مدینہ فاضلہ عبر تاریخ
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
اصناف
ويحتل العمل مكانا مشرفا في مدينة المسيحيين. وعلى الرغم من أن أندريا يحذو حذو كامبانيلا في إلغاء العبودية وإدانة الظلم الذي تنطوي عليه إعانة العاملين للمتعطلين، فإنه يذهب أبعد منه حين يبين أن العمل الكريه نفسه يمكن ألا يكون عبئا على صاحبه إذا أداه في جو مشبع بالمساواة والحرية: «وهم يعملون ساعات قليلة جدا، ومع ذلك فإن إنجازهم لا يقل عن الإنجاز الذي يتم في أماكن أخرى، إذ يعتبر الجميع أن من العار على أي واحد منهم أن يأخذ من الراحة والفراغ أكثر مما هو مسموح به. وإذا صح في الأماكن الأخرى أن عشرة من العاملين لا يستطيعون إلا بالكاد أن يعولوا متعطلا واحدا، فليس من الصعب أن نصدق أن العمل مع هؤلاء الناس نوع من وقت الفراغ الممتع للأفراد. ومع ذلك فإنهم جميعا يمضون إلى أعمالهم بطريقة تدل على أنهم يفيدون أجسادهم (بالعمل) ولا يؤذونها. وحيث لا توجد عبودية، فلا شيء يرهق جسد الإنسان أو يضعفه.»
ونجده في موضع آخر يهاجم التحيز المسبق ضد العمل اليدوي: «وهناك أيضا واجبات عامة يلتزم بها جميع المواطنين، كالمراقبة، والحراسة، وحصاد الغلال والكروم، وأعمال الطرق ، وتشييد المباني، وتجفيف الأراضي، وكذلك بعض الواجبات الأخرى، كالمساعدة في المصانع، التي تفرض على الجميع بالتناوب طبقا للعمر والجنس، ولكنها لا تتكرر كثيرا ولا بصفة دائمة. ومع أن بعض ذوي الخبرة يكلفون بالقيام بجميع الواجبات، إلا أنه إذا طلبت المساعدة من الرجال، لم يبخل على الدولة بخدماته وقواه. والمشاعر التي نحملها لبيوتنا، يحسون بها نحو مدينتهم التي يعتبرون بحق أنها بيتهم. ولهذا السبب لا يخجل أحد منهم من القيام بأي خدمة عامة، ما دامت غير منفرة أو ثقيلة على نفسه. وهكذا يتم إنجاز أي عمل في الوقت المناسب وبغير صعوبة، حتى العمل الذي يبدو شديد الإرهاق، لأن عزيمة العدد الأكبر من العاملين تمكنهم بسهولة من تجميع أو توزيع، أعظم قدر ممكن من الأشياء. ومن منا لا يعترف - ما دمنا جميعا نريد أن نبتهج ونستمتع بالامتيازات وأسباب الراحة التي تقدمها لنا الجماعة - بأن الجهد والعمل يرزحان عادة على أكتاف القلة، بينما يسمح للأغلبية بالتبطل المستمر والجشع والنهم؟ ومن ذا الذي يمكنه، على العكس من ذلك، أن ينكر أن كل مواطن، حسب موقعه ووضعه، مدين للجمهورية بأفضل جهوده، وأن عليه أن يعترف بذلك، لا بلسانه فقط، بل كذلك بيديه وكتفيه؟ وأن المتهالكين على الملذات، مدفوعين بالحساسية والرقة الزائفتين، يستنكفون من لمس الأرض، والماء، والحجارة، والفحم وأشباه ذلك، ويظنون أن من عوامل الأبهة أن يمتلكوا الخيول والكلاب والبغايا وغير ذلك من المخلوقات للترويح عن أنفسهم.»
وبينما اعتقد «مور» أن بعض الحرف ذات تأثير مهين على أصحابها، نجد أندريا يقول إن «الرجال الذين يقومون بالأعمال الشاقة في مدينة المسيحيين لا يصبحون شرسين غلاظ الأكباد، وإنما يحتفظون برقة قلوبهم، فالحراس ليسوا نهمين بل معتدلون، ولا تفوح منهم الروائح الكريهة بل تبدو عليهم النظافة التامة ... وهناك حي يقع في شمال المدينة ويخصص للمذابح ... وهذه المنطقة لا توحي بالتوحش أبدا، في حين أن الناس في أماكن أخرى يصبحون خشنين قساة القلوب لتعودهم كل يوم على سفك الدماء، أو التعامل مع اللحوم والدهون وجلود الحيوانات وما شابه ذلك .»
ويبين أندريا أيضا أن العمل ليس عقابا مفروضا على الإنسان، وذلك إذا تم إنجازه كنوع من تزجية الفراغ، «وبينما يهلك الواحد منا من التعب والجهد المرهق، فإن قواهم تتجدد بمراعاة التوازن الكامل بين العمل والفراغ، بحيث لا يقبلون على أي عمل لا يهيئ لهم السرور والبهجة ...»
ولا يؤمن أندريا، على خلاف أفلاطون، بضرورة الفصل بين العمل اليدوي والعمل العقلي، بل يؤكد واجب كل فرد في القيام بهما معا: «... إن الحرفيين عندهم متعلمون بصورة تكاد أن تكون كاملة. فالتعليم الذي تتصور الشعوب الأخرى أنه سمة مميزة لفئة قليلة من الناس (وإن كان بالفعل هو السمة المميزة لأغلبية كبيرة منهم، إذا اعتبرت أن تراكم الخبرات نوع من التعليم) ينبغي في رأي سكان المدينة أن يحصله جميع الأفراد. وهم يقولون في هذا الصدد إن الشخص الأوحد لن تمنعه دقة الدراسة الأدبية ولا مشقة العمل من إتقانهما والتفوق فيهما إذا تلقى القدر الكافي منهما.»
