مدینہ فاضلہ عبر تاریخ
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
اصناف
نجحت يوتوبيات عصر النهضة على كل حال في إدخال بعض التجديدات المهمة. وكانت المدينة الوسيطة قد فشلت في أن تربط نفسها بطبقة الفلاحين، وكان هذا الفشل أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تدهورها. لقد بقي الفلاح في حالة العبودية، وعلى الرغم من أن العبودية كانت قد ألغيت في إنجلترا، فقد ظل الفلاحون في معظم البلاد الأوروبية يتحملون أوضاعا لا تختلف في قسوتها عن نظرائهم «الهيلوت» في أسبرطة. وقد أدرك الكتاب اليوتوبيون في القرنين السادس عشر والسابع عشر - كما فعل القديس توما الأكويني من قبل - أن المجتمع المستقر يجب أن يحقق التكامل بين المدينة والقرية، وبين الحرفيين والفلاحين، وأن الزراعة يجب أن تأخذ وضعا مشرفا ومتساويا مع الحرف الأخرى.
وربما كانت الأهمية التي أولتها الكتابات اليوتوبية للرعاية العلمية للأرض، قد أوحى بها نشاط الأديرة في هذا الميدان. وقد دخلت كل الأشكال الأخرى لحياة الرهبنة في تكوين المدن، كالالتزام بالجداول الزمنية الصارمة، وتناول الوجبات المشتركة، وتوحيد الزي والتقشف في الملبس، ومجموع الوقت المكرس للدرس والصلاة.
ولعل الأكثر أهمية من تجارب الماضي هو التأثير المباشر الذي أحدثته حركات عصر النهضة والإصلاح الديني على الفكر اليوتوبي. وقد كان هذا التأثير تأثيرا مركبا، فعلى الرغم من أن يوتوبيات توماس مور وكامبانيلا وأندريا تجسد إلى حد كبير روح عصر النهضة، فإنها تعد كذلك بمنزلة رد فعل لها.
لقد صاحب الحركة الفنية والعملية الرائعة لعصر النهضة تفكك المجتمع. فتأكيد فردية الإنسان، وتطوير ملكاته النقدية، وتوسيع نطاق المعرفة، قد عملت كلها على تدمير الروح الجماعية للعصور الوسطى، وقضت على حدة العالم المسيحي. بل إن عصر النهضة قد أدى أكثر من ذلك إلى تكوين طبقة «مثقفين» بالفصل بين العامل والتقني، والحرفي والفنان، وعامل البناء والمهندس. وبذلك ولدت أرستقراطية جديدة، لم تعتمد في البداية على الثروة والقوة، بل على الذكاء والمعرفة. وقد صرح يعقوب بورخارت (1818-1897م)، وهو المدافع الفذ عن عصر النهضة، بأن هذه الحركة كانت غير شعبية، وأن أوروبا أصبحت من خلالها ولأول مرة منقسمة إلى طبقات مثقفة وأخرى غير مثقفة.
عجل هذا التقسيم بتفسخ المجتمع. ولم تعد القوة الصاعدة للنبلاء والملوك تكبحها رقابة المجالس الشعبية، مما أدى إلى حروب منهكة ومستمرة. وتفككت الاتحادات القديمة ولم يحل شيء محلها. وساءت ظروف الشعب بشكل متزايد حتى وصلت إلى ذلك الفقر الفظيع الذي وصفته بدقة يوتوبيا مور.
كانت يوتوبيات عصر النهضة بمنزلة رد فعل للنزعة الفردية المتطرفة في هذا العصر، كما كانت (أي اليوتوبيات) محاولة لخلق وحدة جديدة بين الأمم. ولهذا الغرض ضحت بمعظم مكتسبات عصر النهضة، فقدم توماس مور العالم الإنساني وراعي المصورين وصديق إرازموس، قدم يوتوبيا تفتقر بشكل واضح إلى الفردية، من توحيد للمنازل والملابس، إلى الالتزام بروتين العمل الصارم، وغياب المظاهر الفنية غيابا تاما؛ وحلول الإنسان النمطي محل الإنسان المتفرد لعصر النهضة. وباستثناء رابليه، الذي ينفرد بوضع خاص به وحده، فإن كل الكتاب اليوتوبيين، مثلهم في هذا مثل مور، شديدو البخل في السماح بالحرية الشخصية.
وإذا كانت هذه اليوتوبيات تمثل رد فعل ضد حركة عصر النهضة، فإنها أيضا تستبق نتائجها المنطقية. لقد تم تطور الفردية عند الأقلية على حساب الأغلبية. وطبيعي أن الكاتدرائية التي يتم بناؤها وفقا لخطة تصورها فنان واحد، تعبر بوضوح عن فرديته أكثر بكثير من كاتدرائية يتم بناؤها بالجهود المشتركة للجماعة، ولكن العمال الذي ينفذون الخطة لن تكون لديهم فرصة كبيرة لتطوير شخصياتهم.
وفي المجال السياسي انتقل أيضا زمام المبادرة من الشعب إلى فئة من الأفراد. فقادة المرتزقة، والأمراء، والملوك، والأساقفة، هم الذين يتصرفون في شئون العدالة والحروب المأجورة، ويعقدون الأحلاف والمعاهدات، وينظمون أمور التجارة والإنتاج، أي كل المهام التي كانت تعهد للروابط والنقابات واتحادات الحرفيين أو مجالس المدن. وهكذا نجد أن النهضة التي سمحت بتطور الفرد، هي كذلك التي أوجدت الدولة التي أصبحت تقوم بإلغاء الفرد.
إن يوتوبيات عصر النهضة تحاول أن تقدم حلا للمشكلات التي تواجه مجتمعا في سبيله لاستحداث شكل جديد للتنظيم.
وكما سبق أن أشار لذلك بعض الباحثين، أعطى اكتشاف العالم الجديد دفعة جديدة للفكر اليوتوبي، ولكنه لعب دورا ثانويا فقط، ويمكننا أن نفترض، ونحن مطمئنون إلى هذا الافتراض، أنه لو لم يطلع مور على رحلات فسبوتشي، لاستطاع أن يتخيل مجتمعا مثاليا له شكل مختلف، وذلك مثل كامبانيلا أو أندريا اللذين لم يكترثا بالرجوع إلى كتب الرحالة قبل أن يصفا مدنهما المثالية. لقد جاء الدافع الرئيسي الذي حركهم جميعا من الحاجة إلى إحلال نظم أخرى جديدة محل الاتحادات والنظم الفلسفية والدينية للعصور الوسطى.
نامعلوم صفحہ