تأليف
الإمام الحجة
مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى
صفحہ 1
كتاب فصل الخطاب في خبر العرض على الكتاب
تأليف
الإمام الحجة مجد الدين المؤيدي أيده الله تعالى
[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله وسلام على عباده الذين اصطفى، اللهم اجعل أفضل صلواتك، وأجزل تحياتك وبركاتك، وأكمل سلامك وإكرامك، وأجل إجلالك وإعظامك، على رسولك الذي أرسلته رحمة للعالمين، وأمينك الذي أرشدت به الغاوين، وهديت به الضالين، وحجتك على عبادك إلى يوم الدين، الفاتح لما انغلق من رسالاتك، والخاتم لما سبق من أنباء سماواتك، وعلى أخيه ووصيه وابن عمه ونجيه ووليه وباب مدينة علمه الذي نزلته منه منزلة نفسه، واشتققت نوره المضي من شمسه، وغرسه الباسق الزكي من غرسه، وأيدته بسيفه القاضب، ونصرته بعزمه الماضي، الماحق بذي الفقار فقرات الكافرين، والقاطف بحسامه البتار أعناق الناكثين والقاسطين والمارقين، التالي له في مقامه وعهده والقائم بدينه في أمته من بعده، وعلى عترته الذين قرنتهم بكتابك وأقمتهم حملة لوحيك، وتراجمة لخطابك، فهم سفينة نوح وبابك باب السلم المفتوح، أورثتهم خلافة جدهم في الأرض، وأهلتهم للقيام بالسنة والفرض وجعلتهم أمانا لمن استمسك بهم إلى يوم العرض، وبعد:
صفحہ 2
[بعض نصوص حديث العرض على الكتاب]
فاعلم أيها الأخ وفقنا الله تعالى وإياك والمؤمنين إلى مراشد الهداية، ولطف بنا عن سلوك مداحض الغواية حتى نكون ممن استمسك بالعروة الوثقى واعتصم بالحبل المتين الأقوى، أن مما تداحضت فيه الأقدام وتزاحمت عنده ركائب الأعلام، قول صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله وسلم: ((سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي، فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته، وما خالف كتاب الله فليس مني ولا أنا قلته)). أخرجه الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم الصلاة والتسليم في كتاب السنة، والإمام الناصر لدين الله أبو الفتح الديلمي في كتاب البرهان تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((سيكثر علي الكذابة فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله عز وجل فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه)). وأخرجه الطبراني في الكبير عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((أعرضوا حديثي على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته)) ذكره السيوطي في الجامع الصغير وروى أيضا في الكبير عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((سئلت اليهود عن موسى فأكثروا فيه وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وسئلت النصارى عن عيسى فأكثروا فيه وزادوا ونقصوا حتى كفروا، وستنشأ عني أحاديث فما أتاكم من حديثي فاقرؤا كتاب الله واعتبروه فما وافق كتاب الله فأنا قلتهن وما لم يوافق كتاب الله فلم أقله)).
قلت: أراد بما لم يوافق مع المخالفة كما سيأتي، وذكر قاضي القضاة ما لفظه: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((سيأتيكم عني حديث مختلف فما وافق كتاب الله وسنتي فهو مني، وما كان مخالفا لذلك فليس مني ))
صفحہ 3
وهو مما اعتمده سادات الأئمة الكرام، كما نقله عنهم الإمام
الذي أحيا الله بعلمه معالم الإسلام وأفنى بسيفه طغاة الطغام أمير المؤمنين المنصور بالله أبو محمد القاسم بن محمد رضوا ن الله عليهم المتوفى سنة تسع وعشرين وألف في كتابه (الاعتصام) ولما لم يتضح لبعضهم المعنى فيه لم يعرج عليه ولم يرفع رأسا إليه.والمرء عدو ما جهله، وإلا فعند التحقيق لمعناه لا يتصور أن يرده ذو علم ولا يأباه.
[استدلال الإمام المهدي (ع) على صحة حديث العرض]
وقد أزاح عنه اللثام وأراح عن التجشمات لطامحات الأوهام ونزله على ما يطابق قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويوافق عمل الأئمة حماة المعقول والمنقول الإمام الأعظم المجدد لما اندرس من رسوم الحق الأقوم أمير المؤمنين المهدي لدين الله رب العالمين أبو القاسم محمد بن القاسم الحسيني الحوثي رضوان الله عليهم المتوفىسنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف قال رضي الله عنه: أما حديث العرض فقد رواه أئمتنا عليهم السلام الجلة منهم وصححوه واستشهدوا على صحته بما أفاده متنه، لأنه قال: ((سيكذب علي من بعدي كما كذب على الأنبياء من قبلي)) وروى خبر العرض السابق إلى أن قال: قالوا فلا يخلو إما أن يكون صحيحا أولا، إن كان الأول فهو المطلوب، وإن كان الثاني لزم منه صحته، لأنه قد كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأما كيفية العمل به فالمعنى الصحيح الظاهر فيه هو أن الكتاب والسنة لايتخالفان فإن تخالفا ردت السنة إليه لأنه الثقل الأكبر، ولأن السنة بيان له وإن خالفت السنة الآحادية الكتاب من كل وجه ردت وحكم بأن الحديث مكذوب -أي موضوع_.
