مدینہ فاضلہ عبر تاریخ
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
اصناف
ومن المدهش، إزاء المزايا الواضحة التي يكفلها هذا الأسلوب في التعامل مع العبيد، من وجهة نظر الحكومات، أنه لم يطبق على نطاق واسع إلا في عصرنا الحاضر. فالواقع أن التوسع في تطبيقه والنتائج التي تمخضت عنه لم تكن لتخطر على بال مور نفسه. فجيوش العبيد، التي تصل أعدادها إلى مئات الألوف، قد بنت في العشرين سنة الأخيرة قناة البحر البلطيقي، ومدت خطوط سكك حديد سيبريا، وأقامت منشآت هندسية في قلب سيبريا، وحفرت مناجم اليورانيوم، وشيدت المصانع تحت الأرض، وبالجملة أنجزت أعمالا خارقة يبدو بناء الأهرام بالقياس عليها أشبه بلعب الأطفال. وقد أثبتت التجربة، على كل حال، أن هذا الأسلوب يمثل أخطارا محققة، فعمل العبيد زهيد الأجر، لأن من الميسور إجبارهم على تناول طعام لا يشبع الجوع والعيش في ثكنات مزدحمة، كما لا تخفى مصلحة الحكومات في إنجاز هذا العمل في ظروف لا يتصور أن يقبلها إنسان حر. وقد كان من الطبيعي بعد ذلك أن يغري ذلك بعض الحكومات بتوفير أضخم جيش ممكن من العبيد، ولما كان عدد المجرمين - وبخاصة المتهمون بارتكاب الجرائم الكبرى - في العادة قليلا بالنسبة للعدد الإجمالي للسكان، فقد استلزم الأمر تدبير أسلوب ضاعف من عدد الجرائم.
إن عمل العبيد في «يوتوبيا» يعد عملا خفيفا بل ممتعا، إذا قورن بالعمل الذي قام به بعض العبيد في القرن العشرين. فالعبيد في يوتوبيا ينظفون القاعات التي تقدم فيها وجبات الطعام، ويذبحون الحيوانات للاستهلاك البشري، ويقومون بالصيد.
وفي مجتمع يسمح بالعبودية يكون «المواطن الحر» نفسه غير حر، فالأغلال التي تقيده أخف قليلا من تلك التي تكبل العبيد. ومن الأمور التي تعتبر جريمة، خروج مواطن من «يوتوبيا » لقضاء إجازة نهاية الأسبوع في الريف، دون الحصول على تصريح من «السيفوجرانت» و«الترانيبور»، وتصريح مرور من الأمير يشهد بمنحه حق التنقل ويحدد مدة غيابه. إذا جاوز شخص حدود إقليمه، وأمسك به وليس معه شهادة من الحاكم، فإنه يعامل باحتقار، ويعاد كهارب، ويعاقب بشدة. فإذا عاود بحماقة ارتكاب هذا الخطأ، استحق الحكم عليه بأن يصبح عبدا.
42
وهنا يساورنا الشك في أن سكان يوتوبيا أقل حرية وسعادة مما يصور لنا مور. فإذا كان الحكام والأمير يتمتعون بالحب والاحترام، وإذا كان الشعب راضيا عن مؤسساته، فما الحاجة لمعاقبة شخص يشعر برغبة ملحة في التجوال في أنحاء الريف؟ إن «يوتوبيا» تخبرنا في موضع آخر أن الرجال ملزمون بأن «يعيشوا في وضح النهار» لكي يتم التأكد من أنهم يؤدون واجباتهم العادية، الأمر الذي يبدو غير ضروري لو كان العمل الذي يؤدونه عملا يسيرا وممتعا بحق. ثم ما الذي يخيف الدولة من رعاياها المخلصين بحيث تمنعهم من الالتقاء على الشراب خشية أن يشكلوا أحزابا فيما بينهم؟
وتزداد شكوكنا قوة عندما نقرأ عن أسلوب إدارة سكان يوتوبيا للحروب. فهؤلاء الناس الذين يتمتعون بمشاعر الأبوة، والتواضع، والمرح، يتحولون إلى أبشع سياسيين ميكيافيليين متحجري القلوب عندما يخوضون الحروب. إنهم لا يستطيعون حتى الإيحاء بأن لديهم ما يحملهم على الدفاع عن بلدهم ضد العدوان، لأن بلدهم في موقع حصين يستحيل مهاجمته؛ فالحقيقة هي أنهم يخوضون حروبا عدوانية ويتبعون سياسة توسعية: «إذا زاد عدد السكان في الجزيرة كلها على الحد المعين، فإنهم يختارون عددا من المواطنين من كل مدينة ويقيمون لهم مستعمرة تخضع لقوانينهم على جزء من أرض القارة المجاورة لهم، في مكان تكثر فيه لدى السكان الأصليين الأرض غير المأهولة وغير المزروعة. وإن أراد السكان الأصليون أن يسكنوا معهم سمحوا لهم بالانضمام إليهم. وعندما يتم هذا الاتحاد، يندمج الفريقان معا تدريجيا وبسهولة ويتبعان نفس طرق الحياة ونفس العادات، بما فيه فائدة الشعبين. وباستخدام الأساليب التي يستخدمونها في بلادهم يجعلون الأرض تدر ما يكفيهما معا، تلك الأرض التي بدت من قبل لسكانها الأصليين فقيرة جدباء. أما إذا رفض هؤلاء السكان طاعة قوانين اليوتوبيين، فإنهم يطردونهم من الأرض التي اختاروها لأنفسهم. فإذا قاوموا، شنوا عليهم الحرب. فهم يعتبرون أن أعدل مبرر للحرب هو أن غيرهم منع استخدامها وتملكها بالرغم من قانون الطبيعة الذي يجيز لهم أن يعيشوا عليها.»
