الإهداء
مقدمة الطبعة الأولى
مذاهب النسيب
موجبات الدموع
عذر أرباب الدموع
الاكتفاء بالدموع
الفزع إلى الدموع
الدمع عند الوداع
الدمع بعد الفراق
شكوى الصبابة
عند منازل الأحباب
وشاية الدموع
سلطان الحب
غرام النساء بالنساء
طيف الخيال
خيال البحتري
اليأس والرجاء
العتاب
نوح الحمام
التقرب بالدموع
ثورة الوجد
الأرق والسهاد
الطبيعة في أنفس الشعراء
مداراة الرقباء
بخل الحسان
الأمر للحب
حمل السلام
دموع الغانيات
ندم المفارق
غربة المحب
الأمل الضائع
الكتمان
قسوة التجني
ظلم الحبيب
قساة القلوب
سيف الفراق
الهرب من الفراق
غراب البين
فقد العزاء
بكاء الشباب
بلايا الغيرة
الاستعطاف
الحنين
الرفق بالحبيب المريض
الذبول والنحول
أماني المحبين
الهيبة والخضوع
الرضى بالقليل
شفاء المحب
القلب الخافق
مثال الحبيب
أهوال الصدود
التلفت إلى معالم الوجد
الصد والنوى
القريب والبعيد
حلاوة الملام
رؤية الضمير
القلب والكبد
بكاء الملاح
بكاء الحلائل
لوعة الشوق
راحة السلوان
غدر الغواني
ميزان الحب1
الليالي الخوالي
ليالي سنتريس
صبا نجد
جناية العين والقلب
قضاء الله
الإهداء
مقدمة الطبعة الأولى
مذاهب النسيب
موجبات الدموع
عذر أرباب الدموع
الاكتفاء بالدموع
الفزع إلى الدموع
الدمع عند الوداع
الدمع بعد الفراق
شكوى الصبابة
عند منازل الأحباب
وشاية الدموع
سلطان الحب
غرام النساء بالنساء
طيف الخيال
خيال البحتري
اليأس والرجاء
العتاب
نوح الحمام
التقرب بالدموع
ثورة الوجد
الأرق والسهاد
الطبيعة في أنفس الشعراء
مداراة الرقباء
بخل الحسان
الأمر للحب
حمل السلام
دموع الغانيات
ندم المفارق
غربة المحب
الأمل الضائع
الكتمان
قسوة التجني
ظلم الحبيب
قساة القلوب
سيف الفراق
الهرب من الفراق
غراب البين
فقد العزاء
بكاء الشباب
بلايا الغيرة
الاستعطاف
الحنين
الرفق بالحبيب المريض
الذبول والنحول
أماني المحبين
الهيبة والخضوع
الرضى بالقليل
شفاء المحب
القلب الخافق
مثال الحبيب
أهوال الصدود
التلفت إلى معالم الوجد
الصد والنوى
القريب والبعيد
حلاوة الملام
رؤية الضمير
القلب والكبد
بكاء الملاح
بكاء الحلائل
لوعة الشوق
راحة السلوان
غدر الغواني
ميزان الحب1
الليالي الخوالي
ليالي سنتريس
صبا نجد
جناية العين والقلب
قضاء الله
مدامع العشاق
مدامع العشاق
تأليف
زكي مبارك
الإهداء
مدامع العشاق
إلى تلك النفس التي لا يعنيها من أمري شيء، والتي أخلفت ما أخلفت من الوعود، ونسيت ما نسيت من العهود، والتي شغلت بنعمة المال، والجمال، عما أقاسي من محنة وعذاب، والتي ما أحسبني أطمع في أن تسكن إلي، أو تعطف علي، إلى تلك النفس الظلوم: أهدي هذا السفر الحزين!
ولست آمل والحمد لله والحب، أن تتوجه بالقبول، فإن هذا أمل عزيز المنال، وكل ما أصبو إليه: أن تنفحني من أجله بظلم جديد.
فبعض الظالمين وإن تناهى
شهي الظلم مغفور الذنوب
زكي مبارك
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
1
وفي أنفسكم أفلا تبصرون ؟!
آية كريمة، تذهب فيها النفس مذاهب شتى، ولكني أريدها لمعنى خاص: هو الحكم على الأقوال والأفعال.
وبيان ذلك أننا نرى غيرنا يقول، أو يعمل، فنحكم عليه بالبر أو الفجور، فتارة نخطئ، وتارة نصيب. وأكثر ما نكون شططا إذا حكمنا على القول، أو الفعل، من غير أن نحيط خبرا بظروف القائل، أو الفاعل. وهي وحدها محور الخير، والشر، والخطأ، والصواب. فليست كل كلمة يكفر قائلها كما يقول الفقهاء بمكفرة، ما لم تشهد القرائن على أن قائلها معاند جحود، وليست القصائد الخمرية شهادة على قائلها بالإثم ولا قصائد التشبيب رميا لصاحبها بالفسوق، ولكن في الظروف وحدها الحكم بأن الشاعر فاسق أو سكير!
ومتى عودنا أنفسنا البحث في الحالة النفسية للقائل قبل البحث عن مدلول ما قال، واجتهدنا في معرفة ظروف الفاعل قبل تأمل ما فعل من منكر أو خبيث فقد ترفع التهمة عن كثير ممن حكم عليهم بالكفر والمجانة، لكلمة ظاهرها الكفر، أو فعل ظاهره المجون.
وليس في ذلك خروج على أصول الدين، فقد قال عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» وليس لمتعنت أن يرد علينا بأن هذا خاص بأعمال الخير، لا الشر. فإنه كما يجوز أن يفسد الخير حين يراد به شر، كذلك يصلح الشر حين يراد به خير، وتبقى التبعة على من يقصرون في إرشاد الناس إلى نتائج أعمالهم ، وما لها من الضر، والنفع، لتتماثل النيات والأعمال.
وإذا أباح لك حسن النية أن تحكم على رجل بالصلاح لغلبة الخير على أقواله وأفعاله، من غير أن تلم إلمامة بالأسباب القريبة والبعيدة، لما يعمل وما يقول، وقد تكون نيته سيئة فيحبط عمله، فإن من الواجب أن تنظر بدقة إلى ظروف من ساء قوله وعمله، فقد تكون نيته حسنة فيرضى عنه علام الغيوب.
إن علماء الغرب لا يحكمون على خلق المؤلف إلا بعد أن يتبينوا العصر الذي عاش فيه، والبيئة التي أحدقت به، فنال منها ونالت منه، لاحتمال أن تسود كتابته فكرة كانت في عصره حسنة، وهي في عصرنا سيئة، فنحكم عليه بما هو منه براء.
2
ولنرجع إلى الآية التي صدرنا بها هذا المقال
وفي أنفسكم أفلا تبصرون ، فإني لا أكتم القراء أني وجدت في مذكراتي كلمة لو قرأتها لغيرى الآن لأنكرتها عليه، مع أني أعرف أني كتبتها من قبل، وأنا نقي القلب، خالص الضمير. ولقد تبدر تلك الكلمة، وكأنها خطاب مفتوح لأهل الجمال، وهي سذاجة طريفة، تمثل عهدا من عهود الصبا، خيل إلي فيه أن الحسن يجب أن يكون ملكا لجميع العيون، تستمتع به آمنة مطمئنة لا يمانعها فيه غيور، ولا يحجبها عنه ضنين. وليس في مقدوري الآن أن أكتب مثل تلك الكلمة، لأنى حرمت من تلك السذاجة، واطلعت من الناس على بلايا ومناكر، يلؤم من بعدها الكريم، وحاشاي! وسأفرض الآن أنى في العهد الأول من عهود الشباب، وأن الناس كما كنت أحسبهم منذ سنين أطهارا بررة، لا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يتقولون الأقاويل، ولأذكر طرفا من ذلك الخطاب:
يا أرباب الجمال!
ما لكم تضنون علينا بما سوف يشبع الدود منه لثما، ويأكله التراب أكلا لما؟
كم صائن عن قبلة خده
سلطت الأرض على خده
وحامل ثقل الثرى جيده
وكان يشكو الضعف من عقده
أما والله إن أرواحنا لفي حاجة إلى بعض ما تنعم به الوسائد من الخدود، والمراود من الجفون، والمساويك من الثغور، والأمشاط من الشعور، والغلائل من الأعطاف ، والزينة من الأطراف ... فلم تحرموننا في حبنا لكم، وإشفاقا عليكم مما تكرمون به الجمال ليلا ونهارا، على أنه لا يعرف ما حف به من حسن، وأحدق به من جمال؟!
يا أهل الملاحة!
إن الله ما خلقكم كالأزهار، في القفار، تزهر، ثم تذبل، ولا يتمتع أحد بشمها، ولثمها، وإنما خلقكم روحا لكل حي، ونعيما لكل موجود، فاجعلوا لنا منكم حظا، ولا أقل من النظر، فقد خفنا على أرواحنا أن تزهق ببخلكم، وتموت بصدكم، وما الله بغافل عما تعملون؟!
يا أعلام الحسن!
إن كنتم فطرتم على العزة، وجبلتم على النخوة، فهبونا بعض القرب منكم، والأنس بكم، ولكم منا ما تشاءون من ذلة واستكانة، وخضوع وعبودية، وقد عذرناكم لعزكم، فارحمونا لذلنا، وعشقناكم لحسنكم، فاعشقونا لحبنا، فكفى بالحب جمالا وبالعشق زينة، وإن الحب المملول، لخير من الحبيب الملول، فإن أبيتم إلا الصد والقطيعة، والجفاء والإعراض، فإنا نبشركم بأن الحسن حال تحول، ودولة تدول، ثم يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين!
أوردية الخدين من ترف الصبا
ويا ابنة ذي الإقدام بالفرس الورد
صلي واغنمي شكرا فما وردة الربى
تدوم على حال ولا وردة الخد
3
ولقد يعجب قارئ هذا الخطاب حين يرى كاتبا يعتقد أن الجمال ملك العيون النواظر، وأن البخل به إثم وعقوق، ولكنه لو تروى لعرف أن النفس الطاهرة كثيرة الشطط، وأن صاحبها لا يسلم من الإسراف، ورحم الله ذلك العهد الذي كنت أعيش فيه بأمل غير محدود!
ليالي لا تنجو بنبلي خريدة
وإن عز حاميها وجم عديدها
إذا ما رمتني ذات دل رميتها
بعين لها منها مقيد يقيدها
على أنني لا أمنع أحدا من أن يسيء الظن بما كتبت منذ سنين، فإن الذي يطمع في معرفة النفس البشرية، لا يبخل بوضع نفسه على المشرحة، ليسهل عليه وعلى غيره التحليل، ومثله في ذلك مثل الطبيب المخلص لعلمه، لا يبخل بتضحية نفسه وهو يفحص صرعى السل والتيفوس، فهل يعقل هؤلاء الذين يطيعون أهواءهم، وشهواتهم، فينسون أنفسهم، ويسلقون إخوانهم بألسنة حداد؟
إن قليلا من الروية والأناة لكاف لسلامتنا من الزلل والعثار، حين الحكم على ما يعمل الناس وما يقولون.
4
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل أسرف الكاتب حين هم بنشر مدامع العشاق في جريدة الصباح سنة 1922 وافتتحها بهذه الكلمة الجريئة، موجهة إلى إحدى العذارى.
قضي الأمر، وأصبحت حيا كميت، وموجودا كمعدوم! فما ضرني لو أذعت هذا الحب، وما أبقى هواك منى ما أسمع به ملاما أو أرى وجه عذول؟
على أن قلبي يحدثني بأن الإشادة بما بيننا من هوى قد تزيد حقد الحاقدين، وما إلى ردعهم سبيل! وأنت المعنية بهذا الإشفاق، أما أنا فما كنت لأرهب قوما لا سلاح لهم غير القيل والقال.
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي
وهموا بقتلي يا بثين لقوني
إذا ما رأوني طالعا من ثنية
يقولون: من هذا! وقد عرفوني
وبعد فإنه لم يبق ما أسكن إليه في هذا الوجود غير حديث الحب، وبلايا المحبين، وقد رأيت أن أساير شعراء العرب في أعذب ما جرى على ألسنتهم: وهو النسيب، وأن أبدأ ذلك بما انتهوا إليه، وهو الحديث عن الدموع، وما لها من سبب قريب أو بعيد، حتى إذا هدأت ثورة القلب بعد هذا الدمع المسفوح، عدت فصاحبت الشعراء، وذكرت كيف فتكت بهم النظرة الأولى، وبينت مهوى عيونهم، ومصرع قلوبهم، بين الخدود الفواتن، والعيون الفواتك، ولن أتحرج من ذكر ما كان من الوقائع بين الخصر النحيل، والردف الثقيل، وعلي وحدى إثم الفتنة التي ستقيمها هذه الأبحاث الشائقة في صدور الشباب والكهول، ولمن شاء السلامة من القراء أن يكف منذ الآن عن قراءة هذا الحديث.
نصحتك علما بالهوى، والذي أرى
مخالفتي، فاختر لنفسك ما يحلو
5
وهذا خطاب أقل ما يؤخذ عليه أنه لا يوجه إلى فتاة، فضلا عما فيه من المجازفة، في حمل إثم الآثمين، وفتك الفاتكين، ولقد آذتني آثامي، فكيف أحمل آصار الناس!
ولم يمر ذلك الخطاب بدون أن تضح له إحدى الجرائد الأسبوعية، وبدون أن ينالني أحد الكتاب بلسان حديد، فكتبت في الرد عليهم هذه الكلمة القاسية:
في مصر قوم لا يعرفون من الجد غير الغطرسة والكبرياء، والكاتب الجاد في نظرهم هو الرجل السليط، الذي يخيل إليه كما كتب: أنه قسيس في كنيسة حافلة، أو خطيب في مسجد جامع، فهو مسئول عن سرد الرذائل وعد المنكرات! فأما الكاتب المفتون بما أودع الله هذا العالم من روائع الحسن، وبدائع الجمال، فهو في رأيهم كاتب ماجن خليع!
ولا أدرى بماذا يجيب هؤلاء لو سألتهم من خلق هذه الصور الجميلة، التي طارت بألباب الشعراء؟ وصيرتهم في كل واد يهيمون؟ أتراهم يقولون إنها من خلق الله، أم من خلق الشيطان؟ فإذا كانت من خلق الله، فلم ينكرون علينا أن نتغنى بصنعه البديع؟ وإن كانت من خلق الشيطان، فلم لا يمحون الحسن من وجوه الحسان؛ لأنه من عمل الشيطان الرجيم؟
آمنت بالله وكفرت بما لهم من منطق مقلوب!
يريد جماعة ممن أظلمت الدنيا في وجوههم، وعموا عن صنع الله الذي أتقن كل شيء، ماذا يريدون؟ إنهم يريدون أن أجاريهم في عمايتهم، وأن أسايرهم في جهالتهم، فلا أكتب في غير ما يروقهم من ذم الدنيا، والتبرم بالوجود! ولكني عرفت ما لم يعرفوا من «أفنان الجمال» في هذه الدنيا البديعة التي حملت الغزالي على أن يصرح بأن ليس بالإمكان أبدع مما كان، فعدت خليقا بحمد الحسن، والتقديس له، كلما أمعنوا هم في الجحود!
يقولون إن مدامع العشاق التي أنشرها في جريدة الصباح مما يفسد الشباب، وذلك منهم جهل بأسرار الجمال، وما له من الأثر في تهذيب النفوس، وتثقيف العقول. ويهددون ويوعدون بالويل والثبور، إذا أنا مضيت في هذا البحث الشائق الطريف! فهل حسب هؤلاء السفهاء أني أكتب لهم حتى أنزل عند رأيهم السخيف المأفون!
أبينا أن نطيعكم أبينا
فلا تلقوا نصيحتكم إلينا
ركبنا في الهوى خطرا فإما
لنا ما قد كسبنا أو علينا
ولو لم يرض ربك ما أردنا
لما أعطى لنا أذنا وعينا
فما تسآلكم عن كل صب
كأن لكم على العشاق دينا
6
إلى هنا وقف القارئ على ألوان من الخواطر، مرت بخاطر شاب يهم بالتمرد على ما ألف الناس، وما كنت لأذكر هذه التفاصيل لولا بغضي للرياء، فأنا بصريح القول: موكل بالحسن أتبعه، ومغرم بالتغريد على أفنان الجمال. وإني لأقول:
أشجاك ما خلف الستار وإنما
خلف الستائر لؤلؤ مكنون
والناس في غفلاتهم لم يعلموا
أني بكل حسانهم مفتون
وأقول:
فيا رب إما رمت لي الخير منعما
ففي قرب من أهوى وبعد أخي اللوم
وإن كان لي فيما قضيت مساءة
فحزن على النائين جيرتي القدم
وإن شئت لي يوما جوارك فلأكن
شهيد الجوى لا نضوهم ولا سقم
وطول حسابي في المعاد على الهوى
فطول أحاديث الصبابة من همي
وما كان أغناني عن الفزع إلى حكم الأخلاق، لأرجع الخير والشر إلى النيات، لا إلى الأعمال، فقد آن لنا أن نعرف أن من الحق، بل من الواجب، أن ندرس الجمال، وأن نتغنى به، وأن نصفه بالنثر البليغ، والشعر الجميل، وأن نكتب عمن كلفوا بالحسن: من العشاق، والشعراء.
ولقد يروون عن رسول الله أنه قال: «إن الله ليعجب من شاب لا صبوة له.» وأنا لا أريد أن يعجب الله منى! وسينكر المتعنتون هذا الحديث، وأنا قبلهم لا أجزم بصحته، ولكني أثق بأنه يقرر حقيقة واقعة، فما كان الله ليخلق الجمال لنعمى عنه، أو لنرمي عشاقه بالإثم والفجور، وهؤلاء المتزمتون الأغبياء لا يملون من الدعوة إلى الاستمتاع بجمال الطبيعة، لهم الويل! وهل الإنسان إلا لباب الطبيعة، وسرها المكنون؟!
وماذا أصنع بالأشجار، والأزهار، والثمار، والأنهار، والكواكب، والنجوم، والسهول، والحزون، والجبال، والوديان، والطيور الصوادح، والظباء السوانح؟
ماذا أصنع بكل أولئك، إذا لم يكن معي إنسان أطارحه القول، وأساجله الحديث، وأساقيه صهباء هذا الوجود؟!
وهذا الإنسان أليس لي الحق في اختياره، قبل اصطفائه؟ وكيف أختاره إن لم أحكم الذوق، في تمييز جسمه وروحه، وعقله وشعوره، وحسه ووجدانه؟
وما قيمة الليل إن لم تظلني في الحب ظلماؤه؟ وما جمال الأغصان إن لم تهزني إلى ضم القدود، وما حسن الأزهار إن لم تشقني إلى لثم الخدود؟ وكيف أميل إلى الظباء، لو لم تشبه بعيونها وأجيادها، ما للحسان من أعناق وعيون؟ وكيف أصبو إلى غنة الغزال، لولا ذكرى تلك النبرات العذاب، التي يسمونها السحر الحلال؟
وأنك لتعلم أيها القمر، كيف كنت أصدف عنك، وأنا أطالع ذلك الوجه، الذي نعمت معي بثغره المفلج، وأنفه الأقنى، وطرفه الأحور، وجبينه الوضاح، وإنك لتعلم أيها القمر، كيف هجرتك حين غاب، وتعلم أني لا أنظر إليك إلا حين السرار، لأرى كيف يفعل الشحوب بك، وكيف تنسال منك الليالي! وإنها لشماتة طفيفة، أحزن من بعدها على خلود متعتك بصباح الوجوه وعلى عودتك لشبابك، في حين أودع كل يوم جزءا من شبابي، ووا حسرتاه على ما أودع من أجزاء الشباب!
لأصبحت نهب الأسى والحزن
لجسم أقام وقلب ظعن
فيا ويحهم يزمعون الرحيل
وما زودوني غير الشجن
دموع تحدر فوق الخدود
كصوب الغمام إذا ما هتن
وقلب يقلب بين الضلوع
بعيد القرار فقيد السكن
وأصبحت والرأس مرعى المشيب
قليل السرور كثير الحزن
لعمري لئن شبت قبل الأوان
لقد شاب حظي وشاب الزمن
كأن الشعور عراها البياض
سهام الردى أو خيوط الكفن
وإن الشباب إذا ما انقضى
لكالحلم أقلع عنه الوسن
7
أما بعد فقد أخرجنا للناس كتاب «الأخلاق عند الغزالي» فرمونا من أجله بالكفر، واليوم نخرج لهم مدامع العشاق، وسيرموننا من أجله بالفجور، وسنصبر على عدوانهم حتى نخرج كتاب «آراء الجاحظ الفلسفية والأدبية» وكتاب «أفنان الجمال» ثم نجنح بعد ذلك إلى المتاب!
وقد زعمت ليلى بأني فاجر
لنفسي تقاها أو عليها فجورها
الملحد الفاجر فيما يزعمون «زكى مبارك»
سنتريس في 12 ربيع الأول سنة 1343 هجرية
مذاهب النسيب
أكثر شعراء العرب من الحديث عن الحب، وعن الحسن وتنوعت مذاهبهم في وصف ما يشقى به المحب، وما ينعم به الحبيب!
ويمكن رجع كلامهم في النسيب إلى أصلين اثنين:
الأول:
وصف ما يلاقي المحبون من عنت الحب، ويدخل في ذلك كل ما يهيج الوجد، ويثير الدمع، كحديث الفراق، والعتاب، والذكرى، والحنين.
الثاني:
وصف ما يرى الشعراء في أحبابهم من روعة الحسن، ويدخل في ذلك كل ما تتمتع به النفس؛ والعين ، من جمال الأبدان والأرواح، كوصف العيون، والخدود، والثغور، والنحور، والصدور، وكالحديث عن العطف، والرفق، والوفاء والعفاف.
وقد رأيت أن أفصل مذاهب النسيب في وصف ما يشقى به المحبون في كتاب اسميه «مدامع العشاق»، وأن أشرح مذاهبهم في الكلام عن الحسن في كتاب اسميه «أفنان الجمال».
وكان الواجب أن نبدأ بطبع «أفنان الجمال» لأنه أوفى وأمتع، ولأن أفنان الجمال، وجدت قبل مدامع العشاق.
ولكن دولة الحسن لا عدل فيها ولا رحمة، فلنتابعها في الظلم، ولنقدم الفروع على الأصول!
موجبات الدموع
نذكر في هذا الباب حديث الشعراء عن أسباب البكاء، وموجبات المدامع، ثم ما يعرفون عن احمرار الدموع بعد أن كانت بيضاء، وابيضاضها بعد أن كانت حمراء!
وللدموع أسباب عامة، وأسباب خاصة، فأما الأسباب العامة فهي الحرق الدخيلة، والجوى الدفين، وما إلى ذلك من البث والحزن، واللوعة والحسرة، فمن هذا قول العباس بن الأحنف:
ظلمت عيناك عيني إنها
بادلتها بالرقاد الأرقا
سلط الشوق على الدمع فما
هب داعي الشوق إلا اندفقا
وما كان له أن ينسب إلى عينيها الظلم، لابتلائه بالسهاد. وخير منه قول صريع الغواني:
أسهرتموني أنام الله أعينكم
لسنا نبالي إذا ما نمت من سهرا
ولو قال:
رحمت عيناك عيني إنها
بادلتها بالرقاد الأرقا
لكان أقرب إلى الصدق وعرفان الجميل، فحسب المحب ما أهدته عينا حبيبه من ضنى الجسم، وسهد الجفون. وقال البحتري:
قد أرتك الدموع يوم تولت
ظعن الحي ما وراء الدموع
1
عبرات ملء الجفون مرتها
حرق الفؤاد ملء الضلوع
2
فرقة لم تدع لعيني محب
منظرا بالعقيق غير الربوع
ولا أدري ما الذي أراده البحتري بما وراء الدموع! أهو الدم الأحمر الذي تجود به الشئون عندما تفيض المدامع، أم هي الحرق الدخيلة التي ينبئ عنها الدمع، ويفصح عن مكنونها البكاء! وقال الشريف الرضي:
يقولون ما أبقيت للعين عبرة
فقلت جوى لو تعلمون أليم
أيسمح جفني بالدموع وأغتدي
ضنينا بها؟ إني إذن للئيم
ولو بخلت عيني إذن لعتبتها
فكيف ودمع الناظرين كريم
ولعل هذا خير ما قيل في الاعتذار عن البكاء، بذكر موجبه، والداعي إليه، وإنه لشعر بديع. أما الأسباب الخاصة فهي كثيرة، فمن العشاق من يبكي لتلمس الأخبار، كما قال ابن هرم.
وأستخبر الأخبار من نحو أرضها
وأسأل عنها الركب عهدهم عهدي
فإن ذكرت فاضت من العين عبرة
على لحيتي نثر الجمان من العقد
وإني ليروقني قوله: (وأسأل عنها الركب عهدهم عهدي) فإنه يدل على حيرة ووله، إذ كان يسأل من لا يعلم من أخبارها شيئا، استرواحا بالسؤال عنها، وكذلك يفعل المشوق! ولا يبعد أن يستنكر الغواني فيض الدموع على اللحية في هذا الشعر؛ لأن الأمر كما قال أبو تمام:
أجلى الرجال من النساء مواقعا
من كان أشبههم بهن خدودا
وقاتل الله الشيب، ولا عفا عن جنايته على الشباب!
ومنهم من يبكي عند ظهور المعالم، أو مطالعة الرسوم، كما قال ابن الدمينة:
هل الحب إلا زفرة بعد زفرة
وحر على الأحشاء ليس له برد
وفيض دموع العين يا مي كلما
بدا علم من أرضكم لم يكن يبدو
وما كان الحب زفرة ولا عبرة، كما قال ابن الدمينة - ولكنه شيء به الروح تكلف - وما أحسن قول ابن أسباط القيرواني:
قال الخلي الهوى محال
فقلت لو ذقته عرفته
فقال على غير شغل قلب
إن أنت لم ترضه صرفته
وهل سوى زفرة ودمع
إن لم ترد جريه كففته
فقلت من بعد كل وصف
لم تعرف الحب إذ وصفته
ومنهم من يبكي عند الوقوف بالرياض، إذ تذكره رشاقة أغصانها، وحمرة أزهارها، بالقدود الرشيقة، والخدود الوردية، كما قال ابن المعتز:
وقفت بالروض أبكي فقد مشبهه
وقد بكت بدموعي أعين الزهر
لو لم تعرها الجفون الدمع تسفحه
لرحمتي لاستعارته من المطر
وهذا نوع من الإسعاد ما عرفه الناس قبل ابن المعتز فيما أعلم! وإنما كانت تسعد الحمائم ويبكي الرفيق.
3
ومن الشعراء من يبكي عند هبوب النسيم، كما قال بعض الأعراب:
لعمرك ما ميعاد عينيك والبكا
بدراء إلا أن تهب جنوب
أعاشر في (داراء) من لا أحبه
وبالرمل مهجور إلي حبيب
4
إذا هب علوي الرياح وجدتني
كأني لعلوي الرياح نسيب
5
ومنهم من يبكي لبكاء الحمائم، وهو كثير في كلامهم. ولعل من أبدعه وأروعه قول الشبلي يصف شجو حمامة هاجت شجوه:
رب ورقاء هتوف في الضحى
ذات شجو صدحت في فنن
6
ذكرت إلفا وعيشا سالفا
فبكت حزنا فهاجت حزني
فبكائي ربما أرقها
وبكاها ربما أرقني
ولقد تشكو فما أفهمها
ولقد أشكو فما تفهمني
غير أني بالجوى أعرفها
وهي أيضا بالجوى تعرفني
أتراها بالبكا مولعة
أم سقاها البين ما جرعني
وهذه الأبيات من أحسن الشعر تقسيما، وأبرعه تصويرا، ولقد افتتح بها الشيخ على الجارم خطبته في تأبين المرحوم الشيخ حمزة فتح الله فخرج الناس وهم يقدمونه على سائر الشعراء، ظنا منهم أنها له، ولولا الجهل بتاريخ الآداب العربية لما عاش الأحياء على حساب الأموات، من حيث لا يشعر الناس!
ومما ابتدعه المتأخرون في موجب البكاء، ما جعله بعضهم عقابا للعين، جزاء بما أهدت نظراتها للقلب من شجى، والجسم من نحول، فقال:
لأعذبن العين غير مفكر
فيما جرت بالدمع أو سالت دما
ولأهجرن من الرقاد لذيذه
حتى يعود على الجفون محرما
هي أوقعتني في حبائل فتنة
لو لم تكن نظرت لكنت مسلما
سفكت دمي فلأسفحن دموعها
وهي التي بدأت فكانت أظلما
وهو مذهب غريب، يدل على مبلغ صاحبه من إدراك الحسن، وفهم الجمال! وإلا فأي عاشق يذكر جناية النظر عليه، ولا يدعو لعينيه بطول البقاء. ولله در القائل:
قالت أترقد إذ غبنا؟ فقلت لها
نعم، وأشفق من دمعي على بصري
ما حق طرف هداني نحو حسنكم
أني أعذبه بالنوح والسهر
ومنهم من جعل الدمع غسلا للعين مما زنت بالنظر، فقال:
وقائلة ما بال عينك مذ رأت
محاسن هذا الظبي أدمعها هطل
فقلت زنت عيني بطلعة وجهه
فحق لها من فيض مدمعها غسل
وقال الآخر:
إنسانة فتانة
بدر الدجى منها خجل
إذا زنت عيني بها
فبالدموع تغتسل
وهو خيال فقهاء، لا خيال شعراء!
وقد نظر الأرجاني إلى قول أبي تمام:
بسطت إليك بنانة أسروعا
تصف الفراق ومقلة ينبوعا
7
كادت لعرفان النوى ألفاظها
من رقة الشكوى تكون دموعا
فولد منه معنى لطيفا، إذ جعل دموعه عند الفراق، وقد تحدرت كاللآلئ بقية ما نفثه المودعون في آذانه من حديث هو الدر النفيس. وذلك قوله:
لم يبكني إلا حديث فراقهم
لما أسر به إلي مودعي
هو ذلك الدر الذي أودعته
في مسمعي ألقيته من مدمعي •••
أما السبب في احمرار الدموع فلم أجد فيه أبلغ من قول صردر:
حتام أرعى وردة لا تجتنى
في الخد أو تفاحة لا تلثم
أيذاد عن تلك المحاسن ناظري
ويريد مني أن يسوغها الفم
في كل يوم للعيون وقائع
إنسانها الطماح فيها يكلم
لو لم تكن جرحى غداة لقائهم
ما كان يجري من مآقيها الدم
لم أدر أن الحب حومة مأزق
تصلى ولا أن اللواحظ أسلم
وهو مأخوذ بلطف من قول مسلم بن الوليد:
يا واشيا حسنت فينا إساءته
نجى حذارك إنساني من الغرق
إني أصد دموعا لج سائقها
مطروفة العين بالمرضى من الحدق
ويرى القارئ أن أصحاب هذه الأخيلة الشعرية، يرون أن احمرار الدموع إنما هو أثر للحرب القائمة بين عين العاشق وعين المعشوق، فيا لها من حرب شروس تطأ فيها أقدام الجنس اللطيف أعناق الجنس النشيط. وإنا بهذه الهزيمة لفرحون!
وكان عجيبا أن تبيض الدموع بعد احمرارها! وقد رأينا كيف أولوا احمرار الدموع، ولنذكر أن أصدقهم سبط بن التعاويذي حين يقول:
أتبعتهم يوم استقل فريقهم
نظر المشوق وأنة المفجوع
لم تبك يوم فراقهم عيني دما
إلا وقد نزف البكاء دموعي
والآن نريد أن نعرف كيف يتأولون ابيضاض الدموع بعد أن صيرها الحزن حمراء. فمن الشعراء من يرى الدمع الأبيض ماء ورد الخدود التي قطفها بعينيه.
عند الرحيل، كما قال بعض الظرفاء:
كانت دموعي حمرا يوم بينهم
فمذ نأوا قصرتها بعدهم حرقي
قطفت باللحظ وردا من خدودهم
فاستقطر البين ماء الورد من حدقي
ومنهم من جعله شيبا للدموع بعد طول عمر البكاء كقوله:
قالت عهدتك تبكي
دما لطول التنائي
فلم تعوضت عنا
بعد الدماء بماء
فقلت ما ذاك مني
لسلوة وعزاء
لكن دموعي شابت
لطول عمر بكائي
وأشجى منه قول الآخر:
وقائلة ما بال دمعك أبيضا
فقلت لها يا عز هذا الذي بقي
ألم تعلمي أن البكا طال عمره
فشابت دموعي مثلما شاب مفرقي
وعما قليل لا دموعي ولا دمي
ترين ولكن لوعتي وتحرقي
وهذه الأبيات من أكثر الشعر حزنا، وأغزره دمعا، وهل تجد أدعى للشجو والبث من قوله:
فقلت لها يا عز هذا الذي بقي!
ويذكرني هذا بقول الشريف الرضي في إتيان الدموع على العيون، والغليل على الضلوع:
محا بعدكم تلك العيون بكاؤها
وغال بكم تلك الأضالع غولها
فمن ناظر لم يبق إلا دموعه
ومن مهجة لم يبق إلا غليلها
دعوا لي قلبا بالغرام أذيبه
عليكم وعينا في الطلول أجيلها
ويذكر الشعراء أن الدموع حين تبيض بعد احمرارها تكون أرق من الهواء، ولهم في ذلك فنون من القول، وشجون من الحديث، وأجمل ما رأيت في ذلك قول خالد الكاتب في رفق عذاله به، وإسعادهم له:
بكى عاذلي من رحمة فرحمته
وكم مسعد لي في الهوى ومعين
ورقت دموع العين حتى كأنها
دموع دموعي لا دموع جفوني
عذر أرباب الدموع
لا تعذل المشتاق في أشواقه
حتى يكون حشاك في أحشائه
إن القتيل مبللا بدموعه
مثل القتيل مضرجا بدمائه
نذكر هنا ما يعتذر به الباكون عن بكائهم، وما يحتجون به لدى عذالهم. وهو نوع من الإفصاح عن موجب الدمع، وداعي البكاء. والشعراء فيه رجلان: رجل غلبه الحب، وقهرته الصبابة، فباح بمكنون سره، ومكتوم حبه. ورجل تخوف الرقباء، وتهيب العذال، فأخذ يختلق العلل، وينتحل الأسباب، دفعا لكيد الواشين، ودرءا لعذل اللائمين ... فمن الأول قول البحتري:
سارت مقدمة الدموع وخلفت
حرقا توقد في الحشا ما ترحل
إن الفراق كما علمت فخلني
ومدامعا تسع الفراق وتفضل
إلا يكن صبر جميل فالهوى
نشوان يجمل فيه ما لا يجمل
وحسن البيت الأول في خلود اللوعة، وبقاء الغليل! وهو خير من قول ذي الرمة:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة
من الوجد أو يشفي شجي البلابل
والبيت الأخير أروع من قول أبي تمام في نفس المعنى:
والصبر أجمل غير أن تلددا
في الحب أحرى أن يكون جميلا
وقال البحتري في الاعتذار عن البكاء:
لا تلمني على البكاء فإني
نضو شجو ما لمت فيه البكاء
عذلا يترك الحنين أنينا
في هوى يترك الدموع دماء
كيف أغدو من الصبابة خلوا
بعدما راحت الديار خلاء
ومن بديع الاعتذار عن البكاء قول خالد الكاتب:
عش فحبيك سريعا قاتلي
والضنى إن لم تصلني واصلي
ظفر الحب بقلب دنف
فيك والسقم بجسم ناحل
فهما بين اكتئاب وضنى
صيراني كالقضيب الذابل
وبكى العاذل لي من رحمة
فبكائي لبكاء العاذل
وهذا معنى جميل، لا ينقص غير القرب من الحقيقة: فقد يندر أن يبكي اللائمون رفقا بالمحب الحزين!
ومما انتحل فيه الشعراء للبكاء أسبابا غير أسبابه قول كثير:
إذا زرفت عيناي أعتل بالقذى
وعزة لو يدري الطبيب قذاهما
وهو نوع من الكتمان يفزع إليه الشعراء عند اليأس من أحبابهم:
يأس يحسن لي التستر فاعلمي
لو كنت أطمع فيك لم أتستر
ومن طريف هذا النوع قول أبي العتاهية يعتذر عن بكائه، وقد استحيا من صديقه:
كم من صديق لي أسا
رقه البكاء من الحياء
فإذا تأمل لامني
فأقول ما بي من بكاء
لكن ذهبت لأرتدي
فطرفت عيني بالرداء
الاكتفاء بالدموع
هو نوع من القناعة في الحب يكون عند القنوط، ومن جيد الشعر فيه قول بعض الأعراب:
فإن تمنعوا ليلى وحسن حديثها
فلن تمنعوا مني البكا والقوافيا
فهلا منعتم إذ منعتم حديثها
خيالا يوافيني على النأي هاديا
وهى سذاجة طريفة تذكرنا بقول جحدر وهو في السجن:
أليس الليل يجمع أم عمرو
وإيانا فذاك لنا تداني
نعم وأرى الهلال كما تراه
ويعلوها النهار كما علاني
وما الذي يضير أعداء المحب من أن يرى القمر كما تراه، ويعلوها النهار كما علاه، ما داموا قد أبعدوه عنها، وحرموه منها. وقد تنبه بعض الأعراب إلى تفاهة هذه القناعة فقال:
بربك هل ضممت إليك ليلى
قبيل الصبح أو قبلت فاها
وهل رفت عليك فروع ليلى
رفيف الأقحوانة في شذاها
على أنه لا ينبغي ألا ينسينا جمال هذا الخيال ما في شعر جحدر وأمثاله من روعة الصدق، وجلال الوفاء. وماذا عسى أن تكون الصبابة إن لم يصبح البكاء أشهى من الحديث المعسول، حين يغدو المحب ولا أمل له في غير الوجد المشبوب، والدمع المسكوب، والصبر المغلوب!
من أجل هذا نخالف أستاذنا الجليل الشيخ سيد المرصفي، ونرجوه أن يصفح عن إعجابنا بقول قيس بن ذريح في الاكتفاء بدمعه الدائم، وحزنه المقيم:
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها
مقالة واش أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا
ولن يذهبوا ما قد أجن ضميري
إلى الله أشكو ما ألاقي من الهوى
ومن كرب تعتادني وزفير
ومن حرق للحب في باطن الحشا
وليل طويل الحزن غير قصير
سأبكي على نفسي بعين قريحة
بكاء حزين في الوثاق أسير
وكنا جميعا قبل أن تظهري النوى
بأنعم حالي غبطة وسرور
فما برح الواشون حتى بدت لنا
بطون الهوى مقلوبة لظهور
لقد كنت حسب النفس لو دام وصلنا
ولكنما الدنيا متاع غرور
وتمتاز هذه القطعة بتصويرها للنفس الإنسانية أجمل تصوير، وتمثيلها أدق تمثيل. ألم تر إلى الشاعر وقد أوجز في قناعته بالبكاء، ثم انطلق يشكو إلى الله لوعته، وحرقته، ولياليه الطوال! ألم تر إليه وقد كان يحسب الدمع نعمة سابقة يكبت بخلودها الأعداء، فعاد يرى الدمع آية الذل والمسكنة، وآخر ما يفزع إليه الأذلاء المساكين!
الفزع إلى الدموع
قال أبو بكر بن عياش: نزلت بي مصيبة أوجعتني فذكرت قول ذي الرمة:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة
من الوجد أو يشفي شجي البلابل
فخلوت فبكيت فسلوت! ولست أدري كيف تذهب بالوجد زفرة، أو تودي به عبرة، وهو كما قيل:
ظن الهوى لبسة تبلى فيخلعها
فكان في الروح مثل الروح في البدن
وكنت أسمي هذا النوع من الشعر استشفاء بالدموع، وفقا لما يجنح إليه الشعراء، ولكني رأيت أن أسميه «فزعا إلى الدموع» حين تبينت أن الدمع لا يطفئ اللوعة ، وأنه نار حامية، لا برد وسلام!
وهل تجد أدعى للبث، وأجلب الحزن، من قول كثير، وقد ترحلت حبيبته:
كفي حزنا للعين أن رد طرفها
لعزة عير آذنت برحيل
وقالوا نأت فاختر من الصبر والبكا
فقلت البكا أشفى إذن لغليلي
توليت محزونا وقلت لصاحبي
أقاتلتي ليلى بغير قتيل
وما اختار البكاء لأنه أشفى للغليل كما قال، ولكنه اختاره ليفر من الصبر الذي رآه مر المذاق! وقد حسب بعض الشعراء أن التفضيل بين الصبر والبكاء مما ينال، وفي ذلك يقول:
إذا ما دعوت الصبر بعدك والبكا
أجاب البكا طوعا ولم يجب الصبر
وهو ضلال مبين: فإن البكاء لا ينتظر دعوة المخزون، ولكنه ينقض عليه انقضاض الصاعقة، فإذا هو صريع! وأمثال هذا الشاعر لا يتحدثون عن حزنهم الأليم، ولكنهم يمنون على أحبابهم بهذا الدمع المجلوب.