صفحہ 4
[الأقوال في كيفية العرض وبيان أن ما في السنة على خمسة أقسام]
وقد اختلف في كيفية العرض على أنحاء، فقيل: لابد من عرض كل حديث وهذا يصعب إذ بعض الأحكام أخذت من السنة فقط.
وقيل: المراد العرض الجملي ومعنى فلا يأباه الكتاب ويوجد له فيه ماسة.
وقيل: بل يعرض ولو على قوله تعالى: ((ما آتاكم الرسول فخذوه)) وحينئذ فلايشترط إلا صحة كونه عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع عدم معارضته للقاطع من كل وجه وأمكن الجمع في الظنيات، فتحصل أن مافي السنة على خمسة أقسام:
[1] ما أمكن عرضه على الكتاب تفصيلا وهذا لاإشكال في صحته.
قلت: ومراد الإمام عليه السلام أنه لا إشكال في صحة العمل بموجبه، لأنه قد عرف حكمه من الكتاب ولم يكن إلا مؤكدا له إن صح، فأما الحديث فلاثقة به إلا بصحة طريقه، نعم ظاهر الخبر أن ماوافق الكتاب فهو صحيح من غير نظر في طريقه لقوله: ((فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته)) لكنه مخصوص بالأدلة الموجبة للنظر في طرق الأخبار مثل قوله عز وجل: ((ولا تركنوا إلى الذين ظلموا))، وقوله تعالى: ((إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا))، واشتراط الضبط والعدالة في النقلة أمر متفق عليه في الجملة، ويحتمل أن تخصص تلك الأدلة بعموم ذلك الخبر فيكون من أخبر بما يوافق الكتاب صادقا وإن كان كافرا أو فاسقا ويكون إعلاما من الله تعالى أنه لا يخبر بما يوافق الكتاب إلا وهو حق وصدق وصواب، فهذان عمومان تعارضا يمكن الجمع بينهما بتخصيص أحدهما بالآخر فيرجع فيهما إلى الترجيح فنقول والله أعلم: إن الاحتمال الآخر مرجوح لأن الذي توجبه حياطة الدين وتلزمه حماية سوح التثبت وسرح اليقين ترك تلك العمومات على بابها والتخصيص لهذا العموم بها لكونها أقوى والاعتماد عليها أحرى، هذا هو الذي تقتضيه مسالك الأصول ومدارك المعقول والمنقول، وقد أشار إليه الإمام عليه السلام بقوله إلا صحة كونه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
صفحہ 5
عدنا إلى كلام الإمام عليه السلام قال:
[2] وما أمكن عرضه عليه جملة، وهذا الصحيح صحته مثل بيانات المجملات الواجبة ونحو ذلك.
والقسم الثالث: ماعارض الكتاب من كل وجه مع كونه آحاديا.
قلت: قوله مع كونه آحاديا لأنه لايتصور ذلك في المتواتر والمتلقى بالقبول كما ذلك معلوم.
قال عليه السلام: وهذا لا إشكال في رده والحكم بوضعه.
والقسم الرابع: ما أمكن الجمع بينه وبين الكتاب بالتعميم
والتخصيص والإطلاق والتقييد.
[بحث في جواز تخصيص الكتاب والمتواتر بالآحاد ونحوهما كالقياس]
قلت: ومقصد الإمام عليه السلام أنه يجرى في كل بحسبه في العلميات والعمليات فيخصص العموم في الأول بالعلمي، وفي الثاني بالعلمي والظني، لأن العموم في العمليات وإن كان قطعي المتن فهو ظني الدلالة لاحتماله، وإنما تطرق إليه الاحتمال لأن الظن يكفي في الأعمال، وهذا إنما هو على مقتضى القول بجواز تخصيص الكتاب والمتواتر بالآحاد ونحوهما كالقياس، وستقف على المختار قريبا إن شاء الله تعالى. فأما التخصيص بها في العلميات فلايصح اتفاقا بين العترة ومن وافقهم للتعبد فيها بالاعتقاد وبقاؤها على الأصل من كون العلم فيها هو المراد ((ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)) ((إن الظن لا يغني من الحق شيئا)) ولم يبق تحت النهي إلا مسائل الأصول وإلا عريت عن الفائدة وذلك خلاف المعقول والمنقول، فكيف ينهى عن اتباع الظن ويذمه لنا ثم يتعبدنا به، تعالى الله عن هذا المقول.
