ـ[مجلة الأستاذ]ـ
المؤلف: جريدةٌ علميةٌ تهذيبيةٌ فكاهيةٌ صدرت في ٢٤ أغسطس عام ١٨٩٢ م على يد عبد الله النديم (المتوفى: ١٣١٤هـ)
الناشر: دار كتبخانة للنشر والتوزيع، مصر
الطبعة: الأولى -طبق الأصل-، ١٩٨٥ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
نامعلوم صفحہ
مجلة الأستاذ
(جريدةٌ علميةٌ تهذيبيةٌ فكاهيةٌ)
العدد ١ - بتاريخ: ٢٤ - ٨ - ١٨٩٢
1 / 1
الفاتحة
بسم الله الرحمن الرحيم
عالم الغيب والشهادة. له الحمد على ما أفاده. من علوم عرفنا بها كنه آثاره. وعقول وقفنا بنورها على بعض أسراره. فسبحانه من إله دلّنا على أنه موجد الكائنات. خروجه عن سلسلة الممكنات. وبتكثر الصادرات علمنا أنه واحد لا يتعدد. لامتناع تأثير مؤثرين في أثر مفرد. فالعوامل منفعلة وهو الفاعل المختار. والكون صنعته وكل شيء عنده بمقدار. والصلاة والسلام على من امتلأ الكون بحكمه وآدابه. سيدنا ومولانا محمد وإخوانه الأنبياء وآله وأصحابه.
مقدمة
يقول عبد الفتاح النديم الإدريسي بالاتكال على جانب الحق ﷾ والاستعانة به جل شأنه عقدنا العزيمة على إصدار هذه الجريدة المسماة (الأستاذ) كل أسبوع مرة وجعلناها خزانة لشوارد العلوم وفوائد الرسوم لا تتقيد بفن ولا تقتصر على موضوع فتنشر ما يحسن نشره ويلذ سماعه من المعقول والمنقول مما لا يطعن في دين ولا يمس شرف شخص ولا يقرب من الأهاجي ولا تتعرض للأمور السياسية الحاضرة أي أنها لا تتكلم في الإدارات والأعمال والعمال سواء في ذلك الداخلية والخارجية وأما فن السياسة من حيث هو فإنه يدخل في موضوعها العلمي فإن علم
1 / 2
التاريخ والأخلاق والعادات وتدبير الممالك ووحدة الاجتماع العالمي من الفروع السياسية وهي مستقلة عما يتعلق بالسياسة الإدارية.
والحامل لي على فتح هذه الجريدة أني رأيت شقيقي الفاضل السيد عبد الله أفندي النديم المنشئ الشهير قد قضى مدة اختفائه مشتغلًا بوضع كتب لا تخلو من الفوائد لما اشتملت عليه من الأبحاث العلمية فاستأذنته في نشرها لإتمام خدمته المقصودة له من تأليفها فرخص لي بنشر عشرين كتابًا منها مما تم تحريره وتنقيحه. ومع كوني اتخذت هذه المؤلفات مادة للجريدة فإني وكلت تحرير مطالبها وترتيب رسائلها لقلمه لسهولته. وقد بست يد القبول لما يرد علينا من كتب الأفاضل ورسائل سادتي رجال المعارف في أي فن كتبوا. وسنفرد لكل فن بابًا بعد صور العدد الأول فإننا أصدرنا هذا العدد مشتملًا على مقدمة تاريخه الأدبي المسمى (كان ويكون) يتقدم ذلك رسالة شكر النعم ويتبعه مقدمة المدح ثم الفوائد والنوادر
والفكاهات وعسى أن تقع هذه الخدمة موقع القبول عند ذوي الألباب والآداب فنرى إقبالهم على الجريدة إقبال إخوان الصفاء على الأخذ بيد المعارف ونشر الفضيلة وتخليدًا لذكر تتلوه السطور على ورَّد العصور والمسؤول من جانب الحق ﷾ الإعانة والتوفيق لما فيه منفعة الأمة والوطن وحفظ القلم من الزيغ عن الصراط المستقيم. والشكر لأهل الفضل والمجد يتقدم هذا كله من خادمهم المخلص.
عبد الفتاح النديم الإدريسي
1 / 3
شكر النعم
أيها المتطلع لغريب الأخبار أصخ لي أذنك وافرغ لي ذهنك من صوارفه عني واسمع النبأ الحق من لسان الصدق فإذا انتهيت فكن معي من الشاكرين.
