3
فاستمالوا إليهم الأمير بشير الشهابي، واعتصموا بآراء شيوخهم، واستعانوا باتحاد كلمتهم على ذلك حتى طفح الكيل عليهم وعيل صبرهم، فعقدوا جمعيات كثيرة دبروا فيها ما يتذرعون به لنيل هذه الأمنية تخلصا من هذا العيث، ولما أجمعوا رأيا واجتمعوا كلمة، ووثقوا بمساعدة الأمير بشير لهم لما لاقاه من الجنبلاطيين الذين كان هؤلاء من أتباعهم، عقدوا العزم على التنكيل بهم وجمعوا لذلك قواهم.
فرأوا من الحكمة أن يتوقعوا فرصة فيها يظهر من خصومهم ما لا يطاق، فيبادئونهم العداء ويضربون على أيديهم بحجة اعتدائهم وعيثهم.
وبينما كان الحاج إبراهيم الصفدي التاجر في حانوته يوم الاثنين، دخل عليه أحد القنطاريين وطلب منه كوفية (كفية) وأمتعة أخرى بقيمة مائتي غرش ونيف، ولما أراد الانصراف دون أن يدفع شيئا من الثمن حسب العادة، أمسكه الصفدي، وقال له: ادفع لي الثمن لأن اليوم الاثنين ولا يجوز فيه الدين، فشتمه وذهب فلحقه إلى قرب خان الجبلي (في سوق البلاط الآن)، فرجع إليه ورفسه ودخل حانوته وأخذ يمزق البضائع ويلقيها ويدوسها ويرميها إلى الخارج، فحرك ذلك دفين غيظ الزحليين، ولكنهم حسب الاتفاق الذي دبروه صبروا على خصمهم حتى أفرغ جعبة حقده وكيده وعظم جرمه. فساروا مع الحاج الصفدي إلى شيخي البلدة إبراهيم مسلم ويوسف الحاج شاهين، فجمعا الزحليين حالا وأوصياهم أن يتأهبوا للقيام على هؤلاء العتاة. وصاروا يكررون التحرش والتحكك بأحراج القنطاريين وغيرهم من أعوانهم ليخرجوهم ويزداد عيثهم لتكثر جرائمهم، فنمى الخبر إلى الأمير بشير، فأرسل إلى زحلة جندا للمحافظة بقيادة بكباشي، وأمر شيخي البلدة أن يسهرا على حفظ الراحة، ولكن أوامره كانت مبهمة تدل على رضاه بإقامة الثورة ضد الدروز والتنكيل بهم، ولما عجز الشيخان والجند عن قمع الفتنة ثار الزحليون ذات يوم؛ لأن أحد القنطاريين تحرش بالخوري بطرس ديب مسلم الزحلي، وأهانه بمسمع ومرأى جمع غفير، فانقض عليه الكاهن وبدأ بضربه، وساعده الحاضرون حتى أثخنوه جراحا وتركوه بين حي وميت.
ثم تجمهر الزحليون وحملوا أسلحتهم وهجموا على منازل القنطاريين وأعوانهم، وكانت في محلات حارة مار إلياس المخلصية ومار ميخائيل ومار جرجس الكاثوليك ومار أنطونيوس الموارنة الآن، وأحدقوا بها وقتلوا منهم أربعة وعشرين رجلا للحال. فهرب القنطاريون وغيرهم من الدروز إلى السهول المجاورة حيث كانت عقاراتهم. فأرسل الزحليون شراذم إليهم، فقتلوا بعضهم ونهبوا قراهم واستولوا على عقاراتهم، فلذلك اعتصموا بجبال الزبداني وسرغاية، وقطعوا السابلة على المارة واتصلوا بوادي التيم، ولكنهم كانوا يضمرون السوء للزحليين ويتوقعون الإيقاع بهم والاستثآر منهم.
وعلى أثر ذلك كان كل من ظاهر حجيج من معلقة زحلة وصليبي أسطفان حريقة من وادي العرايش في جوار زحلة عائدين من دمشق، فاعتدى عليهم بعض القنطاريين وقتلوهما، فلما نمى الخبر إلى المعلقة جاء أيوب حجيج ابن أخ أحد القتيلين إلى زحلة وأثار السكان، فذهب منهم نحو ثلاثمائة بسلاحهم إلى بعض الجهات التي كان يعتصم بها القنطاريون وقتلوا من وقع في أيديهم ونهبوا القرى وأحرقوها، فخشي الناس من الزحليين ولم يستطع أحد أن يستقبل القنطاريين وأعوانهم في جميع البقاع وما يجاورها، فساروا إلى حوران ووادي التيم، واستولى الزحليون على عقاراتهم ومقتنياتهم وقراهم، وكان آخر العهد بهم ولن يزال على الألسنة ذكر هذه العداوة، فتقول العامة «مثل عداوة بيت القنطار» وكذلك مثل «عداوة بيت مكارم» التي مر ذكرها آنفا.
ولن يزال من القنطاريين بقية في كناكر ودامت العليا (حوران) وبكا ودير العشاير في وادي التيم، وفي المتين وكفر سلوان في لبنان.
أما بنو حاطوم فبقيتهم في كفر سلوان (لبنان) إلى يومنا، وفي رخلة (وادي التيم) وغيرهما.
ولما كانت هذه المذبحة التي بقيت مدة قد أقلقت الراحة، ونمي خبرها إلى ولاة الأمر في دمشق وعكاء اضطر الأمير بشير مكرها على أن يرسل أمرا مشددا إلى شيخي زحلة بإلقاء القبض على مثيري هذه الفتنة وزعمائها وأكثر من تهديدهم ووعيدهم. فإرضاء للأمير وتلبية لأوامره اجتمع شيوخ زحلة ووجهاؤها في دار أبي عبد الله إبراهيم مسلم. وارتأوا أن يجيبوا على مرسوم الأمير بشير بما يدل على ثبات جأش، فكتبوا إليه عريضة معناها:
أنهم مستعدون للقتال ذودا عن حياضهم ومحافظة على أعراضهم وأموالهم، وأنهم كانوا يودون العمل بقول ابن الوردي لو أمكنهم ترك بلدتهم:
نامعلوم صفحہ