اختار للمدرسة مكانا خارج أسوار أثينا، على مقربة من بابها الغربي، وهو عبارة عن بستان كان ملكا للبطل «أكاديموس»، الذي ينسب إليه المكان؛ فقيل أكاديمية. وكان يؤدي إلى هذا البستان طريق يحف به من الجانبين تماثيل عظماء اليونان، ومنهم بركليس. وكان ذلك المكان أثيرا عند سقراط لنضرة زرعه، وصفاء مائه، وكثرة جداوله. وقد وصفه أفلاطون في افتتاح محاورة «فيدروس»، حيث ذهب سقراط وتلميذه «فيدروس» - وكلاهما حافي القدمين - يخوضان في ماء الجدول، ثم جلسا على الأرض في ظل شجرة باسقة. وإلى جانب ذلك ، كان المكان مقدسا، وهب للإلهة «أثينا»، وأقيم فيه معبد لتمجيدها، تحيط به أحراج شجر الزيتون، الذي كان يمنح زيته للفائزين في أعياد «الباناثيناي» أكبر أعياد أثينا. هذا فضلا عن ملعب رياضي أنشأه قائد أثينا المسمى قيمون في أوائل القرن الخامس.
في هذا المكان المقدس، أو هذه الضاحية البديعة، اشترى أفلاطون البستان وقطعة الأرض التي أقيم عليها بناء المدرسة. ولسنا نعرف على التحقيق على أي هيئة كان مبنى المدرسة، وأكبر الظن أنها كانت تشمل معبدا لربات الفنون، وحجرات للأساتذة والطلبة، وقاعات للاجتماعات، والاستماع إلى المحاضرات، وتناول الطعام مشتركين معا. وقد جرت العادة في أيام الصيف أن يستمع الطلبة للمحاضرات في «مماشي» البستان، أو في ظل الرواق. وهذه العادة، مع أنها كانت عامة في معظم المدارس الفلسفية في ذلك الحين، نعني أن يتلقى الطلبة الدرس وهم يمشون حول الأستاذ، إلا أن المدرسة التي اختصت باسم المشائين هي مدرسة أرسطو دون غيرها من المدارس.
وكانت المدرسة أشبه بفرقة دينية، فيها المعبد الموهوب لربات الفنون، والذي كان الطلبة يقدمون إليها الأضحية في أوقات معلومة، وبخاصة لهرمس إله الحكمة. وكانت المعيشة بين أعضاء المدرسة - رئيسا وطلبة - مشتركة في الملبس، والمأكل، والنوم، وبعض لوازم اختصت بها المدرسة؛ مثل طريقة تصفيف الشعر، واتخاذ قلنسوات فوق الرأس، والاتكاء على العصا.
كان أفلاطون صاحب المدرسة، ومالك الأرض والبناء، وهو الرئيس. وقد وضع للمدرسة نظاما للرئاسة بعد وفاته، هو نظام التعيين بالوصية. غير أن الرئاسة أصبحت تتم فيما بعد بالانتخاب السري من جميع أعضاء المدرسة.
ولم يكن أفلاطون - على عكس السفسطائيين - يتناول أجرا على «التعليم»؛ فقد كان هناك مدارس في أثينا تتقاضى أجورا فادحة مثل مدرسة «إيسقراط» التي كانت تعلم الخطابة بوجه خاص. وقد امتنع أفلاطون عن أخذ الأجر على «التعليم» اتباعا لسنة سقراط الذي كان يرى أن المعرفة لا تعلم؛ بل تنكشف للإنسان من باطن النفس، أو أن العلم تذكر والجهل نسيان بحسب عبارته المشهورة، فكيف يتقاضى المعلم أجرا على شيء لا يملكه ولا يمنحه؟! وإذا كان سقراط على فقره، لم يؤثر عنه تناول الأجر، فمن باب أولى يمتنع أفلاطون سليل الأرستقراطية والثراء. وفضلا عن ذلك، فإن «ديون» دفع مبلغا كبيرا هو الذي اشترى به أفلاطون الأرض والبستان، وكان الأغنياء يمنحون المدرسة هبات سخية، كما كان الطلبة الأثرياء يعينون المدرسة، كل على قدر استعداده.
وحيث كانت طبيعة الدراسة تعتمد على الحوار والمناقشة، فلم يكن من المهم أن تتم الدراسة داخل قاعات مجهزة بأدوات، وبخاصة الأدوات والأجهزة العلمية، التي يحتاج إليها كل من الأستاذ والتلميذ لتوضيح بحثه. كان المحاضر في الأكاديمية يجلس فوق كرسي عال في الرواق، ويجلس حوله التلاميذ على أرائك من الحجر. وأيضا فقد كان من المألوف أن يحاضر الأستاذ وهو يمشي وحوله تلاميذه. ولم يؤثر عن أفلاطون أنه كان يحاضر من كتاب، أو حتى من مذكرات مدونة. ولكن بعض تلاميذه كانوا يقيدون عنه بعض المذكرات وبخاصة محاضراته «في الخير».
ومن طريف ما يروى أن أحد التلاميذ ذهب يستمع عن أفلاطون هذه المحاضرات التي ذاع صيتها عن الخير، فأصيب بخيبة أمل شديدة؛ لأنه سمع محاضرات في الهندسة والفلك.
والثابت أن أفلاطون كان يرى أن الفلسفة لا تدون، وقد تأثر في ذلك بأستاذه سقراط الذي أنفق حياته يناقش ويحاور، ولم يخلف شيئا مدونا. حقا ظهر قبل أفلاطون وقبل سقراط جماعة من الفلاسفة دونوا فلسفتهم في كتب، وكانت تلك الكتب متداولة، وبعضها يباع بثمن زهيد، وكان بعض تلك الكتب منظوما في قصائد مثل فلسفة بارمنيدس أو إنبادوقليس. ولكن أفلاطون اختلف عنهم؛ لأن الحكمة الصحيحة لا تدون. وقد كتب في الخطاب السابع إلى ديون ما نصه: «إن حقائق الفلسفة لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ كما يمكن في غيرها من الموضوعات؛ ذلك أنه بعد أن يتلقى المرء المعرفة من مرشد صادق في هذه الدراسات الفلسفية، وبعد الانقطاع بعض الوقت إلى صحبة ذلك المرشد، إذا ببريق من الفهم يضيء النفس ... ولست أعتقد أن الكتب المؤلفة في هذا الباب تفيد الناس أي فائدة، اللهم إلا بالنسبة لعدد قليل ممن يستطيع أن يكشف الحق بنفسه .»
والسبب الحقيقي الذي من أجله رفض أفلاطون - كما رفض سقراط من قبل - تدوين الفلسفة، هو أن وظيفتها إحياء النفوس وصقلها وتزكيتها؛ لتكشف الحقائق بنفسها من ذات نفسها، لا أن تأخذ الحقائق عن الفلاسفة، وأن تتلقنها وتحفظها وترددها، كما أصبحت في العصر المدرسي، فجمدت وماتت.
ولكن وصية أفلاطون لم تنفذ حرفيا؛ فإن بعض تلاميذه - وبخاصة أرسطو - روى لنا آراء أستاذه، لا على سبيل الرواية التاريخية، بل ساقها في معرض النقد، كما فعل في كتاب ما بعد الطبيعة، حين صور آراء أفلاطون في أن المثل أعداد، ثم نقدها. ومع ذلك فإن الاعتماد على أرسطو في معرفة رأي أفلاطون خطر ولا يؤمن، كما أنه من الخطورة الاعتماد على أفلاطون في معرفة آراء سقراط.
نامعلوم صفحہ