ومن الشعراء من تنبه إلى أن السلامة من الجوى أمضى من الجوى، وهؤلاء يبكون وجدهم الذاهب وضلالهم القديم «ومن أسماء الحب الضلال»، ومن مختار الشعر في هذا البكاء قول المتنبي:
يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
ولو زلتم ثم لم أبككم
بكيت على حبي الزائل
وأوجع منه قول البحتري:
وأود أني ما قضيت لبانتي
منكم ولا أني شفيت غليلي
وأعد برئي من هواك جناية
والبرء أعظم غاية المخبول
ذلك بأن القلب الجريح لا يجد شفاءه في السلوة، ولا في البكاء ... وهل السلوة إلا رزء جديد يقصم الظهر، ويقصف العمر؟ أرأيت آدم وقد خرج من الجنة؟ أليست لوعته على ذلك الفردوس الضائع، هي سر ما يعتادنا من أنين قد لا نعرف له سببا قريبا؟ وهل البكاء إلا أثر من آثار الوجد يخشع لرهبته غلاظ الأكباد، ويرق له قساة القلوب؟
تلك حسرة البحتري أفصح عنها بقوله:
وأود أني ما قضيت لبانتي
منكم ولا أني شفيت غليلي
فما الذي جعله يرجو من الدمع الشفاء حين يقول:
قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا
أو معينا أو عاذرا أو عذولا
وخلاف الجميل قولك للذا
كر عهد الأحباب صبرا جميلا
عل ماء الدموع يخمد نارا
من جوى الحب أو يبل غليلا
وبكاء الديار مما يرد الشو
ق ذكرا والحب نضوا ضئيلا
لم يكن يومنا طويلا بنعما
ن ولكن كان البكاء طويلا
إن فهم ذلك يحتاج إلى تأمل النفس البشرية: فهي ليست موحدة المشاعر والميول. ولو جاز أن تجد نفسا خالدة الألم لفقد شقيقتها في عالم النفوس، لجاز أيضا أن تكون في لوعتها الخالدة ذات تصاريف في الشكوى والأنين! وليس طلب السلوة إلا صرخة الوجد يعجز عن كبحها المتيم العاني: ومن الذي يحرم على شقي أن يلتمس إلى السعادة السبيل؟ ومتى كان المحبون سعداء حتى يكون طلب الخلاص من بلواهم كفرا بنعمة الحب التي ابتلى الله بها أولئك الشهداء؟! وقد يحسن أن ننشد القارئ قول البحتري نفسه:
قد كان مني الوجد غب تذكر
إن كان منك الصد غب تناسي
تجري دموعي حيث دمعك جامد
ويرق قلبي حيث قلبك قاسي
ألا تراه جعل الوجد أثرا للتذكر الذي حسب البكاء يفضي إليه فيريحه من الشوق في قوله:
وبكاء الديار مما يرد الشو
ق (ذكرا) والحب نضوا ضئيلا
فهو يجعل الذكر دواء تارة، ويجعله داء تارة أخرى! ولسنا نتخذ من ذلك دليلا يرضاه المنطق عن خلود الصبابة، والعالم كله لن يرزق الخلود، ولكنا نستدل به على الحيرة يرزأ بها المتيم المحزون، فما يدري أيشفيه الدمع، أم يزيد لوعته اضطراما.
على أنه لا عيب على الشاعر في أن «تتناقض» خواطره؛ لأن الشعر كالمرآة، والنفس دنيا ثانية، تتراءى صورها المختلفة، في لوحة الشعر الجميل.
الدمع عند الوداع
نذكر هنا نماذج من وصف الدموع عند الفراق، فمن ذلك قول ابن الرومي:
لو كنت يوم الفراق حاضرنا
وهن يطفين غلة الوجد
لم تر إلا دموع باكية
تقطر من مقلة على خد
كأن تلك الدموع قطر ندى
يقطر من نرجس على ورد
وقد يؤخذ على هذه الأبيات ما فيها من الغزل في غير حينه، وهو قول أبي نواس في جنان:
يا قمرا أبصرت في مأتم
يندب شجوا بين أتراب
يبكي فيذري الدر من نرجس
ويلطم الورد بعناب
والأدباء يرون هذا من وثبات الخيال، ونراها أخيلة عادية ليس لها جمال خاص، فقد يجد الشاعر في الجميلة الباكية ما ينسيه وصف طرفها الساحر وخدها الأسيل! وقد أجاد ابن الرومي أو كاد في قوله:
تلاقينا لقاء لافتراق
كلانا منه ذو قلب مروع
فما افترت شفاه عن ثغور
بل افترت جفون عن دموع
ومما جمع بين براعة التصوير، ومتانة التعبير، قول المتنبي:
لما تقطعت الحمول تقطعت
نفسي أسى وكأنهن طلوح
وجلا الوداع من الحبيب محاسنا
حسن العزاء وقد جلين قبيح
فيه مسلمة، وطرف شاخص
وحشا يذوب ومدمع مسفوح
يجد الحمام ولو كوجدي لانبرى
شجر الأراك مع الحمام ينوح
وقال مهيار في الاعتذار عما للمودع من الزفرات والعبرات:
دعوني فلي إن زمت العيس وقفة
أعلم فيها الصخر كيف يلين
وخلوا دموعي أو يقال نعم بكى
وزفرة صدري أو يقال حزين
فلولا غليل الشوق أو دمعة النوى
لما خلقت لي أضلع وجفون
وهي مدافعة حسنة تذكرنا بقول صردر:
إذا لم أفز منكم بوعد فنظرة
إليكم فما نفعي بسمعي وناظري
وقال السري الرفاء في ذكر مظاهر الوداع: من اللوعة، والحنين، وتخديد الخد بالدمع، مع ذهاب العزاء:
وقفتنا النوى على الكره منا
موقفا ضم شائقا ومشوقا
حال ورد الخدود فأضحى الن
رجس الغض بالدموع غريقا
لوعة أفرطت فعادت حريقا
وحنين أربى فعاد شهيقا
وخليق بلوعة الحب صب
لم يكن بالعزاء فيه خليقا
ومن شجي الشعر في ذلك قول الشريف الرضي:
ولما تواقفنا ذهلت ولم يحن
لطير قلوب العاشقين وقوع
عشية لي من رقبة الحي زاجر
عن الدمع إلا أن تشذ دموع
وقد أمرت عيناك عيني بالبكا
فقل لي أي الآمرين أطيع
ولهذا الشعر مزية خاصة: وهي ترتيب المعاني ترتيبا لولا حيرة المودع لكان غاية في الوضوح. ولا يفوتنا أن نذكر هنا قول ابن زريق:
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي أن لا أفارقه
وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
ومن الشعراء من يفرح بالوداع، إذ يمكنه من معشوقة قد لا تراها العين إلا عند الرحيل. فمن ذلك قول البحتري:
إن للبين نعمة لا تؤدى
ويدا في تماضر بيضاء
حجبوها حتى بدت لفراق
كان داء لعاشق ودواء
أضحك البين يوم ذاك وأبكى
كل ذي صبوة وسر وساء
فجعلنا الوداع فيه سلاما
وجعلنا الفراق فيه لقاء
وفي هذا المعنى يقول بعض الظرفاء:
لم أنس إذ ودعته والتقى
ذا البدن الناعم والناحل
كأنما جسمي على جسمه
غصنان ذا غض وذا ذابل
يا رب ما أطيب ضمي له
إلي لولا أنه راحل!
وقد ألم الشريف بهذا المعنى في هذه الأبيات:
أفي كل يوم لفتة ثم عبرة
على رسم دار أو مطي موقف
وركب على الأكوار يثني رقابهم
لداعي الصبا عهد قديم ومألف
فمن واجد قد ألزم القلب كفه
ومن طرب يعلو اليفاع ويشرف
ومستعبر قد أتبع الدمع زفرة
تكاد لها عوج الضلوع تثقف
قضى ما قضى من أنة الشوق وانثنى
بدار الجوى والقلب يهفو ويرجف
ولم تغن حتى زايل البعد بيننا
وحتى رمانا الأزلم المتغطرف
1
كأن الليالي كن ألين حلفة
بألا يرى فيهن شمل مؤلف
أيا وقفة التوديع هل فيك راجع
إشارته ذاك البنان المطرف
وهل مطمعي ذاك الغزال بلفتة
وإن ثور الركب العجال وأوجفوا
2
وهذه الأبيات وصف سابغ للمرور بمنازل الأحباب، ولكن فيها تصويرا لانتهاب الحسن عند الوداع، وإمتاع العين باللفتة وإشارة البنان، وليست هذه المتعة بالشيء القليل!
الدمع بعد الفراق
ذكرنا في الكلمة السالفة مذاهب الشعراء في وصف الوداع، واليوم نذكر من شعرهم في الدمع بعد الفراق، فمن ذلك قول دعبل في راحلين ما يدري أيلقاهم وهو حي، أم ينتظرهم في عالم البقاء:
ألم يأن للسفر الذين تحملوا
إلى وطن قبل الممات رجوع
فقلت ولم أملك سوابق عبرة
نطقن بما ضمت عليه ضلوع
تبين فكم دار تفرق شملها
وشمل شتيت عاد وهو جميع
طوال الليالي صرفهن كما ترى
لكل أناس جدبة وربيع
ويذكر صاحب «مواسم الأدب» أن المأمون كان يعجب بهذه الأبيات، وكذلك كان المؤلفون «يسجلون» إعجاب الملوك بما يقول الشعراء، كأن الشعر «نقود» لا يتداولها الناس إلا إن حملت شارات الملوك! على أن من العدل أن نذكر بهذه المناسبة أن إقبال المأمون على الشعر الجيد، وتشجيعه للشعراء المجيدين، كان مما رفع الأدب ونهض بالأدباء. وهناك ظاهرة أخرى لإعجاب المأمون بهذه القطعة الوجدانية، هي إقبال كرائم النفوس على مناهل الوفاء، وإن أسبغت عليها نعمة العلم والجاه! ولنا أن نقول: إن في عجز العلم والملك عن قتل الحب في صدور الملك والعلماء لدليلا على أن نعم الوجود تتلاشى أمام هذه النعمة الساحرة، القاهرة، نعمة الجمال! وفي الفزع من الموت قبل اللقاء، يقول الطغرائي:
إني لأذكركم وقد بلغ الظما
مني فأشرق بالزلال البارد
وأقول ليت أحبتي عاينتهم
قبل الممات ولو بيوم واحد
وللشريف الرضي في الوجد بعد الفراق شعر باك حزين كقوله:
الدمع مذ بعد الخليط قريب
والشوق يدعو والزفير يجيب
إن لم تكن كبدي غداة وداعكم
ذابت فأعلم أنها ستذوب
داء طلبت له الأساة فلم يكن
إلا التعلل بالدموع طبيب
إما أقمت فإن دمعي غالب
لعواذلي وتجلدي مغلوب
ومن الشعراء من ينفد دمعه، فيوصي بالبكاء عنه، كما قال الشريف:
أيها الرائح المغذ تحمل
حاجة للمتيم المشتاق
اقر عني السلام أهل المصلى
فبلاغ السلام بعض التلاقي
وإذا ما مررت بالخيف فاشهد
أن قلبي إليه بالأشواق
وإذا ما سئلت عني فقل نض
و هوى ما أظنه اليوم باق
ضاع قلبي فانشده لي بين جمع
ومنى عند بعض تلك الحداق
وابك عني فطالما كنت من قب
ل أعير الدموع للعشاق
وتذكرنا هذه الأبيات بقول عبد الرحمن الداخل:
أيها الراكب الميمم أرضي
اقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرض
وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر البين بيننا فافترقنا
وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بيننا بافتراق
فعسى باجتماعنا سوف يقضي
ومن الشعراء من يبكي في القرب والبعد، كما قال بعض الظرفاء:
وما في الأرض أشقى من محب
وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حال
مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم
ويبكي إن دنوا خوف الفراق
فتسخن عينه عند التنائي
وتسخن عينه عند التلاقي
وليس لنا إلا أن نذكر أمثال هذا الشاعر بما قاله الأخطل لعبد الملك بن مروان وقد سأله كيف تشرب الخمر، وأولها مر، وآخرها سكر؟ فقال: صدقت يا أمير المؤمنين! ولكن بين السكر والمرارة لحظة دونها ملكك الطويل العريض!
وبين دموع التلاق، ودموع الفراق، لحظة دونها حياة الأبرار في جنات النعيم!
ومن الشعراء من يتوجع على عهده قبل الفراق، كقول الشريف:
هل عهدنا بعد التفرق راجع
أو غصننا بعد التسلب مورق
شوق أقام وأنت غير مقيمة
والشوق بالكلف المعنى أعلق
ما كنت أحظى في الدنو فكيف بي
واليوم نحن مغرب ومشرق
وفي البيت الأخير حسرة تذيب لفائف القلوب.
وقد أجاد الأرجاني في وصف اليأس بعد الفراق، حين قال:
رحلوا: أمام الركب نشر عبيرهم
ووراءهم نفس المشوق الصادي
فكأن هذا من وراء ركابهم
حاد لها وكأن ذلك هادي
لله موقف ساعة يوم النوى
بمنى وأقمار الحدوج بواد
لما تبعت وللمشيع غاية
أظعانهم وقد امتلكن قيادي
اتبعتهم عيني وقلبي واقفا
فوق الثنية والمطي غواد
كيف السبيل إلى التلاقي بعدما
ضرب الغيور عليه بالأسداد
والحي قد ركزوا الرماح بمنزل
فيه الظباء ربائب الآساد
وعد المنى بهم فقلت لصاحبي
كم دون ذلك من عدى وعواد
عهدي بهم وهم بوجرة جيرة
سقيت عهودهم بصوب عهاد
فاليوم من نفس النسيم إذا سرى
نبغي شفاء علائل الأكباد
ومن العشاق من يقف بالديار فيبكي لما صنعت بها أيدي الفراق حين نفرت عنها الظباء، كسبط ابن أسابذي حين يقول:
يا موقفا بالبان لم تثمر لنا
غير الصبابة والأسى شجراته
هل نفرت لا نفرت غزلانه
أو صوحت لا صوحت باناته
عهدي به يلوي الديون قضاته
وتصيد ألباب الرجال مهاته
فاليوم لا جيرانه جيرانه
قدما ولا فتياته فتياته
يا حادي الأظعان في آثاركم
قلب تقطعه جوى حسراته
ولقد يرى ثبت الحصاة فما له
أمست تذوب على البعاد حصاته
1
شكوى الصبابة
نظرت ما قال الشعراء في الشكوى فإذا هم مختلفون: فمنهم من يشكو إلى من يعلم السر والنجوى، ومن يقدر على تصريف الخواطر، وتقليب القلوب.
ألان لداود الحديد بقدرة
مليك على تيسير قلبك قادر
وهؤلاء أصدق الناس حبا وأحسنهم إيمانا، وسيدهم أبو صخر الهزلي حين يقول:
بيد الذي شغف الفؤاد بكم
تفريج ما ألقى من الهم
فإنه جعل الهوى قدرا، وجعل الأمر في تيسير قلب من يهوى وتذليله للذي خلق الحب، وأودع الذل فيه. ولم أجد في هذا المعنى أوجع من قول قيس بن زريح:
إلى الله أشكو فقد لبنى كما شكا
إلى الله بعد الوالدين يتيم
يتيم جفاه الأقربون فدمعه
غزير وعهد الوالدين قديم
وإذا كان محالا أن يجد المرء بعد أبويه من يعوله، ويحدب عليه، ويمنحه من العطف والحنان ما كان جديرا أن يفوز به لو عاش أبواه، فكذلك لا يجد قيس من بين النساء من تبره بر لبنى، وهذا وجه الحسن في هذين البيتين، اللذين يفيضان نارا وحرقة. وقال ابن المعتز:
إلى الله أشكو الشوق لا إن لقيتها
يقل ولا إن بنت يخلقه الدهر
مقيم على الأحشاء قد قطعت به
فساعته يوم وليلته دهر
ولم يذكر الشاعر هنا من موجب الشكوى غير فرط حبه، وخلود وجده، وإنما يشكو المحب قسوة الهجر، ومرارة الصدود. وقال معين الدين الخطيب في الشكوى من لوعته وحسن محبوبه:
أشكو إلى الله من نارين واحدة
في وجنتيه وأخرى منه في كبدي
ومن سقامين سقم قد أحل دمي
من الجفون وسقم حل في جسدي
وهذا شعر منتقد؛ فإنه إذا صح أن يشكو المحب إلى الله سقمه ووجده، أملا في الراحة من بلاء الحب، فما الذي يريده بشكوى السقم في جفن محبوبه والنار في خديه؟ وقد أجاد أو قارب في قوله:
ومن نمومين دمعي حين أذكره
يذيع سري وواش منه للرصد
ومن ضعيفين صبري حين يهجرني
ووده، ويراه الناس طوع يدي
فإنه لا بأس من شكوى الواشي والود الضعيف !
ومن المحبين من يشكو إلى المعاهد والرسوم، وهو نوع من الوله، وصنف من الصبابة، تقر به عين المحب، وتطيب به نفس المشوق، كقول ابن المعتز:
أيا سدرة الوادي على المشرع العذب
سقاك حيا حي الثرى ميت الجدب
كذبت الهوى إن لم أقف أشتكي الهوى
إليك وإن طال الطريق على صحبي
أصانع أطراف الدموع ومقلتي
موقرة بالدمع غربا على غرب
وهل هي إلا حاجة قضيت لنا
ولوم تحملناه في طاعة الحب
تبدلت شيبا بالشباب فإن تطر
شياطين لذاتي يقعن على قرب
ومنهم من يشكو إلى المسعد والرفيق، وهو أصل هذا الباب، ومنه هذا البيت السائر:
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ويعجبني في هذا المعنى قول البهاء زهير:
أين من يرحمني أشكو له
إنما الشكوى إلى من يرحم
أنا من قلبي ومنها آيس
لم يكن من مقلتيها يسلم
أيها السائل عن وجدي بها
إنه أعظم مما تزعم
ولقد حدثت عن شرح الهوى
أنت يا رب بحالي أعلم
طال ما ألقاه من نار الجوى
وحديثي لك يا من يفهم
عشق الناس ومثلي لم يكن
فاعلموا أني فيهم علم
سطرت قبلي أحاديث الهوى
وبمسك من حديثي تختم
وهذا شعر يشف عن كثير من سلامة الذوق، وخفة الروح، ولعلك لا تجد أظرف من قوله:
أين من يرحمني أشكو له
إنما الشكوى إلى من يرحم
فإنه خير ما قيل في معناه ... ومن المغرمين من يشكو إلى حبيبه وهو أوجب لرحمته، وأدعى إلى إنصافه، ومنه قول الطغرائي:
لعمرك ما يرجى شفائي والهوى
له بين جسمي والعظام دبيب
أجلك أن أشكو إليك وأنطوي
على كمدي إن الهوى لعجيب
وآمل برءا من هوى خامر الحشا
وكيف بداء لا يراه طبيب
نصيبك من قلبي كما قد عهدته
وما لي بحمد الله منك نصيب
وما أدعي إلا اكتفاء بنظرة
إليك ودعوى العاشقين ضروب
وما بحت بالسر الذي كان بيننا
ولكنما لحظ المحب مريب
وقوله «نصيبك من قلبي كما قد عهدته» مأخوذ من قول ابن الأحنف:
إليك أشكو رب ما حل بي
من صد هذا التائه المعجب
صب بعصياني ولو قال لي
لا تشرب البارد لم أشرب
إن قال لم يفعل وإن سيل لم
يبذل وإن عوتب لم يعتب
وقوله «وما أدعي إلا اكتفاء بنظرة» مأخوذ من قول الشريف:
عشقت وما بي يعلم الله حاجة
سوى نظري والعاشقون ضروب
ومما حسنت معانيه وصحت تقاسيمه - في الشكوى إلى المحبوب - قول بعض الأعراب:
شكوت فقالت كل هذا تبرما
بحبي أراح الله قلبك من حبي
فلما كتمت الحب قالت لشد ما
صبرت وما هذا بفعل شجي القلب
وأدنو فتقصيني فأبعد طالبا
رضاها فتعتد التباعد من ذنبي
فشكواي تؤذيها وصبري يسوءها
وتجزع من بعدي وتنفر من قربي
فيا قوم هل من حيلة تعرفونها
أشيروا بها واستوجبوا الشكر من ربي
وهذا شعر الطبع والسليقة، والموفقون إلى مثله قليل.
وقد أجاد في هذا المعنى من شعراء العصر حافظ بك إبراهيم حين قال:
كم تحت أذيال الظلام متيم
دامي الفؤاد وليله لا يعلم
ما أنت في دنياك أول عاشق
راميه لا يحنو ولا يترحم
أهرمتني يا ليل في شرخ الصبا
كم فيك ساعات تشيب وتهرم
لا أنت تقصر لي ولا أنا مقصر
أتعبتني وتعبت، هل من يحكم
لله موقفنا وقد ناجيتها
بعظيم ما يخفي الفؤاد ويكتم
قالت من الشاكي تسائل سربها
عني ومن هذا الذي يتظلم
فأجبنها وعجبن كيف تجاهلت
هو ذلك المتوجع المتألم
أنا من عرفت ومن جهلت ومن له
لولا عيونك حجة لا تفحم
أسلمت نفسي للهوى وأظنها
مما يجشمها الهوى لا تسلم
وأتيت يحدوني الرجاء ومن أتى
متحرما بفنائكم لا يحرم
أشكو لذات الخال ما صنعت بنا
تلك العيون وما جناه المعصم
لا السهم يرفق بالجريح ولا الهوى
يبقي عليه ولا الصبابة ترحم
لو تنظرين إليه في جوف الدجى
متململا من هول ما يتجشم
يمشي إلى كنف الفراش محاذرا
وجلا يؤخر رجله ويقدم
يرمي الفراش بناظريه وينثني
جزعا ويقدم بعد ذاك ويحجم
فكأنه واليأس ينسف نفسه
للقتل فوق فراشه يتقدم
رشقت به في كل جنب مدية
وانساب فيه بكل ركن أرقم
فكأنه في هوله وسعيره
واد قد اطلعت عليه جهنم
هذا وحقك بعض ما كابدته
من ناظريك وما كتمتك أعظم
قالت أهذا أنت ويحك فاتئد
حتام تنجد في الغرام وتتهم
إنا سمعنا عنك ما قد رابنا
وأطال فيك وفي هواك اللوم
أصغت إلى قول الوشاة فأسرفت
في هجرها وجنت علي وأجرموا
حتى إذا يئس الطبيب وجاءها
أني تلفت تندمت وتندموا
وأتت تعود مريضها لا بل أتت
مني تشيع راحلا لو تعلم
وفي هذه القصيدة صورة شعرية بديعة، تمثل العاشق، وقد طال عليه الليل، وهجر جفنيه المنام. وهي غاية في حسن القصص، وسحر البيان.
ولنذكر الشكوى إلى ساقي الراح في قول ابن المعتز:
أيها الساقي إليك المشتكى
قد دعوناك وإن لم تسمع
ونديم همت في غرته
وبشرب الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته
جذب الزق إليه واتكا
وسقاني أربعا في أربع
ما لعيني عشيت بالنظر
أنكرت بعدك ضوء القمر
وإذا ما شئت فاسمع خبري
عشيت عيناي من طول البكا
وبكى بعضي على بعضي معي
غصن بان مال من حيث التوى
مات من يهواه من فرط الجوى
خفق الأحشاء موهون القوى
كلما فكر في البين بكى
ويحه يبكي لما لم يقع!
ليس لي صبر ولا لي جلد
يا لقومي عذلوا واجتهدوا
أنكروا شكواي مما أجد
مثل حالي حقه أن يشتكا
كمد اليأس وذل الطمع
كبد حرى ودمع يكف
أصرف الدمع فلا ينصرف
أيها المعرض عما أصف
قد نما حبي بقلبي وزكا
لا تقل في الحب إني مدعي
وفي هذه الموشحة شكوى أليمة، تهم بمثلها النفس الشجية، من حين إلى حين.
وتعجبني شكوى ابن الرومي في قوله:
ظبي يصيد ولا يصاد محاذر
نبل الهوى وحبائل الإيناس
غر شموس إن أحس بريبة
أعجب بجامع غرة وشماس
يسبي القلوب بمقلة مكحولة
بفتور غنج لا فتور نعاس
يا للرجال ألا معين لأيد
صب الفؤاد على ضعيف قاس
1
أيضيمني خنث الشمائل لو نضا
عنه غلالته حساه الحاسي ؟
ومن العجائب أن تحل ظلامة
بفتى أناس من فتاة أناس
ومن المعذبين من يبث شكواه من دهره وإخوانه إلى صديق أقصته في بره الليالي. ومن شعراء العصر من قارب الإجادة في هذا المعنى، كصاحب البدائع حيث يقول:
2
أنت الذي علمتني
يا سيدي بر الصديق
وتركتني في فتية
ما فيهم بر رفيق
لم ألق بعدك منهم
إلا الجفاء أو العقوق
حتى كأني لم أبت
منهم على عهد وثيق
وكأنهم لم يبصروا
في خلتي الحر الصدوق
فنسوا هواي ولم يفق
من ودهم قلبي المشوق
ونسوا طريف حديثنا
عند الصبوح أو الغبوق
ليت الهوى ما قادني
يوما إلى ذاك الطريق
أو ليتني لم أنخدع
جهلا بهاتيك البروق
بل ليتني بعد الذي
عانيت من صبحي أفيق •••
مولاي لو أبصرتني
لفزعت من دمعي الطليق
وشجاك جسمي ناحلا
وكأنه الطيف الطروق
أشكو إليك وإنما
يشكو المضيم إلى الشفيق
فارحم فديتك مهجة
أودى بها الحزن العميق
حزن يقطع في الحشا
فكأنه غدر الصديق •••
يا ويح قلبي لم يزل
يهفو به الروح الخفوق
وتقوده الذكرى إلى
عهد الهوى الغض الرقيق
أيام نمرح في الصبا
في ذلك العيش الأنيق
أيام نسقي في الهوى
والود كأسا من رحيق
تلك الليالي لم تدع
من بعدها حسنا يروق
كلا ولا خلت لنا
إلا الزفير أو الشهيق
عند منازل الأحباب
كان أبو نواس يكره الشعر في بكاء الرسوم والأطلال، وأدباء هذا العصر يعدون هذه النزعة توديعا للقديم، وترحيبا بالجديد، وهذا حق إذا لوحظ أن الشعراء كانوا يبدءون قصائدهم ببكاء الديار، وإن لم يكونوا بنار الفراق من المحرقين! ولكن من العبث في تحليل العواطف أن نجهل ما يجده المحبون عند المرور بديار أحبابهم المبعدين، ومن الغبن للآداب العربية أن نغفل ما قيل في منازل الأحباب من الشعر الباكي الحزين! وها نحن أولاء نبسط القول عن هذه الوقفة الأليمة، وقفة المحب على ديار خلت غرفها من الظباء الغرائر، وعفت سررها من النساء الحرائر، بعد أن كان ساكنوها أمل الآمل، وأمنية المتمني! فمن ذلك قول بعض الأعراب وقد وقف (بالحزن) بفتح الحاء، وكان ملعب شبابه، ومنتدى هواه، وصورة أيامه الخوالي:
ومستنجد (بالحزن) دمعا كأنه
على الخد مما ليس يرقأ حائر
إذا ديمة منه استقلت تهللت
أوائل أخرى ما لهن أواخر
ملا مقلتيه الدمع حتى كأنه
لما انهل من عينيه في الماء ناظر
وينظر من بين الدموع بمقلة
دمى الشوق في إنسانها فهو ساهر
وفي هذا المعنى يقول ابن الملوح:
نظرت كأني من وراء زجاجة
إلى الدار من ماء الصبابة أنظر
فعيناي طورا تغرقان من البكا
فأعشي وطورا يحسران فأبصر
ومما يغري القلب بالحزن، والعين بالدمع، قول البحتري:
وقفنا فحيينا لأهلك باللوي
ربوع ديار دارسات المعالم
ذكرنا الهوى العذري فيها فأنسيت
عزاها مشوقات القلوب الهوائم
خلعنا بها عذر الدموع فأقبلت
تلوم وتلحي كل لاح ولائم
لقد حكم البين المشتت بالبلى
عليك وصرف الدهر أجور حاكم
لعل الليالي يكتسبن بشاشة
فيجمعن من شمل الهوى المتقادم
ونود لو تأمل القارئ ما في هذه الأبيات من الترتيب والتنسيق، فقد وقف الشاعر بالديار، ثم حياها وهو يتنقل بروحه بين الشقاء الحاضر والنعيم الماضي، ثم اشتعل الحزن في قلبه اشتعالا، فنسي جمال الصبر وحسن العزاء، فاندفع يبكي وينتحب، ثم أغرب في البكاء والنحيب، حتى خشع عاذلوه، وخضع لائموه! ثم توجع للديار مما حكم عليها البين وصنعت بها الليالي! ثم تمنى لو ضحك الزمن بعد العبوس، فاجتمع الشمل بعد الفراق! وقال أبو فراس:
علي لربع العامرية وقفة
ليملي علي الشوق والدمع كاتب
فلا وأبي العشاق ما أنا عاشق
إذا هي لم تلعب بصبري الملاعب
ومن مذهبي حب الديار وأهلها
وللناس فيما يعشقون مذاهب
ولا يفهم أحد كيف يكون حب الديار وأهلها مذهبا لأبي فراس، مع أن أبياته هذه ليست شيئا في جانب ما قيل في منازل الأحباب، ويكفي أن نذكر قول نبهان العبسي في البئر الذي كانت تشرب منه حبيبته سليمى:
سأسري إلى الماء الذي شربت به
سليمى وإن مل السرى كل واحد
وألصق أحشائي ببرد ترابه
وإن كان مخلوطا بسم الأساود
ويذكرني هذا بقول بعض الأعراب في (الوشل)، وهو ماء كان يطالع عنده وجوه الكواعب:
اقرأ على الوشل السلام وقل له
كل المشارب مذ هجرت دميم
سقيا لطلك بالعشي وبالضحى
ولبرد مائك والمياه حميم
لو كنت أملك منع مائك لم يذق
ما في قلاتك ما حييت لئيم
1
وللشريف الرضي في بكاء الديار بدائع، فمن ذلك قوله:
تزافر صحبي يوم ذي الأثل زفرة
تذوب قلوب من لظاها وأضلع
منازل لم تسلم عليهن مقلة
ولا جف بعد البين فيهن مدمع
فدمع على بالي الديار مفرق
وقلب على أهل الديار موزع
ألا ليت شعري كل دار مشتة
ألا موطن يدنو بشمل ويجمع
ومن جيد شعره في هذا المعنى قوله من كلمة ثانية:
وقفت على تلك الديار ووحشها
دوان ومن يحكين غير دوان
فأنكرت العينان والقلب عارف
قليلا ولجا بعد في الهملان
وهذا آخر ما يقال في رسوم الديار، فحسب أطلالها من البلى، ورسومها من العفاء، أن تنكرها العينان، ولا يعرفها القلب إلا قليلا! والأدباء ينكرون أن يتردد القلب في معرفة دار كانت بالأمس جنة ونعيما، ويعجبون بقول طريح بن إسماعيل الثقفي:
تستخبر الدمن القفار ولم تكن
لترد أخبارا على مستخبر
فظللت تحكم بين قلب عارف
مغنى أحبته وطرف منكر
ومن الشعراء من يرى الديار الخالية، وكأنها بأهلها مأهولة، كأبي نواس حين يقول:
لمن دمن تزداد طيب نسيم
على طول ما أقوت وحسن رسوم
تجافى البلى عنهن حتى كأنما
لبسن على الأقواء ثوب نعيم
وكقول الأخطل:
لأسماء محتل بناظرة البشر
قديم ولما يعفه سالف الدهر
يكاد من العرفان يضحك رسمه
وكم من ليال للديار وكم شهر
وكقول ابن أحمر العقيلي:
تراها على طول القواء جديدة
وعهد المغاني بالحلول قديم
والمعروف في هذا المعنى أن الديار تجد مثل ما يجد المتيم المحزون، كقول محمد بن وهب:
طللان طال عليهما الأمد
درسا فلا علم ولا قصد
لبسا البلى فكأنما وجدا
بعد الأحبة مثل ما أجد
وكقول مالك ابن أسماء الفزاري:
بينا هم سكن لجارهم
ذكروا الفراق فأصبحوا سفرا
فظللت ذا وله يعاتبني
من لا يرى مثلي له أمرا
بكت الديار لفقد ساكنها
أفعند قلبي أبتغي الصبرا
ومن بديع الشعر في هذا الباب قول ابن سنان الخفاجي:
ولما وقفنا بالديار وعندنا
مدامع نسديها لكم ونثيرها
شكونا إليها ما لقينا من الضنى
فعرفنا كيف السقام دثورها
وقد درست إلا أمارة ذاكر
تلوح له بعد التمادي سطورها
خليلي قد عم الأسى وتقاسمت
فنون البلى عشاق ليلى ودورها
فلا دار إلا دمنة ورسومها
ولا نفس إلا لوعة وزفيرها
لعمر الليالي ما حمدت قديمها
فيوحشني ذهابها ومرورها
وقالوا عطاء الدهر يبلى جديده
ومن لي بدنيا لا يزول سرورها
نود لو تأمل القارئ إبداع ابن سنان في هذين البيتين:
خليلي قد عم الأسى وتقاسمت
فنون البلى عشاق ليلى ودورها
فلا دار إلا دمنة ورسومها
ولا نفس إلا لوعة وزفيرها
وحسب العاشق من موجب الأسى، وداعي الحزن، أن يرى منازل أحبابه هامدات، باليات!
تعفو المنازل إن نأوا
عنها وتغبر البلاد
والحي أولى بالبلى
شوقا إذا بلي الجماد
وهل تأملت كيف شكا إلى الديار ما لقي من الضنى، وكيف عرف ما به من السقم لما تبين دثورها، وتعرف عفاءها! ويا ليت شعري هل شكت إليه ما تجد إليه من بعد سكانها، وبين ملاكها؟ أما والهوى إنها لتشكو في صمتها الرهيب، إذ كانت تحزن بغير قلب، وتبكي بغير دمع!
كفى حزنا للهائم الصب أن يرى
منازل من يهوى معطلة قفرا
ومما يقرب من فلسفة الشعر، وفقه الأدب، في بكاء الرسوم الهوامد، والأطلال الدوارس، مع الإفصاح عن الأسى والبث، والشجى والحزن، قول ابن الخياط في ديار لقيت من بعد سكانها ما لقي المحب بعدهم من الضنى والنحول:
وقفت أداري الوجد خوف مدامع
تبيح من السر الممنع ما أحمي
أغالب بالشك اليقين صبابة
وأدفع من صدر الحقيقة بالوهم
وهذا من خير ما قيل في مصانعة النفس، ومغالبة الوجد، فقد عرف الديار بقلبه، لما ضمنت منه الضلوع لأهلها النازحين، وأنكرها بطرفه، لما لقيت من الدثور والعفاء، فهو يريد أن يعتصم بالشك، لينجو من قسوة اليقين، ولكنه غلب على أمره فقال:
فلما أبى إلا البكاء لي الأسى
بكيت فما أبقيت للرسم من رسم
كأني بأجزاع النقيبة مسلم
إلى ثائر لا يعرف الصفح عن جرم
يرحمه الله! فهل رأى ثائرا أظلم من الوجد، وحاكما أجور من الصبابة! ثم أخذ يقارن بين بليته وبلية الديار، فقال:
لقد وجدت وجدي الديار بأهلها
ولو لم تجد وجدي لما سقمت سقمي
عليهن رسم للفراق وإنما
علي له ما ليس للنار من رسم
وهذا من الإبداع في وصف الديار الخالية، وهل تجد المنزل بعد أهله إلا باكيا حزينا؟ أوليست وحشة المنزل الخالي ذلة بادية يطالع بها الرائح والغادي، عساه يعرف شيئا عن سكانه الراحلين، وملاكه الغائبين فإن السكان للمنازل كالأرواح للأجسام، فإذا ارتحلوا آن حمامها، وحان دثورها، وحل دمارها! وقد رأى الشاعر بعد ذلك أن البين جائر في قسمة الضنى بينه وبين المنزل الخالي، فقال:
وكم قسم البين الضنى بين منزل
وبيني ولكن الهوى جائر القسم
منازل أدارس شجاني نحوها
فهلا شجاها ناحل القلب والجسم
وهذه استغاثة بالطلل البالي، يشعر بمثلها ذو اللوعة الحزين!
وكان ابن الخياط من أغزر الناس دمعا عند مغاني الأحباب، فمن ذلك قوله:
يا عمرو ما وقعة في رسم منزلة
أثار شوقك فيها محو آثار
أنكرت فيها الهوى ثم اعترفت به
وما اعترافك إلا دمعك الجاري
أو كنت ناسي عهد من تقادمه
نسيت فيها لباناتي وأوطاري
أيام يفتك فيها غير مرتقب
ظبي الكناس بليث الغابة الضاري
لا أرسل اللحظ إلا كان موقعه
على شموس منيرات وأقمار
ما أطيب العيش لو أني وفدت به
على زمان ودهر غير غدار
وهذا شعر يخالط النفس، ويلابس الفؤاد، ومثله في اللوعة قوله من كلمة ثانية:
أجدك ما تنفك بالغور ناشدا
فؤادا بنجد؟ يا لقلبك من نجد!
وإني لتصميني سهام ادكاركم
وإن كان رامي الشوق مني على بعد
تمادى غرام ليس يجري إلى مدى
وفرط سقام لا يقيم على حد
وما أنس لا أنس الحمى وأهلة
تضل ومن حق الأهلة أن تهدي
زمانا إخال الجهل فيه من النهى
وحبا أعد الغي فيه من الرشد
غنين وما نولن نيلا سوى الجوى
وبن وما زودن زادا سوى الوجد
خليلي ما أحلى الحياة لو انها
لطاعمها لم تخلط الصاب بالشهد
لقد حالت الأيام عن حال عهدها
ومن لي بأيام تدوم على العهد
ومن بديع الشعر في بكاء الديار قوله من كلمة طويلة:
وبالجزع حي كلما عن ذكرهم
أمات الهوى مني فؤادي وأحياه
تمنيتهم بالرقمتين ودارهم
بوادي الغضا يا بعد ما أتمناه
سقى الوابل الربعي حائل ربعهم
وراوحه ما شاء روح وغاداه
وجر عليه ذيله كل خاطر
إذا مشى في عاطل الترب حلاه
وما كنت لولا أن دمعي من دم
لأحمل منا للسحاب بسقياه
ومن المعاني المولدة في الدمع عند الرسوم قول الأرجاني:
وقفت بأطلال الديار مسلما
وعهدي وملء الواديين قباب
فأبرق عذالي ملاما وأرعدوا
وأمطرت أجفاني فتم سحاب
به غنيت أرض الحمى عن مصبح
يقول سقى دار الرباب رباب
وهو خيال يبدو كأنه طريف، ولكنه من الأخيلة الجوفاء، وفي هذا المعنى يقول ابن التعاويذي:
سقى دار الحبيب وإن تناءت
ملث مثل أجفاني هطول
ولا برحت تسحب للغوادي
وطورا للصبا فيها ذيول
فجفني والغمام لها غدير
وقلبي والنسيم بها عليل
وعنفني على العبرات صحبي
عشية قوض الحي الحلول
وقالوا استبق للأحباب دمعا
فقد شرقت بأدمعك الطلول
معاذ الحب أن ألقى حمولا
وقد سارت بمن أهوى الجمود
وعار أن تزم ليوم بين
جمالهم ولي صبر جميل
ومن الشعراء من يجعل الحنين إلى الوطن كناية عن الحنين إلى ليالي الشباب التي قضاها بمرأى من كواكبه السواطع، ونجومه اللوامع. وقد نوه بذلك صاحب زهر الآداب فذكر أن ابن الرومي جاء إلى علي بن عبد الكريم النصيبي وأنشده هذه القطعة البديعة:
ولي وطن آليت أن لا أبيعه
وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
عمرت به شرخ الشباب منعما
بصحبة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرت لهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فقد ألقته النفس حتى كأنه
لها جسد إن بان غودر هالكا
ثم قال: أنصفني وقل الحق. أيهما أحسن؟ قولي في الوطن أم قول الأعرابي:
أحب بلاد الله ما بين منعج
إلي وسلمى لا يصوب سحابها
بلاد بها نيطت على تمائمي
وأول أرض مس جسمي ترابها
فقال له: بل قولك أحسن، لأنه ذكر الوطن ومحبته، وأنت ذكرت العلة التي أوجبت ذلك! وقد يشعر القارئ بالحاجة إلى معرفة المخاطب في قول ابن الرومي:
عمرت به شرخ الشباب منعما
بصحبة قوم أصبحوا في ظلالكا
وخلاصة الحديث أن القطعة التي نقلناها من شعر ابن الرومي عن الوطن هي جزء من قصيدة قدمها إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر يستعديه على رجل من التجار أجبره على بيع داره واغتصبه بعض جدرانها، فمما فيها من التحريض قوله:
وإني وإن أضحي مدلا بماله
لآمل أن أضحي مدلا بمالكا
فإن لم تصبني من يمينك نعمة
فلا تخطئنه نقمة من شمالكا
فكم لقي العافون بدءا وعودة
نوالك والعادون غمر نكالكا
وقال ابن الرومي من كلمة أخرى يتشوق إلى بغداد:
بلد صحبت به الشبيبة والصبا
ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته
وعليه أغصان الشباب تميد
والأدباء يرون أن مثل هذا الشعر ليس بكاء على الوطن، ولا بكاء على اللهو، ولكنه بكاء على الشباب، ويذكرون قول ابن الرومي من كلمة ثانية:
لا تلح من يبكي شبيبته
إلا إذا لم يبكها بدم
عيب الشبيبة غول سكرتها
ومدار ما فيها من النعم
لسنا نراها حق رؤيتها
إلا أوان الشيب والهرم
كالشمس لا تبدو فضيلتها
حتى تغشى الأرض بالظلم
ولرب شيء لا يسر به
وجدانه إلا مع العدم
والذين يؤولون شعر ابن الرومي هذا التأويل يرون أنه تبع في وصف الوطن بشار بن برد حين يقول:
متى تعرف الدار التي بان أهلها
بسعدى فإن العهد منك قريب
تذكرك الأهواء إذ أنت يافع
لديها فمغناها إليك حبيب
ولعلنا لا نبالغ إذا ذكرنا هؤلاء بأن بكاء الشباب ليس إلا بكاء لما انقطع بعده من دواعي الطيش، وموجبات الجنون، فبعض العقل رزء، وبعض الوقار بلاء، ولكن أكثر الناس لا يفقهون!
