مدینہ فاضلہ عبر تاریخ
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
اصناف
وفقدت الكلمة نفسها معناها الأصلي، وأصبحت تعني التفكير المضاد للتفكير العلمي. وغالبا ما استعملت كلمة «يوتوبي»، من جانب الاشتراكيين الذين زعموا أنهم علميون، ليقذفوها في وجوه خصومهم دلالة على التحقير والاستهجان، وبفضل هؤلاء القضاة الماركسيين تضخمت قائمة يوتوبيات القرن التاسع عشر تضخما شديدا.
وقد عرف فردريك إنجلز في كتابه «الاشتراكية اليوتوبية والعلمية»، كلمة يوتوبي، ولقي هذا التعريف قبولا واسعا. وبينما ظلت كلمة اليوتوبيا حتى ذلك الحين تعني المجتمع المثالي المتخيل الذي يصعب أو يستحيل تحقيقه، فقد قدم لها إنجلز معنى أوسع بكثير، وضم إليه كل الخطط والمشروعات الاجتماعية التي لا تعترف بتقسيم المجتمع إلى طبقات، ولا بحتمية الصراع الطبقي والثورة الاجتماعية، كما أدخل سان سيمون وفورييه وأوين في زمرة اليوتوبيين، وذلك بحجة أنه «ليس فيهم واحد يمثل مصالح طبقة البروليتاريا التي أفرزها التطور التاريخي. إنهم مثل الفلاسفة الفرنسيين الذين لا يكتفون بتحرير طبقة بعينها، وإنما يطمحون لتحرير البشرية بأكملها دفعة واحدة.»
ويأخذ إنجلز على الكتاب «اليوتوبيين» أنهم لم يفهموا أن الاشتراكية لن تكون ممكنة إلا عندما يحقق النظام الرأسمالي درجة معينة من التطور: «إن الظروف السيئة للإنتاج الرأسمالي، والظروف السيئة للطبقة التي تقابلهما نظريات سيئة. وقد حاول اليوتوبيون أن يستخرجوا حل المشكلات الاجتماعية - التي ظلت كامنة في الظروف الاقتصادية غير المتطورة - من داخل الذهن البشري. فالمجتمع في نظرهم لا يقدم إلا الأخطاء، ومهمة العقل هي إزالة هذه الأخطاء. ولهذا كان من الضروري اكتشاف نظام اجتماعي جديد أكثر كمالا وفرضه على المجتمع من خارجه بواسطة الدعاية، أو بفرض التجارب النموذجية عليه كلما أمكن ذلك. وقد دفعت هذه النظم الاجتماعية الجديدة بأنها يوتوبية، وكلما أمعن أصحابها في شرحها واستكمال تفاصيلها، زاد انزلاقها إلى الخيالات المحضة.»
والواقع أن وصف إنجلز لليوتوبيات الاشتراكية وصف صحيح في جوهره. فأغلبها يريد لجميع وسائل الإنتاج والتوزيع أن تكون ملكا عاما مشتركا، ولكنها لا تعتقد أن الثورة ضرورية لتحقيق هذا وهي تتصور بإمكان الدولة أن تتولى تسيير الآلية الاقتصادية بطريقة سلمية، وذلك عندما يوافق أغلبية السكان على أن هذا هو أنسب الحلول. وهي لا تؤمن بوجود صراع بين الطبقات، ولا بأن البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة القادرة على القيام بالثورة. وهي تؤكد أيضا - على خلاف النظريات الماركسية - أن المجتمع الجديد يمكن إيجاده في أي وقت وأي مكان، بشرط أن تصمم الحكومات والشعوب على ذلك، وأخيرا فإنها لا ترى أن هناك أي علاقة بين تطور الرأسمالية وإمكانية إيجاد مجتمع جديد.
