وطريق المعرفة عند الكندي إما حسي، وإما عقلي، أو هما معا. ولا بد مع ذلك من أمور أربعة يتبعها طالب الفلسفة؛ وهي الطلب والبحث والأداة والزمان. فالطلب سعي إلى غاية، والبحث تفتيش عن الخفايا، والمعرفة ثمرة البحث، والبحث نتيجة الطلب. وأدوات البحث الرياضة والمنطق. والزمان داخل في كل فعل إنساني، على عكس العلم الإلهي الذي «يتم بلا طلب، ولا تكلف، ولا بحث، ولا بحيلة من الرياضيات والمنطق، ولا بزمان». ويهمنا من هذه الأمور الأربعة الرياضة والمنطق.
فقد ورث العرب فلسفة أفلاطون كما ورثوا فلسفة أرسطو، وكان أفلاطون يعتمد في الفلسفة على المنهج الرياضي، وكان أرسطو يعتمد على المنطق. ولما كان الكندي فيلسوفا رياضيا في المحل الأول، فلا عجب أن يجعل الرياضة مدخلا لا بد منه لتعلم الفلسفة. وفي ذلك يقول بعد ذكر كتب أرسطو التي يحتاج الفيلسوف التام إلى اقتناء علمها، إنه يجب اقتناء علم الرياضيات قبل ذلك؛ «فإنه إن عدم أحد علم الرياضيات التي هي علم العدد والهندسة والتنجيم والتأليف (أي الموسيقى)»، وإن طالب الفلسفة إذا لم يحصل العلوم الرياضية تحصيلا وافيا؛ فلن يتسنى له معرفة الفلسفة معرفة صحيحة.
لذلك كان العلم الرياضي، مع أنه أوسط في الطبع، إلا أنه أول في التعليم.
ولكن فلاسفة العرب بعد الكندي لأنهم اتجهوا وجهة مشائية، فقد اتخذوا من المنطق أداة لتعلم الفلسفة، كما هي الحال عند الفارابي وابن سينا فيما بعد.
ويعد الكندي أول مصنف للعلوم عند العرب، وهو صاحب قسمة العلوم قسمين؛ دينية وفلسفية، وتبعه في هذا التقسيم سائر الذين صنفوا العلوم ابتداء من الفارابي إلى ابن خلدون. والذي دفعه إلى إضافة العلوم الدينية أن الإسلام جاء بعلوم لا غنى عنها؛ مثل علم النبوة وعلم أصول الدين، وما يتصل بهما من فقه وحديث وتفسير وغير ذلك.
وقد شق الكندي طريق العلوم الرياضية من حساب وهندسة وفلك وموسيقى، وكان يعد في العصر الوسيط أحد ثمانية من كبار علماء الفلك في العالم في ذلك الزمان. اشتهر في أوروبا بكتبه التي ترجمت إلى اللغة اللاتينية، والتي لا يزال بعضها موجودا.
وهو صاحب أول مدرسة موسيقية في الإسلام، من الناحية النظرية. وقد وضع رسائله في الموسيقى لفائدة المتعلمين، وبيان طريقة تعلمهم. يقول في إحدى رسائله عند الكلام على طريقة جس الأوتار: «وهو سبيل ومدخل إلى التعليم، والألف للأصابع في التنقل على الدساتين، فإن من استعمل ذلك وأحكمه وأسرع فيه، قبل أن يقصد إلى التعلم؛ كان أسرع للقبول، وسهلت عليه محاكاة الأستاذ ...»
وعلى الرغم من البحث النظري في الموسيقى وأصولها وحسابها الرياضي، فإن الكندي يرى أن فنون تعليم الموسيقى «موجودة عند أهل هذه الصناعة، وأخذها عنهم، وتعلمها منهم نظرا، أسرع وأقرب إلى الفهم منها من الكتاب.»
وقد عني الكندي بالفنون العملية التي تشكل حضارة الأمة من الناحية المادية، ولذلك اشتغل بالكيمياء، وما يتصل بالكيمياء من أصباغ وأحماض. وليس ببعيد أنه كان يجري في داره تجارب كيميائية. وله رسالة في السيوف تدل على معرفة وثيقة بصناعة الحديد والصلب، استمدها من الاختلاط بأرباب هذه الصناعة؛ وهذا كله يثبت أن الفلسفة في ذلك العصر لم تكن منعزلة عن المجتمع وحاجاته والرغبة في العمل على رقيه وتقدمه.
ويتلخص مذهبه الفلسفي في أمرين يستهدفان غرضا يريد الوصول إليه؛ أما الغرض فإثبات «الواحد الحق» وهو الله سبحانه. ولما كان الإسلام يرمي إلى إثبات الوحدانية، وأن الله «الواحد» مبدع العالم من عدم، وكانت الفلسفة في صميمها تبغي معرفة الإله «الواحد» الحق، فلا منافاة بين الدين والفلسفة، أو بين الحكمة والشريعة. وليس الاشتغال بالفلسفة كما يتهمها رجال الدين كفرا؛ إذ لا يوجد في الدين ما ينص على تحريمها وكفرها.
نامعلوم صفحہ