ولقد سافر العباس بن الأحنف مع هارون الرشيد إلى خراسان فاستدعاه ليلة لينشده شيئا من الشعر، فأنشده هذه الأبيات:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا
ثم القفول فقد جئنا خراسانا
مضى الذي كنت أرجوه وآمله
أما الذي كنت أخشاه فقد كانا
ما أقدر الله أن يدني على شحط
سكان دجلة من سكان جيحانا
فقال له: لقد اشتقت يا عباس! فأجابه، نعم يا أمير المؤمنين! فأذن له بالرجوع ... وقال ابن ميادة يخاطب الوليد بن يزيد:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بحرة ليلى حيث رببني أهلي
بلاد بها نيطت علي تمائمي
وقطعن عني حين أدركني عقلي
فإن كنت عن تلك المواطن مانعي
فاقتر علي الرزق واجمع بها شملي
وهذا البيت من أرق ما قيل في الحنين إلى الأوطان! وما أدري أكان شوق ابن ميادة إلى بلاده رفقا بالأهل والعشيرة، أم كان برا بمن فيها من فاتنات الخدود، وساحرات العيون، وقاسيات القلوب؟ لا يعلم ذلك إلا الذي يقول:
ومن بينات الحب أن كان أهلها
أحب إلى قلبي وعيني من أهلي
وقال مالك ابن الريب يتشوق إلى اليمامة ونسيمها العليل:
سقى الله اليمامة من بلاد
نوافجها كأرواح الغواني
2
وجو أزاهر للريح فيه
نسيم لا يروع الترب واني
به سقت الشباب إلى مشيب
يقبح عندنا حسن الزمان
وقال بعض الأعراب في توديع نجد، وما لقي بها من نضارة العيش، وطيب الحياة:
أقول لصاحبي والعيس تهوي
بنا بين المنيفة فالضمار
تمتع من شميم عرار نجد
فما بعد العشية من عرار
ألا يا حبذا نفحات نجد
وريا روضه بعد القطار
وأهلك إذ يحل الحي نجدا
وأنت على زمانك غير زار
3
شهور ينقضين وما شعرنا
بأنصاف لهن ولا سرار
وهذا حنين يذل له عصي الدمع. ويشبهه قول ابن المعتز في دار كانت ملعب صباه:
لا مثل منزلة الدويرة منزل
يا دار جادك وابل وسقاك
بؤسا لدهر غيرتك صروفه
لم يمح من قلبي الهوى ومحاك
لم يحل للعينين بعدك منظر
ذم المنازل كلهن سواك
أي المعاهد منك أندب طيبة
ممساك بالآصال أم مغداك
أم برد ظلك ذي الغصون وذي الجنى
أم أرضك الميثاء أم رياك
وكأنما سعطت مجامر عنبر
أو فت فار المسك فوق ثراك
وكأنما حصباء أرضك جوهر
وكأن ماء الورد دمع نداك
وكأنما أيدي الربيع ضحية
نشرت ثياب الوشي فوق رباك
وكأن درعا مفرغا من فضة
ماء الغدير جرت عليه صباك
ومما يقرب من بكاء الديار ذكر منازل اللهو والقصف، وقد كان الشعراء يتخذون الأديار موطنا لعبث الصبا ولعب الشباب، ولكثير منهم حنين موجع إلى سكانها من ظرفاء الرهبان، وربما عدنا إلى بسط ذلك في غير هذا الحديث، ونكتفي الآن بنفثات العشاق في التغني بمنازل الشراب. فمن ذلك قول محمد بن عاصم المصري في دير القصير، وقد كان ملعبا للشعراء المصريين:
إن دير القصير هاج أذكاري
لهو أيامنا الحسان القصار
وزمانا مضى حميدا سريعا
وشبابا مثل الرداء المعار
ولو ان الديار تشكو اشتياقا
لشكت جفوتي وبعد مزاري
ولكادت تسير نحوي لما قد
كنت فيها سيرت من أشعاري
وكأني إذ زرته بعد هجر
لم يكن من منازلي ودياري
إذ صعودي على الجياد إليه
وانحداري في المعتقات الجواري
بصقور إلى الدماء صواد
وكلاب على الوحوش ضواري
منزلا لست محصيا ما لقلبي
ولنفسي فيه من الأوطار
كم شربنا على التصاوير فيه
بصغار محثوثة وكبار
صورة في مصور فيه ظلت
فتنة للقلوب والأبصار
أطربتنا بغير شدو فأغنت
عن سماع العيدان والمزمار
لا وحسن العينين والشفة اللم
ياء منها وحدها الجلنار
لا تخلفت عن مرادي دهرا
هي منه ولو نأى بي مزاري
وفي دير القصير هذا يقول كشاجم:
سلام على دير القصير وسفحه
فجنات حلوان إلى النخلات
منازل كانت لي بهن مآرب
وكن مواخيري ومنتزهاتي
إذا جئتها كان الجياد مراكبي
ومنصرفي في السفن منحدرات
ومن الأديار التي خلدها الشعراء «دير قنا» بالقرب من بغداد، وقد أبدع في وصفه المؤرخون، ثم طواه الدهر فيما طوى من ملاعب الشباب، ولم يبق غير ذكراه في قول ابن جمهور:
يا منزل اللهو بدير قنا
قلبي إلى ذلك الربى قد حنا
سقيا لأيامك لما كنا
نمتاز منك لذة وحسنا
أيام لا أنعم عيشا منا
إذا انتشينا وصحونا عدنا
إذا فنى دن بزلنا دنا
حتى يظن أننا جننا
ومسعد في كل ما أردنا
يحكي لنا الغصن الرطيب اللدنا
أحسن خلق الله إذ تحنا
وجس زير عوده وغنا
بالله يا قسيس يا باقنا
4
متى رأيت الرشأ الأغنا
متى رأيت فتنتي تجنى
آه إذا ما ماس أو تثنى
أسأت إذا أحسنت فينا الظنا!
ومن الشعراء من تهيج حفيظته على قطر فيتغنى بقطر آخر كان ملعب هواه، كما قال السري الرفاء يمدح الموصل ويذم العراق:
لحا الله العراق وساكنيه
فما للحر بينهم قرار
وجاد الموصل المبيض غيث
يجود وللبروق به انسفار
كما انهلت مدامع مستهام
تلهب منه في الأحشاء نار
ففي أيامه حسن التصابي
وفي أفيائه خلع العذار
ليالي كان لي في كل يوم
إلى الحانات حج واعتمار
فعن ذكر القيامة بي صدود
وعن ساح المساجد بي نفار
ولى خدنان همهما المعالي
وشأنهما السكينة والوقار
وساق تضحك الدنيا إليه
إذا ضحكت بكفيه العقار
يطوف بها وقد حملت حبابا
كما حمل السقيط الجلنار
5
كأن الشرب ينتهبون نارا
لها لهب وليس لها شرار
رأى الدهر اجتماع الشمل منا
فبدده وللدهر الخيار
إلى هنا وقف القارئ على نماذج في بكاء الديار الخالية، والحنين إلى الوطن النائي، والشوق إلى مواطن اللهو والشراب، فلنذكر شكوى العشاق من المنزل القريب المأهول، حين يصبح أهله كالكواكب قريبة الضوء، بعيدة المنال! وحين يصبح تمنع الحبيب أقسى من النوى، وأمر من الفراق. وأبدع الشعر في ذلك قول راشد بن إسحاق الكوفي:
ومستوحش لم يمس في دار غربة
ولكنه ممن يحب غريب
طواه الهوى واستشعر الوصل غيره
فشطت نواه والمزار قريب
سلام على الدار التي لا أزورها
وإن حلها شخص إلي حبيب
وإن حجبت عن ناظري ستورها
هوى تحسن الدنيا به وتطيب
هوى تضحك اللذات عند حضوره
ويسخن طرف اللهو حين يغيب
تثنى به الأعطاف حتى كأنه
إذا اهتز من تحت الثياب قضيب
ألم تر صمتي حين يجري حديثه
وقد كنت أدعى باسمه فأجيب
رضيت بسعي الدهر بيني وبينه
وإن لم يكن للعين فيه نصيب
أحاذر إن واصلته أن ينالني
وإياه سهم للفراق مصيب
أرى دون من أهوى عيونا تريبني
ولا شك أني عندهن مريب
أداري جليسي بالتجلد في الهوى
ولي حين أخلو زفرة ونحيب
وأخبر عنه بالذي لا أحبه
فيضحك سني والفؤاد كئيب
مخافة أن تغرى بنا ألسن العدا
فيطمع فينا كاشح فيعيب
كأن مجال الطرف في كل ناظر
على حركات العاشقين رقيب
أرى خطرات الشوق يبكين ذا الهوى
ويصبين عقل المرء وهو لبيب
وكم قد أذل الحب من متمنع
فأضحى وثوب العز منه سليب
وإن خضوع النفس في طلب الهوى
لأمر إذا فكرت فيه عجيب
وقد نقل صاحب زهر الآداب عن أبي شراعة القيسي أنه كان في مجلس العتبي مع عبد الصمد بن المعذل، وأنهم تذاكروا ما أبدع المولدون من الشعر الرقيق فقال عبد الصمد أنا في ذلك أشعر الناس؟ فقال أبو شراعة أشعر منك الذي يقول:
ومستوحش لم يمس في دار غربة
ولكنه ممن يحب غريب
إلى آخر القصيدة. وإن عبد الصمد حين سمعها لم ينطق بحرف! وعندي أن صاحب هذه القصيدة لم يوفق في وصف مشاعره وصفا منظما يصح أن يكون «صورة شعرية» بل نراه جمع بين أشياء متنافرة حظها من الائتلاف قليل؛ ألا تراه يذكر في أول القصيدة أنه قريب، ولكنه في قربه غريب؛ لأن إنسانا غيره يتمتع بذلك الحبيب؟ ثم ألا تراه بعد ذلك يذكر أنه يحاذر الوصل طائعا لئلا يصيبه ويصيب من يهواه سهم الفراق؟ وهذا بالطبع شطط في تصوير النفس المعذبة، لأن الذي يتصور أن محبوبه قد يطوق بذراع عاشق غيره لا يتغنى بأنه يترك مواصلته اتقاء لعيون الوشاة!
ينقص هذه القصيدة إذن ما أسميه «الصورة الشعرية» ولا يمنع هذا أن تكون في جملتها جميلة لما تحويه من الأبيات المختارة، ولئن صح أن العتبي صادق على أن صاحبها أشعر الناس فإنا نشك في أذواق الأدباء الأقدمين ونرتاب في حاستهم الفنية، وأحب أن يفهم بعض الناس معنى «الحاسة الفنية» فإن كثيرا من أدعياء الأدب لا يفقهون ما يقولون وما يكتبون، فضلا عن أن يفقهوا ما تناثر على بساط الدهر من ثمرات العقول!
وأمثال هؤلاء يعرفون فقط ما يسمع أو يرى أو يلمس أو يشم أو يذاق! ولكنهم لا يعرفون ما يدرك، إذ لم يرزقوا الإدراك! ومحال أن يجدوا طعما لقول الشاعر:
أسمع في قلبي دبيب المنى
وألمس الشبهة في خاطري
لأنهم لا يدرون أين تكون الخواطر، وأين تكون القلوب! من أجل هذا أشير على طالب الأدب بأن يتروى ويتريث حين يقرأ آثار الكتاب والشعراء، وأن لا يعتمد في اختياره على الأذواق العامة لعلماء البيان، فقد غفل الدهر عن كثير من المتصدرين فظنوا أنهم على شيء، وأن الأدب لحياتهم مدين!
وقد يمر العاشق ببيت من يهوى ثم لا يملك التحية، لأن الوشاة له بالمرصاد. فمن ذلك قول السري الرفاء:
مررنا بالعقيق فكم عقيق
ترقرق في محاجرنا فذابا
ومن مغنى جعلنا الشوق فيه
سؤالا والدموع له جوابا
وفي الكلل التي غابت شموس
إذا شهدت ظلام الليل غابا
حملت لهن أعباء التصابي
ولم أحمل من السلوان عابا
ولو بعدت قبابك قاب قوس
من الواشين حييت القبابا
إلى هنا عرف القارئ ألوان العواطف عند منازل الأحباب، فقد رأى نفثات المحبين عند الديار الخالية، وشهد بكاءهم على الوطن النائي، وحنينهم إلى مواطن اللهو والشراب، ثم رأى زفراتهم عند المنزل يدنو وهو بعيد، لنفور ما فيه من الظباء! ويجمع شتيت هذه المعاني قول بعض الأعراب:
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع
إذا كان من تهواه ليس بذي عهد
وربما عدنا إلى تفصيل هذه النوازع القلبية، حين نتحدث عن آراء الشعراء في أفنان الجمال.
وشاية الدموع
من العشاق من يؤثر الكتمان: فهو يخشى أن تفضحه الدموع! وأشهر الشعراء في إخفاء الحب العباس بن الأحنف، وسنبسط الكلام عن مذهبه حين نتكلم عن الكتمان، ونكتفي الآن بشعره عن قهره بالدموع، وقد رأيته يتوجع حينا من عجزه عن كتم الحب وقد غلبه الدمع، فيقول:
هبوني أغض إذا ما بدت
وأملك طرفي فلا أنظر
فكيف استتاري إذا ما الدمو
ع نطقن فبحن بما أضمر
أمني تخاف انتشار الحديث
وحظي في صونه أوفر
ولو لم يكن في بقيا عليك
نظرت لنفسي كما تنظر
ويغضب حينا على دمع عينيه فيقول:
لا جزى الله دمع عيني خيرا
وجزى الله كل خير لساني
نم دمعي فليس يكتم شيئا
ورأيت اللسان ذا كتمان
كنت مثل الكتاب أخفاه طي
فاستدلوا عليه بالعنوان
ويبالغ في هذا المعنى حتى ليرمي قلبه بالعداوة، فيقول:
قلبي إلى ما ضرني داعي
يكثر أسقامي وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا
كان عدوي بين أضلاعي
ومن الشعراء من ييأس من كتم الهوى حين تنهمر الدموع، كما يقول البحتري:
علاقة حب كنت أكتم بثها
إلى أن أذاعتها الدموع الهوامع
إذا العين راحت وهي عين على الجوى
فليس بسر ما تسر الأضالع
وقد أفصح الأرجاني عن غاية ذلك: وهي نصر الوشاة، بقوله:
ولي نفس إذ ما امتد شوقا
أطار القلب من حرق شظايا
ودمع ينصر الواشين ظلما
ويظهر من سرائري الخبايا
وأكرم من هؤلاء جميعا الشريف الرضي حين يقول:
أيسمح جفني بالدموع وأغتدي
ضنينا بها إني إذن للئيم
ولو بخلت عيني إذن لعتبتها
فكيف ودمع الناظرين كريم
وقد نظر أبو نواس إلى قول بشار بن برد:
يروعه السرار بكل شيء
مخافة أن يكون به السرار
ثم حاكاه بهذه الأبيات في نميمة الدمع:
قد تسترت بالسكون وبالإط
راق جهدي فنمت العينان
تركتني الدموع نصب المشيري
ن وأحدوثة بكل مكان
ما أرى خاليين للسر إلا
قلت ما يخلوان إلا بشاني
وهي صورة شعرية، تمثل العاشق المروع أصدق تمثيل.
ومن المحبين من تنم عليه دموعه الغزار، وأنفاسه الحرار، كالبحتري حين يقول:
إن الخطوب طوينني ونشرنني
عبث الوليد بجانب القرطاس
ما شبت من طول السنين وإنما
طول الملامة فيك شيب راسي
نمت على ما في ضميري أدمعي
وتتابع الصعداء من أنفاسي
ومن رائع الشعر في فضيحة الدمع لصاحبه قول مهيار:
طرحت بجمع نظرة ساء كسبها
وتبعث شرا للعيون المطارح
فإن سترت تلك الثلاث على منى
هواي فيوم النفر لا شك فاضح
بكيت ولام العاذلات فلم تغض
على رقية العذل الدموع السوافح
وأحب أن يتأمل القارئ قوله: «نظرت بجمع نظرة ساء كسبها» ليعرف كيف يسوء كسب العيون، حين تجني على القلوب!
سلطان الحب
سألنا حضرة الشيخ محمد علي الخالدي عن الحب: اختياري هو أم اضطراري وهل المحب مضطر أم مختار؟ وقد اختلف الناس من قبل في هذه المسألة، وأوضحها ابن أبي حجلة في كتاب «ديوان الصبابة» وأنا ناقل هنا نبذة من ذلك الكتاب الذي انتهى منه مؤلفه في منتصف القرن الثامن الهجري، لأنه يمثل لنا رأي علماء ذلك العصر في مثل هذه الشئون. قال ابن أبي حجلة في سذاجة غريبة ما نصه:
هذا فصل عقدناه لما تقدم ذكره، وأسفر كالصباح أمره، إذ للناس فيه كلام من الطرفين، وتبختر من الصفين، فقائل بأنه اضطراري، وقائل بأنه اختياري، ولكل من القولين وجه مليح، وقدر رجيح، ونحن نذكر من ذلك ما يعم به الانتفاع، ونتكلم في طوله وعرضه بالباع والذراع! فمن ذلك ما قاله القاضي أبو عمرو النوناني في كتابه تحفة الظراف: العشاق معذورون على كل حال: مغفور لهم في جميع الأقوال والأفعال؛ إذ العشق إنما دعاهم على غير اختيار، بل اعتراهم على جبر واضطرار، والمرء إنما يلام على ما يستطيع من الأمور، لا في المقضي عليه والمقدور. وقد جاء في الحديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أن الحامل كانت ترى يوسف عليه السلام فتضع حملها. فكيف تراها وضعته؟ أباختيار منها كان ذلك أم باضطرار؟ لا، بل باضطرار، وفقد اقتدار. وهذا مما لا يشك فيه ذو لب ، ولا يختلج خلافه في قلب.
ثم نقل عن الفضيل بن عياض أنه قال: لو رزقني الله دعوة مجابة لدعوت الله بها أن يغفر للعشاق لأن حركاتهم اضطرارية. ونقل عن أبي محمد بن حزم أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين، إني رأيت امرأة فعشقتها. فقال عمر: ذلك مما لا يملك. قال: وما أحسن قول بعض بني عذرة وقد قال له بعض العرب: ما لأحدكم يموت عشقا في هوى امرأة يألفها؟ إنما ذلك ضعف نفس، ورقة، وخور، تجدونه فيكم يا بني عذرة. فقال: أما والله لو رأيتم الحواجب الزج، فوق النواظر الدعج، تحتها المباسم الفلج، لاتخذتموها اللات والعزى!
ثم قال بعد كلام طويل: إن العشق يختلف باختلاف بني آدم وما جبلوا عليه من اللطافة ورقة الحاشية، وغلظ الكبد، وقساوة القلب، ونفور الطباع، وغير ذلك. فمنهم من إذا رأى الصورة الحسنة مات من شدة ما يرد على قلبه من الدهش، ومنهم من إذا رأى المليح سقط من قامته، ولم يعرف نعله من عمامته - العاقبة عندكم يا شيخ محمد! ثم قال: فهذا وأمثاله عشقه اضطراري، والمخالفة فيه مكابرة في المحسوس.
والذي أراه أن المحب مضطر غير مختار، وما ذكرت هذه التفاصيل إلا ترويحا للنفس. أما الشعر في سلطان الحب فكثير. فمن الشعراء من يجعله سحرا كالطغرائي حين يقول:
إن لم يكن سحرا هواك فإنه
والسحر قدا من أديم واحد
ما زلت أزهد في مودة راغب
حتى ابتليت برغبة في زاهد
ولربما نال المراد مرفه
لم يسع فيه وخاب سعي الجاهد
هذا هو الداء الذي ضاقت به
حيل الطبيب وطال يأس العائد
ومنهم من يذكر أنه قتل نفسه غير متعمد كقول مهيار:
وعنفني سعد على فرط ما أرى
فقلت أتعنيف ولم تك مسعدي
وما ذاك إلا أن عجلت بنظرة
قتلت بها نفسي ولم أتعمد
ومنهم من يرى الحب يصب على القلب كالقضاء المحتوم لا مرد له كقول المتنبي:
أيدري الربع أي دم أراقا
وأي قلوب هذا الركب شاقا
لنا ولأهله أبدا قلوب
تلاقى في جسوم ما تلاقى
فليت هوى الأحبة كان عدلا
فحمل كل قلب ما أطاقا
ومنهم من يجعله قضاء من الله، كقول عمرو بن ربيعة الرقاشي:
تضيق جفون العين عن عبراتها
فتسفحها بعد التجلد والصبر
وغصة صدر أظهرتها فرفهت
حزازة حر في الجوانح والصدر
ألا ليقل من شاء ما شاء إنما
يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
قضى الله حب المالكية فاصطبر
عليه فقد تجري الأمور على قدر
ويدخل في هذا الباب خلود الحب. فمن الشعراء من يجعل سببه خلود المحاسن في الحبيب، كقول ابن الرومي:
هل الملالة إلا منقضى وطر
من متعة يطبى من غيرها وطر
وفيك أحسن ما تسمو النفوس له
فأين يرغب عنك السمع والبصر
وكما قال ابن عنين:
خبروها بأنه ما تصدى
لسلو عنها ولو مات صدا
واسألوها في زورة من خيال
إن تكن لم تجد من الهجر بدا
ظبية تخجل الغزالة وجها
وبهاء وتفضح الغصن قدا
وكما قال أبو الأسود الدؤلي:
أبى القلب إلا أم عمرو وحبها
عجوزا ومن يحبب عجوزا يفند
كبرد اليماني قد تقادم عهده
ورقعته ما شئت في العين واليد
وهو رأي منتقد: فكل زهر إلى ذبول، وكل جمر إلى خمود، وكل حسن إلى فناء، ولا خلود للحب إذا كان داعيه الحسن الفاني والجمال الزائل.
ومنهم من يجعل السبب في خلود الحب كثرة دواعيه، كقول صردر:
ولقد عرضت على السلو جوانحي ال
حرى فلم يرهن دار مقام
كيف السلو وليس يسلك مسمعي
إلا حنين أو بكاء حمام
وكما قال ابن الزيات:
لم يزدني العذل إلا ولعا
ضرني أكثر مما نفعا
ذهبت بالقلب عين نظرت
ليتها كانت وإياه معا
كل يوم لي منها آفة
تركتني للهوى متبعا
وكما قال ابن التعاويذي:
يلوم عليك خال من غرامي
رويدك أين سمعي والملام
سلو مثل عطفك لا يرجى
وصبر مثل وصلك لا يرام
فكيف أطيع عذالي وعندي
هموم قد سهرت لها وناموا
وهذا أيضا منتقد، فإن أمثال هؤلاء الشعراء ينسون الحب إذا نفدت دواعيه!
ومنهم من يجعل السبب في خلود الحب تغلغل الوجد في الأحشاء، كما قال الأبيوردي:
أرى كل حب غير حبك زائلا
وكل فؤاد غير قلبي ساليا
إذا استخبر الواشون عما أسره
حمدت سلوي أو ذممت التصابيا
أيذهل قلب أنت سر ضميره
فلا كان يوما عنك يا علو ساليا
وكما قال الغزي:
يا خليلي لو ملكت فؤادي
جاز أن يملك الصواب عناني
ظالمي من أراد إنصاف نفسي
من هواها وآمري من نهاني
قد تورطت في تعسف شوقي
حيث لا يعرف السلو مكاني
وكما قال الطغرائي:
خليلي هل من مسعد أو معالج
فؤادا به داء من الحب ناكس
وهل ترجوان البرء مما أكنه
فإني وبيت الله منه لآيس
هوى لا يديل القرب منه ولا النوى
ولا هو من طول التقادم دارس
سرى حيث لا يدري الضمير مكانه
ولا تهتدي يوما إليه الهواجس
إذا قلت هذا يوم أسلو تراجعت
عقابيل من استقامه ووساوس
وأرجو أن لا يغفل القارئ عما في هذا الشعر من فنون الجمال.
هناك مذهب رابع يجعل خلود الحب مواتاة للطبع، ونزولا عند حكم الخليقة، وهو أجمل المذاهب، ومنه قول التعاويذي:
من بات ذا قلب سلي
م من جوى فأنا السليم
1
مالي إذا رمت السلو
تلوم القلب المليم
2
وإذا كتمت الحب با
ح بسره دمع نموم
عيني وقلبي في الهوى
عون علي فمن ألوم
وأظهر منه قول المتنبي:
إلام طماعية العاذل
ولا رأي في الحب للعاقل
يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل
وهبت السلو لمن لامني
وبت من الشوق في شاغل
ولا أنكر أن من الشعراء من يرى غير ما ذهبت إليه في هذا الحديث، ولكني أرى الحب الصادق حليف الخلود، وقد أوضحت هذه المسألة في كتاب «حب ابن أبي ربيعة وشعره» فليرجع إليه من شاء.
غرام النساء بالنساء
سألني حضرة محمد شهيب عبد الناصر بديروط، عما قالته الغواني في غرامها وحنينها إلى بنات جنسها، إن كان هناك شيء من ذلك، بمناسبة ما حدث في برلين من غرام المسز كلين بالمسز ويب ، وما جنت يداهما في سبيل هذا الحب الغريب!
وآسف كثيرا أيها الأديب لاستحالة الجواب بالتفصيل في صحيفة سيارة: فقد درج الناس هنا على تفضيل الجهل في سبيل الوقار! ويكفي أن ألفت نظرك إلى حديث مسطور في كتب الأدب جاءت فيه هذه العبارة: «هذا شيء يحتاج إلى حبال ورجال!» وإلى ذوقك يترك تقدير الظروف لأمثال هذه الوقائع، وقد جاء في كلام رسول الله النهي عن «السحاق» كما جاء في القرآن النهي عن الزنا، والفرق واضح بين الكلمتين في اللفظ والمدلول، والمطلع على آداب الفرنسويين يجد في اعترافات النساء عجائب وغرائب تعجز عن مثلها الشياطين! والآداب العربية مملوءة بأمثال هذه الأعاجيب. والناس هم الناس في كل قطر وفي كل جيل، فلا تصدق ما تسمع من أن الإسراف في المجانة بدعة ابتدعها نساء برلين! وعندي أن آفة المصلحين في الشرق هي جهلهم بدقائق الحياة الإنسانية، وإغفالهم الركن الأساسي للإصلاح، وهو تشخيص الداء قبل وصف الدواء، وإقدام كثير منهم على الأمر بما لا يأتمر به والنهي عما لا ينتهي عنه، ومن البلية أن يكون المصلحون منافقين!
ألم نصف الآداب الغربية بالإسراف في وصف النساء؟ لقد جعلنا ذلك سيئة لا تقبل الغفران، ولكنها في رأيي من الحسنات، إذ كان الواجب على كل مصلح أن يقوي ما بين الرجل والمرأة من الميول الطبيعية، حتى لا نشكو غرام المرأة بالمرأة، وحب الرجال للغلمان!
اقرءوا هذا وتأملوه قبل أن تصدعوا رءوسنا بالدعوة إلى الفضيلة من حيث لا تعلمون!
وبعد ذلك ألفت نظر قراء «مدامع العشاق» إلى أن شعر النساء في الحب قليل؛ فقد كان العرب يستنكرون أن تعشق المرأة، وكان الرجل منهم يذوب خجلا إذا قالت إحدى قريباته بيتا واحدا في غلام جميل، وقد ثأر طويس المغني لنفسه من عبد الرحمن بن حسان بن ثابت حين غناه شعر عمته قارعة بنت ثابت في عبد الرحمن بن الحارث المخزومي:
يا خليلي نابني سهدي
لم تنم عيني ولم تكد
فشرابي ما أسيغ وما
أشتكي ما بي إلى أحد
كيف تلحوني على رجل
آنس تلتذه كبدي
مثل ضوء البدر طلعته
ليس بالزميلة النكد
نظرت عيني فلا نظرت
بعده عيني إلى أحد
وحديث علية بنت المهدي معروف، فقد حرم عليها أخوها هارون الرشيد أن تشبب بغلامها طل، فكان من نتيجة ذلك أن تشببت بجاريتها زينب وقالت فيها:
وجد الفؤاد بزينبا
وجدا شديدا متعبا
وهو شعر سخيف، ولكنه يدل على أن عشق المرأة كان مما تسيغه النفوس في ذلك العهد. وليس معنى ذلك أننا ننكر أن زينب هنا كناية عن طل، ولكن معناه أن تشبيب علية بزينب كان حيلة سائغة لستر هواها الصحيح، ولم نر في الكتب الأدبية من أنكر على علية هذا الميل الذي أنكرناه اليوم على نساء الألمان! وهناك أبيات لفضل الشاعرة قالتها في «قبيحة» جارية المتوكل!
سلافة كالقمر الباهر
في قدح كالكوكب الزاهر
يديرها خشف كبدر الدجى
فوق قضيب أهيف ناضر
1
ولا مرية في أن العرب قتلوا عواطف المرأة، وحرموها من التشبيب، ولهم في ذلك عذر مقبول، فإن الغيرة لم توجد، ولن توجد، في مثل النفوس العربية، والعرب بطبيعتهم عمالقة يكرهون الشريك، أو شبه الشريك، ويأبون أن يسمعوا حديث المرأة عن هواها المشبوب بل يغارون من تحدث الرجل عن هواه، حتى ليقول شاعرهم:
لم ألق ذا شجن يبوح بحبه
إلا حسبتك ذلك المحبوبا
حذرا عليك وإنني بك واثق
أن لا ينال سواي منك نصيبا
وإذا عز على المرأة أن تقول شعرا في الرجل، فإنه يعز عليها من باب أولى أن تقول شعرا في أختها المرأة، فضلا عن بعد ذلك من الحاجة الطبيعية، فإن «هذه الشهوة» تعتبر فضولا في باب الشهوات!
والحق أننا حرمنا خيرا كثيرا حين حرمنا شعر النساء، انظر إلى قول فضل في حبيب حرمها طيب الرقاد:
إن من يملك رقي
مالك رق الرقاب
لم يكن يا أحسن العا
لم هذا في حسابي
وتأمل ما غنته عبيدة الطنبورية:
كن لي شفيعا إليكا
إن خف ذاك عليكا
وأعفني من سؤالي
سواك ما في يديكا
يا من أعز وأهوى
ما لي أهون لديكا
إننا نشتهى أن تتكلم المرأة، إننا نحب أن نسمع حديثها العذب الجميل، ولكنهم يزعمون أن كلام المرأة فسق، وأن حديثها فجور، فيا ليت شعري متى يفقهون؟!
طيف الخيال
من الشعراء من يصف الحسرة التي تودي برشده حين تحرمه اليقظة من الاستمتاع بالطيف، كالذي يقول:
وزارني طيف من أهوى على حذر
من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا
فكدت أوقظ من حولي به فرحا
وكاد يهتك ستر الحب بي شغفا
ثم انتبهت وآمالي تكذبني
نيل المنى فاستحالت غبطتي أسفا
ومنهم من يذكر العلة في طروق الطيف، والسبب في زيارة الخيال، كقول أبي تمام:
زار الخيال لها لا بل أزاركه
فكر إذا نام فكر الخلق لم ينم
ظبي تقنصته لما نصبت له
في آخر الليل أشراكا من الحلم
وقوله من كلمة ثانية:
استزارته فكرتي في المنام
فأتانا في خفية واكتتام
يا لها ليلة تنزهت الأر
واح فيها سرا من الأجسام
مجلس لم يكن لنا فيه عيب
غير أنا في دعوة الأحلام
وكقول عبد الصمد بن المعذل:
وصل النوم بيننا بعد هجر
فاجتمعنا ونحن مفترقان
غير أن الأرواح خافت رقيبا
فطوت سرها عن الأبدان
منظر كان لذة القلب إلا
أنه منظر بغير عيان
فالعلة عند أبي تمام في طروق الخيال إنما هي احتيال فكره، ونصبه أشراكا من الحلم. والسبب في زيارة الطيف عند ابن المعذل هو النوم، مع إبداعه في طي الأرواح سرها عن الأبدان، خوفا من الرقباء!
وهناك فكرة لابن العفيف ألطف من هاتين وأطرف: وهي أن الحبيب سطع نوره وعم، حتى شمل النائمين، وتجلى لأعينهم، على بعدهم منه، ونأيهم عنه. وله في هذه الفكرة البديعة هاته الأبيات الحسان:
يا حبذا طيفك من قادم
يا أحسن العالم في العالم
طيف تجلى نوره ساطعا
حتى رأته مقلة النائم
يا غائبا يحكم في مهجتي
علي طالت غيبة الحاكم
عار على حسنك أن يشتكي
حظي منه أنه ظالمي
والبحتري على شهرته بالخيال، لم يكن ممن يعنون بذكر السبب في قدومه، والعلة في طروقه، وإنما يجيد في وصفه انعطافه، وانصرافه، كقوله:
سقى الغيث أجراعا عهدت بجوها
غزالا تراعيه الجآذر أغيدا
إذا ما الكرى أهدى إلي خياله
شفى قربه التبريح أو نقع الصدى
إذا انتزعته من يدي انتباهة
عددت حبيبا راح منى أو غدا
فلم أر مثلينا ولا مثل شأننا
نعذب أيقاظا وننعم هجدا
ومن بديع الشعر في ذهاب الخيال قوله:
ألمت بنا بعد الهدوء فسامحت
بوصل متى نطلبه في الجد تمنع
وولت كأن البين يخلج شخصها
أو أن تولت من حشاي وأضلعي
وهو غاية في الإبانة عن اللهفة، والإفصاح عن الحسرة!
ومن الشعراء من يحمد للطيف سماحه بالنعيم المباح، كقول بشار:
ولقد تعرض لي خيالكم
في القرط والخلخال واللب
فشربت غير مباشر حرجا
برضاب أشنب بارد عذب
وكقول المتنبي فيما يقرب من هذا المعنى:
بتنا يناولنا المدام بكفه
من ليس يخطر أن نراه بباله
تجنى الكواكب من قلائد جيده
وتنال عين الشمس من خلخاله
وقد نص البحتري على ما ذكرناه من النعيم المباح بقوله:
وما نلتقي إلا على حلم هاجد
يحل لنا جدواك وهي حرام
إذا ما تبادلنا النفائس خلتنا
من الجد أيقاظا ونحن نيام
وألم به في قوله:
بنفسي خيالا من أثيلة كلما
تأوهت من وجدي تعرض يطمع
ترى مقلتي ما لا ترى من لقائه
وتسمع أذني رجع ما ليس تسمع
خيال البحتري
وقد يكون من الوفاء لتاريخ الآداب أن نذكر كيف اشتهر البحتري بالخيال حتى قالوا (خيال البحتري) وضربوا به الأمثال. وقد تأملت هذه الشهرة فوجدتها ترجع إلى ترديده لزيارة الطيف في غير ضعف ولا فضول: فتارة يصف الخيال بالكرم وقد ضن المحبوب، والقرب وقد شطت ديار الحبائب، حتى ليبعث الهوى من جديد، كقوله:
وقفنا فلا الأطلال ردت إجابة
ولا العذل أجدى في المشوق المخاطب
تمادت عقابيل الهوى وتطاولت
لجاجة معتوب عليه وعاتب
إذا قلت قضيت الصبابة ردها
خيال ملم من حبيب بجانب
يجود وقد ضن الألى شغفي بهم
ويدنو وقد شطت ديار الحبائب
وتارة يذكر أن الطيف ألم به في الظلام فلم يجد مكانا يأوي إليه، لأن الكرى طردته الدموع، كقوله:
تلك البخيلة ما وصلي بمنصرف
عنها ولا صدها عني بمصدود
ألم بي طيفها وهنا فأعوزه
عندي وجود كرى بالدمع مطرود
وأحب لو تأمل القارئ وصفه لحبيبته بالبخل، وعفا الله عن هؤلاء البخلاء.
ومما امتاز به البحتري شكواه هجر الخيال، وقد أكثر من ذلك حين حرم من غلامه نسيم، ولغلامه هذا قصة عجيبة؛ فقد ذكروا أنه كان يبيعه، ثم تطير نفسه إليه فيشتريه، حتى وقع في يد من لا يبيع روائع الجمال، وقد أوضح شكواه هجر الخيال في هذه الأبيات الحسان:
أنسيم هل للدهر وعد صادق
فيما يؤمله المحب الوامق
ما لي فقدتك في المنام ولم يزل
عون المشوق إذا جفاه الشائق
أمنعت أنت من الزيارة رقبة
منهم فهل منع الخيال الطارق
اليوم جاز بي الهوى مقداره
في أهله وعلمت أني عاشق
ثم ردد هذا المعنى في داليته الجميلة، التي يقول فيها:
دعا عبرتي تجري على الجور والقصد
أظن نسيما قارف الهجر من بعدي
خلا ناظري من طيفه بعد شخصه
فيا عجبا للدهر فقدا على فقد
بنفسي حبيب نقلوه عن اسمه
فبات غريبا في رجاء وفي سعد
فيا حائلا عن ذلك الاسم لا تحل
وإن جهد الأعداء عن ذلك العهد
أبا الفضل في تسع وتسعين نعجة
غنى لك عن ظبي بساحتنا فرد
أتأخذه مني وقد أخذ الجوى
مآخذه مما أسر وما أبدي
وتخطو إليه صبوتي وصبابتي
ولم يخطه بثي ولم يعده وجدي
ونحب ألا يتعقبنا حضرة (البدوي الملثم) فيطالبنا بتحقيق بيع البحتري لغلامه نسيم، ليعرف أكان ذلك عن حاجة أم كان طمعا في المال، فقد تردد في ذلك المؤرخون. أليس هو الذي لمح إلينا حين ذكرنا أن علية بنت المهدي كنت عن طل بزينب، ولفت نظرنا إلى أنها إنما كنت بزينب عن رشأ؟ رويدك أيها الصديق، فليس في هذه المجاهل يقين، وحسبك أن تعلم أن ذلك سر من أسرار القصور، وناهيك بقصر الرشيد!
وبهذه المناسبة أذكر أن التعبير الحديث «شربوا نخب مصر ، وشربوا نخب فرنسا» كان له عند العرب بديل جميل، انظر قول علية في غلامها رشأ:
اشرب على وجه الغزال
الأهيف الحلو الدلال
اشرب عليه وقل له
يا غل ألباب الرجال
وانظر قول إسحاق في غلامه زياد:
أدرها على بعد الحبيب فربما
شربنا على بعد الأحبة والفجع
فما بلغتني الكأس ألا شربتها
وإلا سقيت الأرض كأسا من الدمع
وقال ابن الفارض:
شربنا على ذكر الحبيب مدامة
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
فأي التعبيرين أجمل؟ أقول العرب: شربت على وجهه، وعلى بعده، وعلى ذكره؟ أم قولنا شربت نخبه! أجيبوا أيها المتكلفون!
ونعود فنذكر تشبث البحتري بالطيف عند الصباح في قوله:
وليلة هومنا على العيس أرسلت
بطيف خيال يشبه الحق باطله
فلولا بياض الصبح طال تشبثي
بعطفي غزال بت وهنا أغازله
وكم من يد لليل عندي حميدة
وللصبح من خطب تذم غوائله
أتذكر أيها القارئ أن لسانك انعقد، وقد رأيت دمية من دمى الجمال، فلم تزد على أن قلت: هذه فتاة حسناء؟ الأمر هنا كذلك، فاعذرني إن لم أزد على أن أقول: هذا شعر جميل!
ويظرف البحتري كثيرا حين يجعل هجر الطيف نوعا من العتاب. انظر قوله:
تناءت دار علوة بعد قرب
فهل ركب يبلغها السلاما
وجدد طيفها عتبا علينا
فما يعتادنا إلا لماما
وربت ليلة قد بت أسقى
بعينيها وكفيها المداما
قطعنا الليل لثما واعتناقا
وأفنيناه ضما والتزاما
وقد تعجب لتشبيه الزائر النحيل بالطيف الطروق: انظر قوله:
وزور أتاني طارقا فحسبته
خيالا أتى من آخر الليل يطرق
أقسم فيه الظن طورا مكذبا
به أنه حق وطورا أصدق
أخاف وأرجو بطل ظني وصدقه
فلله ظني حين أرجو وأفرق
وقد ضمنا وشك التلاقي ولفنا
عناق على أعناقنا ثم ضيق
فلم نر إلا مخبرا عن صبابة
بشكوى وإلا عبرة تترقرق
فأحسن بنا والدمع بالدمع واشج
تمازجه والخد بالخد ملصق
ومن قبل قبل التشاكي وبعده
نكاد بها من شدة الوجد نشرق
فلو فهم الناس التلاقي وحسنه
لحبب من أجل التلاقي التفرق
وقد يأسى البحتري ويشجى حين لا تبقي له الليالي غير الذكرى والخيال، تأمل قوله:
حبيب نأى إلا تعرض ذكرة
له أو ملم طائف من خياله
أأمنع في هجرانه من صبابة
وقد كنت صبا مغرما في وصاله
ويأمرني بالصبر من ليس وجده
كوجدي ولا إعلان حالي كحاله
فإن أفقد العيش الذي فات باللوى
فقدما فقدت الظل عند انتقاله
ولقد أذكر أني قرأت منذ سنين رواية (رافاييل) وهي بدعة في الآداب الفرنسوية. فأقسمت لأزورن إن استطعت قبر (لامارتين) واليوم أقسم إن استطعت لأزورن قبر البحتري!
أليس هو القائل في طيف الخيال:
أترى حبي لسعدى قاتلي
وإذا ما أفرط الحب قتل
خطرت في النوم منها خطرة
خطرة البدر بدا ثم اضمحل
أي زور لك أو قصدا سرى
وملم منك أو حقا فعل
يتراءى والكرى في مقلتي
فإذا فارقها النوم بطل
ولتقي الدين السروجي قصيدة بديعة ختمها ببيتين في الخيال، وقد زاره فما حققه لفرط سروره به، ثم ولى عنه فما درى كيف يدركه، ولا عرف كيف يلحقه. قال:
أنعم بوصلك لي فهذا وقته
يكفي من الهجران ما قد ذقته
أنفقت عمري في هواك وليتني
أعطى وصولا بالذي أنفقته
يا من شغلت بحبه عن غيره
وسلوت كل الناس حين عشقته
كم جال في ميدان حبك فارس
بالصدق فيك إلى رضاك سبقته
أنت الذي جمع المحاسن وجهه
لكن عليه تصبري فرقته
قال الوشاة قد ادعى بك نسبة
فسررت لما قلت قد صدقته
بالله إن سألوك عني قل لهم
عبدي وملك يدي وما أعتقته
أو قيل مشتاق إليك فقل لهم
أدري بذا وأنا الذي شوقته
يا حسن طيف من خيالك زارني
من فرحتي بلقاك ما حققته
فمضى وفي قلبي عليه حسرة
لو كان يمكنني الرقاد لحقته
والشعراء يشكون غالبا ألا يمكث الطيف طويلا. وقد شذ الطغرائي فذكر أن محبوبته عتبت عليه لغيبة الطيف عنده، وطول مكثه لديه. وذلك قوله:
بعثت إلي تلومني في هجعة
أهدت إلي خيالها المذعورا
وتقول ما للطيف أبطأ بعدما
كنا اشترطنا أن يقيم يسيرا
فأجبتها بالعذر وهو مبين
لو كان ينصف لائم معذورا
أطبقت أجفاني عليه وسمته
خوض الدموع فما استطاع عبورا
وهذا الخيال على طرافته منتقد؛ فإن الطيف لا يدخل العين، حتى يضطر إلى عبور الدمع، وهدى الله قوما يحسبون هذا الشعر من وثبات الخيال!
