نحن نشنأ المرأة المترجلة لأن الطبيعة علمتنا أن نشنأها على الكره منا، الطبيعة تبذل لكل جنس ولكل نوع من المزايا ما يحتاج إليه، وتحرمه ما هو في غنى عنه. الطبيعة تقسم هباتها بميزان دقيق لا يختل قيد شعرة، والطبيعة هي التي تحببنا في المرأة الخفرة العروب، فسبيلنا أن نعلم من ذلك أن هذه المرأة الخفرة أجمع لصفات الأنوثة من سواها، وأن خلوها من صلابة الرجل وخشونته دليل على أن صفات الأنوثة ملأتها وحافت فيها على صفات الرجولة، فهي لذلك أوفى بغرض الرجل من كل امرأة أخرى، وهي أصلح لغرض الطبيعة الذي تريده منها ومنا، وأي غرض لها من النساء إلا أن تجعلهن أمهات صالحات لولادة أحسن النسل وإفراغ البنين في أحسن قالب؟ فكان الرجل إذا بصر بامرأة مترجلة أدرك بالغريزة أن رجولتها تحيف على أنوثتها، وأنها لا تليق أن تكون أما لأولاده، فنفر منها قلبه واجتواها طبعه، وقد يألف عشرتها ولكن كما يألف صديقه أو صاحبه، لا حليلة أو حبيبة.
لم تنفر المرأة من الرجل المتأنث المترهل؟ أليس لأنها تعرف بفطرتها أن استجماعه لأوصاف الأنوثة ناقص من أوصاف الرجولة التي تنشدها فيه؟ فما لها إذن تلوم الرجل على كراهية المرأة المترجلة كما تكره هي الرجل المتأنث؟ وما هو الظلم الذي تشكوه منه ما دام كلاهما مسوقا إلى غاية واحدة؟
إنكم ربما وجدتم المرأة تخوض في بحار الثروة، وتلعب بصولجان السلطة، وترفل في سرابيل الجاه والسمعة، فإن فقدت مع هذه النعم شيئا من شمائل المرأة التي يحبها الرجال في النساء كالملاحة والخفر والطراءة والظرف والولادة والحب، حزنت لفقدانه حزنا لا يعادله سرورها بتلك النعم الجليلة التي لا يتوق رجل من الرجال إلى أعظم منها؛ لأن شمائل المرأة أرسخ في تكوينها وأقر لعينها من هذه المطامع والجدود، وقد لا يسرها أن تكون أحسن من أحسن رجل إن لم تكن أحسن من أحسن امرأة، بل هي متى وثقت من أنها أحسن النساء لم تبال أن يرجح عليها أحقر رجل تحت السماء. يروى أن الملكة الياصابات لما نقل إليها أن ملكة إيقوسية وضعت ولدا وسيما، قالت لمن حولها بغم وكمد لم تحاول إخفاءهما: «ها قد أصبحت ملكة إيقوسيا أما لولد وسيم، وأنا بعد ذلك الشيء المقفر العقيم.» وما أدراكم ما الياصابات؟ هي أذكى الملكات في العصور المتأخرة، وأكيدهن وأرشدهن وأعرفهن بالحكم. أنتج رأسها لما عقم بطنها، ونضجت فيها الملكة لما تعطلت فيها المرأة، وحيي طمعها لما مات قلبها، فعاشت وماتت وهي تعزي نفسها بما قالته لمجلس النواب يوم اقترح عليها الزواج: حسبي أن أعيش وأموت فيكتب على قبري: «هنا مثوى الياصابات الملكة البتول»، ولكنكم رأيتم كيف كانت حسرتها على البنين وهي أم السلطة والمال.