صفحہ 6
وللإمام رضوان الله عليه تحقيق في هذا المقام يستشفى به من الأوام أورده في جواباته على علماء ضحيان وفي أثناء الدعوة المسماة: بالموعظة الحسنة. نعم والتحقيق أن العلم هو المطلوب في الأصول والفروع كما دلت عليه أدلة المعقول والمسموع، وقد خصصت بعدم طلب العلم في بعض المسائل العملية التي لم يقم عليها قاطع لما علم أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث بالآحاد في تبليغها وعمل الصحابة بها مستندين إليها وفيهم هادي الأمة ووليها والقائم بما قام به نبيها باب مدينة العلم من هو مع الحق والقرآن والحق والقرآن معه، فخصص بتلك العمليات نحو قوله تعالى: ((ولا تقف ما ليس لك به علم)) وأما تأويل العلم والظن وحملهما على خلاف حقيقتهما لغير دليل، فإنه بلا ريب تحريف وتبديل والعقل يرده، والاتفاق بيننا وبينهم في العلميات يحجه.
هذا ومن أعطى النظرحقه ولم يملك التعصب والتقليد رقه، فلايتحقق لديه أن الشارع جعل الظن مناطا لشيء من الأحكام ولامعتمدا في حل ولاإبرام، والأصل بقاؤه على عمومه ((إن الظن لا يغني من الحق شيئا)) إذ لاموجب للإخراج وليس التعبد بالآحاد ونحوها يوجب الاعتماد عليه وإن كان الظن ملازما لها في الأغلب، بل قام الدليل القاطع على العمل بها في العمليات سواء حصل الظن أم لا، ألا ترى أنه لايقبل خبر فاسق التصريح وكافره إجماعا ولا التأويل على الحق من كون عدم العدالة سلب أهلية وإن أفاد الظن، ويجب قبول خبر العدل الضابط وإن لم يحصل الظن وإن كان بعيدا والمقصود تصوير الانفكاك، وإلا فلو كان بينهما تلازم ذاتي لم يوجب أن التعويل على الظن بل على ذلك المظنون، وبينهما فرق يعرفه العالمون.
وانظر بثاقب نظرك وصافي فكرك هل سمعت كتاب الله ذكر الظن إلا بالنعي على أهله والذم، وهل طلب غير اليقين والعلم ((إن في ذلك لآية لقوم يعلمون)).
صفحہ 7
فإن قيل: فإن الظن مأخوذ به في أبواب لايستند فيها إلا إلى أمارات كمواضع من القياس وتقدير أروش الجنايات وتقويم المتلفات.
قيل: يمكن الجواب أن الشارع علق الأحكام فيها على حصول الأمارات لا لأجل الظن، سلمنا، فمع قيام الدليل القاطع أن الأحكام معلقة فيها على الظن فتخص هي لاغيرها، ويبقى ماعداها على مقتضى دليل العموم، فتأمل.
رجعنا إلى كلام الإمام، قال عليه السلام: وهذا الصحيح الأخذ به عرضا على قوله تعالى: ((لتبين للناس ما نزل إليهم)) والتعميم والتخصيص نوع من البيان اللغوي.
حتى قال: والقسم الخامس: مالايمكن عرضه ولايوجد في الكتاب العزيز مايبطله ولامايصحه.
قلت: أراد الإمام عليه السلام أنه لم يوافق لأن الموافقة: المماثلة والمشاكلة، ولم يخالف لأن المخالفة: المعارضة والمناقضة، ومن لم يحسن النظر في معنى الخبر الشريف توهم حصر مافي السنة على موافقة الكتاب أو مخالفته ومن هنا أتي، لأنه حمل الموافقة على المماثلة ولا إشكال، وحمل المخالفة على المغايرة، فلم يبق له عنده في السنة ثمرة، لأنه إن وافق _أي أتى بمثل الحكم_ الذي في الكتاب فليس إلا مؤكدا، وإن خالف _أي لم يأت بمثله_ كان مردودا، ولزم على كلامه هذا أن لاتفيد السنة حكما مؤسسا.
وقد أزال الإمام صلوات الله عليه ماكان ملتبسا بحجج مشرقة الصباح مسفرة المصباح. قال عليه السلام: وهذا الصحيح قبوله لقوله تعالى: ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) وهو نوع من العرض الجملي، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أعطيت الكتاب ومثليه )). ولقوله تعالى: ((لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)) إلى غير ذلك.. الخ كلامه عليه السلام.
صفحہ 8
[الكلام على خبر ((وما لم يوافقه فليس مني))]
فإن قيل: قد ورد: (( ماروي عني فأعرضوه على كتاب الله فماوافقه فهو مني ومالم يوافقه فليس مني )) فإذا حملت الموافقة على المماثلة لزم أن لايقبل شيء من السنة إلا أن يكون مثله في الكتاب، وهذا هو القول الأول الذي حكاه الإمام واحتج على سقوطه بأن بعض الأحكام أخذت من السنة فقط.