قالوا: وأول من طرد الطيف طرفة بن العبد في قوله:
فقل لخيال العامرية ينقلب
إليها فإني واصل حبل من وصل
وتبعه جرير فقال:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
وقت الزيارة فأرجعي بسلام
وهذا حدس وتخمين، فإنه ليس إلى توقيت النوازع القلبية من سبيل.
ومن طريف الشعر في طرد الخيال قول ابن هانئ الأندلسي:
ألا طرقتنا والنجوم ركود
وفي الحي أيقاظ ونحن هجود
وقد أعجل الفجر الملمع خطوها
وفي أخريات الليل منه عمود
سرت عاطلا غضبى من الدر وحده
فلم يدر نحر ما دهاه وجيد
فما برحت الا ومن سلك أدمعي
قلائد في لباتها وعقود
ألم يأتها أنا كبرنا عن الصبا
وأنا بلينا والزمان جديد
ومن الشعراء من يعتذر عن النوم في بعد الحبيب باحتياله لزيارة الخيال. انظر قول علي الإيادي:
أما أنه لولا الخيال المراجع
وعاص يرى في النوم وهو مطاوع
لأشفق واستحيا من النوم واله
يرى بعد روعات النوى وهو هاجع
وأود لو تأمل القارئ قوله: (وعاص يرى في النوم وهو مطاوع) فطالما قدم النوم هؤلاء العصاة وهم للحب خاضعون.
وأصل هذا المعنى لقيس بن الملوح في قوله:
وإني لأستغشي وما بي نعسة
لعل خيالا منك يلقى خياليا
وأخرج من بين الجلوس لعلني
أحدث عنك النفس في السر خاليا
تقطع أنفاسي بذكرك أنفسا
يردن فما يرجعن إلا صواديا
وأوضح منه قول قيس بن ذريح:
وإني لأهوى النوم في غير نعسة
لعل لقاء في المنام يكون
تخبرني الأحلام أني أراكم
فيا ليت أحلام النيام يقين
والظاهر أن نعمة الطيف لا تسوي بين العشاق جميعا؛ فهي عند بعضهم لوعة وغليل، فقد جعلها حسين بن الضحاك قناعة تقضي بها الضرورة حين يقول:
وماذا يفيدك طيف الخيا
ل والهجر حظك ممن تحب
غناء قليل ولكنني
تمنيته بقنوع المحب
ومن الشعراء من يعجب لزيارة الخيال، كأن يزوره الطيف وهو سجين، كقول جعفر بن علبة:
عجبت لمسراها وأنى تخلصت
إلي وباب السجن دوني مغلق
ألمت فحيت ثم قامت فودعت
فلما تولت كادت النفس تزهق
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم
لشيء ولا أني من الموت أفرق
ولا أن نفسي يزدهيها وعيدهم
ولا أنني بالمشي في القيد أخرق
ولكن عرتني من هواك صبابة
كما كنت ألقى منك إذ أنا مطلق
وقد ترفق زياد بن حمل فعجب كيف زاره طيف حبيبته مع أنها ضعيفة المشي مكسال، وذلك قوله من قصيدة طويلة:
زارت رويقة شعثا بعدما هجعوا
لدي نواحل في أرساغها الخدم
وقمت للزور مرتاعا فأرقني
فقلت أهي سرت أم عادني حلم
وكان عهدي بها والمشي يبهظها
من القريب ومنها النوم والسأم
وبالتكاليف تأتي بيت جارتها
تمشي الهوينا وما تبدو لها قدم
سود ذوائبها بيض ترائبها
درم مرافقها في خالها عمم
رويق إني وما حج الحجيج له
وما أهل بجنبي نخلة الحرم
لم ينسني ذكركم مذ لم ألاقكم
عيش سلوت به عنكم ولا قدم
ولم تشاركك عندي بعد غانية
لا والذي أصبحت عندي له ذمم
ومن هذا يعتذر فريق من الشعراء من هجر الطيف لبعد الشقة كقول ابن عنين:
سامحت كتبك في القطيعة عالما
أن الصحيفة أعوزت من حامل
وعذرت طيفك في الجفاء لأنه
يسري فيصبح دوننا بمراحل
وقال كشاجم في مثل العذر الطريف:
لقد بخلت حتى بطيف خيالها
علي وقالت رحمة لنحيبي
أخاف على طيفي إذا جاء طارقا
وسادك أن يلقاه طيف رقيبي
طرف أدبية
وقد يكون من المستملح أن نذكر جملة من الطرف تتناسب مع طيف الخيال. فمن ذلك ما أرسله بعض الشعراء إلى الحسن بن سهل:
رأيت في النوم أني راكب فرسا
ولي وصيف وفي كفي دنانير
فقال قوم لهم فهم ومعرفة
رأيت خيرا وللأحلام تعبير
رؤياك فسر غدا عند الأمير تجد
في الحلم درا وفي النوم التباشير
فوقع في أسفل الكتاب «أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين»! ودخل بعض الشعراء على بشر بن مروان فأنشده:
أغفيت عند الصبح نوم مسهد
في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك رعتني بوليدة
رعبوبة حسن علي قيامها
وببدرة حملت إلي وبغلة
دهماء مشرقة يصل لجامها
فدعوت ربي أن يثيبك جنة
عوضا يصيبك بردها وسلامها
فقال له: أبشر في كل شيء الا البغلة فإني لا أملك إلا شهباء! فقال: امرأتي طالق إن كنت رأيتها إلا شهباء غير أني غلطت!
ونقل عن أبي العبر أنه كان عنده حمار فمات فرآه في النوم ينشد شعرا يقول فيه إنه مات عاشقا، فسأله المتوكل ما الذي كان من شأنه؟ فقال: كان يا أمير المؤمنين أعقل من القضاة، ليس له هفوة ولا زلة! فاعتل على حين غفلة، فمات، فرأيته في النوم فقلت له: ألم أنق لك الشعير وأبرد لك الماء، فما سبب موتك؟ فقال: أتذكر إذ وقفت على باب الصيدلاني؟ قلت: نعم، قال: مرت إذ ذاك أتان فافتتنت بها ومت. فقلت: وهل قلت شيئا في ذلك؟ فقال: نعم وأنشد:
هام قلبي بأتان
عند باب الصيدلاني
تيمتني يوم رحنا
بثناياها الحسان
وبخد ذي دلال
مثل خد الشيقران
فبها مت ولو عش
ت إذن طال هواني
فقال له: يا أبا معاذ، وما الشيقران؟ فقال: أنا مشغول بما أنا فيه، وهذا كلام تعرفه الحمير، فإذا رأيتم حمارا، أو من كان أولا حمارا، فاسألوه! فضحك المتوكل حتى استلقى على قفاه، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم، جزاء بما أبدع في هذا الخيال.
اليأس والرجاء
ليس في العشاق من لم يرزق الأمل والرجاء، وليس فيهم من لم يرزأ باليأس والقنوط. وقد تأملت ما قال الشعراء في اليأس، فرأيت منهم من يترك لأجله العتاب كقول ابن الأحنف:
سكوتي بلاء لا أطيق احتماله
وقلبي ألوف للهوى غير نازع
وأقسم ما تركي عتابك عن قلى
ولكن لعلمي أنه غير نافع
وإني إذا لم ألزم الصبر طائعا
فلا بد منه مكرها غير طائع
إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعة
فلا خير في ود يكون بشافع
وقد عزى نفسه ابن الأحنف حين يئس بقوله:
لعمري لقد جلبت نظرتي
إليك علي بلاء طويلا
فيا ويح من كلفت نفسه
بمن لا يطيق إليه السبيلا
هي الشمس مسكنها في السماء
فعز الفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها الصعود
ولن تستطيع إليك النزولا
وإني لأتمنى أن يرحمني الله من عذابي، بترديد هذا البيت الجميل:
فيا ويح من كلفت نفسه
بمن لا يطيق إليه السبيلا
ومن العشاق من يرى اليأس أروح من الطمع. كما قال صردر:
لا أمدح اليأس ولكنه
أروح للنفس من المطمع
يا ليت أني قبل وقد الهوى
أذنت للعذل على مسمعي
أين بدور من بني دارم
تبخل أن تسفر في مطلع
لا في سرار الشهر تبدو لنا
ولا ليالي العشر والأربع
أودعتهم قلبي وما خلتهم
يستحسنون الغدر بالمودع
لو زارني طيفهم ما درى
من الضنى أني في مضجعي
ومن المتيمين من يعتذر عن نسيانه، بيأسه وقنوطه. ولم أجد في هذا المعنى أبدع من قول الطغرائي:
من مبلغ الحي شطت دارهم ورضوا
بالجار جارا وما أرضى بهم عوضا
قد طاب عنكم فؤاد طاب قبلكم
عن الرضاع تقضى والشباب مضى
إن الزمان الذي كانت بشاشته
للقلب والعين ملهى بان فانقرضا
فإن نسيت فيأس لم يدع طمعا
وإن ذكرت فعرق ساكن نبضا
حكمت في مهجتي من ليس ينصفني
ولست أبلغ من تحكيمه غرضا
سيان عندي وأمري صار في يده
قضى علي بجور أم إلي قضى
وليس بعد اليأس إلا الرجاء، وإن عجب لذلك بعض الناس. فمن المحبين من يلهج بالأمل ترويحا لنفسه، وترفيها لقلبه، كالذي يقول:
أعلل بالمنى قلبي لعلي
أروح بالأماني الهم عني
وأعلم أن وصلك لا يرجى
ولكن لا أقل من التمني
ومنهم من يجعل الرجاء نصيب المبعد الحزين كما قال ياقوت:
لله أيام تقضت بكم
ما كان أحلاها وأهناها
مرت فلم يبق لنا بعدها
شيء سوى أن نتمناها
ويكاد الأمل يصرخ في قول مسلم بن الوليد:
أدهرا تولى هل نعيمك مقبل
وهل راجع من عيشنا ما نؤمل
أدهرا تولى هل لنا منك عودة
لعلك يعدي آخرا منك أول
وأوجع الشعر في هذا المعنى قول ابن زريق:
لأصبرن لدهر لا يمتعني
به ولا بي في حال يمتعه
علما بأن اصطباري معقب فرجا
فأضيق الأمر لو فكرت أوسعه
عل الليالي التي أضنت بفرقتنا
جسمي ستجمعني يوما وتجمعه
ولو سئلت عن رأيي في اليأس والرجاء، لقدمت لسائلي هذه الدعوة المستجابة التي أدعو بها عقب كل صلاة: «يا ربي، إنني ما جحدت نعمتك يوم رزقتني بهم، ولا جهلت حكمتك يوم أقصيتهم عني، وها أنا ذا أنتظر فضلك وطولك في ردهم إلي، وعطفهم علي، فلولا الثقة برحمتك، والإيمان بإحسانك، لذهبت النفس عليهم حسرات، وقطع القلب في آثارهم قطعا.»
العتاب
خير العتاب ما كان ظاهر الذل، بادي الخضوع، نزولا عند حكم الهوى، وإيمانا بعودة الحبيب، كقول القائل:
يا غاية القصد وأقصى المنى
وخير مرعى مقلة الناظر
إن كان لي ذنب ولا ذنب لي
فما له غيرك من غافر
أعوذ بالود الذي بيننا
أن يفسد الأول بالآخر
وحسبك من موجب العطف، ودواعي الرحمة، أن يتوسل المحب بسالف حبه، وماضي عهده، وأن يجعل الأمر في غفر ذنبه لحبيبه.
وقال ابن التعاويذي:
يا ابنة القوم كيف ضاعت عهودي
بينكم والوفاء في العرب دين
كيف أسلمت فيك قلبي إلى الأش
جان لولا أن الغرام جنون
أتريني على النوى مضمرا عن
ك سلوا إني إذن لخئون
أنا من قد علمت عهدي على النأ
ي وثيق وحبل ودي متين
ولا يكون العتاب بابا للرضى إلا حين يصبح إنابة خالصة، كقول ابن زيدون:
يا قمرا أطلعه المغرب
قد ضاق في حبك المذهب
ألزمتني الذنب الذي جئته
إلي فاصفح أيها المذنب
وكقول الآخر:
إذا مرضتم أتيناكم نعودكم
وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
فأما قول البحتري:
قد كان مني الوجد غب تذكر
إذ كان منك الصد غب تناسي
تجري دموعي حيث دمعك جامد
ويرق قلبي حيث قلبك قاسي
فهو بالتأنيب أشبه منه بالعتاب، وخير منه قول البحتري نفسه في كلمة ثانية :
إني وإن لم أبح بوجدي
أسر فيك الذي أسر
يا ظالما لي بغير جرم
إليك من ظلمك المفر
أنت نعيمي وأنت بؤسي
وقد يسوء الذي يسر
وقوله من كلمة أخرى تسيل ذله وتفيض خضوعا:
أيا قمر التمام أعنت ظلما
علي تطاول الليل التمام
أما وفتور لحظك يوم أبقى
تقلبه فتورا في عظامي
لقد كلفتني كلفا أعنى
به وشغلتني عما أمامي
أعيذك أن يراق دم حرام
بذاك الدل في شهر حرام
وبعجز القلم عن وصف ما لهذا الشعر من روعة الجمال، وأتمنى لو تأمل القارئ قليلا هذا البيت الجميل:
يا ظالما لي بغير جرم
إليك من ظلمك المفر
فإنه خير من قول ابن زيدون:
ألزمتني الذنب الذي جئته
إلي فاصفح أيها المذنب
وهل رأى القارئ، أروح للنفس، وأمتع للقلب، من هذا القسم:
أما وفتور لحظك يوم أبقى
تقلبه فتورا في عظامي
وهل رأى حيرة للحب أشقى من حيرة الذي يقول:
لقد كلفتني كلفا أعنى
به وشغلتني عما أمامي
ألا ليت الذين يكتبون رسائلهم باللغة العامية، يعلمون ما نعلم من جمال اللغة الفصيحة ليعرفوا أنهم يجنون على أنفسهم، وعلى قرائهم إذ يحرمونهم من التطلع إلى جنة الأدب، وقطوفها الدانية، ولو عرضت على كتاب العامية هذا البيت:
إني وإن لم أبح بوجدي
أسر فيك الذي أسر
ثم سألتهم ما فيه من وجوه الحسن لحسبوك من المسرفين، وكيف يفهم جمال هذا البيت من يتدلى إلى اللغة المبتذلة المهلهلة عجزا عن الكتابة باللغة التي رحبت بثمرات العقول في جميع الأمم الإسلامية، وكانت لغة العالم زمنا غير قليل.
ولا يحسب واحد من هؤلاء أن الحسن في الأدب لا حد له ولا تعريف، بل هناك حقائق أدبية يرتكز عليها الجمال في الشعر البديع والنثر الجميل، وقاعدة الحسن فيما نحن فيه أن العرب يستملحون بعض ألفاظ الشمول في كثير من المواطن إيذانا بالتفخيم والتهويل، كلفظة «ما» في قوله تعالى:
فغشيهم من اليم ما غشيهم
للدلالة على أن ما عانوه من طغيان الماء يفوق الوصف، ويعجز عنه التمثيل، ومنها قول البحتري :
برح بي حبك المعني
وغرني منك ما يغر
إذ كانت دواعي الحب، وأسباب العشق، مما يقصر عن إدراكه المحب المفتون، والعاشق المأسور، ومن ذلك لفظة «الذي» في هذا البيت المختار:
إني وإن لم أبح بوجدي
أسر فيك الذي أسر
إيذانا بأن ما يجنه من اللوعة، وما يكنه من الشوق، أجل من أن يحيط به الوصف، أو يناله البيان!
ومن العشاق من يضيف إلى ذلة العتاب، ذلة الإقرار بالذنب كقول الشريف:
أيا شاكيا مني بذنب جنيته
فديتك من شاك إلي حبيب
لئن راب مني ما يريب فإنني
على عدواء الداء غير مريب
وإني لأرعى منك والود بيننا
هوى قلما يرعى بظهر مغيب
فهب لي ذنبا واحدا كنت قلته
فما زلة من حازم بعجيب
فيا حسن حال الود ما دمت مذنبا
أتوب وما دامت تعد ذنوبي
والبيت الأخير يذكرنا بقول بشار:
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
ومن بديع الشعر في وصف العتاب، وما فيه من ذلة العاشق، وعزة المعشوق قول الشريف:
ومقبل كفي وددت لو انه
أوما إلى شفتي بالتقبيل
جاذبته طرف العتاب وبيننا
كبر الملول وذلة المملول
ولحظت عقد نطاقه فكأنما
عقد الجمال بقرطق محلول
جذلان ينفض من فروج قميصه
أعطاف غصن البانة المطلول
من لي به والدار غير بعيدة
من داره والمال غير قليل
وقوله:
ومقبل كفي وددت لو انه
أوما إلى شفتي بالتقبيل
يذكرنا بقول الصاحب بن عباد:
أهوى لتقبيل يدي
فقلت لا، بل شفتي!
وحيرة أمثال الشريف الرضي والصاحب بن عباد في أمثال هذه المواقف حيرة رهيبة، فكلا الرجلين عالم جليل، ولكن الحب كالموت لا يعصم منه البرج المشيد، والحصن المنيع، وقد يتقرب بعض الناس إلى مثل الشريف الرضي بتقبيل يمناه، فيود هذا لو قبل شفتيه، لأن الحب شغله عن الاحتفاظ بالعظمة، وقضى عليه بتقديس الجمال! وهنا يظهر بطش الحب وعدوانه حين يذهب بوقار العلم، وجلال الجاه، وغرور المال، ثم يسوي بين الأقدار، ريثما ينسى العالم علمه، والوجيه جاهه ، والغني ماله ، حتى إذا أنست تلك النفوس العاتية إلى هذه المساواة، عاد فميز أهل الحسن، ورفع أرباب الجمال، وصير المحبين أذلة، بالرغم من أنف العلم والجاه والمال! ويقول العرب: الهوى إله معبود، وإنهم لصادقون. غير أنه يحسن أن نعرف أن هذا الإله ليس برحمن ولا رحيم، ولكنه قهار جبار! ولولا الرحمة بضعفاء اليقين لأعطيت هذا البحث ما يستحقه من البيان، ولبينت للقارئ رأى الفلاسفة في مملكة الجمال، ولكن الدين في كثير من القلوب كالكرى في عين الخائف المذعور، يودي به مر الطيف وهبوب النسيم! والذين يختلفون في النظرة البريئة أحرام هي أم حلال، لا يعقلون كيف يكون الهوى إلها، وكيف يكون له ملائكة مقربون، من الشعور، والعيون، والخدود، والثغور، والنحور والصدور، وهم إن عقلوا هذه الألوهية فلن يعقلوا كيف يكون لها من كتاب الحب أنبياء مرسلون، بل كل محب عندهم ماجن خليع، قاتلهم الله أنى يؤفكون!
ونعود فنبين أن الشريف أجاد تصوير العتاب بقوله:
جاذبته طرف العتاب وبيننا
كبر الملول وذلة المملول
والمراد بكبر الملول عزة المعشوق، الذي تحدثه عن هجره وصده، فكأنما تسمعه هجر القول ولغو الحديث، فيتبرم ويتململ، ويود لو أرحته من حديث الحب؛ إذ كان الحسن يسد أذن الجميل، فلا يسمع الشكوى ولا يفقه العتاب، وما أبدع الغزل في قوله:
جذلان ينفض من فروج قميصه
أعطاف غصن البانة المطلول
ولا يكاد حضرة الشاعر الكبير حافظ بك إبراهيم يذكر الشريف الرضي إلا ذكر له هذا البيت، وله فيه تأويل عجيب، ولعل أبرع ما قيل في التطلع إلى الاستمتاع بالجمال، قوله في هذا البيت المختار:
من لي به والدار غير بعيدة
من داره والمال غير قليل
ولعل صديقنا الشيخ عبد العزيز صقر يتسلى بأن الشريف الرضي على جاهه كان يشكو بعد الدار، وقلة المال:
فدع ذكر سعدى إن فيك تقية
ألا إنما يبغي المها من يصيدها
وقد يصبح العتاب وهو لوم للنفس، وعذل للقلب، على الكلف بحبيب ليس للحب عنده جزاء، فمن ذلك قول بعض الأعراب:
أحيا على حب وأنت بخيلة
وقد زعموا أن لا يحب بخيل
بلى والذي حج الملبون بيته
ويشفي الهوى بالنيل وهو قليل
وإن بنا لو تعلمين لغلة
إليك كما بالحائمات غليل
وقد يعكس هذا المعنى، فيحب العاشق ظلم معشوقه، ويحب من أجل ذلك أعداءه الظالمين، كقول أبي الشيص الخزاعي:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة
حبا لذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا
ما من يهون عليك ممن أكرم
ومن العشاق من يمزج العتاب بذكر ما لقي في سبيل الحب من البلايا، كقول ابن الدمينة:
وأنت التي كلفتني دلج السرى
وجون القطا بالجلهتين جثوم
وأنت التي قطعت قلبي حزازة
وفرقت قرح القلب فهو كليم
وأنت التي أحفظت قومي فكلهم
بعيد الرضا داني الصدود كظيم
وقد أجابته محبوبته أمامة فذكرت ما لقيت في سبيل حبه من سفاهة الوشاة، وشماتة اللائمين، حيث تقول:
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني
وأشمت بي من كان فيك يلوم
وأبرزتني للناس ثم تركتني
لهم غرضا أرمى وأنت سليم
فلو أن قولا يكلم الجسم قد بدا
بجسمي من قول الوشاة كلوم
وقد ضعف ابن الدمينة عن مجاراتها في قسوة العتاب، فبعث إليها الأبيات الآتية، يسألها الصفح والغفران:
وإذا عتبت علي بت كأنني
بالليل مختلس الرقاد سليم
ولقد أردت الصبر عنك فعاقني
علق بقلبي من هواك قديم
يبقى على حدث الزمان وريبه
وعلى جفائك إنه لكريم
ومن المحبين من تعجزه الحيلة، فيذكر أحبابه بأن الحياة قصيرة، لا تتسع للصد، ولا تحتمل الهجر، كقول الطغرائي:
ويا رفقة مرت بجزعاء مالك
تؤم الحمى أنضاؤها المطايا
نشدتكم بالله ألا نشدتم
بها شعبة أضللتها من فؤاديا
وقلتم لحي نازلين بقربها
أقاموا بها واستبدلوا بجواريا
رويدكم لا تسبقوا بقطيعتي
صروف الليالي إن في الدهر كافيا
وأصل هذا المعنى لإياس بن القائف إذ يقول:
إذا زرت أرضا بعد طول اجتنابها
فقدت صديقي والبلاد كما هيا
فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معا
كفى بالممات فرقة وتنائيا
وقد كاد سعيد بن حميد يضع لهذا المعنى صورة شعرية بقوله في النهي عن العتاب:
أقلل عتابك فالبقاء قليل
والدهر يعدل تارة ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه
إلا بكيت عليه حين يزول
ولكل نائبة ألمت مدة
ولكل حال أقبلت تحويل
والمنتمون إلى الإخاء جماعة
إن حصلوا أفناهم التحصيل
فلئن سبقت لتبكين بحسرة
وليكثرن علي منك عويل
ولتفجعن بمخلص لك وامق
حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن سبقت ولا سبقت ليمضين
من لا يشاكله لدي خليل
وليذهبن بهاء كل مروءة
وليفقدن جمالها المأهول
وأراك تكلف بالعتاب وودنا
باق عليه من الوفاء دليل
ولعل أيام الحياة قصيرة
فعلام يكثر عتبنا ويطول
على أن الرفق الذي ألم بالطغرائي فجعله يرجو أحبابه ألا يسبقوا صروف الليالي، لم يمنعه من أن يصرخ شاكيا في نفس القصيدة، فيرمي أحبابه بالخيانة والنسيان، وذلك قوله:
أفي الحق أني قد قضيت ديونكم
وأن ديوني باقيات كما هيا
فوا أسفي، حتام أرعى مضيعا
وآمن خوانا وأذكر ناسيا
وما زال أحبابي يسيئون عشرتي
ويجفونني حتى عذرت الأعاديا
والبيت الأخير يذكرنا بقول أبي تمام:
أحبابه لم تفعلون بقلبه
ما ليس يفعله به أعداؤه
وقد بسط الأرجاني هذا المعنى فقال:
أأحبابنا كم تجرحون بهجركم
فؤادا يبيت الليل بالهم مكمدا
إذا رمتم قتلي وأنتم أحبة
فما الذي أخشى إذا كنتم عدا
سأضمر في الأحشاء منكم تحرقا
وأظهر للواشين عنكم تجلدا
وأمنع عيني اليوم أن تكثر البكا
لتسلم لي حتى أراكم بها غدا
ومن هؤلاء المساكين الذين لا يجدون حيلة غير تذكير أحبابهم بقصر الحياة أبو صخر الهذلي في هذه الأبيات الموجعة:
بيد الذي شغف الفؤاد بكم
تفريج ما ألقى من الهم
قد كان صرم في الممات لنا
فعجلت قبل الموت بالصرم
ولما بقيت ليبقين جوى
بين الجوانح مضرع جسمي
فتعلمي أن قد كلفت بكم
ثم افعلي ما شئت عن علم
وما ذكرت هذه المعاني المحزنة إلا تغنيت بهذا البيت الذي لا أراه إلا زفرة تتصعد، أو عبرة تتدفق:
وأرى الأيام لا تدني الذي
أرتجي منك وتدني أجلي!
ومن الشعر الممتع في وصف الحيرة، يرمى بها المحب العميد، قول الشريف يعاتب حبيبا أغراه بالحب، ثم أصلاه الصدود:
يا صاحب القلب الصحيح أما اشتفى
ألم الجوى من قلبي المصدوع
أأسأت بالمشتاق حين ملكته
وجزيت فرط نزاعه بنزوع
هيهات لا تتكلفن لي الهوى
فضح التطبع شيمة المطبوع
كم قد نصبت لك الحبائل طامعا
فنجوت بعد تعرض لوقوع
وتركتني ظمآن أشرب غلتي
أسفا على ذاك اللمى الممنوع
قلبي وطرفي منك هذا في حمى
قيظ وهذا في رياض ربيع
كم ليلة جرعته في طولها
غصص الملام ومؤلم التقريع
أبكى ويبسم والدجى ما بيننا
حتى أضاء بثغره ودموعي
تفلي أنامله التراب تعللا
وأناملي في سني المقروع
قمر إذا استخجلته بعتابه
لبس الغروب ولم يعد لطلوع
لو حيث يستمع السرار وقفتما
لعجبتما من عزه وخضوعي
أبغي هواه بشافع من غيره
شر الهوى ما نلته بشفيع
أهون عليك إذا امتلأت من الكرى
أني أبيت بليلة الملسوع
قد كنت أجزيك الصدود بمثله
لو أن قلبك كان بين ضلوعي
وقد ارتبت في بيتين وردا في خلال هذه القصيدة، وبينهما وبين موضوعها بون شاسع، وهما قوله:
ما كان إلا قبلة التسليم أر
دفها الفراق بضمة التوديع
كمدي قديم في هواك وإنما
تاريخ وصلك كان مذ أسبوع
فإن هذا الوصل الحديث خليق بمحو ذلك العتب القديم، والتنافر بين هذين البيتين وبين موضوع القصيدة ظاهر على الأقل من مقابلتهما بهذا البيت الجميل:
أهون عليك إذا امتلأت من الكرى
أني أبيت بليلة الملسوع
فإنه يدل على أن الحبيب غير بعيد، وأنه في قربه نافر شرود، مما يذكرنا بقوله من كلمة ثانية:
أبيت والليل مبثوث حبائله
والوجد يقنص مني كل مجلود
شوقا إليك وإشفاقا عليك ولي
دمعان ما بين محلول ومعقود
ليس الغريب الذي تنأى الديار به
إن القريب قريب غير مودود
وإنما أردنا هذه الملاحظة ليتنبه القارئ إلى أن في الدواوين أشياء كثيرة نسبت زورا إلى الشعراء، وربما عدنا إلى تحقيق ذلك في مبحث خاص. والأدباء يعجبون بعينية الشريف هذه في العتاب، وقل منهم من لا يحفظ هذا البيت المختار:
لو حيث يستمع السرار وقفتما
لعجبتما من عزه وخضوعي
والعز والخضوع في هذا البيت يذكرنا بالعز والذل في قول عمارة اليمني في المجون:
ونافر الأعطاف عاملته
باللطف حتى سكن النافر
ولم أزل أمسح أعطافه
ورأيه في قصتي حائر
حتى غدا من خجل مطرقا
وكل إعراض له آخر
عجبت من ذلي ومن عزه
في موقف عاذله عاذر
في ليلة ساهرها نائم
فما له سمع ولا ناظر
مددت فيها الفخ لما خلا ال
جو إلى أن وقع الطائر
فبت من فرط اغتباطي به
أظن أني غائب حاضر
وابن التعاويذي يجيد الشعر في العتاب، وهو صاحب هذه الأبيات المختارة:
خذ في أفانين الصدود فإن لي
قلبا على العلات لا يتقلب
أتظنني أضمرت بعدك سلوة
هيهات عطفك من سلوي أقرب
قد كنت تنصفني المودة راكبا
في الحب من أخطاره ما أركب
فاليوم أقنع أن يمر بمضجعي
في النوم طيف خيالك المتأوب
وهو أيضا صاحب هذه القطعة التي تمثل الوجد الدفين:
يا نازحا ليس يدنو
وعاتبا ليس يرضى
يا واجدا وديوني
في حبه ليس تقضى
أمرت عيني ففاضت
ومضجعي فأقضا
ارقد هنيئا فإني
ما ذقت بعدك غمضا
ومن الظلم للعواطف أن لا نفصل مذهب العباس بن الأحنف في العتاب، فإن شعره آية الآيات في الشكوى من الهجر، والتوجع من الصدود، وهو مع هذا يعد أيام الهجر أحسن أيامه، ويقول:
وأحسن أيام الهوى يومك الذي
تروع بالهجران فيه وبالعتب
إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا
فأين حلاوات الرسائل والكتب
ولكن هذا أمل بعيد، فليس كل عتب تدور فيه رسائل الحب، وصحف الهوى، وكذلك رزئ ابن الأحنف بمن ينبذ كتبه، ويمزق رسائله، وفي هذا المعنى قرأنا له هذه القطعة الباكية:
وصالك مظلم فيه التباس
وعندك لو أردت له شهاب
وقد حملت من حبيك ما لو
تقسم بين أهل الأرض شابوا
أفيقي من عتابك في أناس
شهدت الحظ من قلبي وغابوا
يظن الناس بي وبهم وأنتم
لكم صفو المودة واللباب
وكنت إذا كتبت إليك أشكو
ظلمت وقلت ليس له جواب
فعشت أقوت نفسي بالأماني
أقول لكل جامحة إياب
وصرت إذا انتهى مني كتاب
إليك لتعطفي نبذ الكتاب
وأن الود ليس يكاد يبقى
إذا كثر التجني والعتاب
خفضت لمن يلوذ بكم جناحي
وتلقوني كأنكم غضاب
وقد أكثر ابن الأحنف من التوجع لحرمانه من كتب من يهوى، وهو صاحب هذا البيت الحزين:
ويقنعني ممن أحب كتابه
ويمنعنيه، إنه لبخيل!
وكثيرا ما يميل ابن الأحنف إلى الصفح الجميل، إذ يرى العتاب لا يعطف القلوب، إن لم تضمر الحنان. وقد أفصح عن ذلك في هذه الأبيات:
أنكر الناس ساطع المسك من دج
لة قد أوسع المشارع طيبا
فهمو يعجبون منه وما يدرو
ن أن قد حللت منه قريبا
قاسميني هذا البلاء وإلا
فاجعلي لي من التعزي نصيبا
إن بعض العتاب يدعو إلى العت
ب ويؤذي به المحب الحبيبا
وإذا ما القلوب لم تضمر العط
ف فلن يعطف العتاب القلوبا
وما أجمل العزة في قوله:
خفضت لمن يلوذ بكم جناحي
وتلقوني كأنكم غضاب
وقوله:
خفضت طرفي لأدنى من يلوذ بكم
حتى احتقرت وما مثلي بمحتقر
وأي كريم لم يلق مثل هذه الذلة في سبيل الصبابة؟ ومتى عرف الهوى قيمة العزة في نفوس الأعزاء، فعصمها عن مدارة قوم يحيطون بالجمال، إحاطة الأشواك بالورود؟
وقد ترى ابن الأحنف يائسا من نفع العتاب، فنقرأ له هذه الأبيات في التبرم بالسكوت:
سكوتي بلاء لا أطيق احتماله
وقلبي ألوف للهوى غير نازع
فأقسم ما تركي عتابك عن قلى
ولكن لعلمي أنه غير نافع
وإني إذا لم ألزم الصبر طائعا
فلا بد منه مكرها غير طائع
إذا أنت لم يعطفك إلا شفاعة
فلا خير في ود يكون بشافع
وربما رأيناه زاهدا في العتاب، لأن محبوبته لا تصد صد العاتب، بل صد الملول وذلك قوله:
لو كنت عاتبة لسكن لوعتي
أملي رضاك وزرت غير مراقب
لكن مللت فلم تكن لي حيلة
صد الملول خلاف صد العاتب
ما ضر من قطع الرجاء ببخله
لو كان عللني بوعد كاذب
على أن ابن الأحنف لم يقض كل حياته في هذا العذاب، بل رأيناه يعجب بنصره في الحب، وقهره لقلوب الحسان، أليس سعيدا من يقول:
يا رب جارية أسلبت عبرتها
من رقة ولغيري قلبها قاسي
كم من كواعب ما أبصرن خط يدي
إلا تمنين أن يأكلن قرطاسي
وكان البها زهير، أحد وزراء مصر في أيامها الخوالي، من أرق الشعراء في العتاب، حتى لتحسب شعره نجوى بين المحب والحبيب، أو رنين الحلى عند عناق الحسان، أو خفوق الأمل في قلب اليائس المحزون. انظر إلى اعتذاره عن محبوبه، ورضاه عما جنت يد الدلال يسكر به المعشوق الجميل:
مولاي من سكر الدلا
ل عبثت والسكران عابث
ونكثت عهدا في الهوى
ما خلت أنك فيه ناكث
لك لا أشك قضية
أنا سائل عنها وباحث
وقد يكثر في شعر البها زهير وصف الدلال وما له من النشوة والسكر، فنراه في موطن آخر يقول:
أضنى الفؤاد فمن يريحه
وحمى الرقاد فمن يبيحه
ونضا من الأجفان سي
فا قلما يبقى جريحه
نشوان من خمر الدلا
ل غبوقه وبها صبوحه
والذي يعنينا الآن شرح مواقفه في العتاب، لأنها تمثل الروح المصرية، وما لها من السماحة المصحوبة بالشمم والإباء، فحينا ينفي ما ذاع من سلوه، حتى هجره أحبابه، فيقول:
يا هاجرين وحقكم
هونتم ما لا يهون
قلتم فلان قد سلا
ما كان ذاك ولا يكون
وحياتكم وهي التي
ما مثلها عندي يمين
ما خنت عهدكم كما
زعم الوشاة ولا أخون
يا من يظن بأنني
قد خنته غيري الخئون
لو صح ودك صح ظن
ك بي وبان لك اليقين
يا قلب بعض الناس كم
تقسو علي وكم ألين
يا ويلتاه لمن يخا
طب أو لمن يشكو الحزين
قد ذل من كان المعي
ن له هو الدمع المعين
وحينما يمزج العتاب بالشكوى فيقول:
يا أعز الناس عندي
كيف خنت اليوم عهدي
سوف أشكو لك بعدي
فعسى شكواي تجدي
أين مولاي يراني
ودموعي فوق خدي
أقطع الليل أقاسي
ما أقاسي فيه وحدي
ليتني عندك يا مولا
ي أو ليتك عندي
ثم يترفق في شكواه وأمانيه، فيقول:
من لي بقلب أشتري
ه من القلوب القاسيه
إني لأطلب حاجة
ليست عليك بخافيه
أنعم علي بقبلة
هبة وإلا عارية
وأعيدها لك لا عدم
ت بعينها وكما هيه
وإذا أردت زيادة
خذها ونفسي راضيه
فعسى يجود لنا الزما
ن بخلوة في زاويه
أو ليتني ألقاك وح
دك في طريق خاليه
وهذه غاية الغايات في رقة النجوى ولطف العتاب، ولكن البها زهير كما قلنا مصري الروح، فهو في رقته غضوب؛ ألم تر إليه وقد تبدل من يهوى، فرماه بهذه الصاعقة:
يا من تبدل في الهوى
يهنيك صاحبك الجديد
إن كان أعجبك الصدو
د كذاك أعجبني الصدود
واعلم بأني لا أري
د إذا رأيتك لا تريد
وأنا القريب فإن تغي
ر صاحبي فأنا البعيد
وقد أوضح هذا المعنى ووفاه في الكلمة الآتية:
سأعرض عمن راح عني معرضا
وأعلن سلواني له وأشيعه
وأحجب طرفي عنه فهو رسوله
وأحجب قلبي عنه فهو شفيعه
وكيف ترى عيني لمن لا يرى لها
ويحفظ قلبي في الهوى من يضيعه
وأقسمت لا تجري دموعي على امرئ
إذا كان لا تجري علي دموعه
فلو خان طرفي ما حوته جفونه
ولو خان قلبي ما حوته ضلوعه
وأوضح من هذا قوله من كلمة ثانية:
هو حظي قد عرفته
لم يحل عما عهدته
فإذا قصر من أهوا
ه في الحب عذرته
غير أني لي في الح
ب طريق قد سلكته
لو أراد البعد عني
نور عيني ما تبعته
إن قلبي وهو قلبي
لو تجنى ما صحبته
كل شيء من حبيبي
ما خلا الغدر احتملته
أنا في الحب غيور
ذاك خلقي لا عدمته
أبصر الموت إذا أبص
ر غيري من عشقته
نوح الحمام
لقد ألممنا إلمامة قصيرة بنوح الحمام عند أسباب المدامع، واليوم نفصل مذاهب الشعراء في هذا الباب: فمنهم من يحن إلى الحمائم الشادية، ويتمنى لو عدن إليه، فإذا عدن أسلمنه إلى البكاء، كما قال المجنون:
ألا يا حمامات اللوى عدن عودة
فإني إلى أصواتكن حزين
فعدن فلما عدن كدن يمتنني
وكدت بأشجاني لهن أبين
فلم تر عيني مثلهن بواكيا
بكين ولم تذرف لهن عيون
ومن الشعراء من يذكر أن الحمائم الباكية تبعث الهوى في قلب الخلي، فكيف بالشجي، وأن أنغامها ليست دموعا ولكنها أمضى من الدموع، كما قال أبو تمام:
بعثن الهوى في قلب من ليس هائما
فقل في فؤاد رعنه وهو هائم
لها نغم ليست دموعا فإن علت
مضت حيث لا تمضي الدموع السواجم
ومنهم من يستريح إلى نوح الحمام، ويراه تداويا من الداء بنفس الداء، كقول ابن عبد ربه:
فكيف ولي قلب إذا هبت الصبا
أهاب بشوق في الضلوع دفين
ويهتاج منه كلما كان ساكنا
دعاء حمام لم تبت بوكون
وإن ارتياحي من بكاء حمامة
كذي شجن داويته بشجون
كأن حمام الأيك لما تجاوبت
حزين بكى من رحمة لحزين
ويسمون الحمامة «مطوقة» لطوقها المخضب الجميل، كما قال ابن عبد ربه:
ونائح في غصون الأيك أرقني
وما عنيت بشيء ظل يعنيه
مطوق بخضاب ما يزايله
حق تزايله إحدى تراقيه
قد بات يشكو بشجو ما دريت به
وبت أشكو بشجو ليس يدريه
ومن الشعراء من يقارن بينه وبين الحمامة الباكية، فيذكر أنها تبكي بلا دمع، وأن إلفها منها قريب، كما قال أبو محلم الشيباني من قصيدة اقترحها عليه طاهر بن الحسين، وقد كبرت سنه، وطالت غربته:
وأرقني بالري نوح حمامة
فنحت وذو الشجو الغريب ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة
ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما
ومن دون أفراخي مهامه فيح
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر
وغصنك مياد ففيم تنوح
أفق لا تنح من غير شيء فإنني
بكيت زمانا والفؤاد صحيح
ولوعا فشطت غربة دار زينب
فها أنا أبكي والفؤاد جريح
ومما يجدر أن يكون «صورة شعرية» في وصف الحمامة الباكية قول الطغرائي:
أيكية صدحت شجوا على فنن
فأشعلت ما خبا من نار أشجاني
ناحت وما فقدت إلفا ولا فجعت
فذكرتني أوطاري وأوطاني
طليقة من إسار الهم ناعمة
أضحت تجدد وجد الموثق العاني
تشبهت بي في وجدي وفي طربي
هيهات ما نحن في الحالين سيان
ما في حشاها ولا في جفنها أثر
من نار قلبي ولا من ماء أجفاني
يا ربة البانة الغناء تحضنها
خضراء تلتف أغصانا بأغصان
إن كان نوحك إسعادا لمغترب
ناء عن الأهل ممنو بهجران
فقارضيني إذا ما اعتادني طرب
وجدا بوجد وسلوانا بسلوان
أو لا فقصرك حتى أستعين بمن
يعنيه شأني ويأسو كلم أحزاني
ما أنت مني ولا يعنيك ما أخذت
مني الهموم ولا تدرين ما شاني
كلي إلى الغيم إسعادي فإن له
دمعا كدمعي وإرنانا كإرناني
وهذه القصيدة من أبدع ما قال الشعراء في الحمائم الشاديات. وهي أنموذج لملاحة التقسيم، وبراعة التصوير، وحلاوة التعبير، ويقرب منها قول ديك الجن:
حمائم ورق في حمى ورق خضر
لها مقل تجري الدموع ولا تجري
تكلفن إسعاد الغريبة إن بكت
وإن كن لا يدرين كيف جوى الصدر
لها حرق لو أن خنساء أعولت
بهن لأدت حق صخر إلى صخر
فقلت لنفسي ها هنا طلب الأسى
ومعدنه إن فاتني طلب الصبر
وقد يحسن لفت النظر إلى الخرافة القديمة في نوح الحمام: فإن العرب يذكرون أنه كان لهن ملك في عهد نوح يسمى (الهديل) فهن يبكينه إلى الآن! وهو المعني بقول نصيب:
لقد راعني للبين نوح حمامة
على غصن بان جاوبتها حمائم
هواتف أما من بكين فعهده
قديم وأما شجوهن فدائم
وممن ذكر الهديل حميد بن ثور في هذه الأبيات الحسان:
إذا نادى قرينته حمام
جرى لصبابتي دمع سفوح
يرجع بالدعاء على غصون
هتوف بالضحى غرد فصيح
هفا لهديله مني إذا ما
تغرد ساجعا قلب قريح
فقلت حمامة تدعو حماما
وكل الحب نزاع طموح
قال أبو بكر بن دريد: خرجنا من عمان في سفر لنا، فنزلنا في أصل نخلة، فنظرت فإذا فاختتان تزقوان في فرعها، فقلت:
أقول لورقاوين في فرع نخلة
وقد طفل الإمساء أو جنح العصر
وقد بسطت هاتي لتلك جناحها
ومال على هاتيك من هذه النحر
ليهنكما أن لم تراعا بفرقة
وما دب في تشتيت شملكما الدهر
فلم أر مثلي قطع الشوق قلبه
على أنه يحكي قساوته الصخر
ومن جيد الشعر في الموازنة بين العاشق وبين الحمامة الشادية قول ابن سنان الخفاجي:
أتظن الورق في الأيك تغنى
أنها تضمر حزنا مثل حزني
لا أراك الله نجدا بعدها
أيها الحادي بها إن لم تجبني
هل تباريني إلى بث الجوى
في ديار الحي نشوى ذات غصن
هب لنا الشبق ولكن زادنا
أننا نبكي عليها وتغني
يا زمان الخيف هل من عودة
يسمح الدهر بها من بعد ضن
أرضينا بثنيات اللوى
عن زرود يا لها صفقة غبن
وقد ينكر الشاعر على الحمامة أن تشكو الفراق، وهي كثيرة الألاف، وحالية بالطوق والخضاب، كقول ابن سنان صاحب الأبيات السالفة:
وهاتفة في البان تملي غرامها
علينا وتتلو من صبابتها صحفا
عجبت لها تشكو الفراق جهالة
وقد جاوبت من كل ناحية إلفا
ويشجي قلوب العاشقين حنينها
وما فهموا مما تغنت له حرفا
ولو صدقت فيما تقول من الأسى
لما لبست طوقا ولا خضبت كفا
ولكن الأرجاني يصفها بصدق اللوعة، فيذكر أنها مزقت أثواب الحداد، وأن صدورها ضاقت بأنفاسها ففضت مجامع الأطواق وأنها نزفت دمعها وأفنته بطول البكاء، وذلك في قوله:
ومما شجاني وقد ودعوا
بكاء الحمام على ساقها
تنوح على بعد ألافها
وتظهر مكنون أشواقها
لبسن حدادا ومزقنه
فلم تدخر غير أزياقها
وضاقت صدورا بأنفاسها
ففضت مجامع أطواقها
وقد نزفت في الهوى دمعها
فلم يبق ماء بآماقها
ولم يكثر الشعراء الحديث عن غناء الكروان، ويظهر أنهم لم يتمتعوا بأغانيه الجميلة على ضفاف النيل في سنتريس، والدهر كله فداء للحظة واحدة من الأصائل، أو العشيات، أو الأسحار، في مغاني سنتريس.
