. والنمسويون على بكرة أبيهم تعشقوا صراحة وفصاحة الأمير الذي برهن غير مرة في ميدان الكفاح في بلاد البوسنة أنه من نخبة أبطال الحسام كما هو من خلاصة رجال القلم، حتى إن وزارة الحربية اضطرت أن تعترف بمقدرته الفائقة وترقيه إلى رتبة فيلد مارشال وهو في سن يتمنى صاحبها وإن كان أرشديوقا أن ينال رتبة كولونيل.
وهذه كلها لم يكن يتعذر تلافيها لو أن جوهان حصر حملاته في سبيل إصلاح الجيش، ولكن طيشه ونزقه استأثرا به وأركباه مركب السياسة الخشن الخطر. فارتأى تحرير روسيا من مساوئ حكومة القيصر باتحاد النمسا وفرنسا على محاربتها. وتعرض لشئون البلقان السياسية، واتهم بسمارك بأنه يكيد لآل هبسبورغ (الأسرة المالكة في النمسا). وبهذه الأمور وغيرها أصبح خطرا يهدد سلام أوروبا العام. ولم تقف به رعونته عند هذا الحد من المغامرة والتهور، بل دفعه خرقه وحماقته إلى مخاصمة ولي العهد رودلف أعز صديق له، واستخف جهارا بالفيلد مارشال الأرشديوق ألبرت في أثناء محاورته له.
وحينئذ فرغ صبر الإمبراطور عليه، فاستدعاه إليه وخيره في أمرين: إصلاح سلوكه إصلاحا تاما أو ترك الجيش والتخلي عن منزلته الملكية. فاختار الأمر الثاني وخرج من لدن الإمبراطور ساقط الوجه خاثر النفس، وعلى الفور صدر الأمر بتجريده من رتبته العسكرية، وحذف اسمه من سجل الجيش ومنعه من دخول البلاط الملكي. ولم يهمه سقوطه من منزلته الملكية ولا حمو غضب الكبراء عليه . ولكن إخراجه من الجيش أفعم قلبه غما وأسى، ولم يدر قط بخلده أن يعاقب عقابا شديدا كهذا؛ لأن الجيش كان أعظم شيئا يعنى به على وجه الأرض، فبفصله عنه رأى الحياة عبئا ثقيلا عليه يود إراحة نفسه منه. ولما رآه أصدقاؤه على هذه الحالة نصحوا له بالصبر والتأني والإخلاد إلى الهدوء والسكينة ريثما تركد رياح الأحوال، ويسكن غضب الإمبراطور ويرق قلبه، فعمل بمشورتهم. ولما طال انتظاره وفرغ اصطباره استولى عليه اليأس والقنوط فزايل فينا وذهب إلى ضيعته قرب غمندن، وأقام يتقلب على لظى السآمة والضجر، فكان يقضي نهاره في الصيد والقنص وجانبا من ليله في الدرس والمطالعة.
ولم يلبث أن مل هذه العيشة الجافة ومال إلى طلب التسلية خارج ضيعته، فبرحها إلى فينا، وأخذ يلهو في التردد إلى المسارح والمراقص وغيرها من الملاهي. وفي ذات ليلة بينما كان في المسرح الملكي شاهد بين الممثلات فتاة رآها فريدة في عقد الغيد الحسان كأنها إحدى حور الجنان، وكان ذلك فاتحة عهد جديد له لم يعلم عنه قط شيئا من قبل. ففي كل لمحة من قسمات وجهها البديع رأى جمالا باهرا خالبا، وفي كل نظرة من عينيها الجميلتين آنس سحرا جاذبا.
وقبل أن غادر المسرح عزم على البحث عن ساحرة لبه وسالبة قلبه والسعي في إحرازها. وفي تلك الليلة نفسها عرف من هي وأين تسكن، وكانت ابنة تاجر من صغار التجار في فينا واسمها إملي ستوبل، ولها أختان كلتاهما ممثلتان نظيرها. وكان لجمالها وبراعتها في التمثيل شهرة تحدث بها جميع سكان فينا، وذاع صيتها في عواصم أوروبا.
هكذا كانت إملي ستوبل حين أسرت قلب نسيب الإمبراطور وهي خالية الذهن لا تعلم شيئا عن هذا الأمر، ولم يبال الأرشديوق بكونها وضيعة الحسب والنسب، فقد كان ساخطا أشد السخط على أهل النسب والرتب، هاجرا لمجالستهم وقاطعا علاقاته بهم. ورأى إملي أجمل جميع الفتيات اللواتي شاهدهن في قصور الملوك، وهي أغلى جوهرة تزان بها الصدور.
ولم يصعب عليه التعرف لها بصورة طالب علم، وهي عرفته هكذا لوالديها اللذين أعجبا كل الإعجاب بجمال منظره ونباهة شأنه، وودا أن يتخذاه صهرا لهما. ولم يمض وقت طويل حتى شغف حبه فؤاد إملي كما سبقت هي وتصبته وسبته. وخيل لها أنها بخطبته لها ارتقت إلى أوج الغبطة والسعادة، وثمل أبواها براح المسرة والابتهاج، وأصبح الخطيب يرى نفسه أسعد إنسان في فينا.
وبعد بضعة أسابيع ذهبت إملي وأمها لتشاهدا عرض الجيش، وهناك فوجئت برؤية ما أدهشها وكاد يذهب بصوابها؛ إذ إنها أبصرت خطيبها لابسا بذلة رسمية سنية، وقالت في نفسها ما شأن هذا التلميذ الحقير بالوقوف متنكرا في حلة بهية كهذه؟ فلا بد أن تكون مخطئة. ولكن لا محل لاتهامها بالخطأ، فهو خطيبها لا ريب فيه. ثم سألت فتى واقفا بجانبها: «من الواقف هناك؟» وأشارت إلى التلميذ خطيبها، فأجابها: «إنه الأرشديوق جوهان.»
وفي اليوم التالي ذهب الأرشديوق إلى بيت خطيبته، فانبرت له والدتها وأوسعته تأنيبا وتقريعا على سوء تصرفه؛ إذ حاول إغراء قلب ابنتها متنكرا في زي تلميذ، وهذا أمر شائن لا يليق به وهي لا تسمح بوقوعه. ومهما يكن من فقر ابنتها وضعة شأنها فهي أعف وأنزه من أن تتخذ ألعوبة بيد واحد من أعضاء الأسرة المالكة. فأجابها جوهان مقسما لها بأغلظ الأيمان أنه أحب إملي من كل قلبه محبة صادقة، وأنه لم يبق أميرا ملكيا، بل هو الآن واحد من رعايا الإمبراطور كالهر ستوبل أبي خطيبته، وأن أعظم شيء يتمناه في هذه الحياة أن يصير زوج إملي. فسكن غيظ أم خطيبته، وبعد أيام قليلة احتفل بزفها إليه، ثم ذهب بها إلى ضيعته حيث أقام في رغد وصفاء وسرور وهناء.
وبعد سنة نفض الأرشديوق غبار الخمول والبطالة، وجعل شعاره هذا القول: «أطلب الحصول على حق السعي والعمل، وإن لم يؤذن لي في التمتع به في بلادي طلبته في غيرها، وأرض الله واسعة الفضاء.» وعلى رغم ما أبدته والدته العجوز من التوسلات وما ذرفته من الدموع ظل مصرا على عزمه، فتخلى عن ألقابه وضياعه، وأعلن أنه من الآن فصاعدا سيكون اسمه مقتصرا على «جوهان أورث». وقد وافقته قرينته على قراره هذا. وبرحا كلاهما منزلهما في غمندن، وسارا إلى حيث ظلا مدة لا يعلم أحد عنهما شيئا.
فزعم بعضهم أن جوهان اشتغل عاملا مأجورا اقتداء ببطرس الأكبر، وادعى البعض الآخر أنهم شاهدوه في أحد مطاعم برلين. وآخرون قالوا إنه مخبر إحدى الصحف الأميركية. ومهما يكن من صحة هذه الأقوال وكذبها، فالمعروف أن الأرشديوق وزوجته كانا سنة 1890 في لندن حيث أعادا اقترانهما رسميا. وقدم جوهان أورث امتحانا في فن الملاحة (سلك البحار) ونال رخصة في تعاطيه. ثم شخص إلى همبورغ وابتاع سفينة شراعية متينة مصفحة بالحديد يبلغ محمولها نحو ثلاثة عشر ألف طن واسمها «سانتا مرغريتا»، وأقلع عليها مع قرينته إلى أمريكا الجنوبية، وكانت مشحونة ملاطا (أسمنت). ومن هناك كتب إلى صديق له في فينا يقول: «ربان سفينتي مريض جدا، وإني مضطر أن أعزل أحد ضباط السفينة؛ لأنه غير صالح للعمل. وأن أرخص لضابط آخر في الانقطاع عن العمل (إجازة) لأسباب كثيرة. فأنا والحالة هذه كل شيء للسفينة - ربانها وضباطها - وسأقلع إلى فلباريزو بلا ربان ولا ضباط.»
ويقال إنه لم يفقد الضباط فقط، بل فقد البحارة أيضا، واعتاض عنهم غيرهم من هناك، وأقدم على سفرته المحفوفة بالمخاطر والأهوال. ومنذ خرجت سانتا مرغريتا لطيتها هذه غابت عن الأبصار كأن اللجج ابتلعتها، فلم يظهر أثر لها ولا لأحد من ركبها من ذلك الحين إلى الآن. وظل الأرشديوق إلى هذا الوقت يكتب إلى والدته غراندوقة توسكانيا. ومنذ أقلعت سانتا مرغريتا من مرساها إلى فلباريزو لم تقف والدته قط على كلمة منه، ولم يسمع أحد خبرا، ولا رأى أثرا لواحد من البحارة. وقد شاعت عنها إشاعات كثيرة أجدرها بالقبول والتصديق أنها غرقت في عاصفة شديدة وهبطت بجميع من فيها إلى قعر البحر، حيث يبقى سر جوهان أورث مكتوما إلى ذلك اليوم الذي فيه تبلى السرائر وتظهر الضمائر.
وأرسل الإمبراطور جوزيف بعثة على دارعة حربية للبحث عن السفينة المفقودة في شواطئ أميركا الجنوبية، وكان بين المبعوثين الأرشديوق فرنسيس فردينند
1
وارث تاج النمسا. ولكن لسوء الحظ لم يستطيعوا الوقوف على أقل أثر للسفينة ولا لأحد من ركبها.
ولم يسع العالم التسليم بأن مصير ذلك الأمير الخطير الشهير كان على هذا الوجه، ولا قامت قط بينة تدل دلالة صريحة على غرق سانتا مرغريتا. والذين كانوا لا يجهلون شدة إقدام صاحبها على المغامرة واستخفافه بالمخاطر ذهبوا إلى أنه غير اسمها ولونه وقذف بها في غمار بحار مجهولة. وفي أحد كتب إملي ستوبل الأخيرة إلى والديها تشير إلى ما يتعللان به من أمل كشف «جزيرة لا مالك لها» يعيشان فيها برغد وهناء.
