اختلف المفسرون في شخصية هذا المفكر الحزين، فالبعض يذهب إلى أنه هو «الفيلسوف الباكي» - هيراقليطس من أفيسوس - الذي يقال: إن الدرس المضني أكسبه نظرة حزينة، وأن الفنان قد رسمه كنموذج مضاد للفيلسوف الضاحك ديموقريطس الذي يظن أنه هو الشاب الوسيم الطلعة الذي يستند بكتابه على قاعدة العامود (شخص 1، في أقصى اليسار من الصورة) وقد التف حوله الأطفال والشيخ العجوز، والبعض يرى أنه هو النموذج المضاد للفيلسوف الواقف إلى جانبه (شخص 2، ولعله هو بارميندز الإيلي) الذي ينتمي إلى مجموعة فيثاغورس الجالس على اليسار، والبعض يقول: إن الفنان قصد به تصوير أحد الشكاك ولعله أركيز يلاوس أو الرمز إلى الخطابة في شخصية ديموستينيس، أو إلى الفيلسوف الرواقي أبكتيت في ملبسه الخشن وحذائه الروماني، الذي كان يوصي بأن يغلق الإنسان باطنه عن كل شيء خارجي، وألا يفتح نفسه للعالم بل يجعل منها قلعة محصنة منيعة. مهما يكن الرأي في شخصية هذا المفكر الحزين من الناحية التاريخية، فالمهم أنه يملأ فراغا في اللوحة كان سيظل شاغرا بدونه، والمعروف أنه هو آخر من أضافهم رافائيل إلى لوحته، ولا شك أن العين كانت ستفتقد المفكر الوحيد بحق وسط هذه الجماعات المختلفة من الحكماء والمعلمين والمتفرجين والمنصتين؛ ذلك أن الفيلسوف الشحاذ «ديوجينيس» الممدد على سلم مدرسة الحكمة ليس وحيدا بحق، مهما حاول أن يقنعنا أو يقنع نفسه بذلك! «فكلبيته» تلفت الأنظار إليه، ومظهره الشائن يضطر الجميع إلى الاهتمام به والامتعاض منه، كما يجرده بالضرورة من طابع الوحدة الحقيقية التي تكتفي بنفسها، وتبتعد عن كل ما يجذب العالم إليها أو يجذبها إلى العالم. •••
اللوحة كلها يسودها هدوء نبيل يضفي عليها طابع السمو والجلال. الجميع من متحدثين وصامتين مشتركون في حوار حقيقي قائم على التفاهم والمحبة، ليس هناك نزاع أو جدل أو ادعاء أو اتهام أو طموح كاذب مما يعكر اليوم حياتنا الفكرية ويخجل معظم المثقفين - لو كانوا أمناء مع أنفسهم - أن يطلقوا على أنفسهم اسم المثقفين، فليس هناك أكثر من المدارس والاتجاهات على هذه اللوحة، وليس أشد من الصراع بين المثالي والواقعي والضاحك والباكي والاجتماعي والمنعزل، والمتحمس المدافع عن رأيه والمتردد المرتاب في كل رأي، ومع ذلك فنحن لا نحس بغير الانسجام الكلي ولا نلمس غير الجد العميق، إن فيثاغورس (شخص 7 على اليسار، جالسا القرفصاء واضعا الكتاب على ركبته اليسرى) ومجموعته (من شخص 4 إلى شخص 9) يمثلون أسرة فلسفية يربط بين أفرادها المختلفين حب المعرفة؛ فالفيلسوف الرياضي الذي كان أول من سمعت أذناه موسيقى النجوم والأفلاك يشرح لأفراد عائلته ما غمض عليهم من رسوم، واللوح الأسود يمسك به الصبي الجميل الذي يتطلع إلى وجه الفيلسوف وصلعته أكثر مما يتابع شرحه! إن وجهه الرائع يفيض طيبة ووداعة لا تلبث أن تشع من وجوه حوارييه الملتفين حوله وتنعكس عليه من جديد، والعجوز الأصلع ذو اللحية البيضاء الكثة انكمش وراء المعلم - وكأنه يعتذر عن كل ما فاته بعد أن أدرك هذه السن! - لا يخجل من أن ينقل عنه، والمعلم لا يضن عليه بنعمة المعرفة التي لا يصح