على أن إنجلز لم يكن محقا في زعمه بأن المشروعات «اليوتوبية» أقل واقعية من مشروعات الاشتراكيين العلميين. فمن الصعب ، على ضوء تاريخ القرن الماضي، أن نحدد على وجه الدقة أي مدرسة من المدارس الاشتراكية تستحق أن توصف بأنها «يوتوبية» فالتطور الكبير للرأسمالية لم يقرب على الإطلاق يوم اندلاع الثورة، بل خلق طبقة جديدة من التقنيين والمديرين، والعمال المرتفعي الأجور، وقادة الاتحادات العمالية الذين تطابقت مصالحهم مع مصالح الطبقة الرأسمالية. والبلدان الأوروبيان الوحيدان اللذان حاولا، خلال الثلاثين عاما الماضية، إحداث ثورات اجتماعية، وهما روسيا وإسبانيا، لم تكن الرأسمالية قد وصلت فيهما بعد إلى درجة عالية من التطور. وقد رأينا فضلا عن ذلك أن اشتراكية الدولة قد تحققت بشكل جزئي في بلاد عديدة، لا بفضل نضال الطبقة العاملة، بل عن طريق حكومات أمسكت بزمام السلطة من خلال برلمان منتخب. والأغرب من هذا من وجهة النظر الماركسية، أن الحكومات الفاشية قد اضطرت إلى تبني إصلاحات اجتماعية شبيهة بتلك الإصلاحات التي دعا إليها الاشتراكيون.
إن الاشتراكية، كما نعرفها اليوم،
1
أقرب إلى تصورات الاشتراكيين «اليوتوبيين» منها إلى تصورات كارل ماركس مؤسس الاشتراكية العلمية. وهي لم تعد تعترف بحتمية الصراع الطبقي، وإنما تهدف إلى تحقيق إصلاحات اجتماعية تدريجية يمكن أن تزيل الفروق الاقتصادية بين الرأسماليين والعمال. بل إن بنية المجتمع في بلد مثل روسيا، التي تزعم أنها حققت ثورة ماركسية، هي في الحقيقة أشبه ببنية المجتمعات التي وصفها بعض الكتاب اليوتوبيين منها بتلك التي تنبأ بها ماركس أو لينين. ولهذا قد يكون من الحكمة أن نتخلى عما يبدو اليوم تقسيما تعسفيا للاشتراكيين إلى يوتوبيين وعلميين، وأن نقتصر على دراسة أهم الأعمال التي تدخل في التراث اليوتوبي من خلال تصويرها لمجتمعات مثالية في بلد خيالي أو في مستقبل خيالي.
كان الفكر اليوتوبي في عصر النهضة قد تلقى دفعة قوية من الأفكار الفلسفية الجديدة، وتأسيس الدول القومية، واكتشاف العالم الجديد. ومع بداية القرن التاسع عشر وقعت أحداث لا تقل عن ذلك خطرا وبعثت فيه حياة جديدة، من ذلك الآثار التي ترتبت على الثورة الفرنسية، والتطور السريع للصناعة، وتبلور النظم الاشتراكية. وكانت الثورة الفرنسية قد قوت الطبقة الوسطى (البرجوازية)، ولكنها أكدت في الوقت نفسه حقوق العمال والفلاحين الذين أظهروا استعدادهم للدفاع عنها بالقوة. ولم تستطع البرجوازية المنتصرة أن تغمض عينيها عن المظالم الاجتماعية التي كان من الممكن في أي لحظة أن تنطلق منها حركة ثورية قوية. وحاولت قلة من المفكرين الإنسانيين ومحبي البشر أن تخفف من البؤس المتفاقم للشعب، وذهب البعض إلى حد المطالبة بالمساواة التي دعا إليها فلاسفة ما قبل الثورة وكانت أحد الأهداف التي توقع الناس من الثورة تحقيقها.
غير أنهم لم يثقوا في الشعب، وأشفقوا من لجوئه إلى الوسائل الثورية لتغيير النظام، ولذلك سعوا إلى التوصل لحل سلمي من خلال الإصلاح الاجتماعي. لقد كانوا يكتبون، كما أوضح كروبوتكين في مقدمة كتابه «غزو الخبز» أثناء فترة رد الفعل التي أعقبت الثورة الفرنسية، ولفتت أنظارهم جوانب فشلها أكثر من جوانب نجاحها، فلم يثقوا بالجماهير، ولم يلجئوا لها لإحداث التغييرات التي اعتقدوا أنها ضرورية، بل وضعوا ثقتهم في حاكم عظيم يكون بمنزلة «نابليون اشتراكي» يمكنه أن يفهم الروح الثورية الجديدة ويقتنع بأهميتها والحاجة إليها من خلال التجربة الناجحة للمجتمعات أو الاتحادات، ويحقق بالطرق السلمية وبقوة شخصيته الثورة التي تعود على الجنس البشري بالرخاء والسعادة. إن العبقرية العسكرية المتمثلة في نابليون لم يمض على حكمها لأوروبا سوى وقت قصير، فما الذي يحول دون ظهور عبقرية اجتماعية تقود أوروبا وتبعث الحياة في الإنجيل الجديد؟
نامعلوم صفحہ