ذكرنا أن الرواقية في عصرها المتأخر اشتهرت برجال ثلاثة، على رأسهم سنيكا (من 3ق.م. إلى 65ب.م)، أصله إسباني، عاش أبوه في روما، تثقف ثقافة سياسية هيأته للاشتغال بالسياسة، فأصبح وزيرا للإمبراطور كلاوديوس، الذي نفاه إلى كورسيكا بسبب عداوته لزوجته مسالينا، ثم استدعته أجريبا زوجة الإمبراطور الثانية، وعينته معلما لابنها البالغ من العمر إحدى عشرة سنة. وهذا الصبي هو الذي أصبح فيما بعد الإمبراطور نيرون. وهكذا كان سنيكا معلم الإمبراطور، كما كان أرسطو معلم الإسكندر، ولكن شتان بين التلميذين، وبين المعلمين. وقد لقي سنيكا من تلميذه جزاء سنمار؛ إذ غضب نيرون عليه عقب اتهامه بالتآمر على حياته، ومحاولة تنصيب إمبراطور آخر على العرش. وقد سمح له أن ينفذ حكم الإعدام على الطريقة الرومانية بأن ينتحر، فاختار أن يقطع شريانه. ومع أنه كان يزدري المال، إلا أنه جمع ثروة كبيرة، قيل إنها بلغت مليونا من الجنيهات.
أما أبكتيتوس (60-100 بعد الميلاد) فكان عبدا إغريقيا، حرره نيرون واتخذه وزيرا. عاش في روما وعلم بها حتى سنة 90، إلى أن نفاه الإمبراطور دومتيان - ولم يكن يحب أرباب الفكر والنظر - مع من نفاهم من الفلاسفة. وذهب أبكتيتوس إلى نيقوبوليس في أبيروس، حيث أخذ يعلم ويؤلف.
أما الإمبراطور مرقص أوريليوس (121-180) فقد عاش حياة رواقية فاضلة. تميز عصره بوقوع كوارث عديدة؛ من زلازل، وأوبئة، وحروب طويلة دامية. وكان ابنه الإمبراطور كومودس من أسوأ الأباطرة سيرة، ولكنه أخفى نواياه الشريرة عن أبيه مدة حياته. وقد اشتهر مرقص أوريليوس بكتابه الذي نشر بعد وفاته، وهو «التأملات». وهو عبارة عن خواطر كان يدونها لنفسه، ولم يكن يعدها للنشر. وقد اتهمت زوجته «فاوستينا» بفساد السيرة، ولكن زوجها لم يشك في شرفها. وقد اضطهد أوريليوس المسيحيين لخروجهم على دين الدولة الذي كان يعتبره ضرورة سياسية. وعلى الجملة عاش مرقص أوريليوس حسن السيرة نقي السريرة.
كانت فلسفة أبكتيتوس ومرقص أوريليوس ملائمة للعصر الذي عاشا فيه، ذلك العصر الذي تميز بالقلاقل والاضطرابات والكوارث، ولم يكن ثمة أمل في تحسين تلك الأحوال التي سارت من سيئ إلى أسوأ، حتى انتهى الأمر بسقوط الإمبراطورية الرومانية؛ من أجل ذلك كانت الأخلاق الرواقية التي بشرا بها وسارا عليها أفضل أخلاق ملائمة لذلك الصبر؛ إذ كانت تدعو إلى الصبر على الأذى، واحتمال المصائب، والرضا بالقضاء، أكثر منها رسالة أمل ورجاء.
وفلسفتهما متشابهة إلى حد كبير. ومن أقوال أبكتيتوس: إننا نعيش مساجين على الأرض، وفي بدن أرضي. ومن أقوال مرقص أوريليوس: ما أنت أيها الإنسان سوى روح ضئيلة تحمل على كاهلها جثة. •••
وقد أصبحت حديقة إبيقور عنوانا على البحث الفلسفي في الأخلاق واعتمادها على اللذة، وعلى الصحبة الفلسفية لتبادل الآراء. وقد شاع عن إبيقور أن مذهبه هو الإقبال على اللذة، والحق أن أحدا لم يظلم مثلما ظلم إبيقور، إن في سيرته أو في مذهبه. وقد أشاع عنه خصومه الشائعات وألصقوا به التهم جزافا. وأكبر الظن أن خصومه في الفكر هم الرواقيون أصحاب الرواق، والذين كانت مدرستهم تنافس حديقته. قيل مثلا إن أمه كانت كاهنة مشعوذة، وكان يطوف معها من دار إلى أخرى يرتلان الأدعية الدينية. كما كان يساعد أباه في مهنة تعليم الصبيان لقاء أجر ضئيل. ولو صحت الرواية السابقة عن أمه، فيكون في ذلك السر في كراهية إبيبقور فيما بعد للخرافات الدينية التي تميزت بها تعاليمه.
أبوه أثيني استقر في ساموس، وهناك أنجب ابنه إبيقور سنة 342ق.م، وفيها أمضى الصبي حداثته، وشرع يدرس الفلسفة وهو في الرابعة عشر من عمره. وفي الثامنة عشر ذهب إلى أثينا يبغي أن يكون مواطنا أثينيا، ولكن في ذلك الوقت طرد المستعمرون في ساموس، فلجأ مع أسرته إلى آسيا الصغرى. وقد تعلم إبيقور المذهب الذري على يد ناوزيفانس أحد أتباع ديمقريطس.
بدأ يفتتح مدرسة فلسفية سنة 311 في ميتلين، ثم في لامباسكوس.
وفي سنة 307 افتتح مدرسته في أثينا، وظل يعلم بها إلى أن توفي سنة 270، فكانت بذلك رابع مدرسة كبرى في أثينا بعد الأكاديمية و«اللوقيون» والرواق. وتعد حديقة إبيقور مدرسة منظمة كالثلاث الأخرى، وهذا سر بقائها حتى نهاية القرن الأول قبل الميلاد؛ إذ تعلقت بمكان ثابت، وكان لها رؤساء تولوا إدارتها بعد موت صاحبها، وهذا على عكس المدرستين اللتين أشرنا إليهما في بداية هذا الفصل؛ وهما مدرسة الكلبيين ومدرسة الشكاك.
اشترى إبيقور في أثينا بيتا وحديقة هي التي كان يقوم بالتدريس فيها، ومنذ ذلك الوقت أصبحت حياته هادئة لا يعكر صفوها سوى اعتلال صحته.
نامعلوم صفحہ