تذكرنا المرأة بالمساواة الحديثة، وقد تعني بها مساواة الانقلاب الفرنسي، فحبا وكرامة نحن لا ننسى مبادئ هذا الإنقلاب الجليل، ولكن المرأة نسيت أن تبين لنا هل كان الانقلاب الفرنسي انقلابا اجتماعيا أو انقلابا طبيعيا؟ وهل كانت غايته تحويل مواقف الطبقات أو نسخ خواص الأجناس والمخلوقات؟ فأما وقد علمت وعلمنا أنه انقلاب اجتماعي فحسب، فلتعلم أنها قد نالت من هذا الانقلاب ما ينبغي أن تناله من المساواة حسب مركزها الاجتماعي، فمالها اليوم موفور، وأمنها مضمون، وحقها يصونه القانون كما يصون حقوق الرجل. أما أن الانقلاب الفرنسي يبيحها الخروج عن جبلتها، وأن لا تلد، وأن لا ترضع أولادها، وأن تهجر المنازل إلى الدواوين؛ فهذا ما لا يفعله هذا الانقلاب، وإنما هو يحتاج إلى انقلاب في جسم الطبيعة يقلب عاليها سافلها، والعياذ بالله!
معشر الأحياء:
هل لكم في فكاهة أسوقها إليكم مما أحفظه من حكايات القدماء ... يحكى أنه فيما سلف من الزمان، وقف جماعة من أهل الفضول على ساحل البحر اللجي، والسابحون في غمرته تتقاذفهم أمواجه، وتنفغر تحت رءوسهم فجاجه، فيهوي فيها الغريق تلو الغريق، وهم يرون الطريق إلى الساحل ولا تنفتح لهم الطريق، فأومأ أولئك الفضوليون بعض لبعض يقولون: تالله لنحن أمهر في السباحة من هؤلاء السابحين؛ إذ نحن لا نغرق وهم يغرقون ... أليس هذا أيها الإخوان مثل المرأة والرجل إذ تقول له إنها أصلح منه للحياة الاجتماعية لأنها أقل منه جرائم وأسلم جانبا؟ ما للمرأة والجرائم وقد أعفاها الرجل من مضانك الكدح، وكفاها مئونة النزول في زحام الحياة؟ شاطرها ماله وجاهه وقاسمها سعادته وصيته، وهي في كسر بيتها لم تشمر معه ذيلا ولم تجرد سيفا، وهبوها كانت بحاجة إلى الجرائم، فمن أين لها القلب الذي به تجترئ، والساعد الذي به تصول؟ والحق أن المرأة ليست بأسلم جانبا من الرجل كما تقول؛ لأنها أميل منه إلى الشحناء والشجار، فربما اتفق مائة رجل على الخطب المتفاقم الجسيم، ولم تتفق امرأتان على الهنة الواهية الطفيفة. ولقد أغناها عن أن تكون مجرمة بنفسها أنها تجرم بيد غيرها؛ لأن أكثر الجرائم إنما يقع بسببها ولأجلها، فهي تدرك ما تشاء من الجريمة دون أن تحتمل تبعتها، وقلما تقع مصيبة كارثة إلا كان وراءها وطر لامرأة تقضيه بيد المجرم بعيدة عما يتعرض له من العقاب، وهي وإن كانت أقل من الرجل عيثا وإجراما، فما هي بأقل منه خطايا وآثاما، فلها من الجريمة أخس الجزءين وأضعف الجانبين؛ لأنها تشارك الرجل في خبث النية، ولا تشاركه في القلب الجريء واليد القوية. والرجل قد يفعل فعلته مغمض العين بباعث الغضب أو الألم، فلا يهمه آلمت غيره أو لم تؤلمه، مثله في ذلك مثل السبع الذي يوثبه الجوع إلى قتل الفريسة وهو لا يسيء النية بها، أما المرأة فالإيلام همها الأول، والنكاية عندها غرض مطلوب لا زيادة عارضة، وذلك لؤم معروف في الضعفاء لا يخجلون منه لأنهم يجهلون مكانه من الفسولة والرداءة.
ولقد نرى أن المرأة ما برحت أبعد عن أوضاع المدنية وفروضها من الرجل. مثال ذلك أن المرأة كما يعلم الخبيرون تؤتمن على كنتها وقد لا تؤتمن على بنتها؛ لأنها لا تبالي من أي الرجال تلد بناتها، ولكنها تبالي كل المبالاة أن تلد كنتها من غير ولدها؛ وذلك لأن الطبيعة لا تندبها لغير إنتاج الذرية، سواء كان إنتاجها على حكم العرف أو على ضد حكمه.