أن يحرم منها أحد، ولو كان هو هذا الشيخ الملتحي العجوز الذي يبدو أنه يتابعه في صعوبة، ويوسع عينيه لينقل رسومه، ويحرك شفتيه ليجتر ما يقوله، إنه يقف عند الكلمة المكتوبة، ويحصر همه في النقل والتجميع، وقد يفلح في أن يكون شارحا ومعلقا، ولكنه لن يكون فيلسوفا أبدا، فما أبعد الفلسفة والحكمة عن فيران الكتب وحفظة العناوين والطبعات! أفكار الحكيم تنهمر كالمطر وتتدفق كالنور، وهل تخشى الشمس على نفسها أن يسرقها من يتدفأ بنورها؟ وهل ينقص من البحر أن يعطي للشاطئ موجة بعد موجة؟! في المعرفة كما في الحب لا يمكن التفرقة بين الأخذ والعطاء، إن اليد تأخذ باليد، ولا يدري أحد من الذي يأخذ ولا من الذي يعطي. إن الشرقي الذي يقف خلفه، ولا تخطئ العين ملامحه الأسيوية، وغطاء رأسه وشاربه المغولي، يميل برأسه وصدره إلى الأمام، ويتطلع في ذهول المحب وخشوع التلميذ إلى الرسوم والأشكال، وتسعفه يده التي تستقر على صدره كأنما يقول: ما أسعد قدري الذي جاء بي إلى هنا! ما أعجب الأسرار التي تحملها الأعداد! وما أبدع الانسجام الموسيقي الذي يعكس الانسجام الكوني الأكبر! هذا الشرقي يحاول أن يفهم، والحب هو طريقه إلى الفهم؛ فالمعرفة الحقة لا تصل إلى العقل إلا إذا مرت بالقلب، وما أقرب هذا الحكيم من حكماء الشرق الملهمين! أما الوجه السماوي النبيل والملامح الصافية الشفافة التي يحملها الشاب الوسيم الذي يتلفع في رداء أبيض فخم (شخص 3) فلعله أحد رعاة الفنون، أو أحد الأثرياء النادرين الذين اهتدوا إلى أن الحكمة هي أجمل رداء يمكن أن يزينهم، وأن الجمال الذي يشع من النفس يخسف البريق الذي يشع من الذهب. لماذا يشق على نفسه بتفاصيل الفلسفة أو مشكلات العلم والفن؟ ألا يكفيه أن يتذوق الثمار بعد أن تجتاز مراحل النمو والازدهار، وأن يجعل من نفسه الخيمة التي تظل المفكرين، والبيت الذي يستضيفهم ويكرمهم ويشجعهم؟
فإذا ألقينا نظرة إلى اليسار لفت انتباهنا معلم شاب وسيم ممتلئ الوجه بسام التقاطيع، إن ذراعه اليسرى المفتولة تمسك بكتاب كبير وتسنده على قاعدة العامود، لقد أحضر إليه المربي العجوز على أقسى اليسار تلميذين صغيرين، حمل أصغرهما على صدره فأجهد الحمل الجميل شيخوخته. إن المعلم الشاب يجد متعة في التعليم، ويكاد يكون تمثالا ناطقا لما يسميه نيتشه «بالعلم المرح»، وها هو صديقه أو زميله يشاركه في تهجية الكلمات للصغار، ويضع ذراعه اليسرى على كتفه ليتمكن من تبين الحروف (لعلهما يقرآن نشيدا من إلياذة هوميروس)، لقد انتهى الطفل الأول لتوه من تلقي درسه، إنه يقف الآن وراء الأسيوي وعيناه الجميلتان المتسائلتان تقولان: ماذا لو استمعت قليلا إلى ما يقوله هؤلاء، حبا مني لن أفهم شيئا؛ فالأشكال التي يرسمها الشيخ الجالس القرفصاء غاية في الصعوبة، ويظهر أن هذا هو السبب الذي جعل هؤلاء الكبار يلتفون حوله ويتابعون كلامه في صمت وخشوع! أستطيع أن أحشر نفسي وسطهم وأنقش الرسوم في رأسي لكي أدهش بعد ذلك زملائي في اللعب. إن علي - على كل حال - أن أنتظر حتى يفرغ شقيقي الصغير من درس الهجاء، وهؤلاء الفلاسفة الشيوخ لن يضايقهم أن ينضم إليهم فيلسوف صغير!