قيل: الخبر الأول أشهر والأخذ به هو الأظهر، وحمل هذا الخبر على ظاهره يؤدي إلى إهدار أكثر السنة. وقد قال تعالى: ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) ولم يفصل الدليل فوجب العدول إلى التأويل، والجمع بينهما ممكن على أقرب الوجوه.
فنقول: يحمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ومالم يوافقه فليس مني)) على التجوز بعدم الموافقة عن المخالفة، ولك في توجيه هذا المجاز وجهان:
أحدهما: أن يكون من المشاكلة، وهو أنه لما تقدم قوله: فما وافقه.. الخ. شاكله بقوله: ومالم يوافقه. والعلاقة بين عدم الموافقة والمخالفة الاطلاق والتقييد، لأن عدم الموافقة يصدق بالمغايرة مطلقا سواء كان ثم مباينة ومعارضة أم لا، والمخالفة لاتصدق إلا بالمغايرة مع المباينة والمعارضة.
وثانيهما: أن يكون من المجاز المرسل من أول وهلة، والعلاقة مابينهما من الإطلاق والتقييد. فهذان طريقان مسلوكان في اللسان مأهولان عند أهل البيان، وإن رمت النظر في إعمال الخبر على مقتضى قواعد الأصول فلك أن تقول قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ومالم يوافقه فليس مني )) مطلق لأنه صادق مع المصادمة وعدمها وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( وماخالفه )) مقيد لأنه لايصدق إلا مع المصادمة، فيحمل المطلق على المقيد، وكذا ماورد من هذا الباب فإنه من نسج ذلك الجلباب.
صفحہ 9
[الكلام في الناسخ من السنة لحكم الكتاب]
فإن قيل: فماذا يقال في الناسخ من السنة لحكم الكتاب فإنه مخالف له في الظاهر كما قرره في مباحث الأصول أئمتنا عليهم السلام؟
قيل: كلما في الكتاب قطعي المتن والدلالة في الأصول والفروع على الصحيح، وقد علم أنه لاينسخ القطعي إلا بمثله، فإن تواتر مثلا خبر ناسخ لحكم الكتاب أفاد العلم، وما أفاد العلم فمحال أن يكون مكذوبا، فيجب حمل قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ماخالفه من الآحاد، وقد أفاده الإمام بمفهوم الصفة حيث قال: وإن خالفت السنة الآحادية ردت.
نعم وفي الكتاب مالايجوز نسخه على أن النسخ ليس بمخالفة على الحقيقة، وإنما هو بيان لانتهاء الحكمة في بقاء الحكم، بلى هو مخالف في الظاهر إذ لاطريق لنا إلى الانتهاء إلا بإعلام شرعي ، ومع عدم العلم لايكون بيانا، ودليل بقائه مقطوع به، ودليل انتهائه مظنون، والمظنون لايقاوم المقطوع، وهذا هو المدرك الشرعي في عدم نسخ الظني للقطعي. وإنما قلنا: فإن تواتر مثلا.. الخ. لأنه لم يثبت عندنا نسخ السنة للكتاب وهو المروي عن الإمام القاسم بن إبراهيم وولده محمد بن القاسم وحفيده الإمام الهادي إلى الحق والإمام الناصر لدين الله الحسن بن علي الحسيني وهو ظاهر رواية الإمام عن الإمام الأعظم زيد بن علي صلوات الله عليهم.
وهذا الخبر حجة قائمة ومحجة لازمة على عدم وقوعه لما أسلفنا لك من أن النسخ ظاهره المخالفة، وقد قال صلى الله عليهوآله وسلم: (( وماخالفه فليس مني ولم أقله )).
صفحہ 10
ولايقال: إن الاحتجاج بحديث العرض غير مستقيم، لأنه ليس إلا في الظنيات، وأما القطعيات فلا يتأتى فيها الكذب فلاعرض. لأنا نقول: قد أفاد حديث العرض أنه لايأتي من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مايخالف القرآن، والناسخ مخالف، والمخالف لايتواتر، فيجب القطع بأن الناسخ لايتواتر، فمن هنا يتقرر الاحتجاج في محل النزاع وهو جواز النسخ أو منعه، فتأمل. وماكلامنا المتقدم إلا على فرض الوقوع، لأن الوقوع فرع الجواز، وقد قدمنا أنه لو وقع لم يكن إلا بقاطع، ومحال أن يكون القاطع مكذوبا على الشارع ولو وقع لارتفع التنازع، وفي قول بعض علمائنا رضي الله عنهم: وفهم صحة نسخ القرآن بالمتواتر من السنة خلافا للقاسم وابنه محمد بن القاسم والناصر وابن حنبل وكذا الهادي والشافعي في رواية إذ هي حجة توجب العلم كالكتاب فيجوز كالكتاب بالكتاب. انتهى كلامه، تسامح في الحكاية وخلل في الاحتجاج.