43
أما عن حروبهم الأخرى فيمليها عليهم ولاؤهم للأمم الصديقة المجاورة. وتقوم «يوتوبيا» بدور مشابه للدور الذي تقوم به القوى الكبرى في الوقت الحاضر، لأسباب إنسانية مزعومة. تبرر بها أطماعها القوية في الدول الصغرى. ومع ذلك فإن سكان يوتوبيا «يمقتون الحرب باعتبارها شيئا وحشيا»، و«يعتقدون أنه ليس هناك شيء يعوزه المجد أكثر من المجد الذي يأتي عن طريق الحرب». إنهم يفضلون أن تتم انتصاراتهم بفضل الدبلوماسية البارعة أو المناورات السياسية. بل لقد ذهبوا إلى حد تبني شيء شبيه بمشروع مارشال الدائم يمكنهم من توزيع الفائض من أغذيتهم مجانا على الأمم المجاورة. ومع أن مور لا يفسر لنا السبب الذي يدعوهم إلى التصرف بهذا الأسلوب الإنساني الخير، فربما تبين له أنه لا توجد أمة، مهما كان نظام حكمها صالحا، يمكن أن يراودها الأمل في التمتع بالرخاء والازدهار الدائمين إذا كانت تحيط بها أمم جائعة تسهل إثارة جشعها ...
إنهم يعلنون الحرب عندما تخفق الوسائل السياسية في تسوية المنازعات، ولكنهم حتى في هذه الحالة يعتمدون على أنشطة «الطابور الخامس» أكثر مما يعتمدون على المعارك الحربية. «فحالما تعلن الحرب، فإنهم يعملون في نفس الوقت على أن يقام سرا في أكثر الأماكن لفتا للأنظار في أرض الأعداء، عدد من اللافتات التي تحمل ختم الدولة لتكون ذات فاعلية أكبر، ويعدون في هذه اللافتات بمنح مكافآت ضخمة لأي فرد يقتل ملك الأعداء. وفضلا عن ذلك، يعدون بمنح مبالغ أقل، وإن كانت كبيرة أيضا، مقابل رءوس الأفراد الذين يذكرون أسماءهم في تلك اللافتات. أما هؤلاء الرجال، فهم أولئك الذين يعتبرونهم مسئولين، بعد الملك ذاته، عن الإجراءات العدائية التي اتخذت ضدهم. ومهما كانت المكافأة التي يحددونها لأي اغتيال، فإنهم يضاعفونها للرجل الذي يحضر إليهم أي طرف من الأطراف المحكوم عليهم حيا. ويقدمون نفس المكافآت، كما يتعهدون بتأمين حياة جميع الأشخاص المذكورين، إذا تحولوا إلى صفوفهم. وهكذا سرعان ما يدب الشك في أعدائهم نحو جميع الغرباء من ناحية، ويفقدون الثقة والولاء فيما بينهم، ويصبحون في حالة من الذعر التام والخطر العظيم من ناحية أخرى. ومن المعروف جيدا أنه كثيرا ما حدث أن مني الكثيرون منهم، وخاصة الملك ذاته بالخيانة على أيدي أولئك الذين وضعوا فيهم أكبر قدر من ثقتهم. فما أسهل ما تدفع الرشوة الناس إلى ارتكاب كل نوع من أنواع الجريمة.»
44
نامعلوم صفحہ