وقد حاول مثل إمبيدوكل وديموقريط أن يوفق بين رأي بارمنيد، وبين التجربة فقال: إن اليونانيين يسيئون القول عندما يتكلمون عن الميلاد والهلاك؛ لأنه لا شيء يولد، ولا شيء يهلك، إنما الأشياء موجودة، تتألف وتتحد ثم تنفصل، وإن التغيير في الأشياء ناشئ عن تحول موضعها في الفراغ. وهو يقول بأن عناصر الأشياء وجدت منذ الأزل، وأن كل شيء يمكن تقسيمه إلى اللانهاية، إلى أجزاء متشابهة ذات صفات مختلفة؛ والعشب الذي يأكله الثور يتحول إلى دم وعظم وعضل؛ لأنه يشمل الدم والعظم والعضل. وبعبارة أخرى كان رأي أناكساجور هو الذي قال به بعد ذلك جوردنانو، وباسكال، وليبنتز. (أ) رأيه في أصل العالم
في أول الوجود كان الخلق مضطربا مرتبكا؛ فلأجل خروج العالم من تلك الفوضى اقتضى ذلك تداخل قوة محركة مدبرة آمرة مرتبة؛ وهذه القوة هي العقل، والذي يمتاز به العقل هو البساطة والقوة والعلم. ولكن لم يكن لأناكساجور رأي واضح في الفرق بين الروح والمادة؛ فهو يتكلم عن العقل بعض الأحيان، كما يتكلم ديوجين دابولوني عن الهواء المفكر، ويقول عنه إنه أخف وأنقى الأشياء، وإن كل الكائنات المفردة تحتوي على أجزاء منه، وإن أرواحها تقرب إلى الكمال بقدر ما تحتوي من مادته. ويرى من ذلك أن أناكساجور هو أول من أدخل في الفلسفة فكرة قانون روحاني يرتب العالم وينظمه. إن أناكساجور لفت نظر العقل الإنساني نحو ذاته، وبذا أعد فلسفة جديدة، وهي فلسفة السفسطة التي اشتغلت بالفكر عن الموجودات. (5) أصول السفسطائية - السفسطائيون المشهورون، وآثارهم في تكوين الفلسفة
كانت الفلسفة اليونانية في أول أمرها غزيرة بالآراء، وأنظمة الفكر، وطرق البحث؛ فقد وضع هيراقليط أكبر قواعد علم الخوارق عندما قال إن كل شيء يتغير إلا قانون التغير ذاته، كذلك بارمنيد ينكر الصيرورة (التجربة)، ولا يعترف بغير حقيقة واحدة، وهي حقيقة الواحد المتحد بذاته الأبدي. وقد اكتشف ديموقريط في المادة سيادة الروح على الموجودات، ولكن كل قاعدة كان يقول عنها صاحبها إنها عبارة عن الحقيقة ذاتها؛ فإذا كان العالم باقيا كما هو، والمعضلة المطلوب حلها لا تتغير، فلماذا تتعدد الحلول؟ هذا هو الذي دعا الفكر إلى التنبه والحذر من خطئه، وكانت حال بلاد اليونان السياسية والاجتماعية تقتضي وجود خطباء حاذقين يلعبون بالأفكار، ويهمهم الفوز على الجموع أكثر مما يهمهم قول الحق؛ لذا نشأ فريق السفسطائيين، ولم يؤلف السفسطائيون مدرسة فلسفية بالمعنى الصحيح، وكانوا ينكرون الحق والخير المطلقين، ولم يكن لهم غاية سوى الانتفاع بالأشياء، وسنأتي على آراء أشهرهم.
أشهرهم بروتاجوراس وجورجياس وبروديكوس وتراسيماك وأيونيديم.
أما بروتاجوراس فقد اتخذ نظام هيراقليط بداية لتعليمه، ولكنه أغفل ذكر العقل العام الذي قال عنه هيراقليط إنه سبب الانسجام، ووحدة الذات في المتناقضات، إذا لا يبقى سوى حوادث خارقة للعادة وحركة مستمرة.
وليس يوجد باب للمعرفة إلا الحواس الخمس؛ فالإنسان أصبح مقياس الأشياء، وكل معرفة نسبية بالنسبة للروح التي تعرف؛ فلا يخرج الإنسان من ذاته، والحكيم كطبيب النفس لا يمكنه أن يخلق فيها أفكارا أصح وأصدق من الأفكار الموجودة بها، ولكنه يمكنه أن يوجد بها أفكارا أنفع وأجمل؛ فالحكمة هي صنعة الإسعاد.
وجورجياس ولد عام 427، وجاء إلى أثينا سفيرا لمدينة ليونتيم، وهي وطنه بصقلية، وقد اتخذ تعريف بارمنيد للكائن، وطبق هذا التعريف على الكائنات الحساسة، ويستنتج أن الكائن ليس في مكان ما؛ لأنه لا شيء يوافق تعريف الوجود. وجملة تعليمه في ثلاثة آراء؛ الأول أن لا شيء موجود، وأنه لو وجد شيء فلا يمكن معرفته، ولو فرضنا وجود الكائن، وأمكن معرفته فلا يمكن له أن يعرفه لغيره. قال بروتاجوراس إن كل حكم يصدره الإنسان حق. وقال جورجياس إن لا حكم حق، يقول لو كان كل حكم حقا فهو قاصر على التعبير عن الظاهر، وإذا كان كل حكم غير حق، فمعنى هذا أننا لا نستطيع إلا فهم الظواهر.
يقول السفسطائيون الذين انتقدهم أفلاطون وسقراط انتقادا مرا إنه ليس هناك علم، إنما هناك آراء، وليس هناك حقيقة، إنما هناك ما يشبهها، وإن الخير نسبي كالحق، وروح الأدب هي فن الفوز. ومن أقوالهم أن الأرباب اخترعها واضعو القوانين ليرهبوا البشر، وأنه ليس هناك عدل، ولا ظلم، ولا حق، ولا باطل، وأن القوانين ما وضعت إلا للضعاف الذين لا يستطيعون مخالفتها، وأن الخير هو القوة، وهو فرح السيادة على الأشياء والفوز على الموجودات، وكون القانون الوحيد الذي يقيد الرجل هو إرادته.
وظهور السفسطة دليل على اضمحلال الفلسفة اليونانية القديمة، وبداية تقدم في الفكر، وأول عهد للبحث في مسائل معضلة لم تخطر للأقدمين على بال. (6) سقراط العظيم والفلسفة السقراطية
لم يكن سقراط فيلسوفا فقط، بل كان فيه من صفات الرسل والأنبياء، وكان يعتقد أنه تسلم من الأرباب رسالته، فتفرغ لتلك الرسالة، وكانت نفسه تحدثه بإصلاح وطنه إصلاحا أدبيا ودينيا، وأنه ما كان يستطيع أن يرد لبلاد الإغريق مجدها بدون أن يستردوا فضيلتهم؛ فنشر طريقة جديدة للاهتداء إلى الحقيقة، وإخراجها واحدة ثابتة من كل المظاهر المتعددة قليلة الثبات. وكل ما يحبه في الحق هو الخير الذي هو الشرط الأول للحق؛ والمنطق مرتبط في نظره بالآداب؛ لأنه أداتها.
نامعلوم صفحہ