أما الحكاية فإنهم لايقولون إن المتواتر من السنة لاينسخ الكتاب ومعاذ الله من ذلك، وإنما يقولون: إنه لايصح أن ينسخ الكتاب بالسنة، فلا يمكن أن يتواتر عندهم ناسخ من السنة.
صفحہ 11
وأما الاحتجاج فإنهم يقولون بموجبه أي أنها إذا أفادت العلم فهي حجة، ولكنهم يذهبون إلى أنه لايجوز أن يتواتر ناسخ من السنة للكتاب، فهم يمنعون الجواز والوقوع معا، فأما لو وقع لارتفع الخلاف وكان الائتلاف ، وإنما يستقيم الاحتجاج لو صح النسخ أو بطلت أدلة المنع بحجة واضحة المنهاج متجلية الفجاج، وسنحكي كلام إمام الأئمة وهادي الأمة وترجمان الكتاب والسنة المبشر به جده الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم أفضل صلوات الله والتسليم. قال صلوات الله عليه في كتاب معاني السنة: والسنة فلم تعارض الكتاب أبدا بإبطال لحكم من أحكامه ولا أمر من أمره. إلى أن قال: ولا رد شيء من منسوخه ولانسخ شيء من مثبته. حتى قال: وفي ذلك مايقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( سيكذب علي كما كذب على الأنبياء من قبلي فما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو مني وأنا قلته وماخالف كتاب الله فليس مني ولم أقله ))..الخ كلامه عليه السلام. وكان على الناقلين لأدلة المخالفين كابن الإمام عليه السلام أن يحرروا هذا في حجج المانعين كما احتج به الهادي إلى الحق صلوات الله عليه.
وما استدلوا به على الوقوع كنسخ المتعة والوصية فليس بوارد، لأن المراد بالمتعة المذكورة في القرآن النكاح فلا نسخ وأما الوصية فالناسخ آية المواريث.
فإن قيل: قد ورد في كلام أمير المؤمنين عليه السلام المروي في النهج قوله: (( وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنة نسخه)).
قلنا: يجب تأويله لقيام الدليل إما بأن يحمل النسخ على التخصيص، أو بأن المراد في السنة مع الكتاب نسخه.
صفحہ 12
[المقارنة بين النسخ والتخصيص]
فإن قيل: أليس النسخ والتخصيص لديكم من باب واحد؟
قيل: لاشك في ذلك، ولكنه قد قام الدليل القاطع على وقوع التخصيص ووقع الإجماع عليه دون النسخ، فيقر ذلك على ماورد.
واعلم أنه لاثمرة في الخارج لخلاف المخالف في هذا ولا جدوى، إذ لم يتحقق النسخ بالسنة للكتاب، وإنما هو مجرد دعوى.
واعلم أن الحق الأحق والقول الأوفق أنه لم يظهر بين التخصيص
والنسخ فرق سوى لزوم التراخي في النسخ وعدمه في التخصيص، وأما قولهم: التخصيص بيان، فغير متضح ، لأنه إن كان باعتبار الانكشاف فكلاهما بيان، فالتخصيص بيان لعدم إرادة المخرج من الأعيان، والنسخ بيان لعدم إرادة مابعد الناسخ من الأزمان وإن كان باعتبار الظاهر فكلاهما معارض غير مظاهر، وهذا أمر واضح المنار لايخفى على ذوي الأبصار، وماقيل من أن العمل بالتخصيص جمع بينهما لايصلح بل فيه دفع لبعض الدلالة والأصل بقاؤها فيهما.
[رأي المؤلف أنه لا تخصص عموم الكتاب والأخبار القطعية بالسنة الآحادية مع التفصيل]
فإن قلت: يلزمك على هذا أن لاتخصص عموم الكتاب والأخبار القطعية بالسنة الآحادية.
قلت: هو مذهب بعضهم وحكى الإمام عدم جواز ذلك عن الإمام الأعظم زيد بن علي عليه السلام وأنا أقول لعمري إنه لمذهب قويم ومنهج مستقيم.
صفحہ 13
واعلم أرشدنا الله وإياك أيها الراسخ الفهم الثابت القدم فأما من قعد به القصور فهو معذور وليس عنده من جنى الأثمار إلا القشور.
