مدینہ فاضلہ
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
اصناف
من قضاتهم، فإن أجيالا تأتي بعد سوف تقضي لفولتير وروسو وروبسبير ورولان وأمثالهم، وإني لا أدري لم اعتاد مؤرخونا أن يغفلوا حقيقة بارزة في الأصول المحققة بروزا لا يمكن لأحد أن يخطئها أو يغفلها، ومع هذا فهم يغفلونها بالرغم عما عرف عنهم من التدقيق في إثبات كل ما وقع، وهذه الحقيقة هي أن فلاسفة القرن الثامن عشر وزعماء الثورة الفرنسية، كانت تعروهم لذكر الخلف والتفكر فيما يكون من شأن الخلف هزة وجدانية بل ودينية، وكان الانفعال يبلغ بهم أن كانوا أحيانا يجعلون من الخلف شخصية ماثلة - كما فعلوا بالطبيعة - يتأدبون في خطابها كما لو كانت إلها ويدعونها بكلمات الابتهالات، أوليست هذه حقيقة جديرة من مؤرخينا بالإثبات؟ وهي ليست من حيث غرابتها وأهميتها دون الحقائق التي بذلوا في تحريها وتسطيرها ما أوتوا من علم، وهاكم شاهدا أنقله حيثما اتفق من كتابات الفلاسفة، روبسبير يختم خطبة له في نادي اليعقوبيين في موضوع الحرب مع النمسا كما يأتي:
أيها الخلف! يا رجاء الإنسانية العذب الرقيق، لست بالغريب عنا، فمن أجلك لا نبالي بما ينزله الطغيان، وسعادتك هي الجزاء الذي نبتغي لجهادنا المضني، وكثيرا ما يستولي علينا اليأس مما يعترضنا من عقبات، وعندئذ نلتمس من لدنك السلوى والمواساة، وإليك نعهد لاستكمال ما بدأنا، وبين يديك ندع مصير أجيال من الخلق لم تولد بعد! وعسى أن تفسح صدرك لذكرى شهداء الحرية بقدر ما غصب نصراء الدجل والأرستقراطية من صدورنا، وعسى أن يكون أول ما تفعل أن تزدري الخونة وتبغض الطغاة، وعسى أن يكون شعارك دائما وقاية البؤساء والرأفة بهم والإحسان إليهم والحرب على الظالمين! إلى البدار أيها الخلف، بادر إلى إقامة دولة المساواة والعدل والسعادة!
24
نبتسم لهذا الابتهال الحار بلا شك، ولكن هل ابتسم سامعوه من خصوم روبسبير ساخرين؟ كلا، وكيف يكون لهم أن يسخروا والمقام مقام تعبد؟ فلنسمع واحدا منهم (لوفيه): روبسبير! سيحكم الخلف على خطبك، وسيحكم الخلف فيما بيني وبينك، وحينئذ أنت تأخذ على عاتقك أثقل التبعات، وأنت بعنتك وتمسكك برأيك تضع نفسك موضع المؤاخذة من معاصريك، بل ومن الخلف.
أجل، إن الخلف سيحكم بيني وبينك، إن الخلف سيقول عني أنا الرجل الذي لا يستحق شيئا، كان بين أعضاء الجمعية الوطنية رجل لم تمسه الأهواء الجامحة إذ ذاك، أصدق وكلاء الشعب وفاء للشعب، رجل يستحق مني أن أقدر فضله وأذكر فضائله وأعجب بشجاعته.
25
فالخصمان - روبسبير ولوفيه - متفقان إذن في شيء واحد، متفقان في الاعتقاد بأن يكون هناك يوم حساب وحكم، يوم توفى الفضيلة جزاءها، ويوم ينزل بالفساد العقاب، بيد أن الحكم عندئذ - حسب اللاهوت الثوري - سيكون للخلف لا لله، الخلف هو الذي يقضي يومئذ، وهو الذي يعطي كل ذي حق حقه، وهو الذي يمنح تاج الخلود.
ومما يشهد به التاريخ أن الناس أشد ما يكونون حبا للإنسانية حينما يشتد أذاهم بعضهم البعض الآخر، كذلك لم ينل الخلف من تقدير الحاضر قدر ما نال في الشهور الحاسمة في عصر الثورة الفرنسية، ومع ذلك فيجب أن نذكر أن الفلاسفة من الفرنسيين وغير الفرنسيين كانوا يعرفون قبل الثورة بزمان للخلف حقه وفائدته، فمثلا بريستلي - وهو رجل إنجليزي كأكمل ما يكون الإنجليزي اتزانا واعتدادا - يترك موضوعه الأصلي في رسالته عن الحكومة، ويتطرق به الحديث إلى وصف المشهد الملهم الانشراح الموزع الثقة - مشهد تقدم النوع البشري نحو الكمال، قال: «إن الفرد في الاجتماع الإنساني لا يلزمه إلا عدد قليل من السنين لكي يحيط بجميع ما بلغه من التقدم أي علم أو فن، وله بناء على هذا أن يصرف المدة الباقية له من العمر وفيها تكون ملكاته قد بلغت منتهى كمالها في تنمية ما درس من علوم أو فنون، وقد يترتب على توافر الأفراد على خدمة العلوم والفنون على هذا النحو أن يكون لعلم أو فن من السعة ما يقصر عقل الفرد عن حفظه، فيجب حينئذ أن يعمد إلى تفريع العلوم؛ وهكذا تتفرع المعرفة وتتسع، ولما كانت المعرفة على حد تعبير اللورد بيكون هي القوة، فإن اتساع المعرفة يؤدي إلى ازدياد قوة الإنسان ونفوذه في الطبيعة من حيث مادتها ومن حيث قوانينها، فيصبح بذلك أقدر على جعل بيئته أطيب كثيرا ومعاشه أليق من ذي قبل، ويؤدي فيما هو محتمل إلى إطالة العمر، وإلى ازدياد هناء الإنسان كل يوم على ما قبله وإلى ازدياد قدرته، بل ورغبته - حسبما أرى - في إسعاد غيره، وعلى هذا فمهما يكن من أحوال في العالم مبتدئة فإن منتهاه - قطعا - سيكون مجيدا فردوسيا إلى أبعد ما نستطيع الآن أن نتصور، وإذا ظن بعض الناس أني قد أسرفت فيما أتطلع إليه، فإني أستطيع أن أثبت أن ما ذهبت إليه ليس من نسج الخيال، بل هو مستند إلى فهم صحيح للطبيعة الإنسانية وللغاية التي يسير نحوها التاريخ، ولن أحاول الآن أن أزيد الفكرة شرحا، بل أترك مشهدا لم أتأمله قط إلا وفاض قلبي سعادة.»
26
وإنا لا نتصور هردر بين أولئك الذين توقع منهم بريستلي أن يتهموه بالإسراف، فإن مؤلفه الجليل في فلسفة التاريخ لا يعدو أن يكون بسطا لفكرة بريستلي الأساسية، وقد أخرج هردر للناس في هذا المؤلف من فيض علمه ونفوذ بصره وعمارة قلبه بالتقوى خطابا مفصلا لفكرة أن الله متم نوره، وأن الإنسانية ستشرق بنوره، وأن كل من يسعى من الأخيار لسعادة الأجيال المقبلة فهو من المؤيدين إرادة الله الخير لخلقه، وله أن يرجو من الله الحسنى بما أحسن، وفيما يلي فقرات لهردر كثيرا ما يقتبسها الكتاب، يقول:
نامعلوم صفحہ