وآراؤه عن تطبيق العلم على الصناعة آراء مهمة وطريفة. فالعلم لا يفيد الإنتاج وحده، وإنما يسمح أيضا للعمال أن يفهموا ما يعملون وأن يزيد إقبالهم على العمل واهتمامهم به: «والقسم المخصص للحدادة، توجد في أحد جانبيه سبع ورش معدة لصهر المعادن وطرقها وخلطها وتشكيلها، وفي الجانب الآخر سبع محلات مخصصة لأولئك العمال الذين يصنعون الملح، والزجاج، والآجر، والخزف وسائر المصنوعات التي تتطلب نارا دائمة الاشتعال. وهنا تلاحظ في الواقع نوعا من اختبار الطبيعة لنفسها، فكل ما تحتويه الأرض في أحشائها يخضع لقوانين العلم وأدواته، ولا يساق الناس إلى عمل لم يألفوه كما يساق القطيع من الحيوانات، بل يتم تدريبهم قبل ذلك بوقت طويل على المعرفة الدقيقة بالأمور العلمية، ويبتهجون بالاطلاع على كوامن الطبيعة. وإذا لم يصغ الشخص هنا إلى صورة العقل ويمعن النظر في أدق عناصر الكون الأصغر. فهو في رأيهم لم يحقق شيئا. وما لم تقم بتحليل المادة عن طريق التجربة، وتصلح عيوب المعرفة باستخدام أدوات أكثر كفاءة، فأنت في نظرهم عديم القيمة ... وهنا يمكن للإنسان أن يرحب بالكيمياء ويتفحصها عن كثب، وأقصد بها الكيمياء الصادقة الأصيلة، والحرة الفعالة، على حين أن الكيمياء المزيفة تخلب لب الإنسان في الأماكن الأخرى وتتسلط عليه من وراء ظهره. ذلك أن من عادة الكيمياء الحقيقية أن تهتم بالفحص الدقيق، وتستعين بكل طرق الاختبار، وتلجأ لاستخدام التجارب. وباختصار أقول إننا نجد هنا العلم العملي.»
أما كيف يتم الإنتاج في «مدينة المسيحيين» بغرض الاستعمال لا الربح، فهذا هو الذي يشرحه أندريا بقوله: «ويجري عملهم (أو «استخدام أيديهم»، كما يفضلون تسميته) بطريقة محددة مرسومة، وتوضع كل المنتجات في معرض عام. ومن هنا يتسلم كل عامل من المخزن المختص أي شيء يحتاج إليه في عمله طوال الأسبوع، لأن المدينة بأكملها أشبه بورشة واحدة تضم كل أنواع الحرف. ويقيم المسئولون عن هذه الواجبات في أبراج أصغر تقع في أركان السور، وهم يعلمون مقدما ماذا يجب أن يصنع، والكمية المطلوبة منه، والشكل الملائم له، ويبلغون الميكانيكيين بهذه الأمور. وفي حالة توافر المخزون من المواد في المعرض، يسمح للعمال بإشباع رغبتهم في العمل وإطلاق العنان لعبقريتهم المبدعة.»
وإذا كان سكان «مدينة المسيحيين» قد بلغوا درجة كافية من الحكمة تجعلهم لا ينتجون أكثر مما يستطيعون استعماله، فإنهم يحمون أنفسهم أيضا من الحاجات غير الضرورية. ولا تحتاج العائلات، بحكم صغرها، إلى منازل كبيرة، وإنما تعيش في شقق صغيرة، ولا تحتاج كذلك إلى الخدم إلا في المناسبات النادرة. ولما كانت المساواة بينها مطلقة، فإنها في غنى عن التباهي على بعضها البعض بالترف الذي لا داعي له: «وجميع المنازل تقريبا مبنية على طراز واحد، وتتم صيانتها وتنظيفها بعناية حتى لا تشوبها أي شائبة . ويتكون المنزل العادي من ثلاث غرف، وحمام، وجناح للنوم، ومطبخ، ويفصل بين هذين حاجز خشبي. والجزء الأوسط داخل الأبراج به منور صغير ونافذة واسعة، حيث ترفع الأخشاب والأشياء الثقيلة الوزن بواسطة بكرات ... وتقوم الدولة بصيانة المنازل على نفقتها، ويتخذ المفتشون الاحتياطات اللازمة لكي لا يخرب شيء أو يبدل بسبب السهو أو الإهمال.
ولا وجه للتعجب من ضيق المساكن؛ فوجود عدد قليل جدا من الاشخاص الذين يعيشون فيها، يستلزم كذلك أثاثا قليلا جدا. أما غيرهم من الشعوب التي تعيش في مساكن تنم عن الزهو والبذخ، وتتكون عائلاتها أيضا من عدد قليل جدا من الأشخاص، وتكدس قطع الأثاث تكديس فظيعا، فلا يمكنها أبدا أن توسع على نفسها في المكان. إنها تثقل على غيرها كما تثقل على نفسها، ولا أحد يمكنه أن يصف أشياءهم الضرورية، بل ولا وسائل راحتهم، إلا بأنها كتل جامدة لا تحتمل.
ويمكننا الآن أن نحدس بنوع الأثاث. والواقع أنه يقتصر على الأثاث الضروري إلى أقصى حد، وحتى هذا الأثاث الضروري قليل للغاية ... هناك الأطباق الضرورية لمائدة الطعام والأواني الكافية للطبخ. وما الذي يدعوك للحصول على أعداد كبيرة من هذه الأشياء ما دمت تستطيع أن تحصل من المخزن العمومي على كل ما ترغب فيه بصورة معقولة؟
نامعلوم صفحہ