تجل عن الدقيق فهوم قوم .... فتحكم للمجل على المدق
والله عز وجل يعلم ماقصدنا إليه من الخطاب أن هنا أصلا أصلوه ومسلكا نقوله وتقبلوه يجب فيه إمعان النظر الدقيق حتى يقف الباحث في كتاب ربه وسنة نبيئه صلى الله عليه وآله وسلم على محض الحق والتحقيق فهو حقيق بذلك أي حقيق وملخصه ومعناه وخلاصته ومؤداه كما يعلم ذلك ذو الإطلاع والانتقاد الملي بالإصدار والإيراد هو: أن كل ما أمكن أن يصرفه دليل عما وضع له أو يقصره على بعض مدلولاته أو يعينه في أحد موضوعاته: فهو ظاهر محتمل لايقطع بتناوله لما دل عليه وإن كان قطعي المتن فهو ظني المدلول إلا أن يكون في مسائل الأصول عند أئمتنا عليهم السلام وأتباعهم الفحول، وعلى هذا بنى الجمهور جواز التخصيص والتقييد للعموم والمطلق من الكتاب والمتواتر بالآحاد والقياس الظني، ويلزم على ذلك جواز النسخ كما قال به البعض إذ لافارق كما سبق، وهذا أمر جليل الخطر ذو شجون ونظر يترتب عليه أي أثر، والذي ندين الله به بعد إبلاغ غاية الوسع واستفراغ نهاية الطاقة أن هذا أصل مختل الأركان منهدم البنيان لم تقم عليه حجة ولم ينتهج إليه برهان.
صفحہ 14
ولنوجه الكلام بما يليق بهذا المقام في مسألة الخصوص والعموم إذ عليها معظم مدار المنطوق والمفهوم، فأقول وبمادة ربي أصول: إن المعلوم من الوضع بالاتفاق دلالة صيغ العموم على جميع أفراد مدلولاتها دلالة مطابقة عند الاطلاق على سبيل الاستغراق، وليس هذا محل النزاع فيتعين الكلام عليه بالأدلة القاطعة والإجماع وقد تقرر في موضعه فيجب القطع حينئذ بحكم العقل والشرع عند العلم بإطلاق الخطاب من الحكيم أنه قصد جميع مدلولاتها وأراد كل فرد من أفراد متناولاتها وماتستلزمه من الأزمنة والأمكنة والأحوال بلا ريب في ذلك ولا احتمال إلا أن ينصب لنا على خلافه دليل أوينتهج إلى إرادة غير ما دلنا عليه سبيل تحكم كهذا الحكم به الألباب ويزول عمن طرق سمعه ذلك الشك والارتياب وأي ريب بعد ذلك يختلج أو احتمال يتردد ويعتلج ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)) ((لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)) ((ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)). ولئن تطرق إلى ماهذا شأنه الاحتمال لشبهة أنه قد كثر فيه التخصيص والقاطع بما دل عليه أتي من قبل نفسه ليتطرقن إلى كل النصوص من عموم وخصوص ويرد ماقاله الرازي إن أصرح الألفاظ النص وهو محتمل لأمور كثيره كالتحريم للنسخ والتجوز والاشتراك والإضمار والتخصيص وغير ذلك، انتهى كلامه. فيرتفع القطع بجميع خطابات الشرع.
فإن قيل: يلزم أن لايجوز تراخي التخصيص ونحوه عن الخطاب.
صفحہ 15
قلنا: ذلك ملتزم وهو مذهب الإمام أبي طالب الناطق بالحق والإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى عليهم السلام وغيرهما، وقد قلنا به جميعا في العلمي بلا ارتياب كلما ابدوه من الفوارق لايثبت إلا بعد قيام الحجة على ما أصلوه في هذا الباب ولله الإمام الناصر لدين الله إبراهيم بن محمد بن أحمد بن عز الدين بن علي بن الحسين بن الإمام عز الدين بن الحسن عليهم السلام حيث يقول في الروض الحافل عند الكلام على الفرق بين التخصيص والنسخ: ودلالة العام على أفراده ظنية عند الأكثر وإن كان متنه مقطوعا به والخاص قد يكون بالعكس فتعادلا، وهذا الإيراد وارد مع القول بأن دلالة العام ظاهرة، وأما إذا لم نقل به وهو الحق فلا ورود. انتهى.
وقال الشيخ العلامة المحقق لطف الله بن الغياث في شرحه على الفصول: واحتجوا بأنه لايجوز أن يخاطب بشيء ويريد به غير ظاهره في العلمي مثل عموم الوعد والوعيد وإلا كان معميا وملبسا، فقد ثبت أن دلالة العموم قطعية. كذا في شرح المقدمة للنجري قال: وهذا الدليل كما ترى يعم العلمي والعملي فينظر ماوجه المخصص بالعلمي.. الخ.
قلت: لله أنت لاوجه له إلا أنه قد بدا لهم فيه الاحتمال بزعمهم لكثرة التخصيص وهو لازم لهم في العلمي على سواء، وقد استدلوا على ذلك بالإجماع من السلف على التخصيص بالآحاد.