أما على اليمين فهناك مدرسة الهندسة (من شخص 53 إلى شخص 57)، إن المعلم يضع برجله على شكل سداسي مكون من ستة نجوم يتألف من مثلثين متساويي الأضلاع. كانت الهندسة ما تزال «ميتافيزيقية»، والمثلث ما يزال يحتفظ بطابعه الإلهي (المعروف من أفلاطون كان يستبعد بصراحة كل من ليس لهم إلمام بالهندسة من أكاديميته). لقد قاس الله العالم بمثلثات الهندسة ودوائرها، وكان هو نفسه مهندسه الأعظم، هذه الصفة الإلهية للهندسة هي التي تستطيع أن تفسر الانبهار السماوي الذي يتجلى على وجوه الشبان الأربعة، إن أحدهم يحاول أن يفهم، والثاني يستفسر، والثالث يوضح لزميله السر العجيب الذي أدركه، ليشاركه النعمة التي حظي بها، والرابع يكاد يرقص من نشوة الفرح بما تراه عيناه ويحاول عقله البريء أن يدركه.
وإلى جانب هذه الجماعة تقف حلقة الفلكيين على أقصى اليمين، إن الشيخ الملتحي يوازن كرة الفلك الخفيفة على يده اليمنى، والشاب الذي يعطينا ظهره يمسك الكرة الأرضية بكلتا يديه، كلاهما ملتفت إلى الشابين المشتركين في الحديث، ويبدو أن أحدهما - وهو الأصغر سنا - هو رافائيل نفسه، والآخر معلمه بيرو جنيو. وكيف لا يضع الفنان نفسه في هذه الجماعة، وهي لا تناقش درسا في الفلك بالمعنى الذي نفهمه اليوم من التفسير العلمي لطبيعة الأجرام السماوية وحركتها، بل ترفع مفهومات الفلك إلى مستوى القداسة، وتتحدث عن المثلث والهرم والدائرة والمكان والزمان كما تتحدث عن الخلود واللانهاية والنظام والحكمة الإلهية؟! إن الهدوء يسود هذه الجماعة، والرهبة والخشوع أمام «القبة المزدانة بالنجوم» تملك قلوبهم كما ملكت قلب كانط في العصر الحديث حين لم يجد شيئا يمكن أن يملأ قلبه بالجلال والإعجاب غير القانون الأخلاقي المطلق في صدره والسماء ذات النجوم من فوق رأسه، لقد شاهدوا ورأوا - بالمعنى الأصلي الذي تحمله كلمة تيوريا
Theoria
اليونانية (رؤية - مشاهدة) كما كانت عند أفلاطون، لا بمعناها الشاحب الحديث (نظرية) - وملأوا القلب حين امتلأت العين ... كانت دورة الفلك عندهم حقيقة رائعة أو ظاهرة أولى كما سيقول «جوته»، وكذلك بقيت من عهدهم إلى عهد كوبرنيكوس (آخر الفلكيين القدامى) تغمرهم بنور الانسجام الأزلي، وتشعرهم بالجمال والنظام والحكمة الخالدة. •••
كانت هذه هي لوحة رافائيل أو ملحمته الملونة، حشدها بألوان من صراع النفس والفكر، وعبر فيها عن نماذج إنسانية تكافح من أجل المعرفة. إنه لم يستبعد طبقة من طبقات الشعب، ولا استثنى مرحلة من مراحل العمر؛ فأغنى الأغنياء يقف في معبد الحكمة مع أفقر الفقراء، والزي الفخم مع الخرقة التي لا تكاد تستر الجسد، الأمير والحاكم والفارس يستمعون إلى سقراط إلى جانب التاجر والعامل ورجل الشارع. فالفلسفة لا تعرف الغني ولا الفقير، ولا تميز بين السلطان والشحاذ؛ إن عينها النافذة لا ترى الرداء الخارجي، بل تتجه إلى الإنسان أينما كان. كذلك لا تفرق الفلسفة بين الشعوب والأجناس؛ في اللوحة نرى اليوناني والمصري والمغولي والعبري، حتى الأطفال والنساء وجدوا مكانهم بين الحكماء: فهناك ما يشبه أن يكون «روضة أطفال فلسفية» يتلقنون فيها مبادئ الكتابة والهجاء، ويطالعون أسرار الرموز والأعداد، وهناك المرأة التي تضفي على جفاف الفلسفة جوا من التجانس والانسجام، والكل تنتظمهم وحدة فلسفية توثق رباط الحكمة بين الإنسان والإنسان.