ولا نتكلم عن رعاية الحدود والواجبات؛ فقد عرف الناس أن المرأة في ذلك كالطفل تتشبث بما تروم، وتولع بما ترضى وتشتهي، ولو كان لغيرها فيه حق مهضوم.
وثم فكاهة أخرى أيها الرفاق مما أحفظه من حكايات القدماء ... فقد قيل: إن النبات صاح بالحيوان عام كذا وكذا قبل ميلاد آدم عليه السلام، فقال بصوت سمعه الثقلان: أيها الحيوان، أنا أصح منك مزاجا وأقوم تركيبا؛ لأنني أطول أعمارا وأثبت في الأرض قدما، فمني ما يعمر خمسة آلاف سنة، وليس منك ما يناهز المائتين! فلم ينشب أن صاح بهما الجماد من ورائهما قائلا: بل أنا أصح من كليكما لأنني أعمر أدهارا لا تعرفون ما أوائلها وما أواخرها، إلى آخر ما قال ... أليست هذه أيها الرفاق حكاية المرأة والرجل حين استدلت بطول العمر على صحة التركيب واستقامة المزاج؟ لا ننكر أن العلماء لاحظوا في الزمن الأخير أن النساء أطول أعمارا من الرجال، وأن الوفيات بين البنين أكثر من الوفيات بين البنات، ولاحظوا أيضا أن الأولين أنشط وأصعب مراسا من أخواتهم، ولكنهم لم يهتدوا إلى تعليل بات لهذه الحالة، فمنهم من عللها بأن رءوس المواليد الذكور أكبر من رءوس الإناث، فلذلك كانت ولادتهم أصعب والخطر عليهم أثناء الولادة أشد ... ومنهم من عللها بأن النساء لا يتعرضن للمتاعب ولا يتجشمن المعاطب، فلا يسرع الموت إليهن إسراعه إلى الرجال، وهما تعليلان وجيهان في هاتين الحالتين. أما في حالة الطفولة فلا نسمع بتعليل مقنع مقبول، ولا يعجبنا رأي القائلين بأن علة الموت الكثير في البنين قلة غذائهم، وأنهم لا يصيبون من الغذاء ما يصيبه البنات، فإننا لا نفهم لماذا يأخذ البنون كلهم دون كفايتهم من الأكل، ويستوفي البنات كلهن كفايتهن منه. أليس في المسألة سبب آخر؟
نعم، سبب ذلك فيما نرى مرتبط بتفاوت سن البلوغ بين الجنسين، فالجارية تراهق قبل الغلام، والمرأة تستكمل نماءها قبل الرجل؛ لأن وظائف بنيتها أقل من وظائف بنيته، فهي تبلغ حدها الأوفى وهو لما يبلغه لتشعب جهات قوته واختلاف خصائص بدنه، وكذلك يكفي غذاء الطفلة لوقاية جسمها من الآفات؛ لأنه ينصرف إلى جهة واحدة وهي إشباع الجسم، فتكون أسرع نموا وأمنع على الأدواء بنية، أما الطفل فلا يكفيه غذاؤه؛ لأن بعضه ينصرف إلى إعداد قواه العقلية والنفسية التي يتفوق بها الرجل على المرأة، فيكون نصيب جسمه من غذائه وإن كثر أقل من نصيب الطفلة من غذائها وإن قل، ويغلب أن ينصرف غذاء الطفل إلى توثيق الأعصاب والعضل، وينصرف غذاء الطفلة إلى تربية الأنسجة اللحمية وإصلاح الدم، ولا يخفى أن النشاط والإرادة من أعمال الجهاز العصبي، وأن الوقاية من الأمراض ومقاومة جراثيمها من أعمال الدم والأنسجة، فلا جرم كان الولد كما لاحظ أولئك العلماء أنشط وأصعب مراسا، وكانت البنت أمنع بنية وأغضر جسما.
نامعلوم صفحہ