والجواب: أن مستندهم في حكايته كما قرروه الاستدلال عليه بأنهم خصصوا نحو قوله تعالى: ((وأحل لكم ما وراء ذلكم)) بحديث النهي عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها وعددوا من هذا القبيل صورا مجمعا على تخصيصها من عموم الكتاب ولاطريق إلى كون التخصيص بها وحدها سلمنا، فمن أين لهم أنها رويت للسلف بطريق الآحاد ولم لاتكون متواترة لهم ومتلقاة بالقبول؟
صفحہ 16
ولايقال: لأنها لو كانت متواترة وكان التخصيص بغيرها لنقل، لأنا نقول: الإجماع قد أسقط مؤنة نقلها وأغنى عن التعرض للإستدلال بها وبغيرها: وقد نص الكل بأنه إذا أجمع على الحكم سقط وجوب البحث عن المستند.
فإن قيل: إنهم أجمعوا على التخصيص مستندين إليها وهي آحاد.
قيل: هذه دعوى ممنوعة غير مسموعة، فهلم الدليل وليس إليه من سبيل، غايتها حكايات لاتفيد الظن فضلا عن العلم، وقد بينا أن أصلها منهار ولم يثبت له عماد ولاقرار، واستدلوا بأنها كثرت المخصصات في العمومات العملية والظن يكفي في العمل.
والجواب: أن الكثرة لاتخرجها عن القطعية كما أسلفنا على أنه لازم لهم في العلمية وهم لايقولون به، وأما كونها في العمليات والظن يكفي في العمل، فإنها وإن سلم أنه يكفي فيها الظن فلايقتضي أن تكون أدلتها كلها ظنية على سنن بل العمل بالظن مقصور عليها قصر الصفة على الموصوف وليست مقصورة عليه كما ذلك معروف.
ومما يعضد هذا المذهب ويقويه ويشهد له بالمتانة عند ناظريه أن كثيرا من أئمتنا عليهم السلام يتأول الأخبار الخاصة ويترك عموم الكتاب على بابه مع إمكان التخصيص.
والقاعدة: أن تخصيص العام أولى من تأويل الخاص من ذلك حديث الخضروات في الزكاة.
قال الإمام المؤيد بالله عليه السلام في شرح التجريد بعد أن تأوله على القليل الذي لاتجب فيه الزكاة:
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم إذا استعملتم الخبرين أعني: (( فيما سقت السماء العشر )). وقوله: (( ليس في الخضروات صدقة )) بأن جعلتم حديث الخضروات خاصا وبقيتم قوله: (( فيما سقت السماء العشر)) على عمومه إلا في المقدار الذي ذكرتم.
قيل له: يرجح استعمالنا بقوة خبرنا إذ لا إشكال أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( فيما سقت السماء العشر )) أقوى وأثبت من حديث الخضروات. انتهى، وغير ذلك مما اشتملت عليه قواعدهم المعروفة وطرائقهم المألوفة، وغرضنا التمثيل لا التطويل.
صفحہ 17
والعجب من المولى الحسين بن القاسم عليهما السلام كيف لم ينسب الخلاف في جواز التخصيص للكتاب والمتواتر إلا عن الحنابلة بحكاية أبي الخطاب وعن المعتزلة بحكاية الغزالي وعن طائفة من المتكلمين والفقهاء بحكاية عن ابن برهان وعن طائفة من أهل العراق ولم يرفع لخلاف والده الإمام القاسم عليه السلام رأسا ولا رأى في إلغائه عن الحكاية مع جملة المخالفين بأسا، وهو يمنع من ذلك أشد المنع كما صرح بذلك في كتابه الاعتصام.
وقال في الجواب على الخصوم: والجواب والله الموفق أن القرآن معلوم المتن ويجب التمسك بظاهره والحمل على جميع مايتناوله حتى يعلم المخصص له، ويجب البحث عن ذلك والحديث الآحادي ليس معناه ولا لفظه كذلك إلى أن قال: قالوا الظن كاف في صحته. قلنا وبالله التوفيق: ذلك مردود بقوله تعالى: ((إن الظن لا يغني من الحق شيئا)) وقال تعالى: ((إن بعض الظن إثم)) فأنى لهم أن الظن كاف والقرآن يجب التمسك به ، وذلك معلوم من الدين ضرورة مالم يظهر الناسخ والمخصص وتحكيم القرآن على الحديث الآحادي أولى من العكس، لأنه مما علم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة، وأنه مما أنزل الله تعالى ((ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) الاية ونحوها، ولأنه إذا تعارض معنى القرآن المظنون بزعمهم والحديث الآحادي المظنون فالعقل يقضي ضرورة أن معنى القرآن المذكور أرجح، وترجيح ماذلكم شأنه مجرد تحكم. انتهى كلامه عليه السلام.