في اليوم التاسع والعشرين من شهر صفر الماضي عثرت الحكومة المصرية علي بدلالة رجل في قرية الجميزة من قرى مركز السنطة التابع لمديرية الغربية فاشتعلت نيران الأفكار وكثرت الظنون واختلفت الآراء ولم يبق ذو روح في الديار المصرية إلا وهو يهجس ويخمن بما سيكون من شأني وكان العطب أقرب عند الجمهور من السلامة وبينما هم في حيص بيص فاجأهم الأمر الكريم بسفري إلى الأقطار الشامية المحروسة ممتعًا بحياتي ممنوحًا مادة معاشي مرسلًا على صورة التكريم والإجلال موعودًا بدوام العناية بي مبشرًا بقرب العفو عني فامتلأت قلوب الأحباب سرورًا وانطلقت ألسنتهم بالثناء على الحضرة الخديوية التوفيقية وانتفخت أوداج أعداء الإنسانية غيظًا على سلامتي وغضبًا من حلم أميرٍ العفو طبيعته وما انتقم من مذنب إلا بإغراء أو غلبة آراء أما أنا فقد خصصت أنفس أوقاتي لذكر المحاسن التوفيقية والمراحم المحمدية كلما جلست في مجلس فضل بين من تقوم صدورهم مقام صحف التاريخ والتزمت الدعاء له ولأنجاله الكرام حتى صار وردًا لي في غالب الأوقات وبينما أنا في بستان نعمته أجيل الفكر في فضائله ومناقبه فاجأني خبر انتقاله من دار الفناء إلى دار البقاء حيث دعاه مولاه فلباه
1 / 4
مستعيضًا ملك مصر الصغير بجنة عرضها السموات والأرض فجرت أنهر الدموع حزنًا وضاق وسيع الصدر كمدًا وأسفًا والتفت لسان المدح والثناء إلى جانب التأبين والرثاء فأنشدت قصيدتي الدالية الغريبة في بابها ومطلعها وما بعده
ما للكواكب لا ترى في المرصد ... والكون أصبح في لباس أسود
عم الكسوف الكل أم فقد الضيا ... أم كلنا يرنو بمقلة أرمد
وتاريخها
فملائك الجنات قالت أرخوا ... توفيق في عز النعيم السرمدي
٥٩٦ ٩٠ ٧٧ ٢٠١ ٣٤٥
سنة ١٣٠٩
وقد تكفل بها وما معها من تاريخ حياته الطيبة كتاب النحلة في الرحلة فإني رثيته لتفضله
علي وإحسانه لا ليقال أجاد فيما قال ولا ليكون الرثاء وسيلة أبتغي بها مقصدًا فلذا لم أرسلها وأنا في الشام لتنشر مع المراثي التي دونت فرحم الله تعالى روحًا زكية وذاتًا نقية وجعل مضجعه المنير روضة من رياض الجنة ممطورًا بسحائب الرحمة والرضوان.
وما زحزح الهم عن الفؤاد ومسح دموع الحزن بمنديل السرور إلا ارتقاء صدر الصدور وعين أعيان الأمراء وخلاصة العائلة المحمدية وبدر سماء بيت الإمارة أفندينا الخديوي المفخم ذي الفخامة والجلالة مولانا عباس باشا حلمي الثاني أيده الله تعالى فتسلت النفس بأشرف خلف لخير سلف وانطلق لسان التهاني منشدًا
1 / 5
خل الأسى ومصادر الأحزان ... جاء السرور فقم بنا للحان
حان به خمر المعاني روقت ... لمريد مدح السيد المحسان
فالأنس عم الكون عند دخوله ... مصرًا لملك ثابت الأركان
والصفو قال لأهل مصر أرخوا ... صدر الصفا عباس حلمي الثاني
٢٩٤ ٢٠٢ ١٣٣ ٨٨ ٥٩٢
سنة ١٣٠٩
وما فرغ اللسان من الإنشاد حتى جاءني خبر عفوه الكريم عني وصدور أمره العالي بعودتي إلى وطني تفضلًا وإحسانًا فاعتقل اللسان ولم يستطع النطق لعظم النعمة وخروجها عن حد ما يشكر فإني لو جمعت اللغات ونظمتها في سلسلة قصائد لا نهاية لها لكنت مقصرًا في أداء الواجب لمرحوم أطلق لي قيد حياتي ومحفوظ خلصني من أسر الغربة ومتعني برؤية وطن أهله مبعث سروري ومرجع أنسي فله الشكر ما حييت وإن أمت سمع الثناء عليه من رنين صوت عظامي. كل هذا والثناء على ذات العصمة والمقام الأسمى ذات الدولة الوالدة الفخيمة مرتبط بكل فاصلة من فواصل الشكر والحمد فمدح هذا البيت الكريم حق واجب على هذا المخلص في دعائه وأهل بيته ما دام اللسان ينطق بما ينسب للمخلص