وكان جوهان أورث قبلما غادر النمسا أودع ماله بنكا سويسريا وبواسطة وكيله الدكتور فون هبرلر كان يحول عليه من وقت إلى آخر. وبعدما مضى سنتان على غرق سانتا مرغريتا طلب الدكتور هبرلر المال بموجب صك الوكالة الذي في يده، فأبى البنك أن يدفع، ولكن المحاكم حكمت بأن الوكالة صحيحة؛ لأن وفاة الموكل لم تتحقق. وحينئذ قبض الوكيل المال، ولكن هذا الوكيل من جهة أخرى طالب أربع عشرة شركة لضمان الحياة في همبورغ بمبلغ ثلاثة عشر ألف جنيه كان جوهان أورث مضمونا عليها. وكانت هذه الشركات كلها قد أبت الدفع، ولكن المحاكم أرغمتها عليه؛ إذ عدت غرق السفينة ومن فيها أمرا لا ريب فيه.
وعلى رغم هذا القرار لا يزال كثيرون مصرين على اعتقادهم أن الأرشديوق باق حيا، ولا بد أن يسترد يوما ما حقه المسلوب، ويسترجع ما كان له من رفعة الشأن وسمو المنزلة ومعه زوجته الأمينة. وقلما تمضي سنة لا يجد فيها نبأ عنه يؤيد صحة هذا الاعتقاد. ففي جهة من جهات العالم يروى عنه أنه كان موجودا، وقد شاهده هذا أو ذاك أو ذلك، ادعى بعضهم أنه رآه يحارب في صفوف اليابانيين ضد الروسيين، وقد أبلى بلاء الأبطال الصناديد. وادعى بعضهم أنه هو المارشال ياما غاتا المشهور! وقال غيره إنه كان في شيلي يقود جيشها الزاحف على بلاما سيدا. ويقول جورج لاكور المؤلف الفرنسوي المشهور في كتابه المطبوع حديثا في باريس إن جوهان أورث يقيم الآن في الأرجنتين منتحلا اسم دون رامون.
ويقول غيرهم إنه هو وقرينته يعيشان برفاء وصفاء في إحدى جزائر الباسفيك. ويدعي آخرون أنه شوهد مؤخرا مع نسيبه الأرشديوق لويس سلفاتور في مالوركا. وبالأمس قالت عنه الصحف إنه كان أحد القادمين على باخرة من أميركا إلى إنكلترة، وقد عرفه واحد من الركاب وسأله عن نفسه، فاعترف بأنه جوهان أورث الذي كان سابقا أرشديوق النمسا، ثم رأوه بعد ذلك سائرا في أحد شوارع لندن.
هذه بعض الإشاعات الكثيرة التي ذاعت وظلت مدة عشرين سنة تعين على إحياء ذكر جوهان في أذهان الجمهور. وستظل هذه الإشاعات ملء الألسنة والأفواه حتى يعود ظاهرا في الجسد لعيني كل إنسان، أو يصبح خبر موته حقيقة لا يختلف فيها اثنان.
أما والدته فظلت إلى آخر ساعة من حياتها تعتقد أن ابنها حي، وقضت سني حياتها الأخيرة تتوقع رجوعه إليها بملء الصبر والتسليم، قائلة لكل من يحاول تعزيتها: «إن ابني حي لم يمت، ولسوف يأتي إلي وتقر عيناي برؤيته قبلما أموت.» وكانت على الدوام تعنى بحفظ غرفه مكنوسة مفروشة ومعدة لنزوله فيها ساعة وصوله، وتعلق مصباحا خارج بوابة القصر لينير طريقه عند مجيئه ليلا. ولكن الغراندوقة المنكودة الحظ ماتت وابنها لم يأت، وجميع الجبليين سكان التيرول يقولون بصوت واحد وبإيمان راسخ وطيد: «سيعود. نعم سيعود بلا أقل ريب.» يقولون هذا وهم دائما على أتم استعداد للاحتفال بقدومه.
ولا يزال في قيد الحياة رجلان على الأقل يظن أنهما يعلمان الحقيقة؛ أحدهما وكيله الدكتور هبرلر الذي يقال إنه يتلقى منه رسائل كل شهر بلا انقطاع، والآخر صديقه البارون فون أباكو الذي كان قائد الحرس الملكي ليلة اختفاء الأرشديوق، ويقال إنه كان مطلعا على الخطة التي رسمها صديقه قبيل سفره. ومنذ عدة سنين انقطع البارون عن العالم وأقام في نيو غينيا الألمانية يشتغل بزراعة ضيعته هناك، ولا يمر لأوروبا ذكر بشفته ولسانه، فإن لم يعد الأرشديوق المختفي إلى عالم الوجود فسره المكتوم في صدر البارون يدفن معه في ضريحه.
ملكة الجمال
من عادة قصور الملوك أن تكون دائما مزدانة بالغيد الحسان اللواتي يسطعن فيها بنور جمال يخلب الأذهان ويكل عن وصفه اللسان، ولكن لم يكن بينهن من بلغت في بشارتها الشائقة وقسامتها الرائقة شأو فرجيني كونتس كستليون، التي طلعت شمس بهائها في أواسط القرن الماضي فبهرت محاسنها العيون، وأسرت ملامحها القلوب.
ولدت فرجيني في أحد قصور فلورنس، وكان أبوها المركيز أولدويني من كبار رجال السياسة في إيطاليا، وكانت والدتها المركيزة من أجمل نساء عصرها، فترعرعت ابنتها في مهد الجمال ورفعة المقام، وشبت وقد زكا فيها غرس الشرف المكتسب والحسن الموروث، فكانت في كليهما غصنا نضيرا مورقا وبدرا منيرا مشرقا.
ولما كانت ابنة اثنتي عشرة سنة صار حسنها مضرب الأمثال بين سكان فلورنس، فإذا صحبت والدتها إلى المسرح اشرأبت إليها الأعناق وحامت حولها الأحداق، وأصبح كل من هناك مدهوشا مسحورا برؤية قامة لم ينسج على منوالها في جمال طولها وحسن اعتدالها، وعينين كان البهاء كل البهاء وقفا عليهما، ووجه لم يقع النظر على أبهج منه صورة وأروع شارة. وفي هذه السن كانت معدودة أجمل فتاة في إيطاليا.
روي عن الكونت كستليون أنه ذهب إلى لندن سنة 1854 وكان في فجر صباه، فحضر اجتماعا في قصر الدوقة إنفرنس، وبعدما أجال طرفه في السيدات الحسان اللواتي كن هناك التفت إلى صديقه الكونت والسكا الجالس بجانبه، وقال له: «أظنك تجهل سبب مجيئي إلى لندن؟ إني قادم للبحث عن زوجة.» فأجابه الكونت: «إذا كان هذا مرادك فقد ارتكبت خطأ فاحشا بمغادرة إيطاليا. عد على الفور من حيث أتيت، واسع في التعرف للمركيزة أولدويني واخطب ابنتها، فتفز بأجمل زوجة في أوروبا.» فعمل الكونت كستليون بموجب نصيحة صديقه ورأى فرجيني أبهى مما وصفها له الكونت والسكا، وراعه حسنها المنقطع النظير. فخطبها وأفلح سعيه في اتخاذها زوجة له، ولكن هذه الفتاة عندما مدت يدها إلى الكونت مشيرة إلى رضاها أن تصير قرينته لم تمد إليه قلبها مع يدها بل أبقته بعيدا منه. وقالت له بصراحة لا مزيد عليها: «سأقترن بك لأن والدتي تروم ذلك. ولكن تذكر ولا تنس أني لا أحبك، ولن أحبك، وسأظل دائما غير مكترثة لك ولا مبالية بك.»
وعلى هذا الوجه تم الاحتفال بزفاف فرجيني على غير رضاها واختيارها إلى الكونت كستليون؛ الشاب الجميل الغني، ولكنه لسوء الحظ كان خائر العزم ضعيف الإرادة وفاسد الأخلاق. ومعلوم أن شابا كهذا لا يسعه أن يظفر بالمحبة والاحترام من لدن فتاة مطبوعة على عزة النفس وقوة الإرادة وبراعة الجمال. وقبل انقضاء شهر العسل عصفت بينهما رياح النزاع والشقاق، فقد سألها غير مرة بملء الخشوع والضراعة أن تصحبه في زيارة والدته حسب العادة المرعية، لكنها أبت ذلك إباء مطلقا. ولما خابت مساعي الرجاء والاستعطاف عمد إلى الحيلة. فدعاها ذات يوم أن تخرج للتنزه معه في المركبة، وأمر السائق سرا أن يذهب بهما إلى بيت والدته، فأجابته إلى ذلك ولم يخامرها ريب، حتى بلغت بهما المركبة جسر النهر في الطريق المؤدي إلى منزل حماتها، فما كذبت أن خلعت حذاءها وألقت به في الماء، ثم التفتت إلى زوجها وقالت له بلهجة الفوز والانتصار: «عد بي إلى القصر لأني لا أستطيع أن أزور والدتك حافية!» فعاد بها يجر ذيل الخيبة والإخفاق.
ولقد تفنن كثيرون في وصف جمال فرجيني، وكان كل منهم بعدما يسهب ما شاء في وصف محاسنها من قمة رأسها إلى أخمص قدمها يختم كلامه بقوله: «إن وصف جمالها النادر المثال معجزة الكتاب والشعراء.» ولم تكن منقطعة النظير في إيطاليا فقط، بل في أوروبا كلها، وكانت جواذب الملاحة والاستحسان في نباهة شأنها وشدة توقد ذهنها وسرعة خاطرها ورشاقة حركاتها لا تقل عن جواذب الروعة والبهجة في جمالها الطبيعي. ومع أنها زوجة ربة بعل كانت على الدوام محاطة بالعشاق الهائمين برؤية وجهها القسيم الوسيم، وفي مقدمتهم الملك فكتور عمانوئيل الذي كان أشدهم انشغافا بها وانجذابا إليها. وكأني بها مولودة ملكة وعرشها القلوب، وفيها جميع المعدات التي تؤهلها للجلوس على هذا العرش الساخر بأشرف العروش.
وكان كافور وزير فكتور عمانوئيل أول من رأى في هذه الكونتس مواهب أخرى فائقة غير موهبة الحسن والجمال، فإنه بشدة فراسته تبين فيها قوة ذكاء خارقة على استئسار القلوب واستعباد النفوس. فهي والحالة هذه خير من يصلح لمعالجة الشئون السياسية. فاقترح أن تذهب إلى باريس وتستخدم قوتها هذه في استمالة نبوليون، وإحراز معونته على تحرير إيطاليا، وصادف هذا الاقتراح هوى في نفس الكونتس الطامحة إلى الشهرة. وعلى الفور قبلته وبرحت إيطاليا إلى فرنسا حيث يتسع لها مجال الفوز والانتصار.
وفي باريس استقبلت استقبال ملكة، ولقيت من مظاهر التجلة والتكريم ما هو جدير بأجمل امرأة في أوروبا. وكان نبوليون نفسه في طليعة المرحبين بها والمكرمين وفادتها. وكان ظهورها أول مرة في البلاط الفرنسوي يوم أقيمت حفلة الرقص الفخمة في قصر التويلري، حيث خف الكبراء والعظماء للاحتفاء بها على وجه يدهش العقول ويحير الأفكار.
