راح السجين يستمع في دهشة وذهول إلى هذا العزاء العلوي للقلب المتعب، ولكنه كان يسائل نفسه عما عسى أن يكون ذلك العلاج الحاسم الذي حدثته الفلسفة عنه. ولم يطل صمت السيدة النبيلة عنه، فقد وعدت بأن تأخذ بيده إلى السعادة الحقة، واستحلفها بأن تعجل به إليها، وأطرقت ببصرها قليلا إلى الأرض ثم بدأت تقول: إن مسعى الفانين وإن سار في دروب عديدة، إنما يتجه في النهاية إلى هدف واحد هو السعادة، إنها هي الخير الأسمى الذي ينطوي على كل خير، كما يسعى إليه كل امرئ على طريقته؛ فقد فطر الناس على البحث عن الخير الحق، وإن كانوا يختلفون فيما بينهم حول معناه، فبعضهم يراه في الثروة والجاه، وبعضهم في الشرف والمجد والسلطان. ولكنهم يتفقون في أن الخير الأسمى مرادف للذة والسرور، أي لما يعتقدون أنه يحقق لهم السعادة؛ فالسعادة حال تصيب من يعتقد أنه يملك كل ألوان الخير، وأنه يستطيع أن يكتفي بنفسه، فلا يحتاج إلى شيء يأتيه من الخارج. ألا ترى الناس يبحثون عن الثروة والمنصب والسلطة والمجد والمتعة لاعتقادهم أنها تضمن لهم الاحترام والشهرة والفرح؟ إنهم وإن اختلفوا في معنى الخير، فلن يختلفوا في سعيهم إلى الخير الأسمى.
إن الكائنات تحن إلى أصلها، فالأسد المقيد بالسلاسل يحن إلى عرينه، والطائر الحبيس في قفصه يشتاق إلى غابته، وأنتم يا أبناء الأرض تدفعكم الفطرة إلى أصل الخيرات جميعا وغايتها إلى السعادة.
لنسلم بأن من يملك أسباب السعادة - من مال أو شرف أو منصب - يصبح سعيدا، فهل هناك من اجتمعت له «كل» أسباب السعادة؟ هل منهم من نال السعادة التي لم يعكر صفوها هم أو كدر أو ظلم ألحقه بغيره؟ ومتى كانت الثروة قادرة على أن تمكن صاحبها من الاستغناء عن غيره والاكتفاء بذاته؟ وكيف تستطيع ذلك وهي لا تقدر أن تدافع عن نفسها من السرقة والاغتصاب، بل تحتاج دائما لمن يحميها ويحفظها؟ وأين الغني الذي لا يشعر بالجوع والعطش، أو لا ترتعش أعضاؤه لبرد الشتاء؟ قد تقول: إن الثروة تستطيع أن تسكن الجوع وتروي العطش وتجلب الدفء، ولكن هل تستطيع أن تقضي على الحاجة تماما؟ ألا تجعل هي نفسها الإنسان أكثر حاجة؟ ألا تزيده شرها وجشعا؟ إن الطبيعة يكفيها القليل، أما الجشع فلا يشبعه شيء.
ويمكنك أن تقول مثل ذلك عن المنصب والسلطان، فأنا أسلم معك بأن صاحبهما يعيش مكرما مرموقا، ولكن هل استطاع المنصب والسلطان أن يزرعا الفضيلة في قلوب أصحابهما أو يقتلعا الرذيلة منها؟ ألا نرى أنهما لا تصيبان في الغالب إلا أقل الناس شأنا وأضعفهم خلقا، وأنهما لا تزيدانه - في معظم الأحيان - إلا خسة وشرا؟ إن شرف المنصب لا يجعل صاحبه شريفا، كما أن العاطل عنه لا يمنعنا من تسميته فاضلا وحكيما؛ لأن الفضيلة - كما تعلم - تحتفظ بقيمتها في ذاتها، ولأن من احتقره الناس مرة لن يجلب المنصب له الاحترام، ثم إن كرامة المنصب تتفاوت من عصر لعصر، وتختلف من شعب لآخر، فأي جمال إذن يكمن فيها؟
أتظن أن الملك يجلب السعادة؟ ولكن ماذا تقول إذا كان لا يستطيع أن يحافظ على نفسه؟ ألم تسمع بذلك الطاغية ديونيزوس
11
الذي راح المنافق داموقليس يطري حظه وسعادته، وكيف أراد أن يثبت له هوان هذه السعادة وتعرضها للزوال؛ فدعاه إلى مائدة فخمة حافلة، بينما علق فوق رأسه سيفا حادا يتدلى من شعرة حصان؟ فأي سلطان لا تفترسه الهموم، وأي منصب لا يمشي صاحبه على أشواك القلق؟ إنه كلما أظهر قوته، كشف عن ضعفه، وكلما بث الفزع في قلوب الناس، أثبت فزعه منهم؛ ذلك أن صاحب السلطة هو أول من يعيش في خوف عليها، والذين يعيشون في خدمتها هم أول ضحاياها، ألم يسلم «أنطونيوس كاراكاللا»
12
مستشاره لسيف الجلاد؟ ذلك أن المقربين إلى السلطان لا تقربهم إليه الفضيلة بل الطمع في الثروة والجاه، فما أكثر ما يخدع المجد! وما أكثر ما يهين! وما أصدق «يوريبيديس» حين قال:
يا مجد، أنت أيها المجد،
نامعلوم صفحہ