عبد الله النديم
مقدمة مدح ومعرفة جميل
ليس من يتكلم على شيء بالحدس والتخمين كمن يتكلم فيه عن علم
1 / 6
وتحقيق. ذلك أني كثيرًا ما رأيت كلامًا في المروءة وأهلها ورجال الهمم والعزائم وثابتي القلوب عند النوازل والمعدمات وما كنت التفت لهذا البحث لتبختري في ثوب الأمن واستغنائي عن الناس باستوائي معهم في الدعة والرخاء حتى وقت في شدتي المعلومة وخرجت من مصر مختفيًا فدرت في البلاد متنكرًا أدخل كل بلد بلباس مخصوص وأتكلم في كل قرية بلسان يوافق دعواي التي ادعيها من قولي إني مغربي أو يمني أو مدني أو فيومي أو شرقاوي أو نجدي. وأصلح لحيتي إصلاحًا يوافق الدعوى أيضًا فأطيلها في مكان عند دعوى المشيخة وأقصرها في آخر عند دعوى السياحة مثلًا وأبيضها في بلد وأحمرها في قرية وأسودها في عزوبة (عزبة) وقد رأيت من رجال المروءة والهمم من لم يكونوا في حسابي ولو حُدثت بما هم عليه من الهمة قبل رؤيتهم في الشدة لوقع الحديث موقع الاستبعاد أو الاستغراب خصوصًا وأن معظم من آووني لم يكن بيني وبينهم نسب ولا قرابة ولا سابقة صحبة ولم أدخل بلادهم قبل الاختفاء لغرض من الأغراض وكان يعز علي بل يستحيل ذكر أحدهم قبل صدور العفو العام أما الآن فقد حفظ لهم كتابي (الاختفاء) تخليط ذكرهم الجميل ومجدهم الأثيل. وعند ما دُلّت الحكومة علي لم تبعث رجلًا فظًا للقبض علي بل بعثت رجلًا مهذبًا هو محمد أفندي فريد وكيل حكمدارية الغربية إذ ذاك فاشتد في أول الأمر وأراد أن يكتفني فلما ذكرته باني مذنب سياسي لا مجرم جنائي انصاع لأفكاري وتلطف بي وتساهل معي ومكنني من دخول البيت لألبس ثيابي وأوصي أهل البيت بما يفعلونه بعد توجهي وعندما
1 / 7
وصلت معه إلى مركز السنطة لم يضعني في السجن بل وضعني في محل العساكر وفرش لي كبود عسكري وأمر لي بماء أتوضأ به لأصلي العشاء ثم أخذ خادمي واستنطقه وحده بما اضطره للإقرار ببعض من آووني وأكرموني في الاختفاء ثم استحضرني إليه آخر الليل وحاول أن أعترف له بأن أحدًا ممن ذكرهم خادمي كان يعرف حقيقتي فأكدت له عدم معرفة واحد منهم لي وكانت همته متجهة لإقراري بمعرفة سعادة منشاوي باشا لي فعز عليه ذلك وامتلأ عجبًا عندما قلت له إني لم أعرف المنشاوي إلى الآن ولم يكن بين وبينه سابقة اجتماع فقال كيف ذلك مع شهرتكما فقلت الشهرة لا تقضي بالتعارف ما لم يكن هناك اختلاط وصحبة ولا صحبة بيننا فتكلم معاون البوليس بما هو
أهله وأعرضت عن ذكره لئلا ألوث الصحيفة بهُجر القول. وعندما وجدت في طنطا وسألني الفاضل الماجد قاسم بك أمين رئيس النيابة إذ ذاك قال لي أنت حر في كلامك فقل ما شئت فلم يسمع مني أن أحدًا من الناس آواني على أني فلان المطلوب للحكومة بل قلت له أني كني أدخل بدعوى ادعيها وأخرج خوفًا من تفرس صاحب البيت في وقبضه علي وعندما دخلت إسكندرية سألني إلياس أفندي ملحمة وأما معه في العربية عن منشاوي باشا فقلت له لم يكن يعلم من شأني غير أني رجل عالم يمني وعندما جلست مع سعادة الهمام عثمان باشا عرفي محافظ إسكندرية إذ ذاك أخذ يلاطفني ويستميلني لأخذ أفكاري على ما هي عليه فمازال يتنقل من تهنئة إلى تبشير إلى استعطاف حتى سألني عن منشاوي باشا أن كان يعلم حقيقتي فقلت له علمه بي كعلم دولتلو رياض باشا فإنه
1 / 8
