وروي عن ابن عباس أنه قال: قدمت على معاوية وقد قعد على سريره وجمع أصحابه ووفود العرب عنده، فدخلت فسلّمت وقعدت، فقال: من الناس يا ابن عباس؟ فقلت: نحن. قال: فإذا غبتم؟ قلت: فلا أحد. قال: ترى أني قعدت هذا المقعد بكم؟ قلت: نعم، فبمن قعدت؟ قال: بمن كان مثل حرب بن أمية. قلت: من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه. قال فغضب وقال: وارِ شخصك مني شهرًا فقد أمرت لك بصلتك وأضعفتها لك. فلما خرج ابن عباس قال لخاصته: ألا تسألوني ما الذي أغضب معاوية؟ إنه لم يلتق أحد من رؤساء قريش في عقبة ولا مضيق مع قوم إلا لم يتقدمه أحد حتى يجوزه، فالتقى حرب بن أمية مع رجل من بني تميم في عقبة فتقدمه التميمي، فقال حرب: أنا حرب بن أمية، فلم يلتفت إليه وجازه، فقال: موعدك مكة. فبقي التميمي دهرًا ثم أراد دخول مكة فقال: من يجيرني من حرب بن أمية؟ فقالوا: عبد المطلب. قال: عبد المطلب أجلّ قدرًا من أن يجير على حرب، فأتى ليلًا دار الزبير بن عبد المطلب فدقّ عليه، فقال الزبير للغيداق: قد جاءنا رجل إمّا طالب حاجة وإما طالب قرىً وإما مستجير وقد أعطيناه ما أراد قال: فخرج إليه الزبير، فقال التميمي:
لاقيت حربًا في الثنيّة مقبلًا ... والصبح أبلج ضوءه للساري
فدعًا بصوتٍ واكتنى ليروعني ... ودعا بدعوته يريد فخاري
فتركته كالكلب ينبح وحده ... وأتيت أهل معالمٍ وفخار
ليثًا هزبرًا يُستجار بقربه ... رحب المباءة مكرمًا للجار
ولقد حلفت بزمزمٍ وبمكةٍ ... والبيت ذي الأحجار والأستار
إن الزبير لمانعي من خوفه ... ما كبّر الحجاج في الأمصار
فقال: تقدّم فإنا لا نتقدّم من نُجيره. فتقدم التميمي فدخل المسجد، فرآه حرب فقام إليه فلطمه، فحمل عليه الزبير بالسيف فعدا حتى دخل دار عبد المطلب فقال: أجرني من الزبير، فأكفأ عليه جفنةً كان هاشم يطعم فيها الناس، فبقي هناك ساعة ثم قال له: اخرج. فقال: كيف أخرج وتسعة من ولدك قد احتبوا بسيوفهم على الباب؟ فألقى عليه رداء كان كساه إياه سيف بن ذي يزن له طرتان خضراوان، فخرج عليهم فعلموا أنه قد أجاره فتفرقوا عنه.
قال: وحضر مجلس معاوية عبد الله بن عباس وابن العاص، فأقبل عبد الله بن جعفر فلما نظر إليه ابن العاص قال: قد جاءكم رجل كثير الخلوات بالتمني والطربات بالتغني، محبّ للقيان، كثير مزاحه، شديد طماحه، صدوفٌ عن السنان، ظاهر الطيش، لين العيش، أخّاذ بالسلف، منفاق بالسرف. فقال ابن عباس: كذبت والله أنت وليس كما ذكرت، ولكنه لله ذكور، ولنعمائه شكور، وعن الخنا زجور، جواد كريم، سيد حليم، ماجد لهميمٌ، إن ابتدأ أصاب، وإن سئل أجاب، غير حصر ولا هيّاب، ولا فحاش عيّاب، حلّ من قريش في كريم النصاب، كالهزبر الضرغام، الجريء المقدام، في الحسب القمقام، ليس يدّعي لدعيّ، ولا يدني لدنيّ، كمن اختصم فيه من قريش شرارها فغلب عليه جزّارها، فأصبح ألأمها حسبًا وأدناها منصبًا، ينوء منها بالذليل ويأوي منها إلى القليل، يتذبذب بين الحيين كالساقط بين الفراشين، لا المضطر إليهم عرفوه ولا الظاعن عنهم فقدوه، وليت شعري بأي قدم تتعرض للرجال وبأي حسب تبارز عند النضال، أبنفسك فأنت الوغد الزنيم أم بمن تنتمي إليه، فأهل السفه والطيش والدناءة في قريش، لا بشرف في الجاهلية شهروا، ولا بقديم في الإسلام ذكروا، غير أنك تتكلم بغير لسانك، وتنطق بغير أزكانك، والله لكان أبين للفضل وأطهر للعدوان أن ينزلك معاوية منزلة البعيد السحيق، فإنه طالما سلس داؤك، وطمح بك رجاؤك إلى الغاية القصوى التي لم يخضرّ بها رعيك ولم يورق بها غصنك. قال عبد الله بن جعفر: أقسمت عليك لما أمسكت فإنك عني ناضلت ولي فاوضت.
قال ابن عباس: دعني والعبد فإنه قد كان يهدر خاليًا إذ لا يجد مراميًا، وقد أُتيح له ضيغم شرس، وللأقران مفترس، وللأرواح مختلس. فقال عمرو بن العاص: دعني يا أمير المؤمنين انتصف منه فوالله ما ترك شيئًا. قال ابن عباس: دعه فلا يُبقي المبقي إلا على نفسه، فوالله إن قلبي لشديد، وإن جوابي لعتيد، وبالله الثقة، فإني كما قال نابغة بني ذبيان:
وقبلك ما قُذعتُ وقاذعوني ... فما نزر الكلام ولا شجاني
1 / 42