وعند دخولها بلغ من شدة دهشة المعجبين بحسنها الرائع وجمالها البارع أن انقطعت على الفور حركة الرقص وأصوات آلات الموسيقى، كأن روعة بهائها شلت أيدي الضاربين بالآلات وغلت أرجل الراقصين والراقصات، وصوب جميع من في ردهة الرقص أبصارهم إليها، وهم حابسو الأنفاس مشردو الحواس. وتقدم الإمبراطور لملاقاتها، فانحنى لها انحناء تحسدها عليه أعظم ملكة وقبل يدها وطوق خصرها بيده، ودار يرقص بها على نغمات الموسيقى بين جماهير الراقصين والراقصات.
وبهتت باريس كلها من جمال الكونتس الإيطالية التي جرت محاسنها الفائقة الوصف ذيول النسيان على جميع الباريسيات الحسان. وكاد الرجال يقتتلون في سبيل الفوز ببسمة أو بكلمة من شفتيها، وكانت ربات الحسن والجمال في البلاط في عداد اللاهجين بحسنها الساحر وبهائها الباهر. وحيثما ذهبت كان الناس يزحمون بعضهم بعضا في الشوارع لينعموا بنظرة من محياها البديع. ولعلها هي نفسها كانت أدرى الناس بما أوتيته من جمال صار قبلة الأنظار وكعبة الأفكار. فالطبيعة جعلتها ملكة والعالم بأسره رعيتها.
ومهما يكن من شدة روعة الناس بجمالها، فإن دهشتهم من إقدامها على استخدامه في سبيل إدراك مقاصدها كانت أشد وأعظم. وقد روي عنها أنها كانت تظهر في المراقص الكبرى في ملابس مختلفة الأزياء والأشكال، ولكنها كلها كانت رقيقة شفافة تبهر عيون الناظرين وتسحر عقولهم بما يشاهدونه من الجمال الفائق الوصف المزدان به كل عضو من أعضائها. ومعلوم أن نبوليون كان مشهورا بشدة ولوعه بالنساء الحسان، فليس عجيبا أن نراه الآن مفتونا بملكتهن وفريدة عقدهن. ولم يكن كافور مبالغا فيما توقعه من الفوز والنجاح لسفيرته الحسناء، فقد استخدمت قوة جمالها ودهائها أحسن استخدام في استعباد نبوليون ووضعه عند موطئ قدميها صاغرا خاشعا ومستعدا لعمل ما يكسبه رضاها عنه وميلها إليه. وقد أشارت الكونتس فيما بعد إلى هذا النصر المبين الذي أحرزته في بلاط فرنسا فقالت: «لو سبقت فذهبت إلى باريس قبل ذلك الحين لكانت شريكة نبوليون في عرشه إيطالية لا إسبانية.» لأن الإمبراطورة أوجيني المشهورة بالحسن والجمال كانت بالنسبة إليها كالماء إلى الراح أو كالقمر إلى شمس الصباح.
ولشدة شغف نبوليون بها أصبح لا يعرف معنى المسرة والهناء إلا إذا جالس الكونتس ومتع عينيه برؤية وجهها الأنيق الوسيم وأذنيه بسماع كلامها العذب الرخيم، ولإدراك هذه الأمنية كان يتعرض لخطر المغامرة حتى بصيته وحياته، ويختلس زيارتها في شارع دي لا بومب، ويقضي معها ساعات، ثم يتوقع بذاهب الصبر سنوح فرصة أخرى لتكرار الزيارة. وحدث مرة أنه بعد خروجه من عندها قبيل الفجر نجا بأعجوبة من خنجر رجل كامن له، ولولا يقظة الحوذي وإعمال سوطه في أظهر الخيل حثا على شدة الإسراع في الجري لذهب الإمبراطور ضحية طيشه ومغامرته.
وعرضت له حادثة أخرى أخطر شأنا من هذه، خلاصتها أنه خرج ذات ليلة قاصدا فندق بوفر حيث كانت الكونتس تنتظره، ومعه رئيس أركان حربه الجنرال فليري وغريسلي أحد رجال الشرطة السريين، وكانت إحدى الجواري واقفة أمام غرفة الكونتس فأدخلت الإمبراطور ورئيس أركان حربه إليها، وتغفل الشرطي الجارية وانسل إلى خلوة مظلمة مقابل باب الغرفة. وبعدما أغلق الباب صفقت الجارية يديها وعلى الفور خرج رجل من غرفة مجاورة وسار يسترق الخطى نحو الغرفة التي فيها الإمبراطور والكونتس. وفيما هو يدير مقبض الباب بيده فاجأه غريسلي بضربة من الوراء طرحته خامد الأنفاس فاقد الحواس، وحاولت الجارية الغادرة الفرار فانقض عليها وشد وثاقها وأقفل عليها باب إحدى الغرف، وعاد بالإمبراطور من حيث أتى على رغم تنصل الكونتس من الجريمة وما ذرفته من الدموع توسلا إلى حمله على البقاء عندها. ولولا شدة يقظة غريسلي ومتانة ذراعه لبات سيده في عداد الموتى.
أفكانت الكونتس كما ادعت بريئة لا يد لها في هذه المكيدة المعدة لاغتيال عاشقها؟ (وقد وجدوا مع الرجل الذي قتله غريسلي طبنجة وخنجرا). وإن لم تكن بريئة فماذا أرادت بإقدامها على اقتراف هذا الإثم العظيم؟ هذان السؤالان لم يستطع أحد الإجابة عنهما. وفي صباح اليوم التالي سير بالكونتس مخفورة إلى تخوم إيطاليا، فقضت بضعة أشهر معتزلة في أحد قصور تورين تندب سوء الحظ الذي عرقل مساعيها وختمها بهذه العاقبة الوخيمة.
ولكنها لم تكن من النساء اللواتي يستسلمن إلى صروف الدهر ونوائب الأيام، ففي أثناء إقامتها في باريس تمكنت من الوقوف على شيء كثير عن نبوليون وكانت مستودعا لأسراره، فلم يصعب عليها أن تحمله على استدعائها. ولم تلبث أن عادت إلى باريس واستردت مقامها كسلطانة الجمال وملكة قلب الإمبراطور. وكانت سيادتها هذه المرة أوسع نطاقا وأشد توطيدا، فأرت سكان باريس من باهر حسنها وجمالها ما خطف أبصارهم وسحر أفكارهم.
ففي كل يوم كانوا يتناقلون الأحاديث عن قصة جديدة تتسلق بشدة جسارتها وغرابة أطوارها، ولا سيما فيما يختص بتبرجها وعرض محاسنها الفاتنة للأنظار على وجوه متنوعة وأساليب مختلفة لا محل لذكرها بالتفصيل. وكان لها بهذا الغرض ولع يفوق الوصف، ولم تنقطع عنه حتى في أيام مرضها؛ إذ كان الطبيب يأتي لمعالجتها فيجدها مضطجعة في سريرها وغارقة بين أنفس النمارق وأفخر الوسائد وأنوار الحلى والجواهر تتألق من شعرها المسترسل، وجيدها وذراعها ويديها في غرفة مملوءة بالأزهار والرياحين. وكان إعجابها بجمالها كثيرا ما تعدى حد الصراحة الداعية إليه فيحمل على محمل الغرابة والاستنكار. مثال ذلك أنها كانت تقول لزائرها: «أتود أن ترى ذراعي؟» وقبل أن يجيبها بالقبول تحسر كمها عن ساعد منقطع النظير في حسن خلقه وجمال تكوينه. وهكذا كانت تفعل في عرض ساقها التي لم تقل عن ساعدها دقة وأناقة. ومما يدلك على شدة إسرافها في الإعجاب بجمالها أنها دعت إليها أحد كبار المصورين في فرنسا ليصورها على مثال الزهرة (إلهة الحب والجمال)، ففعل حسب طلبها، وجاءت الصورة آية في الإتقان. ولما رأتها الكونتس هاجت فيها الغيرة وصاحت: «إنها أجمل مني!» ثم تناولت سكينا وشرطت الصورة وجعلتها طعاما للنار.
ومع شدة اهتمامها بشئون الهيئة الاجتماعية وأحوال العشق والغرام، لم تغفل طرفة عين عن المهمة الأساسية التي لأجلها جاءت إلى باريس. وفي سبيل قضائها استخدمت ما أوتيته من حسن وجمال ونبوغ وعبقرية، فتملقت نبوليون وتزلفت إلى السفراء والوزراء، ورقت بسحر سنائها وبهائها كل ذي شأن في سياسة أوروبا، فنالت بثقافتها وكياستها أكثر جدا مما غالى كافور في توقعه. فقد قالت في كتاب بعثت به إلى صديقها الجنرال إستنسلين: «حملت فكتور عمانوئيل إلى رومية، وقلبت عروش سبع أسر نبوليونية وبوربونية وبابوية، فأنشأت إيطاليا وأنقذت البابوية.» ومهما يكن من تباهيها وافتخارها، ففي كلامها جانب كبير من الصحة.
وبسقوط الإمبراطورية في فرنسا زال عهد عظمة الكونتس، وأخذت منزلتها الرفيعة في السقوط والهبوط. على أنها تحملت هذا الانقلاب بالصبر والتسليم قانعة أن تعيش بذكرى أيام عزها وانتصارها. أما الشيء الوحيد الذي لم يسعها الصبر عليه فهو فقد جمالها، وكان جمالها في هذا الوقت قد مالت شمسه إلى الغياب، وشرع ظله يزول ولونه يحول. وراعها جدا أن ترى نفسها مهددة يوما بعد يوم بفقد شعرها الجميل وأسنانها الدرية ونضارة محياها البهيج، وأخذت قامتها التي كانت مثال الهيف والرشاقة والاعتدال تعوج وتذبل وتتقلص. وطفقت كثيرات من حواسدها يشتفين ولو سرا بما فعلته يد الأيام «بملكة الجمال».
وكان أمر غصة تجرعتها في كأس إذلالها وتحقيرها عجزها عن غل يد الزمان، ومنعها عن هدم صرح جمالها. وأقل ما استطاعته في هذا السبيل أن تحول دون إطلاع الناس على ذبول غصن حسنها وأفول بدر بهائها. فصارت تمتنع شيئا فشيئا من حضور الاحتفالات والاجتماعات، ومالت إلى الانفراد والاعتزال. وطالت الفترات بين زياراتها حتى لأعز أصدقائها وصديقاتها. ويروى عن عقيلة والسكا أن جاريتها جاءت إليها قائلة إن في الباب سيدة تروم مقابلتها، وقد أبت أن تبوح باسمها، فهرعت لاستقبالها ودعتها إلى الدخول، وكانت محجبة وفي يدها طاقة أزهار، فلم تتمكن من معرفتها، فقالت لها السيدة: «علمت أن اليوم عيد ميلادك فجئتك مهنئة ومهدية إليك هذه الأزهار.» قالت هذا وهمت بالانطلاق، فعرفتها عقيلة والسكا من صوتها، وقالت لها: «تمهلي قليلا ولا تعجلي في الذهاب. أزيحي نقابك ودعيني أرى وجهك.» فترددت الكونتس غير جاسرة على السفور تفاديا من اطلاع صديقتها القديمة على التغيير الملم بوجهها الشاحب، ولكنها تغلبت على ضعفها وسفرت. فلما رأتها عقيلة والسكا صاحت: «إنك لا تزالين مزدانة بجمالك الباهر الفتان! فادخلي ودعي جميع الذين عندي يتملون مشاهدة هذه المحاسن الساحرة.» فانقادت الكونتس آخر مرة إلى سلطان التملق والغرور ودخلت إلى البهو الخاص بالزائرين والزائرات، وهؤلاء جميعهم شنفوا أذنيها بما شاءت من التغزل بحسنها وجمالها.