كان يعلم وجود رجل عالم يمني في القرشية وكان يحدثه بأخباري الشيخ سعد والجوهري المنشاوي وبسيوني بك المنشاوي وغيرهم كما كانوا يحدثون سعادتي عثمان باشا ماهر وحسام الدين باشا وجاءني الشيخ سعد مرة يسألني عن أشياء على لسان دولة رياض باشا منها المثل المشهور. بعلة الورشان يأكل الرطب المشان. وقد رآه في جريدة فكتبت له جواب ما سأل عنه. فقال لي ودولة رياض باشا كان يعلم حقيقتك فقلت له مبلغ علمه وعلم سعادة منشاوي باشا أني رجل عالم يمني متمكن من العلوم فإني كنت منكرًا هيئتي وصوتي ولهجة كلامي بحيث يعز على والدي معرفتي بتلك الحالة وكنت أجتمع بالناس في المجالس وعلى الطعام من غير مبالاة لعلمي بعدم اهتدائهم لمعرفتي بهذه الصورة والعقل يقضي بأنه إذا كان منشاوي باشا يعلم شأني وأني نديم لأخفاني عن أعين الناس خوفًا على مظهره وشرفه أن يمس إذا قبض علي عنده. على أني لم أقم عنده أكثر من خمسة أشهر وقمت باسم التوجه إلى الحج الشريف فأعرض عن السؤال بعد ذلك وانتهى الأمر بتفضل وإحسان المأسوف عليه أفندينا توفيق باشا علينا وعلم كل ممن آووني أن ضيفهم الذي كان نزيلًا عندهم باسم المدني أو الفيومي أو اليمني أو السبكي أو الغزي أو المغربي أو الناجي أو المصري هو عبد الله النديم فأقدم لجمعهم السعيد خالص الشكر ودائم الحمد والثناء على ما طوقوني به من النعم كما أشكر محمد أفندي فريد دون صاحبه محمد أفندي علي وجليسه مصطفى أفندي شوقي. وأثني على همة وعناية قاسم بك أمين العالم الفاضل فإنه اعتنى بشأني وأرسل لي خالدًا أفندي
الفوال لينظر حالة السجن
1 / 9
أنظيف هو أم لا وهناك تضييف أو تعذيب فلم أطلب منه أكثر من تنوير المحل ليلًا ورفع باب الملقف ليدخل الهواء ففعل وأمر أن يرش في المحل حمض الفنيك كل يوم وأن ترفع مستيلة البراز كل يوم مرتين أو ثلاثًا وأن لا أمنع من شرب القهوة والدخان إن أردت وزاد الفضل بقوله إن كان معه نقود فبها أو لا فاستحضروا له ما يطلبه على حسابي ثم بادر بكتابة تلغراف إلى المسيو لوجريل النائب العمومي وجاءه رده بأن المسألة إدارية لا تخص بالمحاكم. ثم لا أنسى همة كل من اللورد كرومر (السير بارنج) وعطوفتلو حسين فخري باشا ناظر الحقانية إذ ذاك وعطوفتلو تجران باشا ناظر الخارجية كما لا أنسى الثناء على رجال الوزارة العظام والأصولي الماهر المستر سكوت مستشار الحقانية فما من رجل منهم إلا وله أثر يذكر في هذا الشأن وكأن ما جرى على ألسنهم سر من أسرا المحزون عليه أفندينا توفيق باشا فإنه لم يحدث نفسه بشيء من الضرر بالنسبة إلي وإنما كانت الأصوات تسمع حوله من غير فمه الطاهر تغمده الله تعالى برحمته ورضوانه وأضم لهذا كله الثناء والشكر لمحرري الجرائد المحلية المؤيد والوطن والمقطم والأهرام والفلاح والمحروسة والبسفور والفارد الكسندري والاجيبسيان غازت وغيرها من الجرائد التي أشفقت على هذا الضعيف فاستمالت القلوب إليه. ثم أني أشكر عناية إخواني الوطنيين واهتمامهم بي قبل السفر وعند العودة فرحين مهنئين بالنجاة والسلامة. أما فضلاء الشام وأمراؤه فقد ضمن لهم كتابي النحلة في الرحلة ما وجب لهم من الثناء وحسن الذكر. ولتكن هذه العجالة مقدمة شكر وفاتحة ثناء لأناس باعوا حياتهم ومظاهرهم بمجد خالد
1 / 10
اشتروه بالمحافظة على أخيهم الوطني لا يبتغون إلا الذكر الجميل في الدنيا ورضا الله تعالى في الآخرة فلله هم ثم لله هم فإن أسير إحسانهم وحافظ معروفهم خادمهم
عبد الله النديم الإدريسي
...
