مدینہ فاضلہ
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
اصناف
ولنذكر جيرونديه أعلى صيتا، تلكم هي مدام رولان، ولا أظن أحدا استمسك بدين الإنسانية بإيمان أثبت مما استمسكت، أو عمل به بأمانة أكبر مما عملت، أو وجد عند الموت التأسي به أصدق وأفعل مما وجدت، وفي مقتبل العمر ضاقت الفتاة بالمنزل الخانق عند الجسر الجديد، حيث كانت تقطن مع أبيها الحفار الصانع الصغير، وأخلق بها أن تضيق بذلك الجو؛ إذ كانت في اتصال دائم وثيق بحكماء التاريخ وأبراره، فكانت - كما تقول - لا تقرأ عن عمل من أعمال البطولة أو الفضيلة إلا وشعرت في نفسها القدرة على أن تأتي بمثله، لو قدر لها أن تواجه بما أدى إليه، وكانت كثيرا ما تبكي لأن الحظ لم يقسم لها أن تولد أسبرطية أو رومانية، موقنة أنها لو كانت في مقام سقراط لتجرعت السم كما تجرع، أو لو كانت في مقام ريجيلوس لوفت بالعهد وعادت إلى قرطاجنة كما عاد، ولكن أنى لها هذا، أين الجسر الجديد من روما وأثينا؟ كان عليها أن تبدأ بنفسها وتستكمل شخصيتها، ولكن أين تجد هذه الشخصية المستكملة المكان الذي تستطيع فيه أن تتحرك وتتكلم، وتعمل على النحو اللائق بها؟ أين تجد المكان الذي تستطيع أن تتحدث فيه إلى من يفهمون حديثها؟ أين تجد المكان الذي لا يذهب فيه السعي سدى، بل تجد فيه البطولة والتضحية حقهما من الثواب والشكر؟ هذا المكان لا يوجد قطعا في باريس، وإنما يوجد في عالم التاريخ، عالم بلوتارك وجان جاك في عالم الخيال، وفي هذا العالم وحده يوجد الذين يرون مدام رولان كما رأت هي نفسها، وعاشت في عالم الخيال هذا مدام رولان - الإنسان الكامل الذي صورته مدام رولان - ما عاشت إلى أن هيأت لها الثورة من حيث لم تحتسب ولم تقدر أن يكون لها نصيب كبير في أحداثها، وكان هذا أمرا مقضيا، ولكن لم يتح لها العمل في الواقع إلا أشهرا معدودات تلاها الاضطهاد والسجن وانتظار الموت، وذكرت حينئذ أن الاستشهاد هو وحده الخاتمة الخليقة بمن يطلبونه، وتذكرت في السجن موت سقراط ونفي أرستيدس
39
وإعدام فوكيون،
40
واعتقدت أن القدر شاء لها أن تشهد جرائم مماثلة للجرائم التي ارتكبت في حقهم، وأن يكون لها حظ من المجد الذي نالوه من جراء الاضطهاد الذي أنزل بها وبهم.
وانصرفت في سجنها لكتابة مذكراتها؛ إذ ماذا للسجين أن يصنع خيرا من أن يستبدل بالحياة في السجن حياة أخرى بوسيلة ما من وسائل الخيال والأحلام السعيدة أو الذكريات؟ وأي شيء خير من هذا حقا؟ ويجوز إذا ضيقنا دائرة النظر ألا نرى إلا جانب الفشل في مغامراتها القصيرة الأجل في طريق الثورة، وأن موتها وحياتها كانا على حد سواء من حيث الأهمية، ولكننا إذا نقلناهما من المجال الشخصي الضيق إلى مجرى التاريخ، ووصلناهما بما سبقهما وبما لحقهما، تبينا أن حياة مدام رولان وموتها كانا مما قضى به سلطان نافذ في شئون البشر: الله أو هيئة معبودات المصير الثلاث
41
أو أي قوة من قوى الخير تشغل نفسها بمصير الإنسان.
ومدام رولان نفسها كانت متحققة من ذلك، وهي لما استعرضت ما مضى من عمرها أيقنت أنه كان إعدادا للتضحية الأخيرة على مذبح حرية الإنسان ، وأنه حين تحضر ساعة الموت ويحق عليها أن تذوقه، فلن تكون حينئذ حسرة؛ إذ هو قضاء محتوم، وهو أيضا حدث أكبر من موت امرأة اسمها مانون رولان في مدينة من المدن وفي يوم من أيام الزمان، وأنه سيجيء بعد الجيل الذي عذبها هذا العذاب جيل آخر يعرف لها ما لقيت من أجله، ويكتبها عنده في كتاب الشهداء، وكانت تؤمن بخلود الذكر عند الخلف، وقالت: إن رولان (أي زوجها) لن يموت ذكره، وأنا أيضا سأنال شيئا من هذا الخلود، وحينما أتمت مذكراتها سمت الكتاب «دعوة خالصة لتحكيم الخلف»، وقال بوسك
42
نامعلوم صفحہ