ولكنها في صباح اليوم التالي نظرت في مرآتها الصادقة التي لا تعرف الملث والنفاق، فأرتها حقيقة نفسها ونبأتها أن جمالها استقل جناحي نعامة، وطار ولم يبق لعينه إلا شيء قليل من الرسوم والآثار. وحينئذ ربعت على ظلعها وعزمت على القبوع في منزلها وعدم الخروج منه، وأبت أن تستقبل أحدا ما عدا بعض الأصدقاء الأخصاء، وفي مقدمتهم الجنرال إستنسلين.
وعلى توالي السنين تقوض صرح جمالها ولم يبق له أقل أثر. وكان لها في باريس عدة منازل فخمة لم تطأ رجلها واحدا منها منذ أكثر من عشرين سنة، وكان عندها مركبات فاخرة وجياد كريمة معدة لها، ولكنها لم تستخدمها قط. وكانت من وقت إلى آخر تخرج متنكرة في ظلام الليل وتنطلق ماشية إلى شارع كستليون وتلبث بضع دقائق شاخصة إلى الجدران التي قضت داخلها سني عزها ومجدها، ثم تعود أدراجها إلى منزلها في «بلاس فندوم»، حيث قضت أيامها في عزلة وشقاء داخل أبواب مغلقة ونوافذ موصدة على نور مصباح ضئيل لا يقوى على تمزيق حجب الظلام.
ولما شعرت بأن الموت قادم ليريحها من حياة هي شر من الوفاة كتبت إلى صديقها الحميم إستنسلين: «أرجو ألا تنسى ما أوصيتك به. أروم جنازة بسيطة خالية من آثار البهارج والزخارف؛ لا أزهار ولا صلاة في كنيسة ولا مشيعين على الإطلاق. وأرجو أن تحول دون كتابة شيء عني، وأن ترد إلي صوري.» وهذه الأمور كررت ذكرها في وصيتها. فقد ظلت ثلاثين سنة محجوبة عن العالم، وأرادت أن تبقى كذلك في موتها.
وكانت وفاتها بالسكتة الدماغية في اليوم الحادي والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1890، ودفنت في مقبرة «بير لاشير». وإلى اليوم يرى زائر هذه المقبرة صفيحة من حجر الغرانيت فوق الرمس الذي توارت فيه أجمل امرأة كانت في عصرها.
ملكة مشعوذة
آسرة القلوب برقتها ولطفها، وموغرة الصدور غيظا من قساوتها وعنفها، عالمة نحريرة وخرقاء حمقاء، وسياسية ربة حنكة ودربة، ومجانة سليطة اللسان وكثيرة الهذر والهذيان. هكذا كانت خرستينا ملكة أسوج، وسيبيل
1
القرن السابع عشر وسميراميسه. فكانت حياتها حافلة بالمتناقضات التي راعت أوروبا من جهة وساءتها من جهة أخرى. وهذه الحوادث التي هي أغرب ما يرويه التاريخ عن ملكات العالم تترك في نفس من يطالعها أثرا عميقا ممزوجا من العجب والاشمئزاز.
وكان ظهور خرستينا على مسرح الحياة الذي مثلت منه فصول أعمالها المتضاربة المتناقضة مقرونا بمرارة الخيبة والحرمان؛ لأن والديها والأسوجيين كافة كانوا يعللون نفوسهم قبيل ولادتها بولد ذكر يرث عرش أبيه طبقا لما سبق وبشر به العرافون والمنجمون. فلما عرفوا أن الطفل المولود بنت لا صبي شملهم الحزن والغم، وكان يوم ميلادها مناحة عامة في بلاط الملك وقصور الأغنياء وأكواخ الفقراء. ويقال إن الملكة نفسها تجرعت غصة خيبة لم تنس مرارتها في حياتها، ولم تستطع أن تنظر إلى ابنتها إلا بعين المقت والكراهية.
وكان أبوها الملك غستافس أودلفس أشقر الشعر كبير الجسم قوي البنية، وله في ذراعه متانة الحديد وفي قلبه بسالة الأسود، وكان في الحرب شديد الشكيمة صعب المراس ، وفي السلم ألطف من نسيم الصباح. ومع شدة ميله إلى مقارعة الأبطال في ساحة النزال كان شغوفا بالعلم ومجالسة العلماء؛ جنديا باسلا وعالما فاضلا، وهذه الصفات المتباينة ورثتها عنه ابنته.
وورثت عن أمها كثيرا من العيوب والنقائص، ولعلها لم تأخذ عنها فضيلة واحدة؛ لأن الملكة ماري كانت غاية في البله والغباوة ومصابة بهوس التباهي بالملابس ومعاشرة السوقة والغوغاء. فكانت تقضي معظم وقتها محاطة بالأقزام والمجان، وإذا خلت بنفسها استسلمت إلى الهواجس والوساوس، واستخرطت في العويل والبكاء. فكان نسيج حياتها لحمته الغرور وذرف الدموع وسداه الجهل والحماقة.
ولما كانت خرستينا ابنة ست سنوات توفي أبوها سنة 1632 وهو يحارب حرب الأبطال في معركة لوتزن، فاتسع للملكة البكاءة مجال النوح والانتحاب والحزن والاكتئاب، فغشت غرف القصر كلها بالسواد، وانقطعت لمواصلة البكاء ليلا ونهارا، وأكرهت ابنتها على مشاركتها في العويل والنحيب. وحينئذ تصدى لها الوزير أوكزنستيرن، فأرسلها إلى قلعة بعيدة لتبكي هناك ما تشاء، وجعل الفتاة الصغيرة ولية العهد تحت وصايته ورعايته.
فقضت خرستينا عشر السنين التالية وحولها أساتيذ العلوم والفنون الذين توافروا على تثقيفها وتهذيبها، وإعدادها للجلوس على عرش أبيها. وقد رأوا منها رغبة واجتهادا منقطعي النظير. فإنها لشدة كلفها بإحراز العلوم كانت تنصب على الدرس والمطالعة حتى في أوقات أكلها ونومها، ولم تبلغ منتصف العقد الثاني من سنها حتى كانت قد تضلعت من معرفة ثماني لغات؛ فبرعت في اللغة اليونانية (القديمة) براعة فائقة، وأعجب العالم بمطالعة ما دبجه يراعها في اللغتين اللاتينية والفرنسوية. وشرعت تباحث المطارين في المسائل اللاهوتية، والفلاسفة في المواضيع العلمية العويصة، والوزراء في الشئون السياسية. وهي كالجنود في استخدام الأقسام وما خشن وغلط من الكلام، ولها براعة تامة في الرماية والفروسية.
أما الملابس فكانت تحتقر شأنها كل الاحتقار، ولا تعنى بالنظافة، وأما الازدراء الأشد والأعظم فكان لبنات جنسها ولكل ما يتعلق بهن، وودت لو كانت رجلا، وظلت إلى آخر يوم من حياتها رجلا في كل شيء ما عدا الجنس.
ومع أنها كانت قصيرة القامة وغير حسنة الشكل؛ لأن إحدى كتفيها أعلى من الأخرى، لم تخل من بعض الجواذب. وكانت أحسن ما ترى محلولة الشعر يتطاير في الهواء موردة الخدين ساطعة العينين وهي ممتطية صهوة جواد ينهب بها الأرض نهبا.
وقد شانها منذ حداثتها كثير من العيوب التي هي نفسها أقرت بها ولم تنكرها، فاعترفت بأنها سيئة الخلق سريعة الغضب ودعابة كثيرة العبث والمجون وشديدة التهكم والازدراء، وقليلة الاهتمام بما يجب على بنات جنسها مراعاته من الحشمة والنزاهة، ولم يكن للأدب عندها معنى ولا حرمة؛ إذ كانت عطلا من حلاه.
ولما أكملت خرستينا دروسها تسلمت مقاليد الحكم وظهر من صفاتها الحقيقية ما كان محجوبا وراء ستار الاهتمام بتحصيل العلوم. فحذت حذو كاترين إمبراطورة روسيا في اختيار عشاقها ومحبيها من ندمائها وجلسائها، أو من أية طبقة كانت من طبقات الرعية مفضلة أجملهم طلعة وأحسنهم صورة. وكانت تعمد إلى تبديلهم وتغييرهم كما تفعل في تبديل ملابسها. وكان الكونت مغنوس غاردي في طليعة الذين اصطفتهم أولا لعشقها وغرامها، فخصته بالعناية والالتفات وأسبغت عليه الرتب والوسامات والهدايا، وجعلته قهرمان قصرها ثم أمين خزانة الدولة. وأخيرا عينته سفيرا، وكان ذلك حين ملته وسئمت معاشرته، فتنقصته وجبهته ملقبة له بالسكير الكذاب، وتبدلت منه بيمنتلي الإسباني. ثم نحت هذا واستبدلت به غيره، وهكذا كان لكل من أولئك العشاق حظ التمتع بعز كبير القدر قصير العمر. ولكن هذه المسرات الزائفة الشائنة لم تكف شهوات قلبها، بل ظل فيه فراغ كبير وشوق شديد لمجالسة كبراء العلماء والشعراء والفلاسفة في أوروبا. وهذا الشيء الشديد إلى المباحثات العلمية والمطارحات الفلسفية لزب بها يوما فدفعها إلى التفريط في حياة دسكارتس المنكود الحظ؛ إذ جرته من فراشه الساعة الخامسة من صباح يوم شديد الزمهرير ليباحثها في الأمور الفلسفية.
وبعدما صارت ملكة ظلت مهملة العناية بملابسها ومظاهرها؛ فقد قيل عنها أنها لم تمشط شعرها إلا مرة في الأسبوع، وكثيرا ما كانت تمهله أسبوعين. وفي أيام الآحاد كانت تفرغ من زينتها ولبس ثيابها في نصف ساعة فقط وفي بقية الأيام ربع ساعة. وكانت ملابسها الداخلية مرقعة ممزقة. ولما أشار أحد جلسائها إشارة لطيفة رقيقة إلى فضيلة النظافة وطهارة الجسد صاحت به: «هذا حسن للذين ليس عندهم شيء يلهيهم عنه.»