ويعجبني في وصف الكروان قول الأستاذ عباس العقاد:
يا محيي الليل البهيم تهجدا
والطير آوية إلى الأوكان
يحدو الكواكب وهو أخفى موضعا
من نابغ في غمرة النسيان
قل يا شبيه النابغين إذا دعوا
والجهل يضرب حولهم بجران
كم صيحة لك في الظلام كأنها
دقات صدر للدجنة حان
خفاقة النغمات تطفر في الدجى
فوق النسائم طفرة النشوان
هن اللغات ولا لغات سوى التي
رفعت بهن عقيرة الوجدان
إن لم تقيدها الحروف فإنها
كالوحي ناطقة بكل لسان
أغنى الكلام عن المقاطع واللغى
بث الحزين وفرحة الجذلان
إني لأسمع منك إذ ناديتني
معنى يقصر عنه كل بيان
أصغي إليك إذا هتفت وفي يدي
سفر يغرد صامت الأوزان
شعر الطيور ولا رياء يشوبه
يذري ببدع قصائد الإنسان
يا ساليا يشكو ويصدح وحده
علم سميرك راحة السلوان
ومن خير ما وصفت به الحمامة من ناحية الخلقة الجميلة، قول بعض الأعراب:
وقبلي أبكى كل من كان ذا هوى
هتوف البواكي والديار البلاقع
وهن على الأطلال من كل جانب
نوائح ما تخضل منها المدامع
1
مزبرجة الأعناق غر ظهورها
مخطمة بالدر خضر روائع
2
ترى طررا بين الخوافي كأنها
حواشي برد زينتها الوشائع
3
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها
خواضب بالحناء منها الأصابع
ويعجبني خطاب عبد البر بن فرسان الغساني لطائر مغرد ضم أفراخه إليه:
أعدهن ألحانا على سمع معرب
يطاوح مرتاحا على القضب معجما
وطر غير مقصوص الجناح مرفها
مسوغ أشتات الحبوب منعما
مخلى وأفراخا بوكرك نوما
ألا ليت أفراخي معي كن نوما
وقد أبدع الرصافي شاعر الأندلس حين تغنى يوما من أيام شبابه وقد خلا فيه بمن يهوى في روضة لم يشاركهم في سكناها غير الهديل، وأبياته الآتية غاية من غايات الحسن في وصف الشمس وهي تجنح للغروب:
وعشي رائق منظره
قد قطعناه على صرف الشمول
وكأن الشمس في أثنائه
ألصقت بالأرض خدا للنزول
والصبا ترفع أذيال الربا
ومحيا الجو كالسيف الصقيل
حبذا منزلنا مغتبقا
حيث لا يطرقنا غير الهديل
طائر شاد وغصن منثن
والدجى تشرب صهباء الأصيل
ومما يقرب من هذا الباب وليس منه قول القاضي أبي حفص القرطبي:
هم نظروا لواحظها فهاموا
وتشرب لب شاربها المدام
يخاف الناس مقلتها سواها
أيذعر قلب حامله الحسام
سما طرفي إليها وهو باك
وتحت الشمس ينسكب الغمام
وأذكر قدها فأنوح وجدا
على الأغصان ينتحب الحمام
وأعقب بينها في الصدر غما
إذا غربت ذكاء أتى الظلام
التقرب بالدموع
خير ما تقرب به المحب إلى حبيبه دمع مسفوح، وقلب مجروح، ووجد مشبوب، وصبر مغلوب. والتقرب بالدمع نوع من الاستعطاف تغزى به قلوب الحسان، ومن طريفه قول الأبيوردي:
أشكو الهوى لترقي يا أميمة لي
فطالما رفق المشكو بالشاكي
يشقى بعضي ببعضي في هواك فما
للعين باكية والقلب يهواك
وهذا المعنى غير معروف عند العرب؛ فهم يرون بكاء العين من فضل حزن الفؤاد، حتى ليقولون: نعمت العين، وشقي القلب، ولكن الأبيوردي عكس المعنى، فجعل نعيم القلب في الهوى، وعذاب العين في البكاء، ثم قال:
إن يحك ثغرك دمعي حين أسفحه
فإنني جدت للمحكي بالحاكي
ما كنت أحسب أن الدر مسكنه
يكون جيدك أو عيني أو فاك
وأوضح من هذا وأجمل قول الشريف:
أهون بما حملتنيه من الضنى
لو أن طيفك كان من عوادي
ولقلما زار الخيال بمقلة
روعاء نافرة بغير رقاد
ما تلتقي الأجفان منها ساعة
وإذا التقت فلغض دمع باد
لا يبعدن قلبي الذي خلفته
وقفا على الإتهام والإنجاد
إن الذي غمر الرقاد وساده
لم يدر كيف نبا علي وسادي
ولقد بعثت من الدموع إليكم
بركائب ومن الزفير بحادي
لولا هواك لما ذللت وإنما
عزي يعيرني بذل فؤادي
وهكذا يجمع الشريف الرضي بين العزة القرشية، والذلة العذرية؛ فهو عزيز ذليل! وللبحتري حوار لطيف في هذا الباب، فمن ذلك قوله:
صلي مغرما قد واتر الشوق دمعه
سجاما على الخدين بعد سجام
فليس الذي حللته بمحلل
وليس الذي حرمته بحرام
وقد ردد هذا المعنى في موطن آخر فقال:
ألام على هواك وليس عدلا
إذا أحببت مثلك أن ألاما
فقد حرمت من وصلي حلالا
وقد حللت من هجري حراما
ولا يسعني وقد أسرف البحتري في ذكر الحرام والحلال، إلا الرجاء في أن ينصف هذا المظلوم يوم يقوم الحساب. وقد رق شعر العباس بن الأحنف حين يقول:
أما استوجبت عيني فديتك نظرة
إليك وقد أبكيتها حججا عشرا
لعمري لئن أقررت عيني بنظرة
إليك لقد عذبتها بالبكا دهرا
ويقرب من هذا قوله من كلمة ثانية:
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى
وفاضت له من مقلتي غروب
وما ذاك إلا حين أيقنت أنه
يمر بواد أنت منه قريب
يكون أجاجا دونكم فإذا انتهى
إليكم تلقى طيبكم فيطيب
أيا ساكني أكناف دجلة كلكم
إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
وقد تلطف ابن التعاويذي في شكوى حاله إلى من يهوى بقوله:
يا موحش العين التي
أنست بطول بكائها
غادرت بين جوانحي
نفسا تموت بدائها
تشتاق عيني أن ترا
ك وأنت في سودائها
فإذا بخلت بنظرة
سمحت بجمة مائها
ومن مبتدعات المتأخرين في هذا المعنى قول بعض الشعراء:
وقلت شهودي في هواك كثيرة
وأصدقها قلبي ودمعي مسفوح
فقال شهود ليس يقبل قولها
فدمعك مقذوف وقلبك مجروح
وهو كلام قد يطمئن له الفقهاء والمحدثون، لطول ما يبحثون في القذف والتجريح، وما أغنى الشعر عن تفسير أولئك وتأويل هؤلاء! •••
وقد يتوسل المحب بفنائه في الوجد، ومن شعراء العصر من أجاد هذا المعنى، كصاحب البدائع حين يقول:
يا أهل أسيوط لا زلتم بعافية
وإن تمرد في وجدي بكم دائي
أسلمتموني لدهري بعد ما بليت
من قسوة الصد والتبريح أحشائي
فلو أتت ظبية الحمراء غازية
قلبي لما وجدته غير أشلاء
1
يا ويح نفسي، أتنسوني وأذكركم
مقرح الجفن في صبح وإمساء •••
إن الذين بأمر الحب قد ملكوا
لم يتقوا الحب في ضري وإيذائي
لم يدنني الشوق يوما من منازلهم
إلا تولوا مع الأيام إقصائي
كم رحت أحمل آمالي لحيهم
وعدت أحمل آلامي وأرزائي
يا لوعة القلب لا شكواي نافعة
ولا بكاي بشاف مس ضرائي
أبيت أندب عهدا مر طيبه
كلمحة البرق في أعطاف ظلماء
وأرسل الزفرة الحراء لافحة
كوقدة الجمر في أجسام قصباء •••
يا من يعز علينا أن نجازيهم
صدا بصد وإغضاء بإغضاء
لو ترحمون وصلتم شيقا كلفا
ألقى جفاكم عليه ألف بأساء
ثورة الوجد
نذكر هنا طرفا من الشعر الموجع، الذي يمثل ثورة الوجد، ولوعة الأسى، فمن ذلك قول أبي تمام:
سقيم لا يموت ولا يفيق
قد أقرح جفنه الدمع الطليق
شديد الحزن يحزن من يراه
أسير الصبر ناظره أريق
ضجيع صبابة وحليف شوق
تحمل قلبه ما لا يطيق
يظل كأنه مما احتواه
يسعر في جوانبه الحريق
وأي حال أدعى للرحمة، وأوجب للإشفاق، من حال هذا المحب السقيم، الذي لا يموت ولا يفيق، والذي يحزن من يراه؛ لصبره الأسير، وناظره الأريق والذي حالف في ضعفه الشوق، وضاجع الصبابة، حتى لكأنه مما به، تسعر النار في ضلوعه.
ويقرب من هذا قول ابن الرومي في فراق اثنين من خلانه:
لم يسترح من له عين مؤرقة
وكيف يعرف طعم الراحة الأرق
محمد وعلي فتتا كبدي
إذا ذكرتهما والعيس تنطلق
خلان حل بقلبي من فراقهما
ما كنت أحذر منه قبل نفترق
قلب رقيق تلظت في جوانبه
نار الصبابة حتى كاد يحترق
وددت لو تم لي حجي بقربهما
ما كل ما تشتهيه النفس يتفق
ومما يمثل ثورة الوجد في الصدر، مع الغيظ مما جنت يد الليالي، قول المتنبي:
أكيدا لنا يا بين واصلت وصلنا
فلا دارنا تدنو ولا عيشنا يصفو
أردد ويلي، لو قضى الويل حاجة
وأكثر لهفي، لو شفا غلة لهف
ضنى في الهوى كالسم في الشهد كامنا
لذذت به جهلا وفي اللذة الحتف
وكان الأبيوردي يمثل وجده بوجد الظبية تترك ولدها في طلب الكلأ ثم تعود سريعة إلى لقائه فتجده مات. وإليك من شعره هذه اللؤلؤة الفتانة:
وما أم ساجي الطرف مال به الكرى
على عذبات الجزع تحسبه قلبا
تراعي بإحدى مقلتيها كناسها
وترمي بأخرى نحوه نظرا غربا
فلاح لها من جانب الرمل مرتع
كأن الربيع الطلق ألبسه عصبا
فمالت إليه والحريص إذا غدت
به سورة الأطماع لم يحمد العقبى
وآنسها المرعى الخصيب فصادفت
مدى العين في أرجائه بلدا خصبا
فلما قضت منه اللبانة راجعت
طلاها فألفته قضى بعدها نحبا
أتيح له عاري السواعد لم يزل
يخوض إلى أوطاره مطلبا صعبا
فولت على ذعر وبالنفس ما بها
من الكرب لا لقيت في حادث كربا
بأوجد مني يوم عجت ركابها
لبين فلم تترك لذي صبوة لبا
وهذه الصورة الشعرية كثيرة الأمثال في الآداب القديمة، وإنما نسبناها إلى الأبيوردي لأنه يرددها في شعره، فمن ذلك قوله في كلمة ثانية:
وما مغزل تعطو الأراك يهزه
نسيم تناجيه الخمائل وان
1
وتزجي بروقيها أغن كأنه
من الضعف يطوي الأرض بالرسفان
2
فمال إلى الظل الأراكي دونها
وكانا به من قبل يرتديان
وصبت عليه الطلس وهي سواغب
تجوب إليه البيد بالنسلان
3
فعادت إليه أمه وفؤادها
هفا كجناح الصقر في الخفقان
وظلت على الجرعاء ولهى كئيبة
وقد سال واديها بأحمر قان
تسوف الثرى طورا ويعبث تارة
بها أولق من شدة الولهان
4
بأوجد مني يوم سرت إلى الحمى
وقد نزلت سمراء سفح أبان
5
ونحب أن نلفت القارئ إلى ما في أمثال هذه الصور الشعرية من الكلف بتصوير الطبيعة، وما فيها من حياة الحيوان، فقد أغرم شعراء الغرب بهذا الأسلوب، فزاد شعرهم جمالا إلى جمال. ولولا الرغبة في الإيجاز لنقلت قطعة من شعر (ألفريد دي ميسيه) تماثل شعر الأبيوردي في هذا الجانب من البيان. والناس هم الناس، في كل قطر، وفي كل جيل، والتباين قليل في الميول، وفي تذوق ألوان الحياة، وإن عظم الفرق حينا في التعبير عن نزعات النفوس، وشهوات العقول.
ومن خالد الشعر في ثورة الوجد نونية الوزير ابن زيدون، وقد رأينا أن نثبتها هنا كاملة - كما فعل المقري صاحب نفح الطيب - لأنها ذكرت مفرقة في أكثر المؤلفات:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طبيب لقيانا تجافينا
من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم
حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا
أن الزمان الذي قد كان يضحكنا
أنسا بقربهم قد عاد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا
بأن نغص فقال الدهر آمينا
فانحل ما كان معقودا بأنفسنا
وانبت ما كان موصولا بأيدينا
بالأمس كنا وما يخشى تفرقنا
فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا
يا ليت شعري ولم نعتب أعاديكم
هل نال حظا من العتبى أعادينا
6
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم
رأيا ولم نتقلد غيره دينا
كنا نرى اليأس تسلينا عوارضه
وقد يئسنا، فما لليأس يغربنا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين نناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى، لولا تأسينا
7
حالت لبعدكم أيامنا فغدت
سودا وكانت بكم بيضا ليالينا
إذ جانب العيش طلق من تألفنا
ومورد اللهو صاف من تصافينا
وإذ هصرنا فنون الوصل دانية
قطوفها فجنينا منه ما شينا
ليسق عهدكم عهد السرور فما
كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
لا تحسبوا نأيكم عنا بغيرنا
إذ طالما غير النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلا
منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا •••
يا ساري البرق غاد القصر فاسق به
من كان صرف الهوى والود يسقينا
واسأل هنالك هل عنى تذكرنا
إلفا تذكره أمسى يعنينا
8
ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا
من لو على البعد حيا كان يحيينا
وبيت ملك كأن الله أنشأه
مسكا وقد أنشأ الله الورى طينا
أو صاغه ورقا محضا وتوجه
من ناصع التبر إبداعا وتحسينا
9
إذا تأود آدته رفاهية
تدمي العقول وأدمته البرى لينا
10
كانت له الشمس ظئرا في تكلله
بل ما تجلى بها إلا أحايينا
11
كأنما نبتت في صحن وجنته
زهر الكواكب تعويذا وتزيينا
ما ضر أن لم نكن أكفاءه شرفا
وفي المودة كاف من تكافينا
12
يا روضة طالما أجنت لواحظنا
وردا جناه الصبا غضا ونسرينا
ويا حياة تملأنا بزهرتها
منى ضروبا ولذات أفانينا
13
ويا نعيما خطرنا من نضارته
في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا
لسنا نسميك إجلالا وتكرمة
فقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا
إذا انفردت وما شوركت في صفة
فحسبنا الوصف إيضاحا وتبيينا •••
يا جنة الخلد أبدلنا بسلسلها
والكوثر العذب زقوما وغسلينا
كأننا لم نبت والوصل ثالثنا
والسعد قد غض من أجفان واشينا
سران في خاطر الظلماء تكتمنا
حتى يكاد لسان الصبح يفشينا
لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت
عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا
إنا قرأنا الأسى يوم النوى سورا
مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا
أما هواك فلم نعدل بمشربه
شربا وإن كان يروينا فيظمينا
14
لم نجف أفق جمال أنت كوكبه
سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختيارا تجنبناك عن كثب
لكن عدتنا على كره عوادينا
15
نأسى عليك إذا حثت مشعشعة
فينا الشمول وغنانا مغنينا
لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا
سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا
دومي على العهد ما دمنا محافظة
فالحر من دان إنصافا كما دينا
فما استعضنا خليلا عنك يحبسنا
ولا استفدنا حبيبا منك يغنينا
ولو صبا نحونا من أفق مطلعه
بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا
أولي وفاء وإن لم تبذلي صلة
فالطيف يقنعنا والذكر يكفينا
وفي الجواب شفاء لو شفعت به
بيض الأيادي التي ما زلت تولينا
وقد أغرم الشعراء بتخميس هذه القصيدة، وتسديسها، وتشطيرها، وكذلك شغلت الأذهان زمنا غير قليل. وقد أرسل ابن زيدون هذه القصيدة إلى معشوقته ولادة، وهي سيدة أندلسية ظريفة من بنات الخلفاء الأمويين، وقد كانت في جمالها شاعرة مجيدة، ومن شعرها هذان البيتان تدعو بهما ابن زيدون:
ترقب إذا جن الظلام زيارتي
فإني رأيت الليل أكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالفجر لم يلح
وبالليل لم يظلم وبالنجم لم يسر
ولابن زيدون في ولادة مقطعات حسان، كقوله:
واها لعطفك والزمان كأنما
صبغت نضارته ببرد صباك
والليل مهما طال قصر طوله
هاتي، وقد غفل الرقيب، وهاك
أما منى نفسي فأنت جميعها
يا ليتني أصبحت بعض مناك
يدني مثالك حين شط به النوى
وهم أكاد به أقبل فاك
ومن موجع الشعر قوله:
بيني وبينك ما لو شئت لم يضع
سر إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعا حظه مني ولو بذلت
لي الحياة بحظي فيه لم أبع
ولصديقنا الأستاذ أنيس ميخائيل ولع غريب بإنشاد قول ابن زيدون:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا
والأفق طلق ووجه الروض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله
كأنما رق لي فاعتل إشفاقا
والنهر عن مائه الفضي مبتسم
كما حللت عن اللبات أطواقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت
بتنا لها حين نام الدهر سراقا
نلهو بما يستميل العين من زهر
جال الندى فيه حتي مال أعناقا
كأن أعينه إذ عاينت أرقي
بكت لما بي فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته
فازداد منه الضحى في العين إشراقا
سرى ينافحه نيلوفر عبق
وسنان نبه منه الصبح أحداقا
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا
إليك لم يعد عنا الصدر أن ضاقا
لو كان وفى المنى في جمعنا بكم
لكان من أكرم الأيام أخلاقا
لا سكن الله قلبا عن ذكركم
فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
لو شاء حملي نسيم الريح حين هفا
وافاكم بفتى أضناه ما لاقى
كان التجازي بمحض الود مذ زمن
ميدان أنس جرينا فيه أطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم
سلوتم وبقينا نحن عشاقا
وإني لمفتون بهذا الشطر الحزين:
سلوتم وبقينا نحن عشاقا
فإنه يمثل المحب، وقد سلا أحبابه، وبقي وحده يعاني آلام الوجد، وأهوال الصدود.
الأرق والسهاد
شكا الشعراء قديما وحديثا طول الليل بعد الفراق، وعند الهجر والصدود. فمنهم من يستنجد محبوبه، ويستعديه على وحشة الليل، ومضاضة الأرق، كقول الأبيوردي:
أأميم إن خفيت عليك صبابتي
فسلي ظلام الليل كيف أكون
واستخبري عني النجوم فقد رأت
سهري وأروقة الغياهب جون
ولئن أذلت مصون دمعي في الهوى
فعلى البكاء يعول المحزون
وهذه الأبيات من خير ما قال المحبون في شكوى الوجد، وعبثه بكرائم النفوس. ومنهم من يستعين من حوله، ويرجوهم أن يحدثوه عن النهار، أو يصفوه له، فقد طال ليله، حتى نسي النهار، وأوصاف النهار، كما قال ابن الأحنف:
أيها الراقدون حولي أعينو
ني على الليل حسبة وائتجارا
حدثوني عن النهار قليلا
أو صفوه فقد نسيت النهارا
وابن الأحنف يجيد شكوى الليل الطويل، والسهاد المملول، فمن ذلك قوله:
نام من أهدى لي الأرقا
مستريحا سامني قلقا
لو يبيت الناس كلهم
بسهادي بيض الحدقا
أنا لم أرزق مودتكم
إنما للعبد ما رزقا
كان لي قلب أعيش به
فاصطلى بالحب فاحترقا
وتوجعني شكواه في قوله:
أنا لم أرزق مودتكم
إنما للعبد ما رزقا
فقد تكلف النفس بفتنة من فتن الحسن في هذا الوجود، ثم لا تجد إليها السبيل، على أن هذا الحسن قد يكون زمامه بيد من لا يشعر بروعة الجمال.
ومن الشعراء من يظعن أحبابه بالليل، فيظعن بذلك الكرى عن جفونه، كالبحتري حين يقول:
أمولعة بالبين رب تفرق
جرحت به قلبا بحبك مولعا
ولي لوعة تستغرق الهجر والنوى
جميعا وحب ينفد الدمع أجمعا
على أن قلبي قد تصدع شمله
فنونا لشمل البيض حين تصدعا
ظعائن أظعن الكرى عن جفوننا
وعوضننا منه سهادا وأدمعا
نوين النوى ثم استجبن لهاتف
من البين نادى بالفراق فأسمعا
وحاولن كتمان الترحل بالدجى
فنم بهن المسك حين تضوعا
وقد يفزع المحب إلى تحكيم العدل والحق، حين تطول لياليه، كقول ابن الرومي:
أيا شمس النهار سنا وعزا
يقصر عنهما نظر ولمس
أحل أن تنامي عن سهادي
ولي مذ بان عني النوم خمس
أميز كل شيء من أموري
سوى أمري لديك ففيه لبس
غرست هوى فربيه بحفظ
فليس يرب بالتضييع غرس
ومن الشعراء من يتفنن في وصف الليل فيذكر أن نجومه أقسمت لا تزول، كقول أحدهم:
ألا هل على الليل الطويل معين
إذا نزحت دار وحن حزين
أكابد هذا الليل حتى كأنما
على نجمه أن لا يغور يمين
ووالله ما فارقتكم قاليا لكم
ولكن ما يقضى فسوف يكون
ومنهم من يزيد على ذلك شوقه إلى تمزيق سرابيل الليل، وظهور تباشير الصبح، كقول حندج بن حندج:
في ليل صول تناهى العرض والطول
كأنما ليله بالليل موصول
لا فارق الصبح كفي إن ظفرت به
وإن بدت غرة منه وتحجيل
لساهر طال في صول تململه
كأنه حية بالسوط مقتول
متى أرى الصبح قد لاحت مخائله
والليل قد مزقت عنه السرابيل
ليل تحير ما ينحط في جهة
كأنه فوق متن الأرض مشكول
نجومه ركد ليست بزائلة
كأنما هن في الجو القناديل
ما أقدر الله أن يدني على شحط
من داره الحزن ممن داره صول
الله يطوي بساط الأرض بينهما
حتى يرى الربع منه وهو مأهول
نعم وما أقدر الله أن يدني على النوى من داره سنتريس ممن داره أسيوط.
لوددت إذ سكنوا هنالك دارهم
وعدتهم عنا أمور تشغل
أنا نطاع إذن فتنقل أرضنا
أو أن أرضهم إلينا تنقل
وقد شبه ابن الرومي نجوم الليل بنجوم الشيب حين قال:
رب ليل كأنه الدهر طولا
قد تناهى فليس فيه مزيد
ذي نجوم كأنهن نجوم الشي
ب ليست تزول لكن تزيد
قال أبو بكر الوليد بن البزاز: كان علي بن الجهم يستنشدني كثيرا شعر خالد الكاتب، فأنشده فيقول: ما صنع شيئا. ثم أنشدته يوما قوله:
رقدت ولم ترث للساهر
وليل المحب بلا آخر
ولم تدر بعد ذهاب الرقا
د ما صنع الدمع بالناظر
فقال: قاتله الله! لقد أدمن الرمية حتى أصاب الغرة! وجمال هذا الشعر يرجع إلى شكوى المحب ما صنع الدمع بناظره بعد جفوة النوم. ومثله قول أبي العتاهية:
أمسى ببغداد ظبي لست أذكره
إلا بكيت إذا ما ذكره خطرا
إن المحب إذا شطت منازله
عن الحبيب بكى أو حن أو ذكرا
يا رب ليل طويل بت أرقبه
حتى أضاء عمود الصبح فانفجرا
ما كنت أحسب إلا مذ عرفتكم
أن المضاجع مما ينبت الإبرا
والليل أطول من يوم الحساب على
عين الشجي إذا ما نومه نفرا
ومن المحبين من يخاطب الليل. فيذكر في خطابه أن بعض ما به كاف لمحو الليل لو عرض له، كقول سعيد بن حميد:
يا ليل بل يا أبد
أنائم عنك غد
يا ليل لو تلقى الذي
ألقى بها أو تجد
قصر من طولك أو
ضعف منك الجلد
أشكو إلى ظالمة
تشكو الذي لا تجد
وقف عليها ناظري
وقف عليها السهد
وأود لو تنبه القارئ إلى حسن هذا البيت:
أشكو إلى ظالمة
تشكو الذي لا تجد
وقد ذكر الفرزدق العلة في طول الليل فقال:
يقولون طال الليل والليل لم يطل
ولكن من يبكي من الشوق يسهر
وقد تابعه بشار في هذا المعنى فقال:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم
ونفى عني الكرى طيف ألم
وإذا قلت لها جودي لنا
خرجت بالصمت عن لا ونعم
نفسي يا عبد عني واعلمي
أنني يا عبد من لحم ودم
إن في بردي جسما ناحلا
لو توكأت عليه لانهدم
وقد ردد هذا المعنى في كلمة ثانية فقال:
طال هذا الليل بل طال السهر
ولقد أعرف ليلي بالقصر
لم يطل حتى جفاني شادن
ناعم الأطراف فتان النظر
لي في قلبي منه لوعة
ملكت قلبي وسمعي والبصر
وكأن الهم شخص ماثل
كلما أبصره النوم نفر
على أن بشارا يتخطى هذا الحد، فيجاري الشعراء، ويحسب أن ليس لليله نهار، وذلك في قوله:
أقول وليلتي تزداد طولا
أما لليل بعدهم نهار
جفت عيني عن التغميض حتى
كأن جفونها عنها قصار
وليس للبيت الثاني قيمة من الوجهة الأدبية؛ لأن الغمض لا يجفو العيون، لقصر الجفون، كما يقول، وإنما يجفوها لثورة الوجد، وهجمة الأشجان.
ويقول في كلمة ثانية:
خليلي ما بال الدجى لا تزحزح
وما لعمود الصبح لا يتوضح
أضل النهار المستنير طريقه
أم الدهر ليل كله ليس يبرح
وطال علي الليل حتى كأنه
بليلين موصول فما يتزحزح
والبيت الأخير يذكرني بقول صاحب البدائع:
وجن علي الليل حتى حسبته
جفاء كريم أو رجاء لئيم
وإن كان هذا في الحديث عن ظلام الليل، لا عن طوله.
وتروقني البساطة في قول سويد بن أبي كاهل:
وإذا ما قلت ليل قد مضى
عطف الأول منه فرجع
يسحب الليل نجوما ظلعا
فتواليها بطيئات التبع
والخيال هنا خيال بادية، ولكنه في بداوته بديع، وقول الآخر:
سلو مضجعي هل قر من بعد بعدكم
وهل عرفت طعم الرقاد جفوني
سهرنا بنعمان ونمتم ببابل
فما لعيون ما وفت لعيون
وهو يذكرني بقول بعض الأعراب:
لعمري لئن كنتم على النأي والغنى
بكم مثل ما بي إنكم لصديق
فما ذقت طعم النوم منذ هجرتكم
ولا ساغ لي بين الجوانح ريق
إذا زفرات الحب صعدن في الحشا
كررن فلم يعلم لهن طريق
ومما جمع بين الشكوى من ليل الفراق، وذكرى ليل الوصال قول عبد الرحمن بن هشام:
طال عمر الليل عندي
مذ تولعت بصدي
يا غزالا نقض العه
د ولم يوف بوعد
أنسيت العهد إذ بت
نا على مفرش ورد
واجتمعنا في وشاح
وانتظمنا نظم عقد
ونجوم الليل تحكي
ذهبا في لازورد
ومن الشعراء من لا يبالي طول الليل في غيبة الحبيب، كقول ابن زيدون:
يا ليل طل لا أشتهي
إلا لعهدي قصرك
لو بات عندي قمري
ما بت أرعى قمرك
وليالي القمر في سنتريس عذبة المذاق، شهية الورود، وما أحسب المصريين عبدوا النيل إلا حين رأوه يداعب القمر في ضواحي سنتريس، ذات الظلال والأفنان.
ليالي النيل واللذات ذاهبة
وجدي عليكن أشجاني فأضناني
لو يرجع الدهر لي منكن واحدة
في سنتريس ويدني بعض خلاني
إذن تبين دهري كيف يرحمني
من ظلم همي ومن عدوان أحزاني
وقد أجاد شعراء العصر وصف الأرق في الليل الطويل. فمن ذلك قول شوقي:
بدأ الطيف بالجميل وزارا
يا رسول الرضا وقيت العثارا
خذ من الجفن والفؤاد سبيلا
وتيمم من السويداء دارا
أنت إن بت في الجفون فأهل
عادة النور ينزل الأبصارا
زار والحرب بين جفني ونومي
قد أعد الدجى لها أوزارا
سألتني عن النهار جفوني
رحم الله يا جفوني النهارا
قلن نبكيه قلت هاتي دموعا
قلن صبرا فقلت هاتي اصطبارا
يا ليالي لم أجدك طوالا
بعد ليلي ولم أجدك قصارا
إن من يحمل الخطوب كبارا
لا يبالي بحملهن صغارا
لم نفق منك يا زمان فنشكو
مدمن الخمر ليس يشكو الخمارا
وقال حافظ:
سكن الظلام وبات قلبك يخفق
وسطا على جنبيك هم مقلق
حار الفراش وحرت فيه فأنتما
تحت الظلام معذب ومؤرق
درج الزمان وأنت مفقود المنى
ومضى الشباب وأنت ساه مطرق
وقال القاياتي:
جن الظلام فما يزاح
يا ويلتا أين الصباح
ليل كأن نجومه
يطلعن في كبدي جراح
يا من أتاح لي الأسى
برد الفؤاد متى يتاح
قلب أساه لاعج
لولا تحجبه لفاح
ما بال دمعي يستبا
ح وحاجتي ليست تباح
وقال العقاد يخاطب الليل :
طويت أزمة الأجساد منا
فدانت وانطوت عنك القلوب
فما تدري أتسكن حين مالت
إلى تلك المضاجع أم تجوب
وما تدري أباتت في جحيم
أم الجنات مرتعها الخصيب
وما تدري أيسمع في دجاها
هتاف للبلابل أم نعيب
عقدت من الكرى وطنا رفيقا
وكل مسهد فيه غريب
تضيق به الوسائد والحشايا
وتلفظه المسالك والدروب
وحيد لا يقاربه بعيد
ولا يدري بلوعته القريب
فيا وطن النيام بكل فج
أمن حرج بك السهد المريب
ويا سكن الأحبة والأعادي
أليس بساحليك لنا نصيب
ويا دار السلام بأي سد
يصد الطرف مربعك الرحيب
لئن هجعت بساحتك المآقي
لما هجعت بساحتك الخطوب
كأن جموعهن سباع ليل
تبيت على فرائسها تلوب
فهل عند الظلام لنا حديث
يحاذر أن يلم به رقيب
أم ادخر الظلام لنا متاعا
يضن بلمحه الحلم الكذوب
سهرنا يا ظلام فلم يصبنا
على طول المدى إلا الشحوب
وإلا حلكة فيها تلاقي
سواد القلب والطرف الكئيب
والعقاد يكثر في شعره من شكوى الليل الطويل، وقد يشجيك حين ينظر إلى نفسه فيحسبها من اليأس أمست وهي خراب ينعب على أطلالها البوم. وانظر كيف يقول:
وناعبة صاحت ولليل هجعة
فقال علام البوم ينعب ناعيا
لقبحت من عمياء تقرأ في الدجى
إذا اسود أسطار الخراب الخوافيا
فقلت على النفس التي سوف تغتدي
طلولا بأحناء الضلوع حوانيا
تجوس أفاعي الحزن في جنباتها
ويا ربما تؤوي الضلوع الأفاعيا
فلا تحسبن البوم تنعي المغانيا
فقد تندب البوم النفوس البواليا
وكم وحشة للنفس يخشى اقتحامها
أخو غمرات ليس يخشى الفيافيا
وما أجمل قوله في هذه القصيدة:
ولما تقضى الليل إلا أقله
وحان التنائي جئت بالدمع باكيا
فأقبل يرعاني ويبكي وربما
بكى الطفل للباكي وإن كان لاهيا
وزحزحني عنه بكف رفيقة
وأسبل أهداب الجفون السواجيا
يقول لقد ران الكرى وتفرقت
نجوم الدجى والديك أصبح داعيا
فقلت وكم من ليلة إثر ليلة
سهرت وقد أمسيت وحدك غافيا
فهب لوداعي من رقادك ليلة
تمر فإني قد وهبت حياتيا
وأسلمت كفي كفه فأعادها
وقلبي! فهلا أرجع القلب ثانيا؟
الطبيعة في أنفس الشعراء
لقد أكثر شعراء الغرب من الحديث عن الطبيعة، حتى لتحسب أن ذلك سمة من سماتهم، لا يشاركهم فيها أحد من العالمين.
ونريد أن نبين في هذه الكلمة أن شعراء العرب وردوا هذا المنهل، ونقعوا صداهم بمائه العذب الفرات، فإن الطبيعة ملك لجميع العيون في جميع الأقطار، والشعور بها والجنوح إليها من حاجات الفطرة، التي تسوي بين مختلف الشعوب، والتي تجمع حولها شتى العواطف والأهواء.
ونحن نعلم أن شعراء الغرب أكثروا من وصف السحاب؛ إذ كانت بلادهم غزيرة المطر، وإذ كانت آذانهم وأبصارهم أليفة لدوي الرعد، ولمع البرق، على أن شعراء العرب لم يقصروا في هذا الباب، ويكفي أن نذكر قول البحتري يصف سحابة:
ذات ارتجاز بحنين الرعد
مجرورة الذيل صدوق الوعد
مسفوحة الدمع لغير وجد
لها نسيم كنسيم الورد
ورنة مثل زئير الأسد
ولمع برق كسيوف الهند
جاءت بها ريح الصبا من نجد
فانتثرت مثل انتثار العقد
فراحت الأرض بعيش رغد
من وشي أنوار الربى في برد
كأنما غدرانها في الوهد
يلعبن من حبابها بالنرد
ومن أظهر الدلائل على سكون العرب إلى الطبيعة، وإخلادهم إلى مواردها الشهية أنهم يقرنون الحنين إلى معاهدهم بالدعاء لها بالسقيا وتراوح النسمات. وإليك قول الشريف:
أمعاهد الأحباب هل عود إلي
مغدى نبل به الجوى ومراح
يكفيك من أنفسنا ودموعنا
أن تمطري من بعدنا وتراحي
فلرب عيش فيك رق نسيمه
كالماء رق على جنوب بطاح
وتغزل كصبا الأصائل أيقظت
ريا خزامى باللوى وأقاح
كم فيك من صاحي الشمائل منتش
بالدل أو مرضى العيون صحاح
فسقى اللوى صوب الغمام ودره
وسقى النوازل فيه صوب الراح
وقد يقوى شعورهم «بشخصية» الطبيعة، حتى ليخاطبون الفلك الدائر، وينذرونه بالفناء! انظر قول البحتري:
أناة أيها الفلك المدار
أنهب ما تصرف أم جبار
ستفنى مثل ما تفني وتبلى
كما تبلي فيدرك منك ثار
تناب النائبات إذا تناهت
ويدمر في تصرفه الدمار
وما أهل المنازل غير ركب
مطاياهم رواح وابتكار
وانظر قول أبي القاسم ابن هانئ :
تفنى النجوم الزهر طالعة
والنيران: الشمس والقمر
ولئن تبدت في مطالعها
منظومة فلسوف تنتثر
ولئن سعى الفلك المدار بها
فلسوف يسلمها وينفطر
وانظر قول العتابي في وداع جارية له:
ما غناء الحذار والإشفاق
وشآبيب دمعك المهراق
ليس يقوى الوجد منك على الوج
د ولا مقلتا طليح المآقي
غدرات الأيام منتزعات
ما جنينا من طول هذا العناق
إن قضى الله أن يكون تلاق
بعدما تنظرين كان تلاق
هوني ما عليك واقني حياء
لست تبقين لي ولست بباق
أينا قدمت صروف المنايا
فالذي أخرت سريع اللحاق
غر من ظن أن تفوت المنايا
وعراها قلائد الأعناق
كم صفيين متعا باتفاق
ثم صارا لغربة وافتراق
قلت للفرقدين والليل ملق
سود أكنافه على الآفاق
ابقيا ما بقيتما سوف يرمى
بين شخصيكما بسهم الفراق
وإنما قلت «شخصية الطبيعة» لأدل القارئ على مبلغ ما سما إليه العرب حين كلفوا بالنظر إلى الوجود ... وانظر قول الحسين بن وهب في وصف النار وقد نفرت منها إحدى الجواري الحسان:
بأبي، كرهت النار حتى أبعدت
فعلمت ما معناك في إبعادها
هي ضرة لك في التماع ضيائها
وهبوب نفحتها لدى إيقادها
وأرى صنيعك في القلوب صنيعها
بسيالها وأراكها وعدادها
شركتك في كل الأمور بفعلها
وضيائها وصلاحها وفسادها
ولينظر القارئ نظرة خاصة إلى قول علي بن شعيب:
انزعي الوشي فهو يستر حسنا
لم تحزه برقمهن الثياب
ودعيني عسى أقبل ثغرا
لذ فيه اللمى وطاب الرضاب
وعجيب أن تهجريني ظلما
وشفيعي إلى صباك الشباب
فإنا نجده تخطى كل الأسوار الصناعية التي يحيط بها الشعراء أغراضهم، ثم هجم على المعنى وأخذ بنواصيه، حين قال: «وشفيعي إلى صباك الشباب» ولم يقل: وشفيعي إلى صباك حبي وهيامي، ووجدي وغرامي، وخشوعي وخضوعي، إلى آخر ما يقول المتيمون!
وانظر قول محمد البطليوسي:
غصبوا الصباح فقسموه خدودا
واستنهبوا قضب الأراك قدودا
رأوا حصا الياقوت دون محلهم
فاستبدلوا منه النجوم عقودا
واستودعوا حدق المها أجفانهم
فسبوا بهن ضراغما وأسودا
لم يكفهم حمل الأسنة والظبا
حتى استعانوا أعينا ونهودا
وتضافروا بضفائر أبدت لنا
ضوء النهار بليلها معقودا
صاغو الثغور من الأقاحي بينها
ماء الحياء لو اغتدى مورودا
ويكاد هذا الشعر يكون عبادة للطبيعة، ولن يغيب على أحد ما فيه من سمو الخيال.