(فصل)
في الأخلاق والعادات
جرت عادة الله تعالى في خلقه أن يجري كل أمة وطائفة على أخلاق وعادات يلهمهم إياها عند حكم الضرورة بالتزام العادة والتلبس بالخُلُق فيقلد الضعيف القوي والبليد الذكي حتى يسري ذلك في أفراد الأمة أو الطائفة ويصير كأنه جبلي فطري يتوارثه الأبناء عن الآباء، وبوصولها هذه الدرجة يظهر استحسانها استقباح غيرها من أخلاق وعادات الغير حتى لو اتخذنا محكمين من أمتين لأصر كل منهما على تصويب أمته وتخطئ غيرها وتفرقا على النفرة والتضاد، وإذا استبصر أحد الأفراد ورأى قبح شيء مما عليه طائفته ونبههم على ذلك محتجًا بالدليل النظري والبرهان العقلي حكم عليه بالجنون والغفلة عن خصائص الأمم، وبهذا يعز على الأمم أن تغير عاداتها ما دامت في حيز لا يدخله غيرها وليس هذا من خواص الشرق أو الغرب بل هو من لوازم الأمم البعيدة عن الاختلاط الإنساني يشهد بذلك عصر العزلة الذي قضى على كثير من العقلاء بإراقة الدماء حفظًا لعادة أو تأييدًا لخلُق، ومن هنا يعلم قدر
1 / 11
نعمة الاختلاط وتبادل التجارة والسياحة والاستيطان بين الأمم شرقية وغربية فإن وجود العدد الكثير من أمة بين أفراد أمة أخرى يجرون أمورهم على عاداتهم في الصناعة والفلاحة والملاحة واستخدام الأفكار في مواردها من إنشاء وخطب وتدريس وتهذيب وتأديب يقوم مقام أساتذة منتشرين في أنحاء البلاد فتستنكر النفس بادئ بدء ما تراه مما يخالف عادتها وتفر من رؤية من يخالفها ثم لا تزال تتأخر في الفرار والاستمرار يستدنيها ويتألفها وهي تميل شيئًا فشيئًا حتى يحلو في عينها ما تراه ثم تهجس بتقليد الغير وعادتها تمانعها إلى أن يبعثها التقليد على الهجوم مرة فتفعل أو تقول وهي تخاف الرقباء ولا تزال تأخذ بالتقليد يومًا فيومًا حتى يحسن عندها التظاهر بما أخذته من عادة الغير ثم يترقى عندها الاستحسان فترى قبح ما كانت عليه مما جرب عليه الآباء في عصور متتالية.
ولا نستطيع أن نحكم بسوء عادات القدماء بالمرة فإن حاجتهم التي دعتهم لاتخاذها هي حاجتنا التي تدعونا لتغييرها أو تحسينها، ولكن ينبغي لمن يغير عادته بعادة الغير أن ينظر في أصل عادته وفوائدها ومضارها ثم في عادة الغير كذلك فإن رأى حسن عادته وأنها من لوازم حفظ المظهر أو الثروة أو الوطنية أو الجنسية أو اللغة أو الدين لزمه البقاء عليها وإن لم تحسن في عين الخليط وإن رآها مضرة بذاته أو وطنه أو الهيئة الاجتماعية غير منها ما لا يفقده الاعتقاد الديني والشعور الجنسي والغيرة الوطنية، فإن انتقل من عادته بلا رؤية ولا نظر للعواقب فقد سلم ذاته لمن انتقل لعادته بلا حرب ويعز عليه الرجوع لجنسيته ووطنيته وخصائص
1 / 12
أمته بعد نسيانه ما هي عليه من العادات وما لها من الأخلاق، إنما قلنا حفظ المظهر أو الثروة أو الوطنية أو الجنسية أو اللغة أو الدين؛ لأن الإنسان إذا ترك مظهره ووجاهته للغير بتنزله إليه حتى يحله محله فقد سلم الأفراد الذين كانوا يسيرون بسيره ويهتدون بتدبيره ونزل هو إلى درجتهم وإن مشي في ثياب العظماء، وإذا تهاون في مستغل ثروته من صناعة وتجارة وأخذ يقلد الغير في استعمال مصنوعه وصورة تجارته أمات الصنعة والصناع وأعدم التجارة وحوّل ما كان بيده إلى الغير من غير شعور وعاد فقيرًا محتاجًا لما بيد الغير لا يجد ما يقوته إلا ما بقي من فضله ومهن الأمور، وإن جهل الوطنية وحقوقها وواجبات أهلها سهل عليه الانقياد للغير وتسليمه الوطن غرورًا بالظاهر وجهلًا بالعواقب؛ إذ لا يعلم من الوطنية إلا أنه ساكن بهذه الأرض ينتفع بالسكنى فيها انتفاع الوحش بالأودية والمغارات فلا يعرف تاريخ الحياة الوطنية ولا الأمم المؤسسة لها ولا شرف استقلال الاستيطان ولا مجد وقاية المأوى وبهذا يكون بين يدي الغير بمنزلة أجنبي يستعمله في مهنه وليس له إلا أجر أجير ومنزلة نزيل.