وفي أثناء بحثها في الدين أو الفلسفة كان كلامها في الغالب خاليا من آداب المحادثة ومفرغا في قوالب فظة سمجة. وعندما يجتنب محدثها التفوه أمامها بألفاظ لا يليق النطق بها، ويستبدل بها كلمات مأنوسة مألوفة كانت تعارضه وتستخدم الألفاظ التي يتحاشى حتى الرجال سماعها. هكذا كانت الملكة خرستينا في فجر صباها. قبلما أرخت العنان لهذه النقائص والرذائل التي هبت من ذلك الحين تتمكن فيها، وتستعد للاستئثار بها والتغلب عليها فيما بعد. وكانت بداءة استفحال هذه الشرور يوم وصول بوردلت إلى بلاط أسوج. كان هذا الرجل ابن حلاق فرنسوي، وبعدما ألم إلماما بسيطا بصناعة الصيدلية جال في أوروبا منتحلا حرفة الطب، ومدعيا كشف أسرار عجيبة غريبة تمكنه من شفاء جميع الأدواء والأمراض. وكان بوردلت هذا بشوشا طروبا سريع الخاطر كثير الدعابة والمزاح، بارعا في الغناء والموسيقى وله مهارة فائقة في إبهاج الآخرين وإدخال السرور إلى قلوبهم. فتعشقته النساء ولقيت بضاعة شعوذته وتدجيله رواجا حتى عند البابا نفسه، وكان عازما على ترقيته إلى رتبة كردينال لو لم يعرض له ما قضى بتعجيل سفره من رومية.
وعما قليل دعي بوردلت إلى أسوج لمعالجة الملكة خرستينا التي خيل إليها أنها مشرفة على الموت. والحق يقال إنها كانت حينئذ مريضة مرضا شديدا لما قاسته في السنين الماضية من عناء الانكباب على الدرس والمطالعة وإهمال مراعاة القوانين الصحية. فبعدما فحصها أمر بأن تهجر الكتب والدروس وتعكف على اللهو والطرب. وسرعان ما عملت الملكة بموجب مشورته؛ فإنها على الفور طفرت طفرة واحدة من جانب الإفراط إلى جانب التفريط: أعرضت عن الكتب والعلماء والشعراء والفلاسفة، وانغمست في حمأة الخلاعة والدعارة. وأخذت تقضي ليلها ونهارها في الرقص والتهتك جاعلة أهل بلاطها يقتفون خطواتها، وأكرهت كبار الأساتيذ ذوي الرزانة والوقار على الرقص والغناء، وتمثيل فصول الدعابة والمجون، وإتيان ما تقز منه النفوس وتغضي عنه العيون، وهي تتملى مشاهدة أعمالهم السخرية طيبة النفس قريرة العين وممعنة في الضحك إمعانا يسيل دموعها على خديها.
وكان الأسوجيون ينظرون إلى هذه المخازي بعيون الاستفظاع والاستنكار، فأجمعوا على أن الملكة مصابة بدخل في عقلها. فقد خصت بوردلت الدجال بأعلى المناصب والرتب في الحكومة والجيش، وغمرت ابن الحلاق زعيم لذاتها ومسراتها بفيض النعم والهبات، فازداد تماديا في الغطرسة والطغيان وإتيان فضائح تقشعر من ذكرها الأبدان، وباتت بلاد أسوج بحذافيرها رازحة تحت أعباء المكوس والضرائب التي اقتضاها غلو الملكة في التبذير والإسراف. وبلغ من شدة حنق الناس على بوردلت أن حياته أصبحت في خطر؛ ولذلك لم ير بدا من الإسراع في النجاة بنفسه. فتوارى ذات ليلة عن الأبصار وفر هاربا بثروة لا تقدر.
وبعد فراره ملت خرستينا العرش وسئمت معاشرة الأسوجيين الفقراء المدقعين، وتاقت نفسها إلى السفر والطواف في عواصم أوروبا للتنعم بلذات لا سبيل للحصول عليها في بلادها، فجمعت مجلس الشيوخ ذات يوم سنة 1654 وأعلنت تنزلها عن العرش لابن عمها شارل أغسطس، وعلى رغم إلحاح أعضاء المجلس والوزراء وجميع أعيان الأمة عليها بالبقاء أصرت على عزمها واتخذت أهبتها للسفر. فجمعت أثمن ما عندها من نقود وحلى وجواهر، وقصت شعرها ولبست ثياب رجل، وحملت بندقيتها على كتفها مدعية أنها ذاهبة للكفاح في فلاندرس، وكان هذا آخر عهدهم بها.
وبعد بضعة أسابيع ألقت عصا التسيار في بلاد الدنمرك منتحلة اسم ابن الكونت دولما، وهناك زارتها في الفندق المقيمة فيه ملكة الدنمرك متنكرة في زي جارية، وقد أجادت تنكرها كل الإجادة، حتى إن خرستينا لم يخامرها أقل ارتياب فيها. وقد شاقها ظرفها وأدبها ومالت إلى محادثتها عن أمور مختلفة تناولت فيها ذكر ملك الدنمرك، فأشارت إليه باسمه مجردا عن نعوت التجلة وألقاب الاحترام. وعندما غادرت خرستينا الفندق أرسلت الملكة حاجبا في أثرها يخبرها بأن الخادم التي ذكرت على مسمعها اسم ملك الدنمرك بعدم احترام لم تكن سوى الملكة، فلما سمعت خرستينا كلامه قهقهت ضاحكة وصاحت: «ماذا؟ تلك الخادم التي قضت وقت تناولي الغداء واقفة أمامي كانت ملكة الدنمرك؟ إذن أصابها ما يصيب عادة أصحاب الأخلاق الشاذة والطباع الغريبة؛ فإنهم في الغالب يطلعون في تنكرهم على أكثر مما يودون. فهي الملومة لا أنا؛ لأني إذا لم أمنح موهبة معرفة الغيب لم أستطع معرفتها وهي ظاهرة في لباس كهذا.»
ومن هناك شخصت إلى همبورغ ومعها بعض الخدم والحشم، وكانت كلما مرت في طريقها بمدينة تدخلها بأبهة وعظمة مرتدية حلة رسمية سنية، وممتطية جوادا مطهما، وسائرة في موكب فخم جليل في الشوارع الكبرى، والجماهير يزحمون بعضهم بعضا لمشاهدتها والهتاف لها وإلقاء خطب الاحتفاء بها. ولكنها كانت بعض الأحيان لشدة نزقها ورعونتها تشوه محاسن هذه الاحتفالات بما تبديه من أمارات الاستخفاف والاستهزاء بالمرحبين والهاتفين، أو تتصدى لمقاطعة الخطيب بقسم غليظ جهير أو بنكتة أو بقهقهة شائنة.
وكانت بعد حفلة استقبالها تختفي عن الأنظار وتطوف متخفية من فندق إلى فندق لمنادمة الغوغاء ومسامرتهم، ثم تستأنف المسير إلى مدينة أخرى وتدخلها - كما سبق الوصف - دخول الغالب الظافر. وفي مدينة بروكسل حيث استقبلت كأعظم ملكة أعلنت قبولها للمذهب الكاثوليكي قائلة إنها قد ملت سماع مواعظ الإنجيليين الطويلة الركيكة! ولما أقيمت لها حفلة الارتداد في أنسبروك أزعجت الحضور وأسأمتهم بثرثرتها وكثرة هذيانها. وعندما أقاموا لها في المساء حفلة تمثيل قالت لهم: «يخلق بكم أيها السادة أن تمثلوا لي رواية مضحكة؛ لأني مثلت لكم فصلا سخريا!»
ثم أغذت السير إلى رومية للتبجح والتباهي بإيمانها الجديد، فلقيت من كرم الوفادة والمبالغة في الترحيب ما يفوق الوصف، فهرع لاستقبالها الكرادلة والمطارين والعظماء والسفراء كل منهم في مركبته الفاخرة يجرها ستة من الخيول المطهمة المسرجة بالذهب والفضة، وخرجت معهم أشراف سيدات رومية يحيط بكل منهن أربعون حاجبا. وأنفق البابا على هذا الاستقبال النادر المثال ما ينيف على ستمائة ألف جنيه.
وجرى لها استقبال أفخم من هذا وأعظم عندما زارت الفاتيكان لتنعم بالتيمن بمشاهدة البابا ونيل بركته. فإن ذلك اليوم كان عيدا عاما لسكان رومية، اصطفت فيه الجنود على جانبي الطريق، وسارت الملكة الكاثوليكية بين قصف المدافع وقرع الأجراس وإيقاع الآلات الموسيقية على صهوة جواد أبيض بين كردينالين في طليعة موكب لا يدرك الطرف آخره.
وقد أحدثت في رومية كما في غيرها تأثيرين متناقضين؛ فمن جهة بهتت الناس وأدهشتهم بشدة ذكائها وسرعة خاطرها، ومن جهة أخرى أذكت نار استيائهم واشمئزازهم بطيشها ورعونتها. وأوغلت ما شاءت في مغازلة الكرادلة ورقت بسحرها عقول كبار الأعيان والنبلاء، وجعلت الفاتيكان مسرحا للهو والمرح، وأغرت طلبة الكلية المقدسة أن يقتدوا بها في الذهاب كل ليلة إلى المسارح والملاهي. ويقول دوران: «إن شرفة لوج خرستينا كانت كل ليلة غاصة بالكرادلة الممتعين أنظارهم برؤية الراقصات والمغنيات اللواتي جئن إلى رومية بدعوة منها.» وكانت إذا حضرت الصلاة في الكنيسة تقصر فيما يجب عليها من إبداء الخضوع والاحترام، وتلهو بمضاحكة الذين حولها وممازحتهم، أو بالمجاهرة بانتقاد طرق العبادة على مرأى المصلين ومسمعهم.
وقد أسرفت في تبذير ما عندها من المال وإنفاقه على مسراتها وشهواتها حتى باتت صفر الكف، فاستعانت بالبابا طالبة أن يقرضها مبلغا. ولما عرض عليها قداسته راتبا شهريا قدره أربعمائة ريال بشرط أن تصلح سيرتها وتعتدل في نفقاتها، استشاطت غيظا وحنقا ورهنت جواهرها وبرحت رومية نافضة غبارها عن قدميها.
وانطلقت إلى فرنسا حيث تعيد تمثيل مجالي الأبهة والعظمة ومظاهر الطيش والحماقة. وفي كل مدينة عرجت عليها في رحلتها الملكية كانت تستقبل بالخطب السمجة المملة والحفاوات السنية. وكان الملك قد أوفد الدوق دي غيز لاستقبالها ومرافقتها، فوصفها بقوله: «طويلة القامة بدينة الجسم جميلة اليدين والذارعين غير مستوية الكتفين عريضة الوركين، تفرط في استعمال الغمنة (البودرة) لوجهها والدهون لشعرها. ولها أحذية الرجال وصوتهم وطرقهم. ومع شدة عجبها وكبريائها تراها بعض الأحيان دمثة الخلق لينة العريكة. تتكلم بثماني لغات، وهي في العلم والأدب كأبرع خريجي المدارس العليا. وحقا إنها شخص عجيب غريب.»