وانظر كيف يكون كمون الحتف في الجفون، وكمون الموت في السيوف، في قول السري الرفاء:
بنفسي من أجود له بنفسي
ويبخل بالتحية والسلام
ويلقاني بعزة مستطيل
وألقاه بذلة مستهام
وحتفي كامن في مقلتيه
كمون الموت في حد الحسام
ويجيد شعراء العرب حين يمزجون وصف الطبيعة بالمعاني الوجدانية فكأنما يريدون أن يشركوا الوجود في نعيمهم وبؤسهم، وهذا في ذاته ملحظ بديع، ولننظر قول صردر:
يقول خليلي والظباء سوانح
أهذي التي تهوى؟ فقلت نظيرها
لئن أشبهت أجيادها وعيونها
لقد خالفت أعجازها وصدورها
فيا عجبا منها يصد أنيسها
ويدنو على ذعر إلينا نفورها
وما ذاك إلا أن غزلان عامر
يثقن بأن الزائرين صقورها
ووالله ما أدري غداة نظرننا
أتلك سهام أم كئوس تديرها
فإن كن من نبل فأين حفيفها
وإن كن من خمر فأين سرورها
أيا صاحبي استأذنا لي خمرها
فقد أذنت لي في الوصال خدورها
هباها تجافت عن خليل يروعها
فهل أنا إلا كالخيال يزورها
وقد قلتما لي ليس في الأرض جنة
أما هذه فوق الركائب حورها
فلا تحسبي قلبي طليقا فإنما
له الصدر سجن وهو فيه أسيرها
أراك الحمى قل لي بأي وسيلة
وصلت إلى أن صادفتك ثغورها
وإن فروع البان من أرض بيشة
حبيب إلي ظلها وحرورها
ألذ من الورد الجني عرارها
وأحلى من الشهد المصفى بريرها
على رسلكم في الحب إنا عصابة
إذا ظفرت في الحب عف ضميرها
ولسنا بصدد الموازنة بين شعراء الغرب والشرق في النظر إلى الطبيعة، فإن هذا باب طويل، وإنما نشير فقط إلى أن الناس سواء في الإحساس بمظاهر الوجود، وإنما يختلفون في طرائق التعبير، وأساليب البيان.
مداراة الرقباء
للعشاق أساليب مختلفة في معاملة الرقباء والوشاة، فمنهم من يداريهم ويرصد غفلتهم، كقول ابن المعتز:
أرد الطرف من حذري عليه
وأمنحه التجنب والصدودا
وأرصد غفلة الرقباء عنه
لتسرق مقلتي نظرا جديدا
وكقول السري الرفاء:
ونواظر وجد المحب فتورها
لما استقل الحي في أعضائه
ما كان هذا البين أول جمرة
أذكت لهيب الشوق في أحشائه
لولا مساعدة الدموع ودفعها
خوف الفراق أتى على حوبائه
1
وأنا الفداء لمن مخيلة برقه
حظي وحظ سواي من أنوائه
قمر إذا ما الوشي صين أذاله
كيما يصون بهاءه بدهائه
2
خفر الشمائل لو ملكت عناقه
يوم الوداع وهبته لحيائه
ضعفت معاقد خصره وعهوده
فكأن عقد الخصر عقد وفائه
أدنو إلى الرقباء لا من حبهم
وأصد عنه وليس من بغضائه
وفي هذا المعنى يقول عبد الله بن كعب العميري:
أيا نخلتي مران هل لي إليكما
على غفلات الكاشحين سبيل
أمنيكما نفسي إذا كنت خاليا
ونفعكما إلا العناء قليل
وما لي شيء منكما غير أنني
أمني الصدى ظليكما فأطيل
ومن المتيمين من يرجو من محبيه مقارعة الوشاة، كقول أحد الشعراء:
تبدل هذا السدر أهلا وليتني
أرى السدر بعدي كيف كان بدائله
وعهدي به عذب الجنى ناعم الذرى
تطيب وتندى بالعشي أصائله
فما لك من سدر ونحن نحبه
إذا ما وشى الواشي بنا لا تجادله
كما لو وشى بالسدر واش رددته
كئيبا ولم تصلح لدينا شمائله
وكقول كثير:
فيا عز إن واش وشى بي عندكم
فلا تكرميه أن تقولي له أهلا
كما لو وشى واش بعزة عندنا
لقلنا: تزحزح لا قريبا ولا سهلا
وقد يعنى المحب بتكذيب الوشاة، فيما ادعوا من سلوانه، كقول أبي حية النميري:
وخبرك الواشون أن لن أحبكم
بلى وستور الله ذات المحارم
وإن دما لو تعلمين جنيته
على الحي جاني مثله غير سالم
أصد وما الصد الذي تعلمينه
عزاء بنا إلا ابتلاع العلاقم
حياء وتقيا أن تشيع نميمة
بنا وبكم، أف لأهل النمائم
ومن المعذبين من يشجيه أن لا ينفع العذل عنده، في حين أن من يهواه يأتمر بأمر الوشاة، ويسمع نصح اللائمين.
فمن ذلك قول الأبيوردي:
رمتني بسهم راشه الكحل بالردى
وأقتل ألحاظ الملاح كحيلها
مريضة أرجاء الجفون وإنما
أصح عيون الغانيات عليلها
فولت وقد أبقت بقلبي علاقة
تمر بها الأيام وهي مقيلها
وقلت لأدنى صاحبي وقد وشى
بسري دمعي إذ تراءت حمولها
ذر اللوم إني لست أرعيك مسمعي
فتلك هوى نفسي وأنت خليلها
وليت لسانا أرهف العذل غربه
على الصب مفلول الشياة كليلها
أرد عذولي وهو يمحضني الهوى
بغيط، ويحظى بالقبول عذولها
ويعتادني ذكر العقيق وأهله
بحيث الحمام الورق شاد هديلها
تنوح وتبكي فوق أفنان أيكة
فداهن من أرض العراق نخيلها
ولولا تباريح الصبابة لم أبل
بكاها ولا أذرى دموعي عويلها
ومن بديع الشعر في مدافعة الوشاة، قول الرصافي الأندلسي في غلام حائك:
قالوا وقد أكثروا في حبه عذلي
لو لم تهم بمذال القدر مبتذل
فقلت لو كان أمري في الصبابة لي
لاخترت ذاك ولكن ليس ذلك لي
علقته حببي الثغر عاطره
حلو اللمى ساحر الأجفان والمقل
غزيل لم تزل في الغزل جائلة
بنانه جولان الفكر في الغزل
جزلان تلعب بالمحواك أنمله
على السدى لعب الأيام بالأجل
ضما بكفيه أو فحصا بأخمصه
تخبط الظبي في أشراك محتبل
وأحب لو تأمل القارئ هذه (الصورة الشعرية) التي تمثل هذا الحائك الجميل بالظبي يتخبط في الأشراك، وإنها لوثبة من وثبات الخيال.
بخل الحسان
نذكر هنا طرفا مما قال الشعراء في بخل الحسان، وكل حسناء بخيلة، وكل جميل ضنين، وأشهر الشعراء في هذا المعنى قول مهيار:
يا لواة الدين عن ميسرة
والبخيلات ما كن لئاما
حملوا ريح الصبا نشركم
قبل أن تحمل شيحا وخزامى
وابعثوا لي في الكرى طيفكم
إن أذنتم لجفوني أن تناما
ويجمل بنا أن نذكر قصيدة كثير التائية، ففيها صورة شعرية لصدق اللوعة، عند بخل الحبيب، وهو فوق ذلك غرة من غرر الآداب العربية. قال:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا
قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا
ولا موجعات القلب حتى تولت
فقد حلفت جهدا بما نحرت له
قريش غداة المأزمين وصلت
أناديك ما حج الحجيج وكبرت
بفيفا غزال رفقة وأهلت
وكانت لقطع الحبل بيني وبينها
كناذرة نذرا فأوفت وحلت
فقلت لها يا عز كل مصيبة
إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
1
ولم يلق إنسان من الحب ميعة
تعم ولا غماء إلا تجلت
2
كأني أنادي صخرة حين أعرضت
من الصم لو تمشي بها العصم زلت
3
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة
فمن مل منها ذلك الوصل ملت
4
أباحت حمى لم يرعه الناس قبلها
وحلت تلاعا لم تكن قبل حلت
5
فليت قلوصي عند عزة قيدت
بحبل ضعيف غر منها فضلت
وغودر في الحي المقيمين رحلها
وكان لها باغ سواي فبلت
6
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رمى فيها الزمان فشلت
وكنت كذات الظلع لما تحاملت
على ظلعها بعد العثار استقلت
7
أريد الثواء عندها وأظنها
إذا ما أطلنا عندها المكث ملت
فما أنصفت، أما النساء فبغضت
إلي، وأما بالنوال فضنت
يكلفها الغيران شتمي وما بها
هواني ولكن للمليك استذلت
هنيئا مريئا غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت
فوالله ما قاربت إلا تباعدت
بصرم ولا أكثرت إلا أقلت
فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا
وحقت لها العتبى لدينا وقلت
8
وإن تكن الأخرى فإن وراءنا
منادح لو سارت بها العبس كلت
9
فلا يبعدن وصل لعزة أصبحت
بعافية أسبابه قد تولت
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
لدينا ولا مقلية إن تقلت
10
ولكن أنيلي واذكري من مودة
لنا خلة كانت لديكم فطلت
فإني وإن صدت لمثن وصادق
عليها بما كانت إلينا أزلت
11
فما أنا بالداعي لعزة بالجوى
ولا شامت إن نعل عزة زلت
فلا يحسب الواشون أن صبابتي
بعزة كانت غمرة فتجلت
فأصبحت قد أبللت من دنف بها
كما أدنفت هيماء ثم استبلت
12
فوالله ثم الله ما حل قبلها
ولا بعدها من خلة حيث حلت
وما مر من يوم علي كيومها
وإن عظمت أيام أخرى وجلت
وأضحت بأعلى شاهق من فؤاده
فلا القلب يسلوها ولا العين ملت
فيا عجبا للقلب كيف اعترافه
وللنفس لما وطنت كيف ذلت
13
وإني وتهيامي بعزة بعدما
تخليت مما بيننا وتخلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلما
تبوأ منها للمقيل اضمحلت
كأني وإياها سحابة ممحل
رجاها فلما جاوزته استهلت
14
فإن سأل الواشون فيم هجرتها
فقل نفس حر سليت فتسلت
15
ومن الشعراء من ينص على أن شح الحسان سماحة، كالتهامي حين يقول:
ماتت لفقد الظاعنين ديارهم
فكأنهم كانوا بها أرواحا
ولقد عهدت بها فهل أرينه
مغدى لمنتجع الصبى ومراحا
بالنافثات النافذات نواظرا
والنافذين أسنة وصفاحا
وأرى العيون ولا كأعين عامر
قدرا مع القدر المتاح متاحا
متوارثي مرض الجفون وإنما
مرض الجفون بأن يكن صحاحا
من كان يكلف بالأهلة فليزر
ولدي هلال رغبة وبراحا
لا عيب فيهم غير شح نسائهم
ومن السماحة أن يكن شحاحا
طرقته في أترابها فجلت له
وهنا من الغرر الصباح صباحا
أبرزن من تلك العيون أسنة
وهززن من تلك القدود رماحا
يا حبذا ذاك السلاح وحبذا
وقت يكون الحسن فيه سلاحا
ويأسى ابن التعاويذي على أن يرجو عطف البخيلة، وهو جواد الكف. وذلك قوله:
نأيت فحرمت الجفون على الكرى
وأغريت دمع العين بالهملان
وأعهد قبل البين قلبي يطيعني
ولكنه يوم الوداع عصاني
وما زال مطبوعا على الصبر قلبا
سواء بعاد عنده وتداني
فما باله يوم النوى سار منجدا
مع الركب في أسر الصبابة عان
فليت طبيبا أمرضتني جفونه
وفي يده منها الشفاء شفاني
وليت غريمي في الهوى وهو واجد
تحرج من ليانه فقضاني
16
ولولا الهوى يا آل خنساء لم يكن
ليملكني منكم خضيب بنان
ولا بت في أبياتكم سائلا قرى
بغير قنا أو طالبا لأمان
أرجي جواد الكف عطف بخيلة
وأخشى حديد القلب فتك جبان
وقبلك ما أنهضت عزمي لحاجة
فأدركتها إلا بحد سنان
وأولى بمثلي أن يكون مهاده
سرير حصان لا سرير حصان
وبي أنف أن أقتضي بسوى الظبى
ديوني إذا غير الحبيب لواني
الأمر للحب
ومن الشعراء من يتحدث عن صبره المغلوب، ثم يجعل الأمر كله للحب، كما أنشد أحمد بن يحيى:
من كان يزعم أن سيكتم حبه
حتى يشكك فيه فهو كذوب
الحب أغلب للفؤاد بقهره
من أن يرى للستر فيه نصيب
وإذا بدا سر اللبيب فإنه
لم يبد إلا والفتى مغلوب
إني لأبغض عاشقا متسترا
لم تتهمه أعين وقلوب
وفي هذا المعنى يقول الأقرع بن معاذ القشيري في حبيبة غلبته على قلبه، واستأثرت به من بين النساء:
يقر بعيني أن أرى ضوء مزنة
يمانية أو أن تهب جنوب
لقد شغفتني أم بكر وبغضت
إلي نساء ما لهن قلوب
أراك من الضرب الذي يجمع الهوى
ودونك نسوان لهن ضروب
وقد كنت قبل اليوم أحسب أنني
ذلول بأيام الفراق أديب
وقد وضح هذا المعنى كل الوضوح في قول الضحاك:
يقولون مجنون بسمراء مولع
ألا حبذا جن بنا وولوع
وإني لأخفي حب سمراء منهم
ويعلم قلبي أنه سيشيع
ولا خير في حب يكن كأنه
شغاف أجنته حشا وضلوع
ومن العشاق من يخلع العذار؛ لروعة الحسن في محبوبه، وصولة الحب في قلبه، كقول عمارة اليمني:
ظبي أعار الليل طرة شعره
وأمد ضوء الصبح بالإشراق
وسنان ذاب السحر في آماقه
وأذاب ماء الروح من آماقي
كتب الجمال على صحيفة خده
عذر المحب وحجة المشتاق
ما كنت أدرى يوم رؤية وجهه
أن الخدود مصارع العشاق
وأحب أن يتأمل القارئ جمال التصوير في قوله:
وسنان ذاب السحر في آماقه
وأذاب ماء الروح من آماقي
فقد جعل الدمع ذوب الروح، وهو خيال بديع.
1
وعذر المحب الذي كتبه الجمال على خد المحبوب يذكرنا بقول بعض الظرفاء:
يا مليح الدل والغنج
لك سلطان على المهج
إن بيتا أنت ساكنه
غير محتاج إلى السرج
وجهك المعشوق حجتنا
يوم يأتي الناس بالحجج
حمل السلام
للشعراء فنون مختلفة في نجوى الحبيب البعيد، فمنهم من يقصد إلى غرس الرفق في قلوب أحبابه، بوصف ما هو عليه من الخطر، كقول الطغرائي:
ويا أيها الغادي تحمل رسالة
على ما بها إن الحديث طويل
وقل للألى حلوا الحمى سقي الحمى
عزاءكم فالعامري قتيل
ومنهم من يوصي الرسول بملاطفة المحبوب واستدراجه. وأطرف ما قيل من الشعر في هذا المعنى قول الوأواء الدمشقي:
بالله ربكما عوجا على سكنى
وعاتباه لعل العتب يعطفه
وحدثاه وقولا في حديثكما
ما بال عبدك بالهجران تتلفه
فإن تبسم قولا في ملاطفة
ما ضر لو بوصال منك تسعفه
وإن بدا لكما في وجهه غضب
فغالطاه وقولا ليس نعرفه
وهو مأخوذ من قول عمر بن أبي ربيعة في وصف قوادة:
فأتتها طبة عالمة
تمزج الجد مرارا باللعب
تغلظ القول إذا لانت لها
وتراخى عند سورات الغضب
قيل إن ابن أبي عتيق قال لعمر لما سمع هذا الشعر: ما أحوج المسلمين إلى خليفة يدير أمورهم مثل قوادتك هذه.
1
ولعله تذكر قول معاوية: لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت. قيل: وكيف ذاك؟ فقال: إذا شدوا تراخيت، وإن تراخوا شددت.
وقد تلطف إليها زهير في وصية الرسول بقوله:
فيا رسولي إلى من لا أبوح به
إن المهمات فيها يعرف الرجل
بلغ سلامي وبالغ في الخطاب له
وقبل الأرض عني حينما تصل
بالله عرفه حالي إن خلوت به
ولا تطل فحبيبي عنده ملل
وإنك لتضحك بملء فيك حين تتأمل قوله:
إن المهمات فيها يعرف الرجل
فكأنما هي قيادة حربية، لا قيادة غرامية!
ومنهم من يحمل النسيم تحياته إلى من يهوى، كما قال بعض الظرفاء:
فيا نسيم الصبا أنت الرسول له
والله يعلم أني منك غيران
بلغ سلامي إلى من لا أكلمه
إني على ذلك الغضبان غضبان
لا يا رسولي لا تذكر له غضبي
فذاك مني تمويه وبهتان
وكيف أغضب لا والله لا غضب
إني لما رام من قتلي لفرحان
أكل يوم لنا رسل مرددة
وكل يوم لنا في العتب ألوان
أستخدم الريح في حمل السلام لكم
كأنما أنا في عصري سليمان
وقد ذكر أمين الدين بن عطايا السبب في اختيار النسيم لحمل الرسالة حين قال:
أنا أهوى غصن النقا وهو لاه
وفؤادي بحبه في التيه
يا نسيم الصبا ترفق عليه
وتلطف به ولا تؤذيه
وتحمل رسالة ليس إلا
ك أمينا في حملها أرتضيه
وإذا لم يكن رسولي نسيما
نحو غصن النقا فمن يثنيه
وأظهر من ذلك ما حكي أن ابن سعيد المغربي مشى مع جماعة من أدباء المصريين وفيهم أبو الحسين الجزار، فمروا في طريقهم بمليح نائم تحت شجرة، فهبت الريح فكشفت ثيابه عنه، فقال الجزار: قفوا، لينظم كل منا شيئا في هذا. فقال ابن سعيد:
الريح أقود ما تكون لأنها
تبدي خفايا الردف والأعكان
وتميل بالأغصان عند هبوبها
حتى تقبل أوجه الغدران
ولذلك الأحباب يتخذونها
رسلا إلى الأحباب والأوطان
وهو شعر حسن، غير أنه لا وجه لذكر الأوطان في هذا الموطن إذ لا علاقة لها بالقيادة، ولو قال الخلان أو الأخدان لكان أنسب وأقرب إلى المراد. وقال ابن الخياط:
يا نسيم الصبا الولوع بوجدي
حبذا أنت لو مررت بهند
ولقد رابني شذاك فبالله
متى عهده بأظلال نجد
ومنهم من يوصي الركبان بحمل سلامه، وتبليغ شكواه، كقول الشريف:
دعا بالوحاف السود من جانب الحمى
لديغ هوى لبيت حين دعاني
تعجب صحبي من بكائي وأنكروا
جوابي لما لم تسمع الأذنان
فقلت نعم لم تسمع الأذن دعوة
بلى إن قلبي سامع وجناني
ويا أيها الركب اليمانون خبروا
طليقا بأعلى الخيف أني عاني
عدوه لقائي أو عدوني لقاءه
ألا ربما دانيت غير مدان
وهذا شعر موجع، يغري القلب بالحزن، والعين بالدمع، وأشجى منه قول مهيار:
تحرش بأحقاف اللوى عمر ساعة
ولولا مكان الريب قلت لك ازدد
وقل صاحب لي ضل بالرمل قلبه
لعلك أن يلقاك هاد فتهتدي
وسلم على ماء به برد غلتي
وظل أراك كان للوصل موعدي
وقل لحمام البانتين مهنئا
تغن خليا من غرامي وغرد
أعندكم يا قاتلين بقية
على مهجة إن لم تمت فكأن قد
ويا أهل نجد كيف بالغور بعدكم
بقاء تهامي يهيم بمنجد
ملكتم عزيزا رقه فتعطفوا
على منكر للذل لم يتعود
وحدث أبو العباس محمد بن يزيد قال: خرجت مع الحسن بن رجاء إلى فارس فلما صرنا إلى موضع يعرف بشعب بوان رأيت على حائط مكتوبا بخط جليل:
إذا أشرف المكروب من رأس تلعة
على شعب بوان أفاق من الكرب
وألهاه بطن كالحريرة مسه
ومطرد يجري من البارد العذب
وطيب ثمار في رياض أريضة
وأغصان أشجار جناها على قرب
فبالله يا ريح الجنوب تحملي
إلى شعب بوان سلام فتى صب
وإذا تحت ذلك الخط الجليل بخط أدق منه:
ليت شعري عن الذين تركتنا
خلفنا بالعراق هل يذكرونا
أم لعل المدى تطاول حتى
قدم العهد بيننا فنسونا
ولا يفوتنا أن نمتع القارئ بقول الشريف:
حي بين النقا وبين المصلى
وقفات الركائب الأنضاء
ورواح الحجيج ليلة جمع
وبجمع مجامع الأهواء
2
وتعهد ذكرى إذا كنت بالخي
ف لظبي من بعض تلك الظباء
قل له هل تراك تذكر ما كا
ن بباب القبيبة الحمراء
قال لي صاحبي غداة التقينا
نتشاكى حر القلوب الظماء
كنت خبرتني بأنك في الوج
د عقيدي وإن داءك دائي
ما ترى النفر والترحل للبي
ن فماذا انتظارنا بالبكاء
لم يقلها حتى انثنيت لما بي
أتلقى دمعي بفضل ردائي
دموع الغانيات
لا نريد هنا الدمع يسفحه الندم، بل الدمع يرسله الوفاء؛ لأن عبرة النادم رفق بنفسه التي أفسدها الإسراف. أما عبرة المودع فهي رفق بمحبه الذي أشجاه الفراق!
قال جرير في بكاء الحسان عند الوداع:
إن الذين غدوا بلبك غادروا
وشلا بعينك ما يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي
ماذا لقيت من الهوى ولقينا
وهو كلام فطري لا كلفة فيه. وما أبدع قول الظاعنات:
ماذا لقيت من الهوى ولقينا!
ومثله قول ابن التعاويذي:
لما وقفنا للودا
ع وقد دعا داعي الرحيل
وتخاذلت أنصار دمع
ي في هوى الظبي الخذول
قالت وأدمعها تسي
ل أسى على الخد الأسيل
يا بين كم أجليت يو
م نوى الأحبة عن قتيل
وهذا شعر خفيف الروح، لطيف النسيم، ويشبه قول بعض الأعراب:
ومما شجاني أنها ودعت
تولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرة
إلي التفاتا أسلمته المحاجر
وقد أنصف الأبيوردي معشوقته إذ يقول:
وما أنس لا أنس الوداع وقد بدت
تغيض دمعا فاض وابله سكبا
مهفهفة لم ترض أترابها لها
ببدر الدجى شبها وشمس الضحى تربا
تنفس حتى يسلم العقد سلكه
وأكظم وجدا كاد ينتزع القلبا
وتذري شآبيب الدموع كأنما
أذابت بعينيها النوى لؤلؤا رطبا
ولو سلمت هذه الأبيات من مثل هذا الغزل الطريف لكان أنسب بموقف التوديع. ومثلها في ذلك قول السري الرفاء:
تنادوا لتفريق الفريق فأصبحت
مدامعنا تندى لفرقتهم دما
سلام على من سار قلب محبه
إليه فلم يرجع صحيحا مسلما
يحل عقود الدر دمعا ومنطقا
وينظمها حليا عليه ومبسما
أماط عن العذب اللثاة لثامه
فعاد بديباج الحياء ملثما
وكلمني جفناه بالدمع خفية
فهم غليل الشوق أن يتكلما
ومن العشاق من ينسب إلى حبيبته التباكي، وإلى نفسه مر البكاء، ثم يفرق بين العبرتين، ويميز بين الزفرتين، كالأرجاني إذ يقول:
سفرت كي تزود الحب منها
نظرة حين آذنت بالتنائي
ورأت أنها من الوجد مثلي
ولها للفراق مثل بكائي
فتباكت ودمعها كسقيط الطل
في الجلنارة الحمراء
فترى الدمعتين في حمرة اللو
ن سواء وما هما بسواء
خدها يصبغ الدموع دمعي
يصبغ الخد قانيا بالدماء
خضب الدمع خدها باحمرار
كاختضاب الزجاج بالصهباء
وما أدرى بأي قلب يلح هذا الشاعر ليحول دموع محبوبته إلى دماء! وما أرفق المتنبي إذ يقول:
وجلا الوداع من الحبيب محاسنا
حسن العزاء وقد جلين قبيح
فيد مسلمة وطرف شاخص
وحشا يذوب ومدمع مسفوح
ألم تر إليه وقد انخلع قلبه، حين رأى حبيبته باكية، فلم يذكر إلا أنها جميلة، وأن الصبر على فراقها أعز منالا من نجوم السماء!
وتعجبني هذه النجوى في قول ابن الرومي يصف عتاب حسناء:
زارت على غفلة من الحرس
تهدي إلي السلام في الغلس
أنى تجشمت نحو أرحلنا الهو
ل ولم ترهبي أذى العسس
قالت ترامى بنا إليك من الشو
ق مغص بالبارد السلس
كم زفرة لي تبيت تنهض أحشا
ئي ودمع عليك منبجس
وأنت لاه بغيرنا ولنا
منك هوى ممسك على النفس
عجبت من ذلتي ومن قلبك القا
سي علينا وخلقك الشكس
لا تأمنن الهوى وسطوته
واخش رداه ومنه فاحترس
وهذا الشعر جميل في معناه، ولكن يظهر أن أسلوبه لا يمثل الرقة في نجوى الحسناء، وقد مسها الحب بناره، وأحرقها بجواه! ولو تناول ابن أبي ربيعة أو ابن الأحنف هذا المعنى لرأيت له ثيابا أرق من هذه الثياب، وأسلوبا غير هذا الأسلوب.
ومن بارع الشعر في دموع الحسان قول جميل:
لما دنا البين بين الحي واقتسموا
حبل النوى فهو في أيديهم قطع
جادت بأدمعها ليلى وأعجلني
وشك الفراق فما أبقي وما أدع
يا قلب ويحك ما عيشي بذي سلم
ولا الزمان الذي قد مر مرتجع
أكلما بأن حي لا تلائمهم
ولا يبالون أن يشتاق من فجعوا
علقتني بهوى عنهم فقد جعلت
من الفراق حصاة القلب تنصدع
وهذا الشعر يمثل الطبيعة في مواقف الوداع، فالشاعر هنا شائق ومشوق، ولا كذلك أبيات الرومي التي حصر دمعها في عيون زائرته الحسناء، ومن هذه الناحية يعجبني ما أنشده صاحب الأمالي:
ولما رأت أن النوى أجنبية
وأن خليلا من غد سيبين
بكت فبكى من لاعج الشوق والأسى
وكل بكل إن يبين ضنين
فقلت ولم أملك سوابق عبرة
على الخد مني فالدموع هتون
لقد كنت أبكي قبل أن تشحط النوى
فكيف إذا ما غبت عنك أكون
وانظر كيف يصف العرجي خوف محبوبته من فراقه:
وما أنس ملأشياء لا أنس موقفا
لنا ولها بالسفح دون ثبير
ولا قولها وهنا وقد بل جيبها
سوابق دمع لا يجف غزير
أأنت الذي خبرت أنك باكر
غداة غد أو راحل بهجير
فقلت يسير بعد شهر أغيبه
وما بعض يوم غبته بيسير
وقلت لها قول امرئ شفه الهوى
إليها ولو طال الزمان فقير
فما أنا إن شطت بك الدار أو نأت
بي الدار عنكم فاعلمي بصبور
وكنا نحب أن نعلم بقية العتاب في قوله:
أحين عصيت العاذلين إليكم
ونازعت حبلي في هواك أميري
وباعدني فيك الأقارب كلهم
وباح بما يخفي اللسان ضميري
ولكن الرواة لم يذكروا هذه القصيدة كاملة.
والشعر الذي تقدم لا يمثل عواطف النساء تمام التمثيل؛ لأنه من أحاديث الرجال، ولو أن المرأة تكلمت لعرفنا منها كيف تشعر بلوعة الفراق. وإليك ما قالته امرأة من بني أسد في حبيب ينقض العهود:
بنفسي من أهوى وأرعى وصاله
وتنقض مني بالمغيب وثائقه
حبيب أبى إلا اطراحي وبغضتي
وفضله عندي على الناس خالقه
وانظر قول ابنة الحباب:
محا حب يحيى حب يعلى فأصبحت
ليحيى توالي حبنا وأوائله
ألا بأبي يحيى ومثنى ردائه
وحيث التقت من متن يحيى حمائله
فإن هذا الشعر يمثل إحساس النساء بجمال الرجال. وما أوجع الشوق في قول هذه الشاعرة:
أأضرب في يحيى وبيني وبينه
تنائف لو تسري بها الريح كلت
ألا ليت يحيى يوم عيهم زارنا
وإن نهلت مني السياط وعلت
وفي الآداب العربية قطع منثورة تمثل ما تشتهي المرأة من الرجل، ولكنها من القلة بحيث لا تصور تماما نفوس النساء، ولا تزال لغزا من الألغاز، ولو أنها تحدثت عن عواطفها كما تحدث الرجل عن عواطفه، لعرفنا بعض ما ستره هذا الصمت البليغ.
ندم المفارق
أشهر الشعر في ندم المحب على فراق من يحب، ما قاله قيس بن ذريح وقد طلق لبنى. قال محمد بن زياد الأعرابي: لما ألح ذريح على ابنه قيس في طلاق لبنى، فأبى ذلك قيس، طرح ذريح نفسه في الرمضاء وقال: لا والله، لا أريم هذا الموضع حتى أموت، أو يخليها. فجاءه قومه من كل ناحية، فعظموا عليه الأمر وذكروه بالله وقالوا: أتفعل هذا بأبيك وأمك، وإن مات شيخك على هذه الحال كنت معينا عليه وشريكا في قتله، ففارق لبنى على رغم أنفه وقلة صبره، وبكى حتى بكى لهما من حضرهما، وأنشأ يقول:
أقول لخلتي في غير جرم
ألا بيني بنفسك أنت بيني
فوالله العظيم لنزع نفسي
وقطع الرجل مني واليمين
أحب إلي يا لبنى فراقا
فبكي للفراق وأسعديني
ظلمتك بالطلاق بغير جرم
لقد أذهبت آخرتي وديني
قال: فلما سمعت بذلك لبنى بكت بكاء شديدا وأنشأت تقول:
رحلت إليه من بلدي وأهلي
فجازاني جزاء الخائنينا
فمن يرني فلا يغتر بعدي
بحلو القول أو يبلو الدفينا
فلما انقضت عدتها وأرادت الشخوص إلى أهلها أتيت براحلة لتحمل عليها، فلما رأى ذلك قيس داخله منه أمر عظيم، واشتد لهفه، وأنشأ يقول:
بانت لبينى فأنت اليوم متبول
وإنك اليوم بعد الحزم مخبول
فأصبحت عنك لبنى اليوم نازحة
ودل لبنى، لها الخيرات، معسول
هل ترجعن نوى لبنى بعافية
كما عهدت ليالي العشق مقبول
وقد أراني بلبنى حق مقتنع
والشمل مجتمع والحبل موصول
فصرت من حب لبنى حين أذكرها
القلب مرتهن والعقل مدخول
أصبحت من حب لبنى حين أذكرها
في كربة ففؤادي اليوم مشغول
والجسم مني منهوك لفرقتها
أخو هيام مصاب القلب مسلول
أستودع الله لبنى إذ تفارقني
عن غير طوع وأمر الشيخ مفعول
ثم ارتحلت لبنى فجعل قيس يقبل موضع رجليها من الأرض وحول خبائها، فلما رأى ذلك قومه أقبلوا على أبيه بالعذل واللوم، فقال ذريح لما رأى حاله: قد جنيت عليك يا بني! فقال له قيس: قد كنت أخبرك أني مجنون بها فلم ترض إلا بقتلي، فالله حسبك وحسب أمي! وأقبل قومه يعذلونه بتقبيله للتراب، فأنشأ يقول:
فما حبي لطيب تراب أرض
ولكن حب من وطئ الترابا
فهذا فعل شيخينا جميعا
أرادا لي البلية والعذابا
ولقيس بن ذريح شعر أجود مما تقدم، وأدل على لوعته وأسفه لفراق لبنى كقوله:
تبكي على لبنى وأنت تركتها
وكنت كآت غيه وهو طائع
فلا تبكين في إثر شيء ندامة
إذا نزعته من يديك النوازع
فليس لأمر حاول الله جمعه
مشت ولا ما فرق الله جامع
كأنك لم تقنع إذا لم تلاقها
وإن تلقها فالقلب راض وقانع
فيا قلب خبرني إذا شطت النوى
بلبنى وصدت عنك ما أنت صانع
أتصبر للبين المشت مع الجوى
أم انت امرؤ ناسي الحياء فجازع
فما أنت إن بانت لبينى بهاجع
إذا ما استقلت بالنيام المضاجع
وكيف ينام المرء مستشعر الجوى
ضجيج الأسى فيه نكاس روادع
ولا خير في الدنيا إذا لم تواتنا
لبينى ولم يجمع لنا الشمل جامع
ولولا رجاء القلب أن تعطف النوى
لما حملته بينهن الأضالع
له وجبات إثر لبنى كأنها
شقائق برق في السحاب لوامع
نهاري نهار الناس حق إذا دجا
لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
ويجمعني بالليل والهم جامع
ألا إنما أبكي لما هو واقع
وهل جزع من وشك بينك نافع
ومن جيد شعره أيضا هذه القصيدة:
سأصرم لبنى حبل وصلك مجملا
وإن كان صرم الحبل منك يروع
وسوف أسلي النفس عنك كما سلا
عن البلد النائي البعيد نزيع
وإن مسني للضر منك كآبة
وإن نال جسمي للفراق خشوع
سقى طلل الدار التي أنتم بها
بشرقي لبنى صيف وربيع
يقولون صب بالنساء موكل
وما ذاك من فعل الرجال بديع
مضى زمن والناس يستشفعونني
فهل لي إلى لبنى الغداة شفيع
أيا حرجات الحي حيث تحملوا
بذي سلم لا جادكن ربيع
وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى
بلين بلى لم تبلهن ربوع
إلى الله أشكو نية شقت العصا
هي اليوم شتى وهي أمس جميع
وإن انهمال العين بالدمع كلما
ذكرتك وحدي خاليا لسريع
فلو لم يهجني الظاعنون لهاجني
حمائم ورق في الديار وقوع
تجاوبن فاستبكين من كان ذا هوى
نوائح ما تجري لهن دموع
لعمرك إني يوم جرعاء مالك
لعاص لأمر المرشدين مضيع
ندمت على ما كان مني، فقدتني
كما يندم المغبون حين يبيع
إذا ما لحاني العاذلات بحبها
أبت كبد مما أجن صديع
وكيف أطيع العاذلات وحبها
يؤرقني والعاذلات هجوع
عدمتك من نفس شعاع فإنني
نهيتك عن هذا وأنت جميع
فقربت لي غير القريب وأشرقت
هناك ثنايا ما لهن طلوع
وضعفني حبيك حتى كأنني
من الأهل والمال التلاد خليع
وحتى دعاني الناس أحمق مائقا
وقالوا مطيع للضلال تبوع
ويعجبني قوله:
ندمت على ما كان مني، فقدتني!
كما يندم المغبون حين يبيع
وهو في شعره يمثل الفطرة الخالصة من شوائب التكلف، فإنه فجع بفر حليلته، والحليلة المعشوقة متاع عزيز.
وفي وصف أثر الطلاق يقول أحد الأعراب:
ندمت وما تغني الندامة بعدما
خرجن ثلاث ما لهن رجوع
ثلاث يحرمن الحلال على الفتى
ويصدعن شعب الدار وهو جميع
والتعبير بشعب الدار تعبير دقيق، ما كان يغني عنه أن يقول: (ويصدعن شعب القلب) لأن فراق الحليلة هدم للبيت من أساسه.
ومن شجي الشعر في ندامة المفارق عينية ابن زريق، وقد ترك ابنة عمه ببغداد ورحل إلى الأندلس في سبيل الرزق، ثم حيل بينه وبين ما يريد، فأرسل هذه الزفرة الباقية:
أستودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشفع بي ألا أفارقه
وللضرورات حال لا تشفعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى
وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق
مني بفرقته لكن أرقعه
إني أوسع عذري في جنايته
بالبين عنه وقلبي لا يوسعه
أعطيت ملكا فلم أحسن سياسته
كذاك من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابسا ثوب النعيم بلا
شكر عليه فعنه الله ينزعه
اعتضت من وجه خلي بعد فرقته
كأسا يجرع منها ما أجرعه
كم قائل لي ذنب البين قلت له
الذنب والله ذنبي لست أدفعه
هلا أقمت فكان الرشد أجمعه
لو أنني حين بان الرشد أتبعه
لو أنني لم تقع عيني على بلد
في سفرتي هذه إلا وأقطعه
يا من أقطع أيامي وأنفدها
حزنا عليه وليلي لست أهجعه
لا يطمئن بقلبي مضجع وكذا
لا يطمئن به مذ بنت مضجعه
ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني
به ولا أن بي الأيام تفجعه
حتى جرى الدهر فيما بيننا بيد
عسراء تمنعني حقي وتمنعه
وكنت من ريب دهري جازعا فرقا
فلم أوق الذي قد كنت أجزعه
بالله يا منزل القصف الذي درست
آثاره وعفت مذ بعت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا
أم الليالي التي أمضت ترجعه
في ذمة الله من أصبحت منزله
وجاد غيث على مغناك يمرعه
من عنده لي عهد لا يضيع كما
عندي له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره وإذا
جرى على قلبه ذكري يصدعه
لأصبرن لدهر لا يمتعني
به ولا بي في حال يمتعه
علما بأن اصطباري معقب فرجا
فأضيق الأمر لو فكرت أوسعه
عل الليالي التي أضنت بفرقتنا
جسمي ستجمعني يوما وتجمعه
وإن تغل أحدا منا منيته
لا بد في غده الثاني سيتبعه
وإن يدم أبدا هذا الفراق لنا
فما الذي بقضاء الله نصنعه
ومما يتصل بندامة المفارق ما قاله ابن الرومي في فرصة ضاعت منه فعض من بعدها البنان، فلنذكرها على سبيل الفكاهة، لما فيها من ظرف المجون:
أستغفر الله من تركي علانية
ذنبا هممت به في شادن خنث
1
ظبي دعتني عيناه ومنطقه
بنية صدقت عن ظاهر عبث
فلم أجبه وحظي في إجابته
لكن سكت كأني غير مكترث
لا بل فررت وظل الصيد يطلبني
والله ما كنت فيها بالفتى الدمث
أقسمت بالله لما كنت محتجزا
أني انبعثت بقلب غير منبعث
غربة المحب
نتكلم قليلا عن غربة المحب، وكل مهجور غريب، لأن الأمر كما قال الشريف:
ليس الغريب الذي تنأى الديار به
إن الغريب قريب غير مودود
فمن الشعراء من يغترب في سبيل حبه، كما قال حذيفة الغنوي:
يقولون من هذا الغريب بأرضنا
أما والهدايا إنني والغريب
غريب دعاه الشوق واقتاده الهوى
كما قيد عود بالزمام أديب
1
وماذا عليكم إن أطاف بأرضكم
مطالب دين أو نفته حروب
أمشي بأعطان المياه وأبتغي
قلائص منها صعبة وركوب
ومن شجي الشعر في غربة المحب قول بعض الأعراب:
وفي الجيرة الغادين من بطن وجرة
غزال كحيل المقلتين ربيب
فلا تحسبي أن الغريب الذي نأى
ولكن من تنأين عنه غريب
ومما يتصل بهذا المعنى قول بعض الأعراب يذكر اختصاصه بالبلوى في اغتراب محبوبته:
أرى كل أرض دمنتها وإن مضت
لها حجج يزداد طيبا ترابها
2
ألم تعلمن يا رب أن رب دعوة
دعوتك فيها مخلصا لو أجابها
وأقسم لو اني أرى نسبا لها
ذئاب الفلا حبت إلي ذئابها
لعمر أبي ليلى لئن هي أصبحت
بوادي القرى ما ضر غيري اغترابها
وغربة المحب تتمثل في حرمانه، وكيف لا يكون غريبا من يقول:
أيا منشر الموتى أقدني من التي
بها نهلت نفسي سقاما وعلت
لقد بخلت حتى لو اني سألتها
قذى العين من ساقي التراب لضنت
وما أم بو هالك بتنوفة
إذا ذكرته آخر الليل حنت
بأكثر مني لوعة غير أنني
أطامن أحشائي على ما أجنت
ويظهر أن قذى العين كان في أنفس العرب مثلا لما لا يضن به، فقد رددوا ذكره في أشعارهم، كما قال بعض بني أسد:
وكيف طلابي وصل من لو سألته
قذى العين لم يطلب وذاك زهيد
3
ومن لو رأى نفسي تسيل لقال لي
أراك صحيحا والفؤاد جليد
الأمل الضائع
نذكر في مقدمة هذا الباب رسالة كتبها صاحب البدائع، ونقلها إلى الفرنسية حضرة الأديب عبد المجيد عيسى البيه. وهي تمثل الوجد يضطرم في الصدر، بعد قسوة الإخفاق. •••
تأيمت حتى لامني كل صاحب
وجاء سليمى أن تئيم كما إمت
لئن بعت حظي منك يوما بغيره
لبئس إذن يوم التغابن ما بعت
كنت أصبر على بأساء الحياة، وأحتمل ما فيها من هم وغم، لو أن عندي بقية من الأمل أرفه بها أحزاني، وأدفن فيها آلامي، ولكن حال القنوط دون الرجاء، وأتى اليأس دون الطمع، فلم يبق غير الجزع من مسعد، ولا سوى النوح من شفاء.
فيا جيرة ما كان أهنأ وردهم، وأطيب عيشهم، ويا أحبابا ذقت الفرح بقربهم، وعرفت الهم لبعدهم، ويا من أفناني فراقهم، وكان أحياني لقاؤهم، بربكم ما الذي لقيتم بعدي، فقد لقيت بعدكم ذلا وهوانا، وظلما وعدوانا، ومن عسى أن يكون قد ظفر بودكم، ونعم بحسنكم، فأصفاكم من الحب أجمله، ومن الأنس أكمله، فقد صحبت بعدكم من جحد نعمتي، وأنكر خلتي، ومن سقيته الشهد فسقاني الصاب، وأوليته القرب فأولاني القطيعة؟! فيا ليت شعري من ألوم؟ أألوم نفسي على أن لم أعق في بركم أهلي وإخواني، فأسير حيث سرتم، وأقيم حيث أقمتم.