صفحہ 18
وأقول: إن من تصفح استدلالات أعلام الأئمة وهداة هذه الأمة كالإمام القاسم نجم آل الرسول وسبطه الهادي إلى الحق صلوات الله عليهم، واطلع على معين علمهم المخزون، وتروى من سلسبيل نميرهم المكنون، علم أنهم مخيمون على عموم الكتاب وخصوصه، واقفون عند إشاراته ونصوصه، قد أمكنوه زمامهم وجعلوه رائدهم وإمامهم، يحلون حيث حل، وينزلون حيث نزل كما قال بمعناه والدهم سيد الوصيين صلوات الله عليهم فهم: لايبغون عنه حولا ولايبتغون به بدلا، ولاغرو فهم قرناؤه وأمناؤه ولن يفترقا حتى يردا على الحوض.
نعم وبعد التقرير لما صح في هذا الأصل باحثت كثيرا من علماء العصر فوجدت الأغلب يميل إلى كلام الجمهور إلا المولى العلامة الأوحد إمام التحقيق ونبراس أرباب التدقيق شرف الدين الولي بن الولي الحسن بن الحسين الحوثي حماه الله تعالى فإني راجعته في ذلك فقرر مابينته في هذا الأصل، ومعاذ الله أن يذهب هذا المذهب عن قول طائفة في كل عصر من حماة التنزيل ووعاة التأويل، وإن كان قد قال بخلافه ثلة من شموس الهداية وأقمار الدراية، ولايعترض على ذلك أنهم كلهم يخصصون الآيات القرآنية، وقد لايستدلون إلا بخبر أو نحوه لايفيد القطع، لأنا نقول: لاطريق إلى كون التخصيص بالخبر الآحادي على انفراده، ثم من أين لكم العلم بأنه عندهم غير معلوم، بل يكفي في قطعيته تلقيه بين العترة والأمة على أن الحكم إذا كان مجمعا عليه لم يبحث عن سنده كما أسلفناه لك وهو مقرر مرسوم، فياسبحان الله، ما باله ضل عن هذه القاعدة الخصوم؟
وعلى الجملة إن هذا الأصل لم يتقرر بدليل قاطع ولابرهان ساطع، وطالب الحق الصريح بالنظر الثاقب الصحيح لاتروعه القعقعة بالشنان، ولاتهوله مجاولة الفرسان، ومنازلة الأقران، ولاتميل به الرجال من يمين إلى شمال فيكون من دين الله على أعظم زوال.
صفحہ 19
[رجوع المؤلف إلى أنه يصح التخصيص للعمومات من القرآن
والمتواتر من السنة بأخبار الآحاد الصحيحة]
اعلم أنه بعد إعادة النظر وتكرير البحث وتتبع الأثر تقرر عندي صحة التخصيص للعمومات من القرآن والمتواتر من السنة بأخبار الآحاد الصحيحة لما علم من اكتفاء الشارع بتبليغ الآحاد في ذلك، إذ قد تواترت التخصيصات بالآحاد لبعض العمومات القرآنية كقوله تعالى: ((وأحل لكم ما وراء ذلكم)) بما ورد من تحريم نكاح المرأة على عمتها أوخالتها. ولقوله تعالى: ((خذ من أموالهم صدقة)) ونحوها مما يفيد العموم في القليل والكثير بخبر الأوساق وأنصباء الذهب والفضة وحول الحول وسقوط الزكاة عن المال غير المرجو وعن الخضروات وغير ذلك مما يكثر تعداده مع أن الدليل على قبول خبر الآحاد من حيث هو قطعي ولايبعد الإجماع على التخصيص بها حتى أن المانعين من ذلك قد خصصوا بها، ويحتمل أنهم رجعوا عن المنع وهذا هو التحقيق، والله تعالى ولي التوفيق.
فإن قلت: ما الطريق المرضية على القول بأن العمومات العملية ظنية وإن كانت متونها قطعية في جواز التخصيص دون النسخ بالآحاد، وقد تقرر أنهما من واد واحد، وبطل الفرق بينهما بالإجماع على جواز التخصيص كما مر في ذلك النزاع؟
قلت: الطريق إلى عبور هذا المضيق هي أنه لم يكثر عندهم إلا التخصيص، وهو إخراج بعض ماتناوله العموم، فلم يكن الاحتمال إلا في أفراد بعض مادل عليها على سبيل البدل من غير تعيين، ولهذا كانت دلالته على كل فرد بعينه محتملة ظنية لجواز عدم إرادته، وأما دلالته على بعض منها فهي معلومة قطعية لكنه غير متعين، ألا تراهم يقولون: لايصح تخصيص السبب، ما ذلك إلا لتعينه والقطع على إرادته ومن هنا يعلم الفارق لأن النسخ يرفع استمرار كل ما أفاده الخطاب، فلا محالة تدخل تلك الدلالة القاطعة ويزول حكمها بلا ارتياب ويكون قد نسخ القطعي بالظني، وهو خلاف المنهج الشرعي.
صفحہ 20