وكان الاحتفال باستقبالها في باريس لا يقل في رونقه وعظمته عن استقبالها في رومية، فدخلتها على جوادها الأبيض وجماهير المستقبلين لها يعدون بعشرات الألوف، وهي لابسة صدرة قرمزية اللون وعلى رأسها قبعة مزدانة بالريش الطويل، وقدامها على جانبي السرج طبنجتان وفي يدها خيزرانة. وبعدما نالت مشتهاها من دخول باريس في موكب كبار الملوك والقياصرة ذهبت لزيارة الملك والملكة في كمبيان. وقد وصفها بعض الذين شاهدوها في حضرة الملك فقال: «كان شعرها مشعثا ونقبتها (تنورتها) القصيرة منحسرة عن حذاء ضخم طويل كأحذية الرجال، وعليها سمات الجلافة والخشونة فهي بنورية (غجرية) أشبه منها بنروجية. ويداها قذرتان وسختان لقلة تعمدهما بالغسل والتنظيف.» وعلى رغم هذه المظاهر المستقبحة وقعت في نفس الملك وقعا حسنا جدا، وقال عنها: «إنها جميلة وإن لم تكن حسنة التناول.»
وكان ما ينقص خرستينا من سلامة الذوق وحسن التناول ظاهرا في جميع تصرفاتها. وقد اشمأز الملك لويس إذ رآها جالسة أمام أهل بلاطه على كرسي عال ورافعة رجليها على كرسي آخر مثله في العلو. وازداد تكرها واشمئزازا لما استعارته بعض خدمه المخصوصين لقضاء حاجات هي من شأن الإماء والجواري. وعلى رغم هذه المعايب وما أشبهها كشدة النزق وسرعة الغضب والانبعاث في الشتائم والأقسام، وعدم مراعاة آداب المائدة في أثناء تناول الطعام، على رغم هذه النقائض كلها كان في استطاعة خرستينا أن تظل مدة طويلة ناعمة بضيافة الملك لويس لو لم تتعرض لشئونه الخاصة وتقدم على المداخلة في شئون عشقه وغرامه. فقد ألحت عليه أن يتزوج ماري مانشيني ابنة أخت الكردينال مازارين ضد إرادة والدته التي أوعزت إليها بلطف أن تغادر فرنسا.
فاستأنفت أسفارها عودا على بدء. وفي طريقها إلى إيطاليا باتت ليلة في مونتارج حيث زارها ابن الملك ووصفها بما خلاصته: «دعيت للصعود وحدي إلى عليتها، فوجدتها في سريرها وعلى المنضدة شمعة بيضاء تستمد منها الغرفة نورا ضئيلا. وعلى رأس الملكة الحليق منشفة مكورة كالعمامة. ولم يكن للنظافة ولا للأناقة أثر على فضلها (ثوب النوم) ولا على شيء آخر حولها. فلم تكن جميلة ولا نظيفة.»
ولما وصلت إلى رومية كان استقبالها جافا فاترا، فقفلت راجعة إلى فونتنبلو. فلقيت فيها ما لقيته في رومية من التجهم والتقطيب وعدم الاحتفاء والترحيب. وإذ لم يكن الملك وحاشيته هناك أذنوا لها أن تقيم فيها وقتا قصيرا. وفي أثناء إقامتها وقع ذلك الحادث الفاجع الذي سود صحيفة خرستينا وقرن ذكراها بالعار والشنار إلى الأبد.
وخلاصة ذلك أنه كان بين أتباعها شابان من نبلاء إيطاليا وشرفائها؛ أحدهما المركيز سونالدتشي والآخر الكونت سنتينلي. وكانا كلاهما يتنازعان حبها والتقرب إليها، وكانت كفة سنتينلي الراجحة، فدبت عقارب الغيرة والحسد في قلب خصمه المركيز، وزور رسائل بتوقيع الكونت تتضمن طعنا جارحا في جلالتها. فلما بلغها ذلك وتحققت صحة التزوير الذي أقدم المركيز عليه، حمي وطيس سخطها وحنقها ودعتهما كليهما إليها. فحضر سنتينلي ومعه جنديان إيطاليان، وعرض رسائل القذف والطعن، وسأل مونالدتشي هل هو كاتب هذه الرسالة، فأنكر بادئ ذي بدء ثم اعترف، وجثا على ركبتيه عند قدمي الملكة طالبا صفحها وغفرانها، فأعارته أذنا صماء والتفتت إلى راهب كانت قد دعته إلى الاجتماع وقالت له: «خذ يا أبي هذا الرجل وأعده للموت وافعل ما يجب نحو نفسه.» ثم أشاحت عن المركيز المنكود الحظ الجاثي على ركبتيه قدامها ودخلت إلى غرفتها تلهو بمجاذبة وصيفاتها أطراف الدعابة والمجون.
ثم تلا ذلك وقوع كارثة هي من أفظع الفواجع في تاريخ البشر. فإن الراهب هاله الحكم بالموت على المركيز كما لو كان عليه هو. وذهب إلى خرستينا ليشفع فيه، فأعرضت عنه واستتلت هذرها وهذيانها. وجاءها المركيز نفسه ووقع عند قدميها وصاح: «رحماك! اصفحي عني إكراما لجراح المخلص.» فأجابته: «لا يمكنني ذلك.» ثم أصدرت أمرها إلى سنتينلي تقول له: «أكرهه على الاعتراف ثم اقتله.»
وما كاد المركيز يفرغ من لفظ آخر اعتراف على الأرض بما لا مزيد عليه من اللجلجة والغمغمة، حتى رفعه الكونت إلى جدار الرواق وفاجأه بأول ضربة من سيفه. وإذ كان المركيز أعزل تلقى السيف بيده فبرى ثلاث أصابع منها بري القلم ونثرها على الأرض. واشترك الجنديان في الحمل عليه حتى جندلوه والدم يتدفق من عدة جراح بالغة في رأسه وسائر أعضاء جسده، ثم عاجله الكونت بضربة من حسامه اخترقت حشاه، وختمت أفظع جريمة في تاريخ الإنسانية. وبينما كان محبها السابق ملقى مدرجا بدمائه يصرخ صرخات الموت، كانت هي جالسة في غرفة مجاورة وقهقهة فرحها تمتزج بأصوات نزعه ولفظه النفس الأخير.
ولما ذاعت أنباء هذه الجناية الوحشية أجفلت أوروبا بأسرها من شدة هولها وفظاعتها، وعدها الناس قاطبة أشنع ما اقترفته يد هذه الشيطانة الرجيم من الجرائم والموبقات. وحينما بعث إليها مازارين رسولا ينذرها بما يتهددها من الخطر في فرنسا أن حدثتها نفسها بالمجيء إليها، أجابته بكل سلاطة ووقاحة قائلة: «لو كان مونالدتشي باقيا حيا لما أحجمت دقيقة عن فعل ما فعلته به. إذن لا أرى أقل سبب يحملني على الندامة.» وبعد خمس وعشرين سنة ظلت على ما عهدها به الناس من الصلابة والوقاحة. ومما كتبته عن هذه الجريمة قولها: «لست أرى موجبا لتنصلي من تبعة مقتل مونالدتشي. فما أسخف هذه الضجة التي يثيرها الناس على حادث تافه كهذا! فإن أصروا على عد القتيل بريئا لم يهمني ذلك قيد شعرة ولا مثقال ذرة!»
وعلى هذا الأسلوب ظلت تنظر إلى تنقص العالم لها بعين الاحتقار وعدم الاهتمام إلى آخر ساعة من حياتها. ولما منعتها حكومة أسوج من دخول بلادها ثنت عنان جوادها عنها ضاحكة هازئة ووجهته شطر بلاد أخرى. ودبرت مكيدة لفصل بومارنيا عن أسوج بالقوة المسلحة، والاستيلاء على عرش بولونيا. ولما قطع البابا عنها الراتب تهددته بغزو الفاتيكان وخلعه عن عرش البابوبة. وقضت الثلاثين سنة الأخيرة من حياتها منبوذة من العالم كله وفي فقر واحتياج لا مزيد عليهما، ومع ذلك بقيت مثلا مضروبا في الوقاحة والعناد والزيغ عن سبيل الهداية والرشاد.
وحين شعرت بدنو الأجل عزمت ألا تغادر المسرح الذي مثلت فيه فصول حياتها إلا على وجه يملأ العالم دهشة واستغرابا. فأعدت من تكفينها حلة من الحرير الأبيض الناصع مطرزة بالفضة والذهب، ومصنوعة على أبدع مثال من الإجادة، واستعدت للمنظر الأخير من مناظر حياتها التمثيلية، متوقعة نزول الستار بثبات قلب ورباطة جأش.
وقد حضرتها الوفاة في يوم من شهر أبريل سنة 1659. وإن كانت قد شعرت بشيء من الأسف على مغادرة هذه العالم؛ فذلك لأنها لم تستطع أن تشاهد الاحتفال بدفنها. فإن رومية عزمت أن تشيعها إلى رمسها باحتفال فائق في عظمته وجلاله؛ إذ ألبست حلتها الحريرية الموشاة بالفضة والذهب، ووضع تاج على رأسها وصولجان في يدها، وسير بها في موكب ملكي باهر تحفه المهابة والجلال إلى كنيسة القديسة دروثيا التي وشحت بالسواد وأنيرت بالشموع.
وفي المساء نقل النعش إلى كنيسة القديس بولس يتقدمه خمسمائة راهب بأيديهم الشموع الموقدة يتبعهم رجال العلوم والفنون، ووراء النعش الكرادلة ورؤساء الأساقفة وكبار رجال السياسة وأرباب الجاه والثروة. وهكذا شيعت خرستينا إلى مقرها الأخير، ودفنت تحت قبة كنيسة القديس بولس أعظم كنيسة في العالم.
وقد مضى الآن نحو ثلاثة قرون على استراحة جسدها في قبره ووقوف نفسها أمام خالقها العظيم. ولا يزال ذكر سيرتها موضوع حدث المؤرخين والناقدين. وقلما اجتمع في إنسان غيرها ما اجتمع فيها من المتناقضات والمتغايرات: مواهب سامية جليلة مقرونة بنقائص شائنة ومعايب فاضحة وخيبة مرة. ومهما يكن من ذكائها النادر وبراعتها الفائقة، فإنهما لا يذكران بجانب رذائلها التي شبت عن طوق الوصف وجاوزت حد الإحصاء، ومثلتها لعيون معاصريها وقراء تاريخها شيطانة في صورة امرأة.
قالت مرة: «ذرية الملوك أشبه بالنمر والأسد التي يدربها مروضوها على ألوف من الألعاب والحركات، فتنظر إليها وتظنها بالغة حد الطاعة والانقياد، ولكن ضربة من مخلب واحد منها على غير توقع وانتظار تريك أن ترويض حيوان كهذا محال.» وهي نفسها كانت حيوانا لا يروض؛ لأنها كانت من حثالة الذرية التي أشارت إليها.
ملكة بلا تاج
في صباح اليوم السابع والعشرين من شهر يوليو 1784 بشرت جريدة المورتن هرلد قراءها بطلوع كوكب جديد في سماء لندن يبهر العيون بضياء حسنه ويأسر القلوب ببهاء جماله. فما اطلع الناس على هذا النبأ السار المفاجئ حتى أخذتهم الحيرة والدهشة، وجعلوا يتساءلون قائلين: «من هذه الجميلة الحسناء التي بشرتنا بقدومها الأنباء؟» فمعظمهم لم يسمعوا بها ولا عرفوا عنها شيئا قبل ظهورها على حين غفلة في عاصمتهم. ولكن كان في بعض أنحاء إنكلترة البعيدة كثيرون من الذين هاموا من قبل بقسامتها البارعة وبهجتها المونقة الرائعة. كانت هذه الشمس الطالعة في فلك الهيئة الاجتماعية في لندن حفيدة السر جون سمث كبير أسرة عريقة في النسب في دورهام، ومنذ حداثتها أسرت القلوب بقساوتها. ولما صار هلال جمالها بدرا تاما أصبحت مضرب المثل في بهائها الغض النضير، وحسنها المنقطع النظير، وكان يزين تقاسيمها البديعة التكوين والتامة التناسق ما هي مفطورة عليه من رقة الجانب ولين العريكة وسلامة الذوق وحسن التناول.
وبديهي أن جوهرة كهذه يكثر طلابها ويشتد التنافس في اقتنائها. وما كان أعظم دهشة الناس عندما أعرضت عن جميع خطابها الذين كانوا من نخبة الشبان وزهرة الفتيان، ومدت يد الرضا والقبول إلى المستر إدورد ولد، وهو من ذوي الثروة ولكنه أكبر من أبيها سنا! وطالما جلست على ركبتيه في أثناء طفولتها، وبعد سنة من اقترانها به خلعت حلة زفافها إليه ولبست السواد حدادا عليه. وبعد ثلاث سنوات تزوجها المستر توماس فتزهربرت وهو من أسرة غنية مشهورة، ولم تقض معه بضع سنوات حتى فجعت به وهي ابنة خمس وعشرين سنة، وقد ورثت عنه عقارا يبلغ ريعه ألفي جنيه في السنة.
ولما أراها الاختبار سوء حظها في الزواج عقدت عزمها على السياحة في أوروبا، فقضت فيها سنتين ثم عادت إلى لندن بحسن أغض وأنضر وجمال أبهى وأبهر، لتسحر العقول وتأسر القلوب. وكان ذلك يوم ذكرت جريدة المورنن هرلد خبر وصولها إلى لندن كما تقدم في صدر هذا الفصل.
ولما كانت لا تزال في إبان طراءتها ونضارتها وريعان زخرفها وبشارتها وعلى جانب من الغنى والثروة، فليس عجيبا أن نراها باسطة رواق سلطانها على كبار رجال لندن، وهي مستعبدة لقلوبهم ومستأسرة لنفوسهم. ولم يمض عليها بضعة أسابيع حتى أجمع كل من في لندن على تلقيبها بملكة جمال بارع رائع ليس لها فيها منازع، وبات أكبر الأغنياء والعظماء والأمراء يتسابقون إلى خطبة ودها وانتجاع رضاها. ولكنها كانت ترد جميع خطابها يتعثرون بأذيال الخيبة قائلة إنها اختبرت حظها من الحياة الزوجية غير مرة ولم يبق لها أقل ميل إلى تكرار التجربة والاختبار، على رغم ما تراه من المغريات المشوقات. وهي في حالتها الحاضرة ناعمة بظلال الراحة والهناء لا تجد مسوغا لمحاولة التبديل والتغيير.
ومع ظهور ولي العهد في طليعة خطابها وطالبي الاقتران بها، ظلت مصرة على عزمها، ولم تتزحزح عنه قيد شعرة. وغير معلوم لدينا أين التقى ولي العهد والأرملة الحسناء وكيف تعارفا. فالبعض يزعمون أنه لقيها في رتشموند، ويظن آخرون أنها بهرت عينيه بحسنها حين رآها في لوج اللادي سفتون في الأوبرى. ومن المحقق أنه لم يلبث بعد مشاهدته لها أن صار في مقدمة أسراها العانين لها والمشغوفين بها. ومما ينبغي ذكره ولا يصح إغفاله أن ولي العهد جوج كان من أجمل الشبان طلعة وأنبههم شأنا وأسلمهم ذوقا وأحسنهم تناولا. وكان معدودا في عصره ملك الثقافة والتأنق في استطراف الملابس والظهور في كل مظهر مستملح مستظرف.
هكذا كان الشخص الذي ظهر على مسرح التمثيل في حياة عقيلة فتزهربرت، وقدر له أن يمثل منها أعظم فصل انتهى بخاتمة مفعمة بالحزن والأسى. على أن أرملة فتزهربرت لم تواجه هيامه بها بشيء من التشويق والتشجيع، بل قابلته بالفتور والجفاء؛ لأنها لم تكن من النساء اللواتي يحملهن النزق والطيش على الاستسلام إلى هوى الأمراء والكبراء مهما يكن جمالهم بديعا ومقامهم رفيعا، والتعرض لما قد يكون في ذلك من خطر سوء الصيت وخبث الأحدوثة. ومما زادها حذرا واحتراسا أنه كان أصغر منها سنا وشديد التعرض للتقلب والتحول. ولكن إعراضها عنه ونفورها منه لم يكونا إلا ليزيدا نار هيامه احتداما واضطراما.
وفي كتبها إليه بينت موقفها تجاهه بما لا مزيد عليه من الوضوح والصراحة، فأجابته مرة حين سألها أن توافيه بعد الخروج من حفلة رقص قائلة: «أوافيك؟ كيف أوافيك؟ بل كيف تطلب إلي ذلك أنت ولي العهد المشهور في كياسته وسلامة ذوقه؟ أيصح في شرعك أن أقدم على لقاء كهذا أو أخاطر بما لي من حسن الصيت وطيب الأحدوثة؟» وكتبت إليه مرة تقول: «لماذا تقصر اهتمامك علي؟ فالنساء اللواتي هن أجمل مني لا يحصين عددا. اختر لنفسك منهن من تشاء ودع مرغريت المسكينة وشأنها.»
وقد بذل ما يستطيعه من الجهد في سبيل استمالتها إليه فلم يظفر بطائل، ولما هددته بفصم عرى صداقتها له إن لم يكف عن إعناتها وإزعاجها، صاح بصوت اليائس الجازع: «آه! ليتني كنت قادرا أن أهدم سياج التفوق الذي يفصلني عنك! إذن لتمكنت حينئذ من الوقوف أمام والدتي الملكة ومعي زوجة تضارعها في الفضائل، وأنا وشعبي في أشد احتياج إلى الاقتداء بمثالها والنسج على منوالها. ولكن آه من غرور الحياة وأباطيلها! إني شاعر باستحالة ما أروم، وآسف على ذلك من صميم فؤادي. فلا تحرميني التمتع بصداقتك، وهبي من لدنك عزاء لقلب حزين كسير.»
إلى هذا الحد بلغ اليأس والقنوط بولي العهد حين أخفقت مساعيه وخابت آماله، فهددها غير مرة ببخع نفسه والقضاء على حياته إن أصرت على رفض طلبه. وزاد عليه أن أخرج تهديده ذات يوم إلى حيز الفعل محاولا الانتحار. وخلاصة ذلك نقلا عن اللورد ستورتن: «جاء يوما الجراحي كيث واللورد أنسلو واللورد سوثمبتن والمستر إدورد بدفري مسرعين إلى منزل عقيلة فتزهربرت قائلين إن ولي العهد طعن نفسه بخنجر، وإن حياته في خطر لا ينقذه منه إلا إسراعها في الذهاب إليه. ومع شدة إلحافهم عليها في الذهاب أصرت على الامتناع. ولما تمادوا في اللجاج وأسرفوا في التوسل والاستعطاف، أجابت طلبهم مشترطة عليهم أن تصحبها سيدة ذات مقام رفيع؛ لأنها كانت موجسة خوف الوقوع في مكيدة تجر عليها العار والشنار. فانتدبوا دوقة ديفونشر وأخذوها معهم. ولما وصلت أرملة فتزهربرت وجدت الأمير مضرجا بالدماء وعلى وجهه صفرة الموت، فراعها منظره وكاد يغشى عليها من شدة الجزع والاضطراب. وقال لها الأمير إنه لا شيء يثنيه عن عزمه على تجرع كأس الموت إلا أن تعده أن تصير زوجة له، وتأذن له أن يضع خاتما في إصبعها. وأظن أن الخاتم الذي استخدم حينئذ في هذه الغاية لم يكن من عند الأمير بل استعير من دوقة ديفونشير. وسألتها عقيلة ديفونشير بعد ذلك ألا تظن أنهم احتالوا عليها بما لفقوه لها من حكاية محاولة الانتحار، وأن ما رأته على ولي العهد لم يكن دما؟ فأجابت سلبا وقالت إنها رأت بعينيها غير مرة أثر الجرح، وإنها عندما ذهبت إليه يوم طعن نفسه شاهدت قرب سريره قليلا من الكونياك ممزوجا بالماء.»
لكنها بعدما عادت إلى منزلها وخلت بنفسها وراجعت تفاصيل هذه الحادثة ناظرة إليها بعين التأمل والتدبر، اتضح لها فساد ما سبقت واعتقدت صحته، وتحققت أنها أخذت بحيلة سافلة، وأن شعيرة الزواج التي حصلت (إي إلباسها الخاتم) أضحوكة لا قيمة لها. فساءها ذلك وأضرم في قلبها نار الغيظ والحنق، وكتبت إلى اللورد سوثمبتن توسعه تقريعا وتوبيخا على ما بدا منه ومن رفقائه من الخداع الشائن المعيب. وفي اليوم التالي برحت إنكلترة وهامت على وجهها في عواصم أوروبا محاولة تناسي هذه الإهانة والهرب من وجه محبها.
وحينما بلغ الأمير جورج فرارها تنازعه عاملا حزن وغضب كادا يذهبان بصوابه. وقد وصفته عقيلة فوكز للورد هولند بقولها: «زارنا يشكو إلي وإلى زوجي تباريح هجر حبيبته له، فرأينا في بكائه وانتحابه، وفي كل حركة أبداها وكلمة نطق بها دليلا واضحا على شدة محبته لها وشغفه بها. وقد أقسم ليهجرن وطنه وتاجه وكل غال عزيز عنده ويتبعنها ولو إلى أقاصي الأرض.»
ولكنه كان غير قادر أن يبرح إنكلترة بلا إذن أبيه الملك، وقد رفض أبوه أن يأذن له في ذلك على رغم ما بذله من التوسل وما ذرفه من الدموع. وكان الملك جورج الثالث قد لقي من طيش أخويه وانبعاثهما في العشق والغرام ما أحرج صدره وأذهب صبره، ولم يترك عنده أقل جلد لتحمل شيء من هذا من ابنه ولي عهده ووارث عرشه من بعده.
فاستعان جورج بالرسل فانتشروا في عواصم أوروبا وأمهات مدنها يفتشون ويبحثون عن حبيبته الشاردة. ولما وجدوها في هولندة أخبروه، فكتب إليها رسائل مطولة يبثها فيها شوقه وغرامه، ويصف لها ما يعانيه في نواها من العذاب الأليم، ويتضرع إليها أن ترأف به وتعطف عليه وتسرع في العودة إليه، وإلا عرض نفسه للردى وذهب شهيد حبها وغرامها.
ولا يخفى أن إلحاحا شديدا كهذا لا بد له من أثر، وهكذا حدث، فإن عقيلة فتزهربرت لم يسعها أن تظل إلى النهاية مغضية عنه؛ لأن قلبها الرقيق لم يطاوعها على ذلك. فأخذت تشعر بشيء من الندامة وتوبيخ الضمير. وكانت قد سبقت فوعدته أنها لن تتزوج غيره، والآن ارتضت أن تقترن به إن لم يعارض الملك في ذلك، وعلى شروط أرضت ضميرها وإن لم يكن لها حق شرعي في أن تكون زوجة الأمير.