تفرق أهلي من مقيم وظاعن
فيا ليت شعري أي أهلي أتبع
أقام الذين لا أبالي فراقهم
وشط الذين بينهم أتوقع
أم ألومكم على أن تركتموني وحيدا وآثرتم وطنكم، وأهلكم، ولم تبالوا بمن خلفتموه طريح حزنه، وأسير همه؟
أم ألوم قوما جعلتهم منكم بدلا فكانوا شر بدل، واتخذتهم من بعدكم ذخرا فكانوا كالهباء، ورجوتهم حصنا أتقي به الدهر الخائن، والزمن الجائر، فإذا هم أذل من قراد بمنسم، وإذا المتفيئ ظلهم، والراجي برهم، يطمع في غير مطمع، ويلجأ إلى شر وزر؟!
أم ألوم دهرا اضطركم إلى الرحلة فرحلتم، وحكم علي بالمقام فأقمت، ثم أمدنا من اليأس لبعد الدار، وشط المزار، ما جعل الأمر في التلاقي خائبا، ورجاء التداني كاذبا.
وقلما أبقى على ما أرى
يوشك أن ينعاني الناعي
ما أقتل اليأس لأهل الهوى
لا سيما من بعد إطماع
ما هذا الذي صنعتم؟ أخضعتم لليأس، وأذعنتم للقنوط، ولم ترهبوا العتاب إذ لم تأملوا اللقاء، فزففتم تلك الشمس إلى غيري، وآثرتم بها سواي؟!
يا عز إن ضاعت عهودي عندكم
فأنا الذي استودعت غير أمين
أو عدت مغبونا فما أنا في الهوى
لكم بأول عاشق مغبون
غلب اليأس عليكم فمللتم - ولا وفاء لملول - فكان منكم ما أقض المضجع، وأورث الجفن السهاد، فهل تعلمون ما صنع اليأس بنا، ونال القنوط منا؟ ولكن هيهات بعد اليوم أن ينفع العزاء.
هي الغاية القصوى فإن فات نيلها
فكل منى الدنيا علي حرام
وقد نظرت ما قال الشعراء في الأمل الضائع، ووجدت لهم فيه أفانين، فمنهم من يأسف على أن لم يؤهله وجهه للعشق، كالذي يقول:
جارية أعجبها حسنها
فمثلها في الناس لم يخلق
خبرتها أني محب لها
فأقبلت تضحك من منطقي
والتفتت نحو فتاة لها
كالرشأ الوسنان في قرطق
قالت لها قولي لهذا الفتى
انظر إلى وجهك ثم اعشق
1
ومن جيد الشعر في ضياع الأمل قول عمر بن أبي ربيعة في سكينة بنت الحسين:
قالت سكينة والدموع ذوارف
تجري على الخدين والجلباب
ليت المغيري الذي لم أجزه
فيما أطال تصيدي وطلابي
كانت ترد لنا المنى أيامنا
إذ لا نلام على هوى وتصابي
خبرت ما قالت فبت كأنما
يرمى الحشا بنوافذ النشاب
أسكين ما ماء الفرات وبرده
مني على ظمأ وفقد شراب
بألذ منك وإن نأيت وقلما
يرعى النساء أمانة الغياب
إن تبذلي لي نائلا أشفي به
سقم الفؤاد فقد أطلت عذابي
وعصيت فيك أقاربي فتقطعت
بيني وبينهم عرى الأسباب
فتركتني لا بالوصال ممسكا
منهم ولا أسعفتني بثواب
فقعدت كالمهريق فضلة مائه
في حر هاجرة للمع سراب
ولم أر من الشعراء من بكى الأمل الضائع كما بكاه كثير في قوله:
وأدنيتني حتى إذا ما استبيتني
بقول يحل العصم سهل الأباطح
توليت عني حين لا لي مذهب
وغادرت ما غادرت بين الجوانح
وهي صورة شعرية تمثل المحب، وقد استدرجه محبوبه، حتى أخذ الطمع بنواصي آماله، ثم تركه في اللحظة الأخيرة، يتعثر في أذيال الخيبة والقنوط.
وفي هذا المعنى يقول الشريف:
كم قد نصبت لك الحبائل طامعا
فنجوت بعد تعرض لوقوع
وتركتني ظمآن أشرب غلتي
أسفا على ذاك اللمى الممنوع
ومن الأمل الذاهب أن يكون من تحبه، من بلد غير بلدك، وقوم غير قومك، كما قال نصيب:
أرق المحب وعاده سهده
لطوارق الهم التي ترده
وذكرت من رقت له كبدي
وقسا فليس ترق لي كبده
لا قومه قومي، ولا بلدي
فنكون حينا جيرة بلده
ووجدت وجدا لم يكن أحد
من أجله بصبابة يجده
ونصيب يتحدث كثيرا عن عقم الأماني، حتى ليقول:
ألا هل على البين المفرق من بد
وهل مثل أيام بمنقطع السد
تمنيت أيامي أولئك والمنى
على عهد عاد ما تعيد وما تبدي
الكتمان
من الشعراء من لا يهمه من الكتمان غير ستر تفاصيل الود، وأسرار القرب، ولا يرى بعد ذلك حرجا في ذكر اسم من يحب، كما قال جميل:
لا لا أبوح بحب بثنة إنها
أخذت علي مواثقا وعهودا
وإنه لو كان يذهب إلى نكران الاسم وجحوده، تضليلا للوشاة، لكان هذا البيت من سخف القول، وهذره. وإليك ما يقول من كلمة ثانية:
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا
سوى أن يقولوا إنني لك عاشق
نعم صدق الواشون أنت حبيبة
إلي وإن لم تصف منك الخلائق
فإنه يدل على أنه لا يبالي أن يعرف بحبها، حتى قال الناس: جميل بثينة، كما قالوا مجنون ليلى. ويذكر أبو على القالي أن البيت السالف لكثير ، وأنه ذكر بثينة تورية عن حبيبته، وهذا فيما أرى غير حتم؛ لأن كثير ما كان يعدل عن عزة إلا لضرورة الشعر، كقوله:
كفي حزنا للعين أن رد طرفها
لعزة عير آذنت برحيل
وقالوا نأت فاختر من الصبر والبكا
فقلت البكا أشفى إذن لغليلي
توليت محزونا وقلت لصاحبي
أقاتلتي ليلى بغير قتيل
فقد ذكر عزة عند مواتاة الشعر، وليلى عند معاصاته، وهو نوع من التلاعب بالأسماء الذي كثر في شعر العرب. وقال كثير من قصيدة أخرى:
سيهلك في الدنيا شفيق عليكم
إذا غاله من حادث الدهر غائله
ويخفي لكم حبا شديدا ورهبة
والناس أشغال وحبك شاغله
كريم يميت السر حتى كأنه
إذا حدثوه عن حديثك جاهله
يود بأن يمسى سقيما لعلها
إذا سمعت عنه بشكوى تراسله
ويجهد للمعروف في طلب العلا
لتحمد يوما عند عز شمائله
وهو في هذا الشعر لا يكتم اسم من يهوى، وإنما يكتم أحاديث الحب، وأسرار الصبابة، كما قال جابر بن ثعلب الجرمي:
ومستخبر عن سر ريا رددته
بعمياء من ريا بغير يقين
فقال انتصحني إنني لك ناصح
وما أنا إن خبرته بأمين
وهذا العباس بن الأحنف كان من أكثر المحبين كتمانا، ولكنه صرح باسم محبوبته فوز، ولقد بلغ من حسد إحدى جاراته له أن سمت جاريتها «فوز» وقد قال في ذلك:
ما ينقضي عجبي من جهل حاسدة
كانت بذي الأثل من خدني وأنصاري
سمت وليدتها فوزا مغايظة
عذرت لو لطمتني ذات أسوار
وما يزال نساء من قرابتها
في كل ناحية يهتكن أستاري
ومسلم بن الوليد يتغنى بكتم تباريح الصبابة في قوله:
وما نلت منها نائلا غير أنني
بشجو المحبين الألى سلفوا قبلي
بلى ربما وكلت نفسي بنظرة
إليها تزيد القلب خبلا على خبل
كتمت تباريح الصبابة عاذلي
فلم يدر ما بي فاسترحت من العذل
وقد عارضه ابن عبد ربه بقوله:
بنفسي التي ضنت علي بوصلها
ولو سألت قتلي وهبت لها قتلي
وإن حكمت جارت علي بحكمها
ولكن ذاك الجور أحلى من العدل
وأحببت فيها العذل حبا لذكرها
فلا شيء أحلى في فؤادي من العذل
وهو يذكرنا بقول أبي الشيص الخزاعي:
أجد الملامة في هواك لذيذة
حبا لذكراك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
إذ كان حظي منك حظي منهم
وقول ابن نباتة المصري:
لثمت ثغر عذولي حين سماك
فلذ حتى كأني لاثم فاك
ومن العشاق من يكتم الهوى جملة واحدة كقول ابن قلاقس:
كتمت الهوى عند العواذل ضنة
عليهم بمن أصبو إليه وأهواه
ولو قلت إني عاشق فطنوا له
لعلمهم أن ليس يعشق إلا هو
وهو مذهب غريب، وأغرب منه مذهب من يقول:
وقائلة ما بال جسمك لا يرى
سقيما وأجسام المحبين تسقم
فقلت لها قلبي بحبك لم يبح
لجسمي فجسمي بالهوى ليس يعلم
وللعباس بن الأحنف شجون من الحديث عن الكتمان، فتارة يذكر أنه باح بحبه حين طال بلاؤه. كقوله:
هذا كتاب بدمع عيني
أملاه قلبي على لساني
إلى حبيب كنيت عنه
أجل ذكر اسمه لساني
قد كنت أطوى هواه عنه
مذ كنت في سالف الزمان
فبحت إذ طال بي بلائي
ولم يكن لي به يدان
وهو هنا يكتم حبه عن محبوبه، فضلا عن الناس. وتارة يذكر أنه سيموت مكتوم السر إلا عمن يحب، فيقول:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتصبا
بثقل ما حملوني في الهوى قعدوا
جاروا علي ولم يوفوا بعهدهم
قد كنت أحسبهم يوفون إن وعدوا
لأخرجن من الدنيا وحبكم
بين الجوانح لم يشعر به أحد
حسبي بأن تعلموا أن قد أحبكم
قلبي وأن تسمعوا صوت الذي أجد
وحينا يذكر أنه سلا، لينصرف الناس عن التحدث بحبه رفقا بمحبوبته فيقول:
كذبت على نفسي فحدثت أنني
سلوت لكيما ينكروا حين أصدق
ولا من قلى مني ولا عن ملالة
ولكنني أبقي عليك وأشفق
عطفت على أسراركم فكسوتها
قميصا من الكتمان لا يتخرق
وقد يعتذر عن هجره فيقول:
الله يعلم ما أردت بهجركم
إلا مصانعة العدو الكاشح
وعلمت أن تباعدي وتستري
أدنى لوصلك من دنو فاضح
وأحلى من هذا قوله في تعيين الغرض من الصدود:
سأهجر إلفي وهجرانها
إذا ما التقينا صدود الخدود
كلانا محب ولكننا
ندافع عن حبنا بالصدود
وتأمل قوله: «صدود الخدود» يريد بذلك أن كلا منهما يصدف بخده عن صاحبه، أما القلوب فهي في ائتلاف. وطورا يكتفي بحديث العيون، كقوله:
كلانا مظهر للناس بغضا
وكل عند صاحبه مكين
تخبرنا العيون بما أردنا
في القلبين ثم هوى دفين
وقد يسر الحزن، ويبدي السرور، مبالغة في التستر، كقوله:
عيون العائدات تراك دوني
فيا حسدي لعيني من يراك
أريدك بالكلام فأتقيهم
وأعمد بالكلام إلى سواك
وأكثر فيهم ضحكي ليخفى
فسني ضاحك والقلب باك
وقد أفصح عن ضرورة الكتمان بقوله:
سأستر والستر من شيمتي
هوى من أحب بمن لا أحب
ولا بد من كذب في الهوى
إذا كان دفع الأذى بالكذب
وربما تمنى لو استطاع أن يكاتم قلبه الحب، فيقول:
إذا لم يكن للمرء بد من الردى
فأكرم أسباب الردى سبب الحب
ولو أن خلقا كاتم الحب قلبه
لمت ولم يعلم بحبكم قلبي
إذا قيل تقريك السلام تماسكت
حشاشة قلبي وانجلت غمرة الكرب
وقد ييأس من كتم الحب فيقول:
أما الهوى فهو شيء لا خفاء به
شتان بين سبيل الغي والرشد
إن المحبين قوم بين أعينهم
وسم من الحب لا يخفى على أحد
وقد يبالغ بالكتمان حتى يضل الناس من أجل حبه في بيداء من الظنون، ليس لليل نهار، كما يقول:
قد سحب الناس أذيال الظنون بنا
وفرق الناس فينا قولهم فرقا
فجاهل قد رمى بالظن غيركم
وصادق ليس يدري أنه صدقا
وقد ذكروا أن العباس بن الأحنف مات هو وإبراهيم الموصلي والكسائي في يوم واحد، فرفع ذلك إلى الرشيد، فأمر المأمون أن يصلي عليهم، فصفوا بين يديه، ثم سأل عنهم واحدا واحدا، وأمر بتقديم ابن الأحنف فصلى عليه، فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله بن مالك الخزاعي فقال: يا سيدي كيف آثرت العباس بالتقدمة على من حضر؟ فأنشده المأمون هذين البيتين:
سماك لي ناس وقالوا إنها
لهي التي تشقى بها وتكابد
فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم
إني ليعجبني المحب الجاحد
ثم قال: أتحفظهما؟ فقال: نعم. فقال: أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقدمة؟ فقال: بلى يا سيدي.
1
ومن جيد ما قيل في كتمان السر قول قيس بن ذريح:
لو ان أمرا أخفى الهوى عن ضميره
لمت ولم يعلم بذاك ضمير
ولكن سألقى الله والنفس لم تبح
بسرك والمستخبرون كثير
ومن الشعر الموجع في الكتمان قول جاهر بن عبد الحكيم الكلبي:
قضى كل ذي دين فوفى غريمه
ودينك عند الزاهرية ما يقضى
أكاتم في حبي ظريفة بالتي
إذا استبصر الواشون ظنوا به بغضا
صدودا عن الحي الذين أودهم
كأني عدو لا يزور لهم أرضا
ولم يدع باسم الزاهرية ذاكر
على آلة إلا ظللنا لها مرضى
وما نقع الهيمان بالشرب بعدهم
ولا ذاقت العينان مذ فارقوا غمضا
وقد يتهم المرء بحب من لا يحب، فيتمنى لو تصدق التهمة، كما قال صاحب البدائع:
عجبت لهم أنى رموني بحبها
ولا مهجتي رهن لديها ولا قلبي
فيا رب صدق في هواها عواذلي
فإن عناء أن ألام بلا ذنب
وإلا فلا تقطع علي ملامهم
فإن ملام المرء فاتحة الحب
طرفة أدبية
قال بعضهم لمحبوبته:
سري وسرك لا يعلم به أحد
إلا الإله وإلا أنت ثم أنا
فقالت له: لا تنس القوادة، فعندها الخبر اليقين!
قسوة التجني
أكثر الشعراء من شكوى الهجر والصدود، وأكثروا القول كذلك عن قسوة التجني، فمن ذلك قول ابن نباتة السعدي:
يا دهر لا غفلات العيش عائدة
ولا الشباب الذي أبليته فيها
إن كنت تمنع سعدى من مطالبها
فلست تمنع سعدى من تمنيها
لله نغمة أوتار ومسمعة
باتت تدل على شوقي أغانيها
وقهوة كشعاع الشمس طالعة
أفنيت بالمزج فيها ريق ساقيها
لو كنت أخضع في الدنيا لنائبة
خضعت من هجرها أو من تجنيها
تستعذب الدمع عيني في محبتها
كأن ما تمتريه العين من فيها
وما أجمل قول ابن الرومي:
يا عليلا جعل العل
ة مفتاحا لظلمي
ليس في الأرض عليل
غير جفنيك وجسمي
وقد كتبت الآنسة حياة فهمي كلمة عنوانها (لعن الله الحب) ونشرتها في الصباح، فأجابها الشاعر المبدع السيد حسن القاياتي بقوله:
تلوم حياة على العاشقين
رويدا ورفقا بنا يا حياتي
جهلت الغرام فلمت المحب
هنيئا لعينيك في الناعسات
ثم سأل صاحب البدائع عن رأيه في تجني هذه الفتاة. فأجابه بما نصه:
يرى سيدي الشاعر أن الآنسة حياة جهلت الحب، فلامت المحبين، ولو قال غير ذلك لأصاب شاكلة الصواب؛ لأن المرأة كالسياسي سواء بسواء، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، والله أعلم بما يكتمون. فإذا قال السياسي (لا) فاعلم أنه يريد (نعم) وإذا قال (نعم) فاعلم أنه يريد (لا)، وإذا قالت المرأة (لا أحب) فاعلم أنها (تحب) وإذا زعمت أنها (كارهة) فاعلم أنها (راضية)، فإن كنت في ريب من ذلك يا صديقي الأديب فإني أذكرك بقولك من قصيدة نشرتها لك في جريدة الأفكار سنة 1919:
عهد السياسة كاذب
لله درك يا سجاح!
وقد قال (تاسو) أحد شعراء إيطاليا: إن المرأة تفر، وتود أن تلحق وهي فارة، وتأبى، وتود في إبائها أن تسرق، وتناضل، وترغب أن يظفر بها في النضال!
فقول الآنسة حياة: «لست ممن تغلب الحب على قلوبهم» معناه أن الحب صيرها باكية العين، دامية الفؤاد! وقولها: «الحب عدو لدود للإنسان؛ فيجب أن يبعد عن القلوب» معناه أن الحب مادة الحياة؛ فيجب أن تزود به القلوب!
وقولها «تباعدوا عن الحب» معناه أقبلوا على الحب بسمعكم وبصركم، أيها الشباب!
هذا يا صديقي ما تريده الآنسة حياة فهمي، فهي حين تقول «لعن الله الحب» إنما تريد «حيا الله الحب»، وأنت بما تريد عليم.
ولا يفوتني قبل ختام هذه الكلمة أن أوجه للآنسة حياة هذا السؤال: إنك تأمريننا بأن لا نحب (سمعا وطاعة!) ولو أني سمعت هذه النصيحة قبل خمسة عشر عاما لنجوت من الحب، ولاسترحت الآن من تسطير مدامع العشاق، ولكني يا مولاتي لسوء الحظ قد أحببت، وقد ضربت بمحبتي الأمثال، وأريد أن أسلم من الحب على يدك الطاهرة ، جعل الله في يمناك الشفاء، من كل داء، فهل لك أن تصفي لي طريق الخلاص من هذا الضلال القديم، ومن أسماء الحب الضلال؟
أنا في انتظار الجواب!
ملحوظة: أرجو أن تحترس الآنسة حياة، وهي تكتب أنواع العقاقير، من أن تنهاني عن التطلع إلى العيون، والخدود، والثغور، والنحور، والنهود؛ فإنه لا سبيل إلى مثل هذا المتاب! وإنما أريد أن أسلو وأنا أعبث بأفنان الجمال، كما يرد الشارب الكأس وهي تتوهج بين أنامل الساقي الجميل!
وقد رد السيد حسن القاياتي على هذه الكلمة بخطاب شائق، ولولا الرغبة في الإيجاز لأمتعنا به القارئ، ومن السهل الرجوع إليه في كتاب البدائع.
وقد حسن التجني في قول أحد الشعراء:
صد عني محمد بن سعيد
أجمل العالمين ثاني جيد
ليس من بغضة يصد ولكن
يتجنى لحسنه في الصدود
ظلم الحبيب
وفي الحب وحده يحلو الظلم، حتى لتحكم علية بنت المهدي بأن المحب بني عليه، وتقول:
وضع الحب على الجور فلو
أنصف المعشوق فيه لسمج
ليس يستحسن في شرع الهوى
عاشق يحسن تأليف الحجج
وقال النميري:
راحتي في مقالة العذال
وشفائي في قيلهم بعد قال
لا يطيب الهوى ولا يحسن الح
ب لصب إلا بخمس خصال
بسماع الأذى وعذل نصيح
وعتاب وهجرة وتقال
ويعلل بعضهم جمال الظلم في الحب بقوله:
لولا اطراد الصيد لم تك لذة
فتطاردي لي في الوصال قليلا
هذا الشراب أخو الحياة وما له
من لذة حتى يصيب غليلا
ومثله قول الآخر:
دع الصب يصلى بالأذى من حبيبه
فإن الأذى ممن تحب سرور
غبار قطيع الشاء في عين ذئبها
إذا ما تلا آثارهن ذرور
وأنشد الأصمعي:
لا خير في الحب وقفا لا تحركه
عوامل اليأس أو يقتاده الطمع
لو كان لي صبرها أو عندها جزعي
لكنت أملك ما آتي وما أدع
إذا دعا باسمها داع ليحزنني
كادت له شعبة من مهجتي تقع
لا أحمل اللوم فيها والغرام بها
ما كلف الله نفسا فوق ما تسع
ومن جيد الشعر في ظلم الحبيب قول أبي حية النميري:
رمتني وستر الله بيني وبينها
ونحن بأكناف الحجاز رميم
رميم التي قالت لجارات بيتها
ضمنت لكم أن لا يزال يهيم
ألا رب يوم لو رمتني رميتها
ولكن عهدي بالنضال قديم
فيا عجبا من قاتل لي أوده
أشاط دمي شخص علي كريم
يرى الناس أني قد سلوت وإنني
لمدنف أحشاء الضلوع سقيم
وهذا الشعر غاية في رقة المعنى وجزالة الألفاظ.
وما أجمل الرفق في قول ابن الرومي:
أصبحت مملوكا لأحسن مالك
لو كان كمل حسنه إسجاحه
لم يعنه أرقي وفيه لقيته
حتى أضر بمقلتي إلحاحه
كلا ولا دمعي وفيه سفحته
حق أضر بوجنتي تسفاحه
لا مسه بعقوبة من ربه
إقلاقه قلبي ولا إتراحه
يا ليت شعري هل يبيت معانقي
ويداي من دون الوشاح وشاحه
هل أنت منصف عاشق متظلم
طول النحيب شكاته وصياحه
قسما لقد خيمت منك بمنزل
لي حرفه ولمن سواي بطاحه
ما بال ثغرك مشربا لي سكره
ولمن سواي فدتك نفسي راحه
نفسي معذبة به من دونه
ويباحه دوني ولست أباحه
وأحب لو تأمل القارئ قول الشريف:
ولي ناظر بعد بين الخلي
ط مات من الدمع إنسانه
رواء من الماء آماقه
ظماء من النوم أجفانه
فأين من الداء إفراقه
1
وأين من القلب سلوانه
فيا ظالما طيبا ظلمه
كثيرا على القلب أعوانه
يباع بسومك حب القلوب
وتفلق عندك أثمانه
2
وشر الإساءة من مالك
أساء وما نيل إحسانه
وقال نويب:
أيا ثارات من قتلته سعدى
دمي لا تطلبوه لها حلال
أرق لها وأشفق بعد قتلي
على سعدى وإن قل النوال
وما جادت لنا يوما ببذل
يمين من سعاد ولا شمال
ونويب هذا هو الذي يقول:
ألا في سبيل الله نفس تقسمت
شعاعا وقلب للحصان صديق
أفاقت قلوب كن عذبن بالهوى
زمانا وقلبي ما أراه يفيق
عصيت بك الناهين حتى لو انني
أموت لما أرعى علي شفيق
قساة القلوب
والعشاق يرمون أهل الحسن بقسوة القلب، وغلظ الكبد، ويحسب ابن الأحنف أن قلوب الحسان قدت من الصخر، فيقول:
أظن وما جربت مثلك إنما
قلوب نساء العالمين صخور
ذريني أنم إن لم أنل منك زورة
لعل خيالا في المنام يزور
بكيت إلى سرب القطا حين مر بي
فقلت ومثلي بالبكاء جدير
أسرب القطا هل من يعير جناحه
لعلي إلى من قد هويت أطير
وقد نظر المرحوم إسماعيل باشا صبري إلى استعارة الجناح فقال:
يا سرحة بجوار الماء ناضرة
سقاك دمعي إن لم يوف ساقيك
عار عليك وهذا الظل منتشر
فتك الهجير بمثلي في نواحيك
هل من معيري جناحي طائر غرد
كي أقطع العمر شدوا في أعاليك
فلا أنفر عن أرض غرست بها
ولا يرن بسمعي غير واديك
ومن المحبين من يصف قلب محبوبته بالطمأنينة والهدوء، في حين أن قلبه يتلظى على جمر الصدود. كما قال بشار:
1
أيها الساقيان صبا شرابي
واسقياني من ريق بيضاء رود
إن دائي الصدى وإن دوائي
شربة من رضاب ثغر برود
ولها مبسم كغر الأقاحي
وحديث كالوشي وشي البرود
نزلت في السواد من حبة القل
ب ونالت زيادة المستزيد
ثم قالت نلقاك بعد ليال
والليالي يبلين كل جديد
عندها الصبر عن لقاي وعندي
زفرات يأكلن قلب الحديد
وما أظرف قول أبي نواس في معشوقته جنان:
جنان تسبني ذكرت بخير
وتزعم أنني رجل خبيث
وأن مودتي كذب ومين
وأني للذي أهوى بثوث
وليس كذا ولا رد عليها
ولكن الملول هو النكوث
ولي قلب ينازعني إليها
وشوق بين أضلاعي حثيث
رأت كلفي بها ودوام عهدي
فملتني كذا كان الحديث
وأبدع ما قيل في قسوة قلب الجميل قول خالد الكاتب:
ليت ما أصبح من
رقة خديك بقلبك
ولقساة القلوب يقول صاحب البدائع:
لقد صددنا كما صددتم
فهل ندمتم كما ندمنا
وشفنا الوجد مذ جفوتم
فأظهر الدمع ما كتمنا
وهبت روحي وقلت عطفا
فما عطفتم وما رجعنا
ملكتموها وما وصلتم
لقد غنمتم وما غنمنا
وما ازددت خوفا على فؤادي
إلا وزدتم رضى وأمنا
وما رجائي وقد قويتم
على جفائي وزدت وهنا
قتلت نفسي على جفاكم
وما قرعتم علي سنا
لهفي على السالف المفدى
لو كان يجدي الفدا لجدنا
فما ذكرنا الذي تقضى
إلا على حسنه انتحبنا •••
لو كنت أشكو الهوى لصخر
لحن وجدا وأن حزنا
وذاب من هول ما أراه
فقد برانا الهوى وذبنا
إن كان ذنب فسامحونا
ويشهد الله ما أسأنا
وصاحب البدائع هو الذي يقول:
أيها الظالم الجميل سلام
من أسير قيدته بجفاكا
كيف أصليتني من الهجر نارا
وحرمت العيون من أن تراكا
ليت من شاء أن يطول أسانا
في سبيل الهوى أطال أساكا
سوف أنجو من الغرام وأغدو
مطلق النفس من قيود هواكا
فاسقني المر من صدودك واحكم
جائر الحكم في ظلال صباكا
وقد حسب بعض الناقدين أن في هذا الشعر نذيرا بنقض العهد، وجحود الود، وليس الأمر كما يحسبون، وإنما هي صورة لحالة من حالات النفس، حين يثور الوجد، ويتمنى المحب ليأسه لو أفلت من أشراك هواه، وهيهات هيهات!
سيف الفراق
نتكلم في هذا الحديث عن وصف الشعراء لفتك الفراق بالنفوس وقتله القلوب، فمنهم من يذكر تعثره في الطريق، وضلاله عن القصد، بعد فراق من يحب، كما قال بعض الأعراب:
وما وجد مغلوب بصنعاء موثق
بساقيه من ثقل الحديد كبول
ضعيف الموالي مسلم بجريرة
له بعد نومات العيون عويل
يقول له الجلاد أنت معذب
غداة غد أو مسلم فقتيل
بأوجع مني لوعة يوم راعني
فراق حبيب ما إليه سبيل
غداة أسير القصد ثم تردني
عن القصد لوعات الهوى فأميل
وهذه القطعة من غرر الشعر، وهي آية في وصف الحيرة يرمى بها المحب المشوق، بعد فراق لا يرجى أن يعقبه لقاء، وتأمل كيف شبه حاله بحال مغلوب كبل بالحديد، في جريرة لا يغني في دفعها ضعف مواليه، وقد أصبح موضع النذير من الجلاد في كل صباح ومساء، وحسب الفراق أن يرمى المحب في مثل هذه الحال!
وأنشد الجاحظ:
أزف البين المبين
قطع الشك اليقين
حنت العيش فأبكا
ني من العيش الحنين
لم أكن لا كنت أدري
أن ذا البين يكون
علموني كيف أشتا
ق إذا خف القطين
وكان أستاذنا الشيخ سيد المرصفي يسخر ممن يقول:
وأنا بكيت من الفرا
ق فهل بكيت كما بكيت
ولطمت خدي خاليا
ومرسته حتى اشتفيت
وعواذلي ينهينني
عمن هويت فما انتهيت
وأنا أحسب أن البكاء ولطم الخدود أهون ما يجري بعد الفراق، ويا ويلتاه من الفراق! وما أصدق من يقول:
أمزمعة ليلى ببين ولم تمت
كأنك عما قد أظلك غافل
ستعلم إن شطت بهم غربة النوى
وزالوا بليلى أن قلبك زائل
ومن المتيمين من يشجيه أن يقاسي أحبابه متاعب السفر، ومشاق السرى، ومصاعب الإدلاج. ثم يرجع إلى نفسه فيتوجع لحاله بعد الفراق. كقول أبي تمام:
لو كان في البين إذ بانوا لهم دعة
لكان بينهم من أعظم الضرر
فكيف والبين موصول به تعب
تكلف البيد في الأدلاج والبكر
لو ان ما يبتليني الحادثات به
يكون بالماء لم يشرب من الكدر
أو كان بالعيس ما بي يوم رحلتهم
أعيت على السائق الحادي فلم تسر
كأن أيدي مطاياهم إذا وخدت
يقعن في حر وجهي أو على بصري
وهذا شعر يذيب لفائف القلوب ... وقال بعض المعذبين:
قد قلت والعبرات تس
فحها على الخد المآقي
حين انحدرت إلى الجزي
رة وانقطعت عن العراق
يا بؤس من سل الزما
ن عليه سيفا للفراق
إي والله!
يا بؤس من سل الزما
ن عليه سيفا للفراق
إنه لا محالة مقتول!
وقد يلوم المحب نفسه على فراق أحبابه، كالذي يقول:
أتظعن عن حبيبك ثم تبكي
عليه فمن دعاك إلى الفراق
كأنك لم تذق للبين طعما
فتعلم أنه مر المذاق
أقم وانعم بطول القرب منه
ولا تظعن فتكبت باشتياق
فما اعتاض المفارق من حبيب
ولو يعطى الشآم مع العراق
ومثله من يقول:
تطوي المراحل عن حبيبك دائبا
وتظل تبكيه بدمع ساجم
كذبتك نفسك لست من أهل الهوى
تشكو الفراق وأنت عين الظالم
هلا أقمت ولو على جمر الغضى
قلبت أو حد الحسام الصارم
وما أوجع ما قالته إحدى النساء:
وكنا كغصني بانة وسط روضة
نشم شذا الأزهار في عيشة رغد
فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطع
فيا فردة باتت تحن إلى فرد
ولهذين البيتين قصة محزنة يضيق عن ذكرها المجال.
الهرب من الفراق
وإذا كان ما تقدم هو حال المحبين يوم الفراق، فليس ببدع أن يهرب البحتري من منظر الوداع، وأن يظرف حين يقول:
الله جارك في انطلاقك
تلقاء شامك أو عراقك
لا تعذلني في مسي
رك يوم سرت ولم ألاقك
إني خشيت مواقفا
للبين تسفح غرب ماقك
وعلمت ما يلقى المتي
م عند ضمك واعتناقك
وعلمت أن لقاءنا
سبب اشتياقي واشتياقك
فتركت ذاك تعمدا
وخرجت أهرب من فراقك
وفي مقابل هذا المعنى يقول العباس بن الأحنف وقد حرم توديع من يحب:
كفى حزنا أني بقيت وليس لي
سبيل إلى توديعكم فأودع
تلفت خلفي حيث لم تبق حيلة
وذودت عيني نظرة وهي تدمع
غراب البين
أكثر العرب من ذكر الغراب، والتشاؤم من منظره، حتى ليقولون:
رأيت غرابا ساقطا فوق بانة
ينتف أعلى ريشه ويطايره
فقلت ولو اني أشاء زجرته
بنفسي للنهدي هل أنت زاجره
فقال غراب لاغتراب من النوى
وفي البان بين من حبيب تجاوره
فما أعيف النهدي لا در دره
وأزجره للطير لا عز ناصره
ومن الشعراء من استخف بهذه الخرافة، وسخر من المتطيرين، ورأى أن الإبل هي التي تفرق الأحباب، كقول أبي الشيص:
ما فرق الأحباب بع
د الله إلا الإبل
والناس يلحون غرا
ب البين لما جهلوا
وما على ظهر غرا
ب البين تطوى الرحل
ولا إذا صاح غرا
ب في الديار احتملوا
وما غراب البين إلا
ناقة أو جمل
ومنهم من لا يجيز ذم المطي، لأن لها صلة بمن يحب، كالذي يقول:
زعموا بأن مطيهم عون النوى
والمؤذنات بفرقة الأحباب
ولو انها حتفي لما أبغضتها
ولها بهم سبب من الأسباب
فقد العزاء
وقد يعنف الهوى ويقسو، حتى يذهب بجميل الصبر، وحميد العزاء، فمن العشاق من يفقد اصطباره عند الوداع. كقول ابن نباتة السعدي:
كيف العزاء وأين بابه
والحي قد خفت ركابه
بأغر منتقب ينم
على محاسنه نقابه
متأود حلو الشمائل
من أساوره حقابه
1
زعم المخبر أنه
ضربت على سلع قبابه
فطلبته كالأيم أو
كالسيل في الليل انسيابه
فإذا أحم المقلتي
ن يشين أنمله خضابه
يهتز مثل السمهري
تدافعت فيه كعابه
وقف الولائد دونه
كالقلب يستره حجابه
أقبلت أسأله وأع
لم أن حرماني جوابه
ويلي على متلون ال
أخلاق يعجبه شبابه
لا رسله تترى إلي
نا بالسلام ولا كتابه
وأحب أن يتأمل القارئ هذه القصيدة البديعة، وأن يتنبه إلى دقة الوصف في جميع ما عرض الشاعر له، وعلى الأخص تلون الأخلاق، والزهو بالشباب في أرباب الجمال، وقال الشريف:
ورامين وهنا بالجمار وإنما
رموا بين أحشاء المحبين بالجمر
رموا لا يبالون الحشا وتروحوا
خليين والرامي يصيب ولا يدري
وقالوا غدا ميعادنا النفر عن منى
وما سرني أن اللقاء مع النفر
ويا بؤس للقرب الذي لا نذوقه
سوى ساعة ثم البعاد مدى الدهر
فيا صاحبي إن تعط صبرا فإنني
نزعت يدي اليوم من طاعة الصبر
وإن كنت لم تدر البكا قبل هذه
فميعاد دمع العين منقلب السفر
وقد يستولي الحزن على القلب، ويتغلغل في سويدائه، حتى ييأس المحب عن صلاحية فؤاده للسرور، لو رجعت أسبابه، كما قال بعض الشعراء:
كم استراح إلى صبر فلم يرح
صب إليكم من الأشواق في ترح
تركتم قلبه من حزن فرقتكم
لو يرزق الوصل لم يقدر على الفرح
وقال خالد الكاتب يفضل اللوعة على العزاء:
عاتبت نفسي في هوا
ك فلم أجدها تقبل
وأطعت داعيها إلي
ك فلم أطع من يعذل
لا والذي جعل الوجو
ه لحسن وجهك تمثل
لا قلت إن الصبر عن
ك من التصابي أجمل
وقال إسحاق الموصلي في ذهاب الوداع بالصبر الجميل:
تقضت لبانات وجد رحيل
ولم يشف من أهل الصفاء غليل
ومدت أكف للوداع فصافحت
وفاضت عيون للفراق تسيل
ولا بد للألاف من فيض عبرة
إذا ما خليل بان عنه خليل
فكم من دم قد طل يوم تحملت
أوانس لا يودى لهن قتيل
غداة جعلت الصبر شيئا نسيته
وأعولت لو أجدى علي عويل
ولم أنس منها نظرة هاج لي بها
هوى منه باد ظاهر ودخيل
كما نظرت حوراء في ظل سدرة
دعاها إلى ظل الكناس مقيل
وابن زيدون يجعل صبره عن حبيبه كصبر الظماء عن الماء، فيقول:
إليك من الأنام غدا ارتياحي
وأنت من الزمان مدى اقتراحي
وما اعترضت هموم النفس إلا
ومن ذكراك ريحاني وراحي
فديتك إن صبري عنك صبري
لدى عطشي عن الماء القراح
ولي أمل لو الواشون كفوا
لأطلع غرسه ثمر النجاح
وأعجب كيف يغلبني عدو
رضاك عليه من أمضى سلاحي
فؤادي من أسى بك غير خال
وقلبي من هوى لك غير صاحي
فلو أسطيع طرت إليك شوقا
وكيف يطير مقصوص الجناح
ويأسى ابن الدمينة على أن لم يغنه القرب، ولم يسله البعد، فيقول:
وقد زعموا أن المحب إذا دنا
يمل وأن النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
على ذاك قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع
إذا كان من تهواه ليس بذي عهد
وأوجع الشعر في فقد العزاء قول بعض الأعراب:
فيا رب إن أهلك ولم ترو هامتي
بليلى أمت لا قبر أعطش من قبري
وإن أك عن ليلى سلوت فإنما
تسليت عن يأس ولم أسل عن صبر
وإن يك عن ليلى غنى وتجلد
فرب غنى نفس قريب من الفقر
بكاء الشباب
ولعل أشجى ما يمر بخاطر المرء أن يهجره الغيد بعد انصرام الشباب، والشباب هو شفيع الفتى إلى قلوب الحسان، فإذا مضى فقد أصبح بلا شفيع، والويل للمفرد المغلوب!
من أجل ذلك تفنن الشعراء في بكاء الشباب، والتنكر للمشيب، فمنهم من تبيض في رأسه شعرة واحدة، فلا يراها قليلة، لأن قذى العين غير قليل، كما قال ابن الرومي:
طرفت عيون الغانيات وربما
أمالت إلي الطرف كل مميل
وما شبت إلا شيبة غير أنه
قليل قذاة العين غير قليل
وابن الرومي يكثر البكاء على شبابه، ويعلل نفسه أحيانا بأن الشيب في الرأس كالنور على الغصن، ويأسى كثيرا لاحتياجه إلى الخضاب، الذي يراه أشبه بسواد الحداد، ويكاد يصرخ من خروجه إلى الحسان في شعر ميت، وقلب حي، والمحب يتفجر قلبه دائما بالحياة، وانظر كيف يقول:
شاب رأسي ولات حين مشيب
وعجيب الزمان غير عجيب
قد يشيب الفتى وليس عجيبا
أن يرى النور في القضيب الرطيب
ساءها أن رأت حبيبا إليها
ضاحك الرأس عن مفارق شيب
يا حليف الخضاب لا تخدع النف
س فما أنت للصبا بنسيب
ليس يجدي الخضاب شيئا من النف
ع سوى أنه حداد كئيب
لهف نفسي على القناع الذي مح
وأعقبت منه شر عقيب
1
منع العين أن تقر وقرت
عين واش بنا وعين رقيب
شعر ميت لذي وطر حي
كنار الحريق ذات اللهيب
ظلمتني الخطوب حتى كأني
ليس بيني وبينها من حسيب
وما أروع قوله في السخر من الخضاب:
رأيت خضاب المرء عند مشيبه
حدادا على شرخ الشبيبة يلبس
وإلا فما يغزو امرؤ بخضابه
أيطمع أن يخفى شباب مدلس
وكيف بأن يخفى المشيب لخاضب
وكل ثلاث صبحه يتنفس
وهبه يواري شيبه أين ماؤه
وأين أديم للشبيبة أملس
وقال أشجع السلمي يوصي بانتهاب اللذات، قبل أن يقف في سبيلها الهرم والمشيب:
وما لي لا أعطي الشباب نصيبه
وغصناه يهتزان في عوده الرطب
رأيت الليالي ينتهبن شبيبتي
فأسرعت باللذات في ذلك النهب
رأيت بنات الدهر يخلسن لذتي
لقد حزن سلمي وانتهين إلى حربي
وقد حولت حالي الليالي وأسرجت
على الرأس أمثال الفتيل من العطب
وموت الفتى خير له من حياته
إذا كان ذا حالين يصبو ولا يصبي
وقال آخر في صدوف النساء عن صرعى المشيب:
هل الأدم كالآرام والدهر كالدمى
معاودتي أيامهن الصوالح
زمان سلاحي بينهن شبيبتي
لها سائق من حسنهن ورامح
وأقسمن لا يسقينني قطر مذنة
لشيبي ولو سالت بهن الأباطح
وكان أستاذنا المرحوم فقيد اللغة والأدب الشيخ محمد المهدي بك كثير الإعجاب بقول أبي منصور النميري في الجزع على شبابه المفقود:
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع
إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع
بان الشباب ونابتني بفرقته
خطوب دهر وأيام لها خدع
ما كنت أوفي شبابي كنه قيمته
حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع
تعجبت أن رأت أسراب دمعته
في حلبة الخد أجراها حشا وجع
أصبحت لم تطعمي ثكل الشباب ولم
تشجي بغصته والعذر لا يقع
لا ألحين فتاتي غير كاذبة
عين المكذوب فما في ودكم طمع
ما بالشبيبة من وان وإن رفعت
إلا لها نبوة عنه ومرتدع
إني لمعترف ما في من أرب
عند الحسان فما في النفس منخدع
قد كدت تقضي على فوت الشباب أسى
لولا أعزيك إن الأمر منقطع
ويذكرون أن الرشيد سمع هذا الشعر، وبكى له، وأنشد:
أتأمل رجعة الدنيا سفاها
وقد صار الشباب إلى ذهاب
فليت الباكيات بكل أرض
جمعن لنا فنحن على الشباب
ومن التعليل الكاذب قول البحتري في مدح المشيب:
عذلتنا في عشقها أم عمرو
هل سمعتم بالعاذل المعشوق
ورأت لمة ألم بها الشي
ب فريعت من ظلمة في شروق
ولعمري لولا الأقاحي لأبصر
ت أنيق الرياض غير أنيق
وسواد العيون لو لم يجاور
ه بياض ما كان بالموموق
ومزاج الصهباء بالماء أملى
بصبوح مستحسن وغبوق
أي ليل يبهى بغير نجوم
أو سحاب يندى بغير بروق
لكن ماذا يصنع الأشيب، إن لم يغالط الحسان بهذه المعاذير؟!