وإذا تجنس بغير جنسيته بالتقليد واتباع محسنات الغير ومجاراته في أقواله وأفعاله وقعت جنسيته عنده موقع العدو وعدم فوائدها التي يأتي بها اجتماع أفراد الجنس فإن الوطنية تجمع أجناسًا شتى يدعوهم حب الوطن إلى توحيد المعاملة والسير في كل ما من شأنه حفظ الوطن وعماره وانتظامه وامتداد تجارته وتحسين صناعته لا يفرق بينهم جنس ولا دين لسير الجميع خلف مقصد واحد فإذا سمع صوت الجنس في وطن آخر تداعت
1 / 13
إليه آحاد الجهات مجيبة للصوت إجابة أدبية أو مادية فإن فقد المرء جنسيته أو جهل مجدها وتاريخها وآثارها انسلخ عنها وإن تكلم بلهجتها ولزم عادتها، وإذا ترك لغته بلغة أخرى لزمه التخلق بأخلاق أهلها واستحسان ما هم عليه من العادات والمألوفات وإن أمات بذلك عادات جنسه وينطوي تحت انفعاله بتأثير التعبير بغضه من غايره وحبه من ماثله فيكون أجنبيًا بين قومه أو في قوة الأجنبي والمراد بترك اللغة جهلها والاستعاضة عنها بلغة الغير لا علمه بها مع المحافظة على لغته واستعمالها في أقواله بين قومه واشتغاله بالمحافظة عليها وإتقان قواعدها بما يراه في لغة الغير مما يسهل تناوله لو ترجم إلى لغته فإن الجامع بين لغته ولغات الغير أساس من أسس العمران المدني ومنبع من منابع الأبحر العلمية، وإذا تهاون في أحوال دينه وفروعه هان عليه التقاعد عن نصرة أهله الجامعة لما تشتت في الوجاهة والثروة والوطنية والجنسية واللغة فإننا نرى مقيمًا في الشرق يتألم بمصاب دينيّة في الغرب وليس بينه وبينه جامعة وطن أو جنس أو لغة وإنما تتحرك ذاته بحركات دينيّة لسري الجاذبية الدينية في الجسم سري الماء في العود فإذا فقدها بتقليد الغير فقد استخدم نفسه لأفكاره حتى لو اضطره لمقاتلة أبيه وأخيه معه لفعل لاستقباحه ما هم عليه واستحسانه ما عليه الغير، ويدخل في هذا التقليد في الملابس والمطاعم والمشارب والمجامع فإن عادات الغير أو حسنها من قبل أن ينظر في منافعها ومضارها.
وحيث أن هذا البحث من أعظم مباحث الأخلاق والاجتماع المدني
1 / 14
الذي لابد منه لكل أمة استوطنت المعارف بلادها وقامت لمضارعة الأمم المختلطة بها تجارة وسياحة واستيطانًا لزمنا أن نفصل كل فرع من فروع التقليد ونبين منافعه ومضاره عند المقلّد بصرف النظر عن حسنه عند المقلّد فقد يكون الشيء الواحد سببًا لعطب شخص كما يكون نجاة لآخر والدواء الواحد يكون سمًا لذات شفاء لأخرى فلا يلزم من استحسان الغير لشيء نفعه لآخر، وما أريد
بذلك إلا الخدمة الإنسانية ومحافظتي على الفضيلة من حيث هي فضيلة في قومها وتبين الرذيلة بمباينتها أخلاق وعادات ذوي الأفكار والله المستعان جل شأنه.
...