من الخطأ أن نفسر شخصيات هذه اللوحة تفسيرا تاريخيا أو حرفيا (وإن كان هذا لا يمنع أن معظمها ينطبق على شخصيات حقيقية وجدت بالفعل، واستطاع نقاد ومؤرخو الفن أن يتعرفوا فيها على فيثاغورس وديوجينيس وسقراط وأفلاطون وأرسطو من شخصيات الفلسفة القديمة، كما تعرفوا على شخصية رافائيل نفسه ومعلمه بيروجنيو والكاردينال بمبو)؛ فالفلسفة القديمة ليست هي وحدها التي تواجهنا بتياراتها المختلفة على هذه اللوحة؛ ذلك أنها أغنى من أن تقتصر على مدرسة بعينها وأشمل من أن تحد ببلد أو عصر بذاته، إنها أقرب إلى أن تكون سمفونية للنفس البشرية التي لا تكف عن السعي إلى المعرفة، فالحكمة هي قلب اللوحة النابض، والفكر العظيم هو الشخصية الرئيسية فيها، والعشق الفلسفي (أو الإيروس) هو الرباط الذي يوحد الإنسانية في أشخاص مفكريها، ويحقق الجمهورية العقلية التي طالما تمنوا تحقيقها على هذه الأرض «وها هي تقنع بالتحقق في لوحة، على جدار، في متحف» وسواء بعد ذلك أن نضع «هيجل» أو «شيلنج» مكان أفلاطون، أو نتصور ابن رشد أو هيوم مكان أرسطو، فسمو الفكر وشرف الغاية في الحالين واحد.
حقا إن فارق الكرامة بين الفكر الحديث والفكر القديم شاسع ومخيف، فأين نجد اليوم الحاكم الذي يقف من المفكر أو العالم وقفة الإسكندر الأكبر من أرسطو؟ وأين نجد المؤتمر الذي يتناقش أعضاؤه في مسائل الفكر والمصير بمثل هذا الحماس والتفاني والاستقلال؟ ومع ذلك فإن المقارنة بين العصرين مستحيلة بقدر ما هي ظالمة، فمن المستحيل أن نبحث اليوم عن أستاذ «بكرسي» يضع نفسه في «برميل» أو يتمدد في الشمس كما كان يفعل الفيلسوف الشحاذ، أو يطوف بالأسواق ليعرف الناس بأنفسهم كما كان يفعل سقراط. وإذا كنا لا نستطيع أن نطلب هذا من مفكري اليوم وعلمائه، فإن من حقنا مع ذلك أن نطلب منهم أن يبحثوا عن المعرفة بحثهم عن أنفسهم، ويدافعوا عن الحرية دفاعهم عن الحياة. وما بقي صوت يرتفع في سبيل شرف الفكر وكرامته وحريته من كل ما يقيد استقلاله، ففي استطاعتنا أن نطمئن إلى أن مدرسة الحكمة يمكن أن توجد في القرن العشرين كما وجدت في القرون السابقة على الميلاد، وأن نطمع في أن يكون لها ممثلوها الذين يعيشون بيننا، كما كان لها أربابها في بلاد اليونان.
نامعلوم صفحہ