يا هذا إنك سألتنا أي مسألة شئت فلم نكتمك شيئًا فأخبرنا ممّن أنت؟ فقال أبو بكر، ﵁: من قريش. قال بخ بخ أهل الشرف والرئاسة، فأخبرني من أي قريش أنت؟ قال: من تميم بن مرّة. قال: أفمنكم قصي بن كلاب الذي جمّع القبائل من فهر فكان يقال له مجمّع؟ قال أبو بكر: لا. قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف؟ قال أبو بكر: لا. قال: أفمنكم شيبة الحمد الذي كان وجهه قمرًا يضيء ليلة الظلمة الداجية مطعم طير السماء؟ قال: لا. قال: أفمن المفيضين بالناس أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: أما والله لو شئت لأخبرتك أنك لست من أشراف قريش، فاجتذب أبو بكر زمام ناقته منه كهيئة المغضب، فقال الأعرابي:
صادف دَرَّ السيل درٌ يدفعه ... في هضبةٍ ترفعه وتضعه
فتبسم رسول الله، ﷺ، قال علي: فقلت: يا أبا بكر إنك لقد وقعت من هذا الأعرابي على باقعة! فقال: أجل يا أبا الحسن ما من طامّة إلا فوقها طامّة وإن البلاء موكّل بالمنطق.
محاسن كلام الحسن بن علي
﵁
قيل: وأتى الحسن بن علي، ﵄، معاوية بن أبي سفيان وقد سبقه ابن عباس فأمر معاوية فأنزل، فبينا معاوية مع عمرو بن العاص ومروان ابن الحكم وزياد بن أبي سفيان يتحاورون في قديمهم وحديثهم ومجدهم، فقال معاوية: أكثرتم الفخر فلو حضركم الحسن بن علي وعبد الله بن العباس لقصّرا من أعنّتكما ما طال. فقال زياد: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين، ما يقومان لمروان ابن الحكم في غرب منطقه ولا لنا في بواذخنا؟ فابعث إليهما في غدٍ حتى نسمع كلامهما. فقال معاوية لعمرو: ما تقول؟ قال هذا: فابعث إليهما في غدٍ، فبعث إليهما معاوية ابنه يزيد، فأتياه ودخلا عليه وبدأ معاوية فقال: إني أُجلّكما وأرفع قدركما عن المسامرة بالليل ولا سيما أنت يا أبا محمد فإنك ابن رسول الله، ﷺ، وسيد شباب أهل الجنة. فتشكّرا له، فلما استويا في مجلسهما وعلم عمرو أن الحدّة ستقع به قال: والله لا بدّ أن أقول فإن قَهرتُ فسبيل ذلك وإن قُهرتُ أكون قد ابتدأت. فقال: يا حسن إنا تفاوضنا فقلنا إن رجال بني أمية أصبر عند اللقاء وأمضى في الوغى وأوفى عهدًا وأكرم خيمًا وأمنع لما وراء ظهورهم من بني عبد المطلب. ثم تكلم مروان فقال: وكيف لا تكون كذلك وقد قارعناكم فغلبناكم، وحاربناكم فملكناكم، فإن شئنا عفونا وإن شئنا بطشنا. ثم تكلم زياد فقال: ما ينبغي لهم أن ينكروا الفضل لأهله ويجحدوا الخير في مظانّه، نحن أهل الحملة في الحروب ولنا الفضل على سائر الناس قديمًا وحديثًا. فتكلم الحسن، ﵁، فقال: ليس من العجز أن يصمت الرجل عند إيراد الحجة ولكن من الإفك أن ينطق الرجل بالخنا ويصوّر الباطل بصورة الحق. يا عمرو أفتخارًا بالكذب وجراءة على الإفك! ما زلت أعرف مثالبك الخبيثة أبديها مرة وأمسك عنها أخرى فتأبى إلا انهماكًا في الضلالة، أتذكر مصابيح الدجى وأعلام الهدى وفرسان الطراد وحتوف الأقران وأبناء الطعان وربيع الضيفان ومعدن النبوة ومهبط العلم وزعمتم أنكم أحمى لما وراء ظهوركم وقد تبين ذلك يوم بدر حين نكصت الأبطال وتساورت الأقران واقتحمت الليوث واعتركت المنيّة وقامت رحاؤها على قطبها وفرّت عن نابها وطار شرار الحرب فقتلنا رجالكم ومنّ النبيّ، ﷺ، على ذراريكم فكنتم لعمري في هذا اليوم غير مانعين لما وراء ظهوركم من بني عبد المطلب! ثم قال: وأما أنت يا مروان فما أنت والإكثار في قريش وأنت طليق وأبوك طريد يتقلّب من خزاية إلى سوءة ولقد جيء بك إلى أمير المؤمنين، فلما رأيت الضّرغام قد دميت براثنه واشتبكت أنيابه كنت كما قال:
ليثٌ إذا سمع الليوث زئيرهُ ... بصبصنَ ثم قذفن بالأبعار
ويروى رمين بالأبعار.
1 / 36