وفي يوم من شهر ديسمبر سنة 1785 رجعت إلى منزلها في بارك لاين، ولم يخطر قط في بالها في وقت انهماكها بالاستعداد للزواج أن الرجل الذي قبلته زوجا لها يصرح لعقيلة فوكز وزوجها بأنه لا صحة على الإطلاق لما يشاع من عزمه على الاقتران بأرملة فتزهربرت.
وفي اليوم الخامس عشر من شهر ديسمبر احتفل بزواجهما في منزلها، وقام بصلاة الإكليل قسيس شاب يدعى روبرت بورت بأجرة قدرها خمسمائة جنيه، مشفوعة بوعد رعايته والعناية به في المستقبل. وحضر الأمير ماشيا يصحبه أورلندو بردغمن. وقدم العروس خالها المستر أرنتون، وكان هو وأخوها جاك سميث شاهدين. وبما لا مزيد عليه من الحذر والتكلم جثا العروسان - ماري فتزهربرت وجورج ولي العهد - وفاها بالعهد الذي جعلهما زوجين.
وقضيا بعد ذلك سنة أو أكثر في صفاء وهناء لا يفارق أحدهما الآخر. وهذا الاتصال بينهما صار مصدرا لكثير من الإشاعات والأقاويل. وكانت أحوال الأمير المادية تزداد ضيقا وعسرا، ومست الحاجة إلى عرضها على مجلس النواب، وهذا ما شد عليه وطأة الحيرة والارتباك. فمن جهة كانت حاجته إلى المال بالغة أقصاها، ومن جهة أخرى يجب إبقاء زواجه سرا مكتوما؛ لأن اقترانه بزوجة كاثوليكية يقضي بحرمانه حق الجلوس على العرش.
فلأجل التخلص من هذه الورطة انساق بدافع جبنه وضعف عزيمته إلى إغراء صديقه فوكز بالتصريح في مجلس النواب بأن خبر اقترانه بعقيلة فتزهربرت من أقبح التخرصات السافلة والأراجيف الشائنة. وبناء على هذا التصريح قرر المجلس إيفاء ديونه ووافق على إضافة مبلغ عشرة آلاف جنيه إلى الاعتماد المخصص لنفقاته. ويقول اللورد ستورتن إن ولي العهد بكر في صباح اليوم التالي إلى أرملة فتزهربرت وقال لها: «يسوءني جدا أن أخبرك بما فعله فوكز أمس، فإنه وقف في مجلس النواب وأنكر صحة اقتراننا. فهل سمعت بأفظع من هذا الأمر؟» فلم تجبه بشيء، ولكنها امتقعت وعلا وجهها قتام الغيظ والغضب.
ولما أخبرته أنها بعد حدوث هذا الأمر المعيب لا يمكنها أن تعيش معه، أكد لها أنه لم يفوض إلى فوكز التصريح بإنكار اقترانهما، وأنه سينشر بيانا يكذب فيه هذا التصريح. وبعد أياما ألقى شريدان بيانا موعزا به من ولي العهد، وهذا البيان مع عدم الاعتراف فيه بالزواج يحمل سامعيه على الاستدلال والحكم بأن عقيلة فتزهربرت لم تكن سريته.
فعادت المياه بينهما إلى مجاريها بخيانة مزدوجة كان وجهها الأول ادعى للاحتقار والامتهان من وجهها الثاني. واستأنفت أرملة فتزهربرت علاقتها بزوجها الجبان ولكن على غير ما يرام من الصفاء والوئام.
وإليك وصفا موجزا لبعض ما كانت تعانيه منه في تلك الأيام مقتبسا من مذكرات المستر ريكس، قال: «كان الإفراط في تناول المسكرات شائعا في ذلك الحين، وكان من عادة عقيلة فتزهربرت ألا تنام قبل مجيء قرينها. وكثيرا ما كانت تسمع بعد نصف الليل وقع أقدام على الدرج تستدل منه على مجيء زوجها مع بعض أصحابه، وقد لعبت برءوسهم سورة الخمر وهم يضجون ويعربدون، فتفر هاربة من وجوههم مختبئة تحت إحدى الأرائك أو المتكآت. وكان الأمير يدخل وإذ لا يجدها في البهو يستل حسامه هازلا مازحا، ويأخذ في البحث عنها حتى يعثر عليها فيجرها من مخبئها مروعة مذعورة.
ولكنها على رغم ما رأته فيه - ولم تكن تعلمه من قبل - من قلة الأمانة والإخلاص وسرعة التقلب والتحول، وشدة الانغماس في مفسدات الأخلاق، لم تكن عيشتها معه خالية من بعض مظاهر الرغد والسعادة. وهذه السعادة الضئيلة القليلة كانت من وقت إلى آخر عرضة للحئول والزوال بما كان يشغلها من عسر الأمير المالي وضيق ذات يده .
وقد بلغ مرة من اشتداد عسره أنهما بعد رجوعهما من بريتون إلى لندن لم يستطيعا الحصول على مبلغ خمسة جنيهات كانا في أشد احتياج إليه. ولما تفاقم على الأمير خطب الإملاق وتراكمت عليه الديون، اضطر أن يلتمس النجاة من هذا الضيق الخانق بالاقتران بكارولين برنسويك، وكان ذلك على رغمه. فاستعان على تسكين جأشه وإخماد جذوة اضطرابه ساعة الاحتفال بزفافها إليه بتجرع مقدار كبير من الكونياك.
قال دوق بدفورد: روى لي أخي أن الأمير كان حينئذ في أشد حالات السكر، حتى إنه بالجهد استطاع أن يسنده ويحول دون سقوطه. وقد أفضى إلى أخي بأنه كرع عدة كأسات من الكونياك ليخدر بها أعصابه ويتمكن من تحمل هذه الصدمة - صدمة الاحتفال بالزواج على رغمه وضد إرادته.
وفي أثناء صلاة الإكليل ذرف الأمير دموعا سخينة عندما كرر رئيس أساقفة كنتربوري القول: «هل عند أحد مانع شرعي؟» والتفت إلى الملك وإلى ولي عهده. أما النتيجة المالية التي أحرزها الأمير من هذا الزواج الإكراهي فكانت إيفاء ما تراكم عليه من الديون، وزيادة دخله حتى بلغ مائة ألف جنيه في السنة.
وما أبطأ جورج بعد اقترانه بهذه العروس الغنية أن أعلن شدة رغبته في الرجوع إلى «زوجته في عيني الله» مصرحا جهارا بأنه لا يستطيع أن يحب غيرها. لكن أرملة فتزهربرت أعرضت عنه إعراضا تاما. ولما طلب إليها الملك والملكة وغيرهما من أعضاء الأسرة المالكة أن تقبل توسطهم في المصالحة بينها وبين الأمير، اشترطت أن يعترف البابا بصحة زواجها. وعندما وافق البابا على عقد الزواج عادت كما كانت قبلا زوجة محبة وأمينة لزوج ساقط الشأن وإن كان رفيع المقام. وقضت معه ثماني سنوات على ما شاءت من الصفاء والهناء. وأحسن جورج معاملتها وبالغ آله في إكرامها. وأطبق الناس على أنها جديرة بالاحترام اللائق بزوجة ولي العهد.
ولكن أنى يرجى دوام لأيام الصفاء والهناء مع رجل غملاج قلب حول كزوجها؟ فإنه لشدة تقلبه وعدم ثباته على حال واحدة، وتنقله في الحب من إحدى سيدات البلاط إلى غيرها، جرع أرملة فتزهربرت كثيرا من غصص الشقاء ونكد العيش.
وكان آخر ما أمضها منه وأكرهها على تركه هيامه بلادي هترفورد الجميلة، ولفرط شغفه بها تحول على زوجته وولاها ظهره. ولما أعدت الوليمة الملكية للويس الثامن عشر حضرت عقيلة فتزهربرت المأدبة وسألت زوجها أين تجلس؟ فأجابها بقحة واحتقار لا مزيد عليهما: «لا محل لك يا سيدتي.» فأجابته بعزة وشمم: «نعم. ولكن لو شئت لكان لي.» وعلى الفور قطعت علاقاتها بهذا الزوج الجبان الرواغ، وبموافقة الملك وغيره من أسرته انفصلت عن الأمير، وذهبت إلى بريتون حيث أقامت إلى آخر أيام حياتها، وقد تعين لها راتب قدره ستة آلاف جنيه في السنة.
وبعد ست سنوات جلس جورج على عرش أبيه فملك عشر سنوات، وقبيل وفاته أوصى بأن يدفن في فضلته (ثياب نومه) التي كان يلبسها حينئذ. ويقول اللورد البيمرل: «بعدما لفظ الملك النفس الأخير حضر دوق ولنتن الموكول إليه تنفيذ وصيته، ودخل إلى الغرفة الموضوع فيها جسد الملك، ودنا من سريره فوجد حول عنقه شريطة سوداء وسخة بالية فنزعها، وإذا فيها مثال صغير لصورة عقيلة فتزهربرت مرصع بالجواهر. ولأجله أوصى الملك بأن يدفن في الثياب التي كانت عليه.»
فحمل الملك جورج إلى ضريحه صورة التي وصفها في وصيته بقوله: «زوجتي المحبوبة المعبودة. قرينة قلبي ونفسي.» الزوجة التي أسرف في محبته لها وإساءته إليها. ورغبته هذه دل عليها دلالة واضحة بما كتبه قبل موته قائلا: «أروم أن أدفن وصورة زوجتي المحبوبة ماري فتزهربرت معلقة في شريطة حول عنقي كما كنت ألبسها في حياتي ومدلاة على صدري.»
وعاشت ماري فتزهربرت بعد زوجها سبع سنوات اكتسبت فيها محبة جميع الذين عرفوها لملاحتها وحسن تناولها وعكوفها على عمل الخير. وتوفيت في بريتون صباح اليوم التاسع والعشرين من شهر مارس سنة 1837 وعمرها 81 سنة.
ويقول عنها غرنفيل: «لم تكن ذكية ولكنها كانت متفوقة في شرف نفسها وكرمها وأمانتها واستقامتها وصدق محبتها وصحة ولائها وعدم محاباتها. وكانت محبوبة من جميع أنسبائها وأصدقائها ومحترمة عند أعضاء الأسرة المالكة.» وظلت آثار الحسن والجمال بادية عليها إلى آخر يوم من حياتها.
قال غرنفلي بركلي: «لست أنسى ملامحها الباهية البهجة المزدانة بكل ما يبهر العيون ويسبي العقول. وهذا الحسن البارع الرائع لم يفارق وجهها وقوامها وسائر تقاسيمها حتى في كهولتها وبداءة شيخوختها. ودام محياها في أيامها الأخيرة ساطعا بقبس جمال ضئيل أشبه بشفق الأفق بعد مغيب الشمس. وبالاختصار أقول عنها إنها كانت امرأة خليقة بالتجلة والاحترام ولم يعوزها لتكون ملكة سوى التاج».»
نامعلوم صفحہ