رثاء
فجئَ الأدب ورزئَ الإنشاء وبكت الأقلام على كاتب شق بفكره بحار العلوم حتى أدرك مغاص لآلئها فساح في قاع تلك البحار الزاخرة طلبًا لما حلّى به صدور الكتب والرسائل حتى بهر الكتاب بحكمه وآدابه وملأ البلاد بأسفار خدمته التي بذل فيها نفيس العمر متحملًا مشاق المحادَّة ومضض سيوف المعارضة وصبر للدهر ونوازله صبر الجبال على انهمار السيول حتى وضع قدمي جريدته الأهرام على أساس متين وكساها حلة وطنية صيرتها محبوبة عند المصريين ولطالما عالج الوقت بما يناسبه وألبس جريدته لكل سياسة لباسًا يناسبها وما ذاك إلا بقوة الحزم وشدة العزم، وأظنه لا يحتاج لتعريف بعد ذلك فإن من سمع هذه الأوصاف قال أنها لا تنطبق إلا
1 / 15
على المحرر المنشئ الفاضل البليغ (سليم بك تقلا) وقد أمضى عمره في خدمة الشرق وأهله ثم قضى نحبه مأسوفًا عليه معزّى فيه كل كاتب وفاضل خصوصًا أخوته الأشقاء النجباء الفضلاء الجهابذة بشارة بك وإبراهيم بك وحبيب بك ولا ننسى تفتيت كبد والدته التي جف جذع شجرة مجدها وغاض بحر ماء حياتها فأصبحت تلطم خد الثكالى وتصعد الزفرات من قلب اشتعلت به نيران لا تطفأ. كما لا ننسى قرينة فقدت ألفها في عنفوان شبابه وبضاضة صباها وكان الأمل أن تحيا به حياة طيبة فحييت بعده حياة هموم وأحزان. وكنا نود أن لو تمكنا من وجودنا مع الأخوة الأفاضل لنضع أيدينا في أيديهم للعزاء ونرثي فقيدهم في حفلة التشييع وإذ قد عز ذلك فليتقلبوا هذه الكلمات ممن شاركاهم في حزنهم ولينت كل منهم في تعزية المصابتين، والصبر على مصيبتهم مسئول من جانب الحق ﷾ بلسان معزييهم
عبد الله النديم عبد الفتاح النديم
...
تحية بلدي
حبيب. سلامات يا بو الندمان. والله الحمد لله على سلامتك. زمان يا أحبابي زمان. أنت كنت فين المدَّادي واحنا قلوبنا مِشَعْتفا عليك. نديم. أنا كنت في بلادنا بلاد الفتوه والمروة قاعد آكل شارب مبسوط وضارب الدنيا طبنجة. ح. والله عفارم عليك اللي صبت عشر سنين
1 / 16
والحكومة تدوَّر عليك وانت قاعد في بلادها. ن. المدار على فضل سِيدك واللي يحفظو ربنا ما حدّ يضيّعه. ودا كلُّو دعا الوالدين. ونرجع ونقول الله يرحم أفندينا المرحوم توفيق باشا اللي سامحنا وعفا عنا بفضله. وربنا يخلي أفندينا عباس باشا ويحفظو لنا فإنه أنعم علينا بالرجوع لبلادنا وخلاَّنا نمشي في الأوطان على كيفنا بعد ما كان الواحد يمشي ويتلفت. ح. إي والله واجب عليك تترحم على الأمير الغالي اللي فاق الدنيا بحلمه ومكارم أخلاقه. وواجب عليك تشكر الأمير الهمام اللي ركب كرسي الخديوية بقوة قلب وشجاعة الفتوات حتى حير العقول في أفعاله الجميلة ومآثره الصّنعة. وشفت لنا إيه في الدنيا لما جيت وإيه اللي رايح تعلمه.
