258

وينتفعوا بها ، فلما أضاءت لهم النار فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم ويضرهم ، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين فهم كقوم سفر ضلوا عن الطريق ، فأوقدوا النار لتضيء لهم الطريق ، فلما أضاءت لهم فأبصروا وعرفوا طفئت تلك الأنوار ، وبقوا في الظلمات لا يبصرون ، قد سدت عليهم أبواب الهدى الثلاث فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب : مما يسمعه بإذنه ، ويراه بعينه ، ويعقل بقلبه ، وهؤلاء قد سدت عليهم أبواب الهدى : فلا تسمع قلوبهم شيئا ، ولا تبصره ، ولا تعقل ما ينفعها. وقيل : لما لم ينتفعوا بأسماعهم وأبصارهم وقلوبهم نزلوا بمنزلة من لا سمع له ، ولا بصر ، ولا عقل. والقولان متلازمان.

وقال في صفتهم ( فهم لا يرجعون ) لأنهم قد رأوا في ضوء النار ، وأبصروا الهدى ، فلما طفئت عنهم لم يرجعوا إلى ما رأوا وأبصروا. وقال سبحانه وتعالى : ( ذهب الله بنورهم ) ولم يقل : ذهب نورهم ، وفيه سر بديع : وهو انقطاع سر تلك المعية الخاصة التي هي للمؤمنين من الله تعالى ، ( وأن الله مع المؤمنين ) [الأنفال : 19] ، ( إن الله مع الصابرين ) [البقرة : 153] ، و ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) [النحل : 128]. فذهاب الله بذلك النور : انقطاع المعية التي خص بها أولياءه فقطعها بينه وبين المنافقين ، فلم يبق عندهم بعد ذهاب نورهم ، ولا معهم ، فليس لهم نصيب من قوله ( لا تحزن إن الله معنا ) [التوبة : 40] ، ولا من ( كلا ، إن معي ربي سيهدين ) [الشعراء : 62].

وتأمل قوله تعالى : ( أضاءت ما حوله ) كيف جعل ضوءها خارجا عنه ، منفصلا ، ولو اتصل ضوؤها به ، ولابسه ، لم يذهب ، ولكنه كان ضوء مجاورة لا ملابسة ومخالطة ، وكان الضوء عارضا والظلمة أصلية ، فرجع الضوء إلى معدنه ، وبقيت الظلمة في معدنها ، فرجع كل منهما إلى أصله اللائق به : حجة من الله قائمة ، وحكمة بالغة ، تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده.

وتأمل قوله تعالى : ( ذهب الله بنورهم ) ولم يقل بنارهم ، ليطابق أول الآية ، فإن النار فيها إشراق وإحراق : فذهب ما فيها من الإشراق وهو النور وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق وهو النارية وتأمل كيف قال ( بنورهم ) ولم يقل : بضوئهم مع قوله ( فلما أضاءت ما حوله ) لأن الضوء هي زيادة في النور ، فلو قيل : ذهب الله بضوئهم ، لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل ، فلما كان النور أصل الضوء ، كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته ، وأيضا فإنه أبلغ في النفي عنهم ، وأنهم

صفحہ 261