بلايا الغيرة
نذكر هنا ما جرى في سبيل الغيرة من الدموع، ونتقدم ذلك بقول بعض الأندلسيين وقد قبل من يهواه:
يا رب إن قدرته لمقبل
غيري فللمسواك أو للأكؤس
وإذا قضيت لنا بصحبة ثالث
يا رب فليك شمعة في المجلس
وإذا حكمت لنا بعين مراقب
يا رب فليك من عيون النرجس
ألست ترى الرعب وقد استولى على هذا الشاعر من أن ينعم بحبيبه سواه، فجعل يتمنى، لو تنفع الأماني، أن لا يراقبهم غير النرجس، وأن لا يصحبهم غير الشمعة، وأن لا يقبل محبوبه غير الكأس أو المسواك؟!
وقد جن العرب بالغيرة جنونا، فتخيلوا غسان بن جهضم ينشد زوجه من عالم الأرواح، وقد زفت إلى غيره بعد موته بقليل:
غدرت ولم ترعي لبعلك حرمة
ولم تعرفي حقا ولم تحفظي عهدا
ولم تصبري حولا حفاظا لصاحب
حلفت له يوما ولم تنجزي وعدا
غدرت به لما ثوى في ضريحه
كذلك ينسى كل من سكن اللحدا
وتخيل رواة العرب أن موسى الهادي جاء إلى جاريته (غادر) وقد أقبلت من بعده على أخيه هارون فأنشدها وهي نائمة هذه الأبيات:
أخلفت عهدي بعد ما
جاورت سكان المقابر
ونكحت غادرة أخي
صدق الذي سماك غادر
لا يهنك الإلف الجدي
د ولا تنم عنك الدوائر
ولحقت بي قبل الصبا
ح وصرت حيث غدوت صائر
بعد هذا التمهيد يستطيع القارئ أن يدرك لم حملت الغيرة عبد السلام بن رغبان على قتل غلامه وجاريته، وحديث هذا الشاعر عجيب؛ فقد ذكروا أنه اشترى غلاما وجارية، ثم شغفاه حبا، فكان يجلس للشراب والجارية عن يمينه والغلام عن شماله، ثم خشى أن يموت قبلهما فينعم غيره بما لهما من روعة وجمال، فذبحهما وأحرقهما وصنع من ترابهما آنيتين للشراب! وكان ينشد حين يشرب من الآنية التي صنعها من تراب الغلام هذه القطعة الباكية:
أشفقت أن يرد الزمان بغدره
أو أبتلى بعد الوصال بهجره
قمر قد استخرجته من دجنه
لبليتي وأثرته من خدره
فقتلته وله علي كرامة
فله الحشا وله الفؤاد بأسره
عهدي به ميتا كأحسن نائم
والحزن يسفح مدمعي في نحره
لو كان يدري الميت ماذا بعده
بالحي منه بكى له في قبره
غصص تكاد تفيض منها نفسه
ويكاد يخرج قلبه من صدره
ثم ينشد حين يشرب من الآنية التي صنعها من تراب الجارية هذه القطعة التي يندر أن نجد أحر منها في الرثاء:
يا طلعة طلع الحمام عليها
فجنى لها ثمر الردى بيديها
حكمت سيفي في مجال خناقها
ومدامعي تجري على خديها
رويت من دمها الثرى ولطالما
روى الهوى شفتي من شفتيها
فوحق نعليها وما وطئ الثرى
شيء أعز علي من نعليها
ما كان قتليها لأني لم أكن
أبكي إذا سقط الذباب عليها
لكن بخلت على الوجود بحسنها
وأنفت من نظر العيون إليها
ولعل الظلم لم يرزق حجة أقوى من هذه الحجة ، ولا برهانا أسطع من هذا البرهان! وكانت السيدة سكينة تعيب على جرير قوله:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
وقت الزيارة فارجعي بسلام
وكانت تقول: قاتله الله ما أقساه! هلا قال: ادخلي بسلام.
فلو سمعت السيدة سكينة بهذا المحب السفاح لطال بكاؤها على صرعى الغيرة، وقتلى الإشفاق، ولئن كان الجنون فنونا كما يقولون، فهذا ورب الكعبة أغرب فنون الجنون، وكنا نود لو حدثنا التاريخ عن أثر هذه الأعجوبة في أنفس من عاصروا ابن رغبان لنعرف رأيهم في الجناية على الجمال، ألم يكفهم أن الحسن حال تحول، ودولة تدول، حتى تسوق غيرتهم إليه الفناء؟ وبعد، فقد سمي عبد السلام بن رغبان هذا «ديك الجن» وإنه في فعلته هذه لشيطان مريد!
هذا، ومن الشعراء من يغار من عود البشام حين يستاك به الحبيب، ومن العقد يطوق به الجيد، ومن النقاب يحجب به الوجه الجميل، كما قال الشريف:
يا غزال الجزع لو كا
ن علي الجزع لمام
أحسد الطوق على جي
دك والطوق لزام
وأعض الكف إن نا
ل ثناياك البشام
وأغار اليوم إن مر
على فيك اللثام
ومنهم من يغار من قميص حبيبه، كما قال خالد الكاتب:
محبك شفه ألمه
وخاصر جسمه سقمه
وباح بما يجمجمه
من الأسرار مكتتمه
أما ترثي لمكتئب
يحبك لحمه ودمه
يغار على قميصك حي
ن تلبسه ويتهمه
وكما قال بعض الأعراب:
أرى القميص على ليلى فأحسده
إن القميص على ما ضم محسود
ومنهم من يغار على اسم محبوبه، فيكني عنه، لئلا تتمتع به الآذان، كما قال البها زهير:
وأنزه اسمك أن تمر حروفه
من غيرتي بمسامع الجلاس
فأقول بعض الناس عنك كناية
خوف الوشاة وأنت كل الناس
وقد يغار المحب على حبيبه من نفسه، كما قال أبو تمام:
بنفسي من أغار عليه مني
وتحسد مقلتي نظري إليه
ولو اني قدرت طمست عنه
عيون الناس من حذري عليه
حبيب بث في قلبي هواه
وأمسك مهجتي رهنا لديه
فروحي عنده والجسم خال
بلا روح وقلبي في يديه
الاستعطاف
نذكر هنا حيل العشاق في لفت أنظار الأحباب إليهم، وتوجيه أفكارهم نحوهم، حتى ينالوا طلبتهم من القرب، وبغيتهم من الوصل، ولذلك حالات: فمن العشاق من يقبح لحبيبه المطل والخلف، حتى يبر بوعده، ويفي بعهده، كقول ابن الأحنف:
كأن لم يكن بيني وبينكم هوى
ولم يك موصولا بحبلكم حبلي
وإني لأستحيي لكم من محدث
يحدث عنكم بالملالة والمطل
وكقول الطغرائي:
ويا جيرتي بالجزع جسمي بعدكم
نحيل وطرفي بالسهاد كليل
عهدت بكم غصن الشبيبة مورقا
فخان وخنتم والوفاء قليل
وأودعتكم قلبي فلما طلبته
مطلتم وشر الغارمين مطول
فإن عدتم يوما تريدون مهجتي
تمنعت إلا أن يقام كفيل
ومن المتيمين من يحرم كل شيء حتى الوعد فتراه لا يطلب الوفاء ولا يقبح الإخلاف، وإنما يرجو وعدا يجلو به كربة قلبه، ويطفئ به نار جواه، لو تغني الوعود!
وما أزال ألمح في عالم الخيال مجنون بني عامر، وقد صادف في توحشه حي ليلى، ولقيها فجأة فعرفها وعرفته، فصعق وخر مغشيا عليه، وأقبل فتيان من حي ليلى فأخذوه، ومسحوا التراب عن وجهه وأسندوه إلى صدورهم، وسألوا أن تقف له وقفة، فرقت لما رأته وقالت: أما هذا فلا يجوز أن أفتضح به ثم قالت لجاريتها: اذهبي إلى قيس فقولي له: ليلى تقرأ عليك السلام، وتقول لك أعزز علي بما أنت فيه، ولو وجدت سبيلا إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي. فمضت الوليدة إليه وأخبرته بقولها فأفاق وجلس، وقال: أبلغيها السلام، وقولي لها هيهات هيهات! إن دائي ودوائي أنت، وإن حياتي ووفاتي لفي يديك، ولقد وكلت بي شقاء لازما وبلاء طويلا، ثم بكى، وأنشأ يقول:
أقول لأصحابي هي الشمس ضوءها
قريب ولكن في تناولها بعد
لقد عارضتنا الريح منها بنفحة
على كبدي من طيب أرواحها برد
فما زلت مغشيا علي وقد مضت
أناة وما عندي جواب ولا رد
أقلب بالأيدي وأهلي بودهم
يفدونني لو يستطيعون أن يفدوا
ولم يبق إلا الجلد والعظم عاريا
ولا عظم لي أن دام ما بي ولا جلد
أدنياي ما لي في انقطاعي ورغبتي
إليك ثواب منك دين ولا نقد
عديني بنفسي أنت وعدا فربما
جلا كربة المكروب عن قلبه الوعد
غزتني جنود الحب من كل جانب
إذا حان من جند قفول أتى جند
والبيت الأخير أعجوبة من أعاجيب الخيال، فما زال المحبون صرعى مساكين، إن قفلت عنهم جنود الخدود، غزتهم جنود العيون، ويرحم الله من تألبت عليه جنود الحب جميعا حتى ذهبت بلبه، ولم يبق إلا أن تنكسر النصال على النصال!
وقد يستعطف المتيم المحزون ولكنه لا يطلب وعدا يطارد به جيوش الأحزان، ولا يرجو الوفاء بوعد كأن يهتدي به في ظلمات الشجون، وإنما يلمح وقد يكون التلميح، أبلغ من التصريح. فيذكر أن الحسن يحدق به من كل جانب، ولكنه لا يصبو ولا يميل لأنه بمن يحب مشغول. وانظر قول الأبيوردي في هذا المعنى البديع:
وقتك الردى بيض حسان وجوهها
ومثرية من نضرة وجمال
طلعن بدورا في دجى من ذوائب
ومسن غصونا في متون رمال
أرى نظرات الصب يعثرن دونها
بأعراف جود أو رءوس عوال
عرضن علي الوصل والقلب كله
لديك فأنى يبتغين وصالي
ولولاك ما بعت العراق وأهله
بوادي الحمى والمندلي بضال
فما لنساء الحي يضمرن غيرة
سبتها العوالي ما لهن وما لي
ولو خالفتني في متابعة الهوى
يميني ما واصلتها بشمالي
وفيك صدود من دلال أظنه
على ما حكى الواشي صدود ملال
وقد يتمنى المحب أن يمرض ليعوده الحبيب، وإليك قول ابن الخياط:
أحن إلى سقمي لعلك عائدي
ومن كلف أني أحن إلى السقم
وحتام أستشفي من الداء ما به
سقامي وأستروي من الدمع ما يظمي
فراق أتى في إثر هجر وما أذى
بأوجع من كلم أصاب على كلم
مسكين هذا المحب، يتمنى المرض ليعاد، فهل يعلم أن من المحبين من أشقاه المرض، فلم يسعده العواد، وهل أتاه حديث ابن الأحنف وقد لج به المرض فأخذ يهذي بهذا الشعر الباكي الحزين:
أهابك أن أشكو إليك وليس لي
يد بالذي ألقى وأخفي من الوجد
وإني لصادي الجوف والماء حاضر
أراه ولكن لا سبيل إلى الورد
وما كنت أخشى أن تكون منيتي
بكف أخص الناس كلهم عندي
وهل وصلت إليه تلك الوصية البديعة التي بعث بها ابن الأحنف إلى حجاج البيت الحرام وقد توقع أن يمروا بدار هواه؟
انظر إلى ذلك العليل، وقد خفي الداء، وتعذر الشفاء، وكلما عصر الماء في فيه مجه، كما يفعل الطفل الغرير، وقد ذهبت العلة بجمال نظراته، وسحر بسماته، وإن نودي لم يجب بغير الأنين، انظر إليه وقد تمنى جرعة مزجت بريق حبيبته يحملها إليه الحجاج في زجاجة! ولو أمكن أن تنقل إليه النظرة، لرجاهم أن يحملوا إليه نظرة، ولو خلق الفنوغراف في ذلك الحين لرجاهم أن ينقلوا إليه نغمة من نغماتها العذاب! ولو مهر المصورون إذ ذاك لكلفهم أن يصوروا مشيتها الفتانة في الضحى والأصيل! انظر إليه وهو يرجوهم أن يتعللوا عند أهله فيذكروا أن تلك الجرعة العذبة إنما هي من ماء زمزم! ويحك، وأين ماء زمزم الملح الأجاج، من ماء ذلك الثغر العذب الفرات؟ انظر إليه وقد أوصاهم أن يرشوا ريق من يهوى على وجهه، فإن صادفوه ميتا فليرشوه على قبره! انظر كيف يقول:
أزوار بيت الله مروا بيثرب
لحاجة متبول الفؤاد كئيب
وقولوا لهم يا أهل يثرب أسعدوا
على جلب للحادثات جليب
فإنا تركنا بالعراق أخا هوى
تنشب رهنا في حبال شعوب
به سقم أعيا المداوين علمه
سوى ظنهم من مخطئ ومصيب
إذا ما عصرنا الماء في فيه مجه
وإن نحن نادينا فغير مجيب
خذوا لي منها جرعة في زجاجة
ألا إنها لو تعلمون طبيبي
وسيروا فإن أدركتم بي حشاشة
لها في نواحي الصدر وجس دبيب
فرشوا على وجهي أفق من بليتي
يثيبكم ذو العرش خير مثيب
فإن قال أهلي ما الذي جئتم به
وقد يحسن التعليل كل أريب
فقولوا لهم جئناه من ماء زمزم
لنشفيه من دائه بذنوب
وإن أنتم جئتم وقد حيل بينكم
وبيني بيوم للمنون عصيب
وصرت من الدنيا إلى قعر حفرة
حليف صفيح مطبق وكثيب
فرشوا على قبري من الماء واندبوا
قتيل كعاب لا قتيل حروب
وكان ابن الأحنف هذا يستعطف فلا يرجو شيئا، ولا يخاف شيئا، وكل مناه أن يعلم فاتنوه أنه يحبهم، وأن يسمعوا صوت ما يجد، وإنه لمطلب زهيد، ولكنه قد يصبح صعب المنال، وانظر هذه الأبيات التي يندر أن تجد مثلها في تصوير المحب وقد خلاه من أذكوا نار جواه، وتركوه يتلوى ويتململ فوق جمر الهوى وجمر الصدود:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتصبا
بثقل ما حملوني في الهوى قعدوا
جاروا علي ولم يوفوا بعهدهم
قد كنت أحسبهم يوفون إن وعدوا
لأخرجن من الدنيا وحبكم
بين الجوانح لم يشعر به أحد
حسبي بأن تعلموا أن قد أحبكم
قلبي وأن تسمعوا صوت الذي أجد
ومن حسن الإشارة قول إبراهيم بن المهدي:
يا غزالا لي إليه
شافع من مقلتيه
والذي أجللت خدي
ه فقبلت يديه
بأبي وجهك ما أك
ثر حسادي عليه
أنا ضيف وجزاء الضي
ف إحسان إليه
والإحسان الذي يرجوه هذا الشاعر يذكرنا بقول بعض الأعراب:
آل ليلى إن ضيفكم
واجد بالحي مذ نزلا
أمكنوه من ثنيتها
لم يرد خمرا ولا عسلا
ومن جميل الاستعطاف قول ابن زيدون:
يا هلالا تتراءا
ه نفوس لا عيون
عجبا للقلب يقسو
منك والعطف يلين
ما الذي ضرك لو سر
بمرآك الحزين
وتلطفت بصب
حينه فيك يحين
فوجوه اللطف شتى
والمعاذير فنون
وما أوجع الأسى في قول ابن هانئ:
يا بنت ذي البرد الطويل نجاده
أكذا يجور الحكم في ناديك
عيناك أم مغناك موعدنا وفي
وادي الكرى ألقاك أم واديك
منعوك من سنة الكرى وسروا فلو
عثروا بطيف طارق ظنوك
ودعوك نشوى ما سقوك مدامة
لما تمايل عطفك اتهموك
حسبوا التكحل في جفونك حلية
تالله ما بأكفهم كحلوك
وجلوك لي إذ نحن غصنا بانة
حتى إذا احتفل الهوى حجبوك
ويندر أن تجد بين الأدباء من لا يحفظ قول ابن الطثرية:
عقيلية أما ملاث إزارها
فدعص وأما خصرها فبتيل
تقيظ أكناف الحمى ويظلها
بنعمان من وادي الأراك مقيل
أليس قليلا نظرة إن نظرتها
إليك، وكلا ليس منك قليل
فيا خلة النفس التي ليس دونها
لنا من أخلاء الصفاء خليل
ويا من كتمنا حبه لم يطع به
عدو ولم يؤمن عليه دخيل
أما من مقام أشتكي غربة النوى
وخوف العدا فيه إليك سبيل
فؤادي أسير لا يفك ومهجتي
تفيض وأحزاني عليك تطول
ولي مقلة قرحى لطول اشتياقها
إليك وأجفاني عليك همول
فديتك أعدائي كثير وشقتي
بعيد وأشياعي لديك قليل
وكنت إذا ما جئت جئت بعلة
فأفنيت علاتي فكيف أقول
فما كل يوم لي بأرضك حاجة
ولا كل يوم لي إليك رسول
صحائف عندي للعتاب طويتها
ستنشر يوما والعتاب طويل
فلا تحملي ذنبي وأنت ضعيفة
فحمل دمي يوم الحساب ثقيل
ولنختم هذا الباب بقول صاحب البدائع:
أجبني إن تفضلت
على المسكين بالرد
أأنسى الدهر ما جادت
به عيناك من وعد؟
وأرسم للمنى حدا
وما لجواي من حد؟
وأقنع بالردى وردا
وغيري صائغ الورد؟
وأرضى باللظى مثوى
ووجهك جنة الخلد؟ •••
وفيا حافظا أشقى
ليسعد ناقض العهد
وصبا والها أفنى
ليبقى جاحد الود
فيا ويلاه من حب
حملت بلاءه وحدي!
أعد لحمله جهدي
فيصعق بطشه جهدي
الحنين
هل أتاك حديث الصمة بن عبد الله وقد خطب ابنة عمه، وكان لها محبا، فاشتط عليه عمه في المهر، فاستعان بأبيه وكان مثريا فلم يعنه، فأم عشيرته فأسعفوه، ثم ساق الإبل إلى عمه، فقال لا أقبل هذه في مهر ابنتي، فسل أباك أن يبدلها لك. فسأل أباه ذلك فأبى عليه، فلما رأى ضن أبيه وإباء عمه قطع عقلها وخلاها فعاد كل بعير إلى أهله ... ويروى أن أباه أعطاه تسعة وتسعين بعيرا فأبى عمه إلا مائة وحلف أبوه لا يكملها، فقال الصمة: والله ما رأيت ألأم منكما، وإني لألأم منكما جميعا إن أقمت بينكما، ثم رحل إلى الشام. فقالت ابنة عمه: تالله ما رأيت كاليوم رجلا باعته عشيرته ببعير!
تأمل أيها القارئ هذه القصة الوجيزة، وأكملها بما لديك من وثبات الخيال، ولا تطالبني بأكثر من هذا الإيجاز، فإنما أتخذه مقدمة لدرس قصيدة الصمة في الحنين ... ألم تر إليه وقد طالت غربته، فعبث الشوق بقلبه، واعتادته ذكرى أحبابه وأوطانه، فقال يعاتب نفسه، ويحاور فؤاده:
أمن ذكر دار بالرقاشين أصبحت
بها عاصفات الصيف بدءا ورجعا
حننت إلى ريا ونفسك باعدت
مزارك من ريا وشعباكما معا
فما حسن أن تأتي الأمر طائعا
وتجزع إن داعي الصبابة أسمعا
ثم أخذ يخاطب رفيقيه - وقد بالغا في لومه وأطالا في تأنيبه - فقال:
ألا يا خليلي اللذين تواصيا
بلومي إلا أن أطيع وأتبعا
قفا إنه لا بد من رجع نظرة
يمانية شتى بها القوم أو معا
لمغتصب قد عزه القوم أمره
حياء يكف الدمع أن يتطلعا
ثم شرع في تعجيزهم وتيئيسهم فقال:
فإن كنتم ترجون أن يذهب الهوى
يقينا ونروى بالشراب فننقعا
فردوا هبوب الريح أو غيروا الجوى
إذا حل ألواذ الحشا فتمنعا
ومن يستطيع ذلك؟ تالله ما العاذل وإن اشتط في عذله، وبالغ في لومه، بقادر على نسيانك، أو سلوانك:
ظن الهوى لبسة تبلى فيخلعها
فكان في القلب مثل القلب في البدن
ثم عاد إلى رفيقيه يسألهما الإسعاد والإنجاد:
قفا ودعا نجدا ومن حل بالحمى
وقل لنجد عندنا أن يودعا
مسكين! وقل لنجد أن يودع! إذن فما كنت صانعا لو أنصفته؟ أكنت تغرب في البكاء والإعوال حتى يرحمك أعداؤك، ويرثي لك حاسدوك؟ أم كنت تقتل نفسك جوى وحزنا؟ ثم قال:
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى
وما أجمل المصطاف والمتربعا
وليست عشيات الحمى برواجع
إليك ولكن خل عينيك تدمعا
اتق الله في نفسك يا ابن عبد الله وارحم شبابك وصبرك:
واستبق دمعك لا يودي البكاء به
واكفف مدامع من عينيك تستبق
فما الشئون وإن جادت بباقية
ولا الجفون على هذا ولا الحدق
ثم أخذ يصف موقفه وقد حال (البشر) بينه وبين أحبابه وأوطانه، فقال:
ولما رأيت (البشر) أعرض دوننا
وحالت بنات الشوق يحنن نزعا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها
عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وقد رأيت من الأدباء من يستنكر هذا الخيال، وهو عندي من دلائل الوله وعلائم الصبابة المضلة. ثم قال في وصف ما لاقى في تلفته من العنت:
تلفت نحو الحي حتى وجدتني
وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا
وهو معنى جميل نال في هذا البيت حظه من البيان. وقد تبعه الشريف الرضي فأبدع وأجاد في قوله:
ولقد مررت على ديارهم
وربوعها بيد البلى نهب
فوقفت حتى ضج من لغب
نضوى ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمذ خفيت
عنى الربوع تلفت القلب
ويمتاز بيت الصمة بتمثيله ما يعرف الناس في مثل هذه المواقف من ظاهر النعب، فأما بيت الشريف فلا يعرف حسنه غير من كابد الشوق وعانى الصبابة. ثم قال الصمة في تتمة الحديث عن جواه:
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني
على كبدي من خشية أن تصدعا
ولم أر هذا المعنى لأحد قبل الصمة، وقد أكمله ابن نباتة السعدي بقوله:
أضم على قلبي يدي مخافة
إذا لاح لي برق من الشرق لامع
وهل ينفع القلب الذي بان إلفه
إذا طار شوقا أن تضم الأضالع
ومن الحنين قول ابن عبد ربه:
ودعتني بزفرة واعتناق
ثم نادت متى يكون التلاقي
وبدت لي فأشرق الصبح منها
بين تلك الجيوب والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقم
بين عينيك مصرع العشاق
إن يوم الفراق أفظع يوم
ليتني مت قبل يوم الفراق
لأن الشاعر قد يرتحل فيأخذ في ذكر المعاهد والعهود، وقد يظعن حبيبه ويقيم، فيأخذ في الإعوال عليه، والحنين إليه، وهناك من غرائب الهوى وعجائب الصبابة حالة ثالثة ليست أقل من سابقتيها جوى وحزنا، بل ربما كانت أكثر حيرة؛ وهي أن يلتقي الركبان وفيهما محب ومحبوب، ثم يفترقان قبل أن يتلاقى الصبان، ويجتمع الخلان، فلا يدري العاشق أي عهد يبكي، وأي حظ يندب، كما لا يعرف أيلوم نفسه لأنه ظعن وترك حبيبه مقيما، أم يشكو دهره لأن حبيبه سار وخلفه، أم يعول إعوالا مبهما لا يعرف مصدره، ولا يفهم مبعثه، والشعر في هذا المعنى أقرب إلى الذكرى منه إلى الحنين، من الجيد فيه قول الأرجاني:
أستودع الله قوما كيف أبعدنا
تقلب الدهر منهم حين أدنانا
زموا الغداة مطاياهم لفرقتنا
لما أنخنا للقياهم مطايانا
لم تشتبك بعد أطناب الخيام لنا
ولا المنازل ضمتهم وإيانا
لكنهم عاجلونا بالنوى ومضوا
وخلفوا الطرب المشتاق حيرانا
لم يملأ العين من أحبابه نظرا
إذ غادر الدمع منه الجفن ملآنا
وإني موافيك ببديع الشعر وشجيه، فيما يمثل حال المحب نأى عنه حبيبه، أو خلف أحبابه وسار، فمن الأول قول سبط التعاويذي:
أتعود أيامي برامة بعد ما
سكنت بجرعاء الحمى آرامها
وأحلها البين المشت محلة
بعدت مراميها وعز مرامها
سارقتها نظر الوداع فما ارتوت
نفس يزيد على الورود هيامها
يا غادرين وغادروا بجوانحي
لبعادهم نارا يشب ضرامها
بنتم فلا عيني تجف غروبها
أسفا ولا كبدي يبل أوامها
جودوا لعين المستهام بهجعة
فعسى تمثلكم لها أحلامها
لا تتلفوا بالبين مهجة عاشق
سيان بين حميمها وحمامها
أعداه من هيف الخصور نحولها
يوم النوى ومن العيون سقامها
ولم أجد في هذا المعنى أشجى وأوجع من قول بعض المتيمين:
لبكاء هذا اليوم صنت مدامعي
وكذا العزيز لكل خطب يذخر
يا ساكني وادي العقيق فدتكم
عين مدامعها عقيق أحمر
بنتم فما استعذبت بعد حديثكم
لفظا ولم يحسن لعيني منظر
والبيت الأخير مأخوذ من قول ابن أبي ربيعة:
لم يحبب القلب شيئا مثل حبكم
ولم تر العين شيئا بعدكم حسنا
فأما شعر من نأوا عن أحبابهم، وخلوا معاهد أنسهم، فهو كثير، ومن جيده قول الأبيوردي يتشوق إلى أحبابه وقد خلاهم ببغداد:
ألا ليت شعري هل أراني بغيضة
أبيت على أرجائها وأقيل
هواء كأيام الهوى لا يغبه
نسيم كلحظ الغانيات عليل
وعصر رقيق الطرتين تدرجت
على صفحتيه نضرة وقبول
وأرض حصاها لؤلؤ وترابها
تضوع مسكا والمياه شمول
بها العيش غض والحياة شهية
وليلي قصير والهجير أصيل
فقل لأخلائي ببغداد هل بكم
سلو فعندي رنة وعويل
ترنحني ذكراكم فكأنما
تميل بي الصهباء حيث أميل
لئن قصرت أيام أنسي بقربكم
فليلي على نأي المزار طويل
وقال أعرابي من بني عقيل :
أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي
خيام بنجد دونها الطرف يقصر
وما نظري نحو الحجاز بنافعي
بشيء ولكني على ذاك أنظر
أفي كل يوم نظرة ثم عبرة
لعينيك يجري ماؤها يتحدر
متى يستريح القلب إما مجاور
حزين وإما نازح يتذكر
وقال آخر في الحنين إلى أيامه السوالف:
سقى الله أياما لنا قد تتابعت
وسقيا لعصر العامرية من عصر
ليالي أعطيت البطالة مقودي
تمر الليالي والشهور ولا أدري
ومن شائق الحنين قول ابن الدمينة:
ألا لا أرى وادي المياه يثيب
ولا النفس عن وادي المياه تطيب
أحب هبوط الواديين وإنني
لمشتهر بالواديين غريب
أحقا عباد الله أن لست واردا
ولا صادرا إلا علي رقيب
ولا زائرا فردا ولا في جماعة
من الناس إلا قليل أنت مريب
وهل ريبة في أن تحن نجيبة
إلى إلفها أو أن يحن تجيب
وأن الكثيب الفرد من جانب الحمى
إلي وإن لم آته لحبيب
لك الله أني واصل ما وصلتني
ومثن بما أوليتني ومثيب
وآخذ ما أعطيت عفوا وإنني
لأزور عما تكرهين هيوب
فلا تتركي نفسي شعاعا فإنها
من الوجد قد كادت عليك تذوب
وإني لأستحييك حتى كأنما
علي بظهر الغيب منك رقيب
وفي هذا المعنى يقول صاحب البدائع:
تجمل بالسماح ودع ملامي
وكن عون المحب المستهام
ففي أسيوط لو تدري حبيب
هجرت لبعده طيب المنام
أسيت له يحن إلى لقائي
ودون مرامه كيد اللئام
إذا ما الليل جن ونام صحبي
مشت نار التذكر في عظامي
سلام أيها النائي سلام
وهل يغني عن اللقيا سلامي
الرفق بالحبيب المريض
وهذا باب تتجلى فيه رقة القلوب، فمن ذلك قول خالد الكاتب:
بجسمي لا بجسمك يا عليل
ويكفيني من الألم القليل
تعداك السقام إلي إني
على ما بي لشدته حمول
إذا ما كنت يا أملي صحيحا
فحالفني وسالمك النحول
وهذه أبيات ضعيفة، لا تتناسب مع شاعرية من يقول:
وحسبك حسرة لك من حبيب
رأيت زمامه بيدي عدو
وقد يتمنى المحب لو أعفى المرض محبوبه، ورتع كيف شاء في الأجسام الدميمة ، كما قال سحيم:
ماذا يريد السقام من قمر
كل جمال لوجهه تبع
ما يرتجى، خاب من محاسنها
أما له في القباح متسع
لو كان يبغي الفداء قلت له
ها أنا دون الحبيب يا وجع
وما أرق ما يقول ابن الأحنف:
إن التي هامت بها النفوس
عاودها من سقمها نكس
كانت إذا ما جاءها المبتلى
أبرأه من راحها اللمس
وا بأبي الوجه المليح الذي
قد عشقته الجن والإنس
إن تكن الحمى أضرت به
فربما تنكسف الشمس
وانظر جمال الرفق في قوله:
أما والله لو تجدين وجدي
لقلقل ما وجدت إذن حشاك
وقاك الله كل أذى بنفسي
وعجل يا ظلوم لنا شفاك
وأنشد أبو الحسن بن البراء:
فديتك ليلى مذ مرضت طويل
ودمعي لما لاقيت فيك همول
أأشرب كأسا أم أسر بلذة
ويعجبني ظبي أغن كحيل
وتضحك سني أو تجف مدامعي
وأصبو إلى لهو وأنت عليل
ثكلت إذن نفسي وقامت قيامتي
وغالت حياتي عند ذلك غول
وقال يوسف بن إبراهيم الغرناطي يخاطب الوزير ابن الحكم وقد أصابته حمى تركت على شفته بثورا:
حاشاك أن تمرض حاشاكا
قد اشتكى قلبي لشكواكا
إن كنت محموما ضعيف القوى
فإنني أحسد حماكا
ما رضيت حماك إذ باشرت
جسمك حتى قبلت فاكا
وهذا الشعر إن كان خطابا لوزير إلا أن فيه سمات التشبيب!
الذبول والنحول
وقد يأسى الشعراء لما عانوا في الحب من الضمور والشحوب، فيرى بعضهم أنه لم يبق له لحم ولا دم، كما قال المؤمل:
حلمت بكم في نومتي فغضبتم
ولا ذنب لي إن كنت في النوم أحلم
سأطرد عني النوم كيلا أراكم
إذا ما أتاني النوم والناس نوم
تصارمني والله يعلم أنني
أبر بها من والديها وأرحم
وقد زعموا لي أنها نذرت دمي
وما لي بحمد الله لحم ولا دم
برى حبها لحمي ولم يبق لي دما
وإن زعموا أني صحيح مسلم
فلم أر مثل الحب صح سقيمه
ولا مثل من لم يعرف الحب يسقم
ستقتل جلدا باليا فوق أعظم
وليس يبالي القتل جلد وأعظم
ومنهم من يبلى جسمه، ولا يبلى شوقه، كما قال أبو تمام:
يا جفونا سواهرا أعدمتها
لذة النوم والرقاد جفون
بلي الجسم لكن الشوق حي
ليس يبلى وليس تبلى الشجون
إن لله في العباد منايا
سلطتها على القلوب العيون
ويقرب من هذا المعنى قول السري الرفاء:
فداؤك من أوردته منهل الردى
وورد الردى للعاشقين يطيب
وما مات حتى أنحل الحب جسمه
فلم يبق فيه للتراب نصيب
والأرجاني يذكر أن طيفه لو زار حبيبه لحمل شخصه إليه لنحوله، ويقول:
يروي ضاحي الوجنات دمعي
ويعدل عن لهيب جوى دخيل
وما نفعي وإن هطلت غيوث
إذا أخطأن أمكنة المحول
هم نقضوا عهودي يوم بانوا
وأبدوا صفحة الطرف الملول
وفوا بالهجر لما أوعدوني
وكم وعدوا الوصال ولم يفوا لي
وفي الركب الهلاليين خشف
تعرض يوم تشييع الحمول
أصاب بطرفه الفتان قلبي
وكيف يصاب ماض من كليل
بخلت وقد حظيت بصفو ودي
وإن من العناء هوى البخيل
وبت لو استزرت اليوم طيفي
لجر إليك شخصي من نحولي
ولكن لا سبيل إلى شفاء
إذا مال الطبيب على العليل
ومنهم من يذكر أنه ضنى حتى لو تعلق بعود ثمام ما تأود، كما قال الحسين بن مطير الأسدي:
خليلي هل ليلى مؤدية دمي
إذا قتلتني أو أمير يقيدها
وكيف تقاد النفس بالنفس لم تقل
قتلت ولم يشهد عليها شهودها
ولن يلبث الواشون أن يصدعوا العصا
إذا لم يكن صلبا على البري عودها
نظرت إليها نظرة ما يسرني
بها حمر أنعام البلاد وسودها
ولي نظرة بعد الصدود من الجوى
كنظرة ثكلى قد أصيب وحيدها
فحتى متى هذا الصدود إلى متى
لقد شف نفسي هجرها وصدودها
فلو ان ما أبقيت مني معلق
بعود ثمام ما تأود عودها
وقال الحارثي في وصف آثار النحول:
سلبت عظامي لحمها فتركتها
مجردة تضحى لديك وتخصر
وأخليتها من مخها فكأنها
أنابيب في أجوافها الريح تصفر
إذا سمعت باسم الفراق تقعقعت
مفاصلها من هول ما تتنظر
خذي بيدي ثم ارفعي الثوب تنظري
بي الضر إلا أنني أتستر
فما حيلتي إن لم تكن لك رحمة
علي ولا لي عنك صبر فأصبر
ويقول ابن الأحنف:
انظر إلى جسد أضر به الهوى
لولا تقلب طرفه دفنوه
وتابعه المتنبي فقال:
كفى بجسمي نحولا أنني رجل
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
وفي مثل هذا المعنى يقول صاحب البدائع وقد أرسل صورته إلى بعض أحبابه:
سكنت إلى النوى ونسيت صبا
نحيلا كاد يقتله الحنين
فلما لم يجد في الحب صبرا
ولم ترحم جوانحه الشجون
تفانى في النحول فلو تبدى
لما فطنت لخطرته العيون
وها هو كالخيال أتاك يسري
مخافة أن تظن به الظنون
فأكرم نزله وارحم ضناه
فإن فؤادك الحرم الأمين
وقال بعض الشعراء:
إن الذي أبقيت من جسمه
يا متلف الصب ولم يشعر
صبابة لو أنها دمعة
تجول في عينيك لم تقطر
1
أماني المحبين
وللمحبين أمان كثيرة، لو تنفع الأماني، فمنهم من يتمنى الكأس من يد جميل، بين ندمان يعاطونه أطايب الحديث، كما قال العطوي:
وكم قالوا تمن فقلت كأس
يطوف بها قضيب من كثيب
وندمان تساقطني حديثا
كلحظ الحب أو غض الرقيب
وإنها لأمنية عزيزة المنال!
ومنهم من يسامر الأماني حتى ليحسب محبوبه بين يديه، كما قال ابن الزيات:
يا داني الدار في الأماني
ونازح الدار في العيان
ذكرك دان وأنت ناء
فأنت ناء وأنت دان
نفسك موصولة بنفسي
وأنت كالنجم من مكاني
لي فكر فيك معجبات
في اللفظ صفر من المعاني
تجري ضروب من التمني
في كل يوم على لساني
أقول حتى كأن عيني
تراك من حيث لا تراني
ويتمنى ابن الأحنف لو ينام ليرى طيف محبوبته، ويقول:
مجلس ينسب السرور إليه
بمحب ريحانه ذكراك
كلما دارت الزجاجة زادت
ه اشتياقا وحرقة فبكاك
لم ينلك الرجاء أن تحضريني
وتجافت أمنيتي عن سواك
فتمنيت أن يغشيني الله
نعاسا لعل عيني تراك
وربما تمنى المحب لو أعير سلوة من قلب حبيبه، كما قال البحتري:
وددت وهل نفس امرئ بملومة
إذا هي لم تعط الهوى من ودادها
لو ان سليمى أسجحت أو لو انه
أعير فؤادي سلوة من فؤادها
وما أظرف النشوة التي تمناها البحتري حين قال:
هل لي سبيل إلى الظهران من حلب
ونشوة بين ذاك الورد والآس
أمد كفي لأخذ الكأس من رشأ
وحاجتي كلها في حامل الكاس
بقرب أنفاسه أشفي الغليل إذا
دنا فقربها من حر أنفاسي
ومن غريب التمني ما جاء في رائية أبي صخر الهذلي، فقد تمنى أن يجتمع بحبيبته فوق أمواج البحر، ومن دونها اللجج الخضر والأهوال، وإليك أروع هذه القصيدة البديعة:
لليلى بذات الجيش دار عرفتها
وأخرى بذات البين آياتها سطر
كأنما ملآن لم يتغيرا
وقد مر للدارين من بعدنا عصر
وقفت برسميها فعي جوابها
فقلت وعيني دمعها سرب همر
ألا أيها الركب المخبون هل لكم
بساكن أجزاع الحمى بعدنا خبر
فقالوا طوينا ذاك ليلا فإن يكن
به بعض من تهوى فما شعر السفر •••
أما والذي أبكى وأضحك والذي
أمات وأحيا والذي أمره الأمر
لقد كنت آتيها وفي النفس هجرها
بتاتا لأخرى الدهر ما طلع الفجر
فما هو إلا أن أراها فجاءة
فأبهت لا عرف لدي ولا نكر
وأنسى الذي قد كنت فيه هجرتها
كما قد تنسي لب شاربها الخمر
وما تركت لي من شذا أهتدي به
ولا ضلع إلا وفي عظمها وقر
وقد تركتني أحسد الوحش أن أرى
أليفين منها لا يروعهما الذعر
ويمنعني من بعض إنكار ظلمها
إذا ظلمت يوما وإن كان لي عذر
مخافة أني قد علمت لئن بدا
لي الهجر منها ما على هجرها صبر
وإني لا أدري إذا النفس أشرفت
على هجرها ما يبلغن بي الهجر
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها
وينبت في أطرافها الورق النضر
وإني لتعروني لذكراك هزة
كما انتفض العصفور بلله القطر
تمنيت من حبي علية أننا
على رمث في البحر ليس لنا وفر
على دائم لا يعبر الفلك موجه
ومن دوننا الأهوال واللجج الخضر
فنقضي هم النفس في غير رقبة
ويغرق من نخشى نميمته البحر
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر
فيا حبها زدني جوى كل ليلة
ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
هجرتك حتى قلت لا يعرف القلى
وزرتك حتى قلت ليس له صبر
صدقت أنا الصب المصاب الذي به
تباريح حب خامر القلب أو سحر
فيا حبذا الأحياء ما دمت فيهم
ويا حبذا الأموات ما ضمك القبر
وإليك شتى الأماني في قول جميل:
جزتك الجوازي يا بثين ملامة
إذا ما خليل بان وهو حميد
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادي القرى؟ إني إذن لسعيد
فقد تلتقي الأهواء من بعد يأسة
وقد تطلب الحاجات وهي بعيد
ويحسب نسوان من الجهل أنني
إذا جئت إياهن كنت أريد
فأقسم طرفي بينهن سوية
وفي الصدر بون بينهن بعيد
فليت وشاة الناس بيني وبينها
يدوف لهم سما طماطم سود
وليتهم في كل ممسى وشارق
تضاعف أكبال لهم وقيود
إذا جئتها يوما من الدهر زائرا
تعرض منقوص اليدين صدود
يصد ويغضي عن هواي ويجتني
ذنوبا علينا إنه لعنود
فأصرمها خوفا كأني مجانب
ويغفل عنا مرة فنعود
يقولون جاهد يا جميل بغزوة
وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل بينهن شهيد
وغاية الغايات في هذا الباب قول أبي بكر بن عبد الرحمن الزهري:
ولما نزلنا منزلا طله الندى
أنيقا وبستانا من النور حاليا
أجد لنا طيب المكان وحسنه
منى فتمنينا فكنت الأمانيا
الهيبة والخضوع
والشعراء يهابون الحسن، ويضلون سبيل الرشد حين يراجعون أربابه، وانظر قول أبي فراس:
أراميتي كل السهام مصيبة
وأنت لي الرامي فكلي مقاتل
وإني لمقدام وعندك هائب
وفي الحي سحبان وعندك باقل
يضل علي القول أن زرت دارها
ويعزب عني وجه ما أنا فاعل
وحجتها العليا على كