هل بقي في زمن أصبح يعادي المتعالي ويعانده بكل قوته - ربما لأنه يخافه ويهرب منه - من لا تزال لديه المقدرة أو الرغبة في العلو إليه؟ وهل نجد بيننا من يحتمل مشقة العلو على العالم والمجتمع والعصر، لا لأنه يتعالى عليه أو يفر منه، بل لأنه يريد أن يجرب الحياة كأنما ولد فيه من جديد، ويبذل جهده لكي يحبه ويفهمه ويغوص بحق في جذوره وأعماقه؟
من يدري؟
ودهشة واحتجاج
الدهشة أصل الفلسفة
بالدهشة نخطو الخطوة الأولى على طريقها الطويل، نسأل الموجود: ما أنت؟ من أين أتيت؟ وإلى أين تصير؟ لم وجدت ولم تكن بالأولى عدما؟ نحن جميعا مطالبون بالسير على هذا الطريق الذي قد لا يكون له آخر وقد لا يبدو له هدف، إنه طريق يسير عليه الإنسان ولا يدري إن كان «سيصل»، فهو لا يعرف هنا معنى لكلمة «الوصول»، إنه يحمل على ظهره منتهى شجاعته ومنتهى حزنه ، يتخبط في ليل السؤال ولا يدري إن كانت ستشرق عليه شمس الجواب، كلمة «لماذا» هي عصا الوحيد على الطريق الوحيد، تلمس الحجر فتنبت له عينان تستفسران: من أنا؟ ما أصلي؟ وما نهايتي؟ وتمس الحيوان فيرتعش، يفيض السؤال البريء من النظرة البريئة: هل تعرف إلى أين؟ وتهز عقل الإنسان وقلبه فيفتح عينيه كما فتحهما آدم على الوجود أول مرة ويسأل: من هو الإنسان؟ ماذا أريد من العالم؟ وماذا يريد العالم مني؟
نقول: إن الدهشة أصل الفلسفة، ويوشك القارئ أن يسأل: وهل تحتاج الكلمتان إلى تفسير؟ أما الدهشة فأراها كل يوم، في العيون المفتوحة والحواجب المرفوعة والأفواه الفاغرة، وأما الفلسفة فأقرأ عنها في كل مكان، وأستطيع أن أتتبع تاريخها في كل مكتبة، وألم بماضيها وحاضرها في بضعة أيام، غير أن من الكلمات ما يعاني نفس المصير التعس الذي عانته الكلمات على يدي محدثي سقراط، فكلهم كان يدعي معرفتها، فإذا به ينتهي إلى اكتشاف جهله بها، كل لسان يلوكها وكل قلم يجري بها يسدل عليها ستارا جديدا من النسيان ويلفها في سحابة من الغموض.
لن نعرف الطريق إلى الكلمة حتى نبدأه من أوله، ولا طعم القطرة حتى نعود بها إلى منبعها، وأول فم نطق بكلمة الفلسفة كان فما يونانيا، فلنحاول أن نستمع إليه كما خرج منه أول مرة، ولنحاول أن نفتش عنه تحت أكوام المعارف التي تنهال عليه منذ أكثر من خمسة وعشرين قرنا.
حين نسمع الكلمة في أصلها اليوناني نجدها تقول: «فيلوسوفيا»، الكلمة الآن تتحدث بلسان يوناني، وتحدد بنفسها الطريق، الطريق يمتد أمامنا، فهناك دهر طويل يفصل بيننا وبين من نطق بها لأول مرة، والطريق يمتد من خلفنا، فقد طالما سمعناها وأجريناها على أفواهنا، وهو في الوقت نفسه طريق نسير عليه وما نزال نتابع المسير، ولكن ما أقل ما نعرف معالمه، برغم كل ما نعرفه عن الفلسفة اليونانية من حقائق وما نقرأ في تاريخها من بحوث.
1
الكلمة اليونانية تقول لنا أيضا: إن الفلسفة هي التي حددت وجود اليونان في فجر حضارتهم، وليس ذلك فحسب، بل إنها هي التي حددت ملامح التاريخ الغربي الأوروبي، والواقع أن عبارتنا «الفلسفة الغربية الأوروبية» هي من قبيل تحصيل الحاصل، لماذا؟ لأن الفلسفة في صميم جوهرها ونشأتها يونانية، فحين نقول إن الفلسفة يونانية فإنما نعني أنها مست قلب اليوناني وعقله، واليوناني وحده، وسيطرت أول ما سيطرت على روحه؛ لتطبعها وتطبع الروح الأوروبي من بعده حتى يومنا هذا؛ فعبارة «الفلسفة في صميم جوهرها يونانية» لا تريد إلا أن تقول: إن تاريخ الغرب وأوروبا - وتاريخهما وحدهما - في صميمه فلسفي، ونشأة العلم وسيادة الصنعة الفنية «التكنيك» في أيامنا هما دليلنا على هذا، إنهما الزهرتان الشائكتان اللتان تنحدران من جذور الشجرة اليونانية.
نامعلوم صفحہ