تقول وقد كتبت دقيق خطي: ... فديتك ممّ تجتنب الجليلا؟
فقلت لها:
نَحَلْتُ فصار خطي ... دقيقًا مثل صاحبه نحيلا
وقال علي بن الجهم في صفة الكتب: إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تناولت كتابًا فأجد اهتزازي فيه من الفوائد والأريحية التي تعتادني وتعتريني من سرور الاستنباه وعز التبيين أشد إيقاظًا من نهيق الحمار وهدة الهدم، وإني إذا استحسنت كتابًا واستجدته رجوت فيه فائدةً، فلو تراني ساعة بعد ساعة أنظر كم بقي من ورقه مخافة استنفاده وانقطاع المادة من قبله، وإن كان الكتاب عظيم الحجم وكان الورق كبير القدر.
وذكر له العتبي كتابًا لبعض القدماء وقال: لولا طوله لنسخته، فقال: ما رغبي إلا فيما زهدت عنه، وما قرأت كتابًا كبيرًا فأخلاني من فائدةٍ ولا أحصي كم قرأت من صغار الكتب فخرجت منها كما دخلت فيها.
قال ابن داحة: كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ﵁، لا يجالس الناس ونزل مقبرة من المقابر وكان لا يكاد يُرى إلا وفي يده كتاب يقرأ فيه، فسئل عن ذلك وعن نزوله المقبرة فقال: لم أر أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب ولا أسلم من الوحدة.
وقيل لابن داحة وقد أخرج إليه كتاب أبي الشمقمق وهو في جلود كوفية وورقتين طابقتين لا بخط عجيب فقال: لقد ضيع درهمه صاحب هذا الكتاب، وقال: والله إن القلم ليعطيكم مثل ما تعطونه ولو استطعت أن أتودعه سويداء قلبي وأجعله مخطوطًا على ناظريّ لفعلت.
وقال بعضهم: كنت عند بعض العلماء وكنت أكتب عنه بعضًا وأدع بعضًا فقال لي: اكتب كل ما تسمع فإن أخس ما تسمع خير من مكانه أبيض، وقيل:
أما لو أعي كل ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم أستفد غير ما قد جمعت ... لقيل هو العالم المقنع
ولكن نفسي إلى كل نوعٍ ... من العلم تسمعه تجزع
فلا أنا أحفظ ما قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع
ومن لثّ في علمه هكذا ... ترى دهره القهقرى يرجع
إذا لم تكن حافظًا واعيًا ... فجمعك للكتب لا ينفع
وقال بعضهم: الحفظ مع الإقلال أمكن ومع الإكثار أبعد وهو للطبائع مع رطوبة القضيب أقبل، ومنها قول الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبي خاليًا فتمكّنا
وقيل: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، فسمع ذلك الأحنف فقال: الكبير أكثر عقلًا ولكنه أكثر شغلًا، وكما قال:
وإنّ مَن أدّبته في الصّبى ... كالعود يُسقى الماء في غرسه
حتى تراه مورقًا ناضرًا ... بعد الذي أبصرت من يبسه
والصبيّ على الصّبَى أفهم وله آلف وإليه أنزع، وكذلك العالم على العلم والجاهل على الجهل، وقال الله ﵎: " ولو جعلناه ملكًا لجعلناه رجلًا "، لأن الإنسان على الإنسان أفهم وطباعه بطباعه آنس، ومن التقط كتابًا جامعًا كان له غنمه وعلى مؤلفه غرمه، وكان له نفعة وعلى صاحبه كّده، ومتى ظفر بمثله صاحب علم فهو وادعٌ جامٌ ومؤلّفه متعوب مكدود وقد كفي مؤنة جمعه وتتبّعه وأغناه عن طول التفكير واستنفاد العمر، كان عليه أن يجعل ذلك من التوفيق والتسديد إذا بالغ صاحبه في تصنيفه وأجاد في اختياره، قال أبو هفّان:
إذا آنس الناس ما يجمعون ... أنِست بما يجمع الدفتر
له وطري وله لذّتي ... على الكأس والكأس لا تحضر
تدور على الشرب محمودةً ... لها المورد الخِرْقُ والمصدر
يغنّيهم ساحر المقلتين ... كشمس الضحى طرفه أحور
وريحانهم طيب أخلاقهم ... وعندهم الورد والعبهر
على أن همّتنا في الحروب ... فتلك الصناعة والمتجر
قال: لمّا قلتها عرضتها على ابن دهقان فقال: إذا سمع بها الخليفة استغنى بها عن الندماء. وأنشدنا غيره:
نِعم المحدِّث والرفيق كتابٌ ... تلهو به إن خانك الأصحاب
لا مفشيًا سرًا إذا استودعته ... وتنال منه حكمةٌ وصواب
وقال آخر:
نِعم الجليس بعقب قعدة ضجرةٍ ... للملك والأدباء والكتّاب
1 / 6