ن. يا حبيبي أنا كنت مستخبي عشر سنين وطلعت رأيت الدنيا تغيرت والأحوال بقت جنس تاني فسيبني شوية أيام لما أشوف الخبر إيه والدنيا جرى فيها إيه وأشوف الناس وأعرف نكتتهم وإيه اللي في كيفهم وإيه اللي طلعو فيه اليوم وبعدين أقول لك على اللي في بالي. ح. احنا مالنا ومال الناس احنا عاوزين توضّب لنا كلمتين في السياسة وتورينا الدنيا رايح يجري فيها إيه. ن. احنا مالنا ومال السياسة اللي توجع الرأس وتلخبط العقل. السياسة لها ناس بالعِنْيه واحنا ناس بتوع نكت وتفريح وشَبرَقة وتسالي. والجريدة دي جريدة علم وتهذيب أخلاق ونكت مضحكة وحاجات مفرّحة فإن كنت عاوز أتكلم وياك في تهذيب الأخلاق أنا وياك وإن كنت عاوز السياسة دَّورلك على واحد غيري. ح. يا شيخ احنا عاوزين نشم ريحة السياسة يوم ونشوف الدنيا إيه أحسن بنسمع عليها كلام أشكال وألوان
1 / 17
والجراميل خرفشت عقولنا وكل واحد بيقول لنا كلام على كيفه واحنا ماشيين وراهم زي العمي ما احنا عارفين أخرتها إيه. ن. السياسة يا حبيبي في إيدي رجال والرجال في إيد أفندينا وهوَّا ويَّاهم يعرفوا شغلهم في حكومتهم. واللي علينا إننا نسمع ونتفرج وربنا يعينهم وانت خلّيك في بر خِليص. ح. دهدَا يا سيدنا احنا كنا بنقول أهو جِه الواد الوطني اللي يعرف قيمة بلاده ومقامات الناس ودلوقت ينقي لنا القَمْحة من الشعيرة ويكشف لنا البر جيت انت على رأي جبتك يا عبد المعين تعيني لقيتك يا عبد المعين وحلان. تهذيب إيه وعلم إيه ما كلنا علما وكلنا افنديه وكلنا أمرا بقى دول كلهم ما يعرفوش التهذيب فُضّك بقى من العلم والفقهنة دي وقول لنا كلمتين نِتنعْنش بيهم حَبّة. ن. أنا ما انكرش يا واد إن بلادنا مليانا بالمهذبين اللي كل واحد منهم اجعص مني ألف مرة ولكن كل واحد منهم في حالة وشغلانتو اللي هوّا فيها وأنا فاضي والفاضي يعمل قاضي. وقلت لك ألف مرة مَلْناش دعوَا بالسياسة اللي مَلْيانا بالقيل والقال وكل يوم نشوف فيها أشكال وألوان وكل أحوالها تغم وتقرف خل ملوكنا وأمرأنا في اللي هما فيه أحسن الواحد منهم ما بيبات متهني يوم وسهرانين على شاننا وانت اد نتَ داير تبرطع ما انت عارف إن كانت بتهوي ولاَّ بتدوي. ادعي لمولانا السلطان بالنصر وسيدنا الخديوي بالعز والإقبال وخليهم يعافرو في الناس اللي تعتعوا الساكن وربنا يعينهم. فإن كلامي وكلامك في السياسة ما فيه إلا لخبطه العقول وتشويش الأحوال فخليك كل طَرف ونام وِسط وخل السياسة لأهلها. ح. طيب قول لنا كلمتين في التهذيب لما نذوق طعم الكلام دا
1 / 18
ونشوف رايح تقول إيه. ن. أنا رايح أكلمك بالكلام البلدي اللي تعرفه وتفهمه فإنك نسيت لغتك الأصلية ومشيت على كيفك في الكلام.ح. وانا مالي قول للجماعة اللي علمونا اللي كنا في ايديهم زي الحنة العجينة وسابونا طلعنا زي العوام. ن. يا خسارة على لغتنا العربية اللي عرف فضلها العدو قبل الحبيب ولفّت الدنيا وما خلّت ولا حِتَّى إلا دخلتها بعلومها وفنونها وغرايبها. وجت الآخر وقعت في يد جماعة زينا لا تعلموها ولا حافظوا عليها. هيا دي عملا تِنعِمِل وتراكيبها البديعة احنا نضيعها بالكلام الفارغ. يا ميت خسارة على لغتنا اللي ما هي لاقيه حد يحوشها. ح. انت رايح تقعد تنشّف ريقنا وتقول لغتنا لغتنا موش الإنسان يدور مع الزمن ويتكلم بلغة الناس للي ويّاه وزي ما تجي تجي. ن. أهُودا الكلام الذي يغم على القلب. بقى لما تتكلم بلغة ضيوفك وكل من جه تاخد لك من لغته كلمتين حتى تركب لك لغة من هنا ومن هنا ما بقيت غريب في الديار وضيعت مجدك وشرفك. ويبقى كل واحد من الناس يعرف لغتة وجنسيته وانت زي حمار السكة كل ما ركبك أهو صاحبك. هوّ احنا رايحين نحيي الموتى بقَى. فضّك من الكلام ده وقول لنا شويه في الآ لافرانكة واللّبس المقمط والشخلعة والدرْدَحة ورنّة الجنيهات على طرابيزة الكاسات. وأوعا تفتح حنكك بالعلم واللي فيه أحسن يرمولك الجريدة ويستقلو عقلك. ن. هوَّ إيه يا واد الكلام ده. هيّا المدارس انقفلت ولا المعلمين مَاتُمْ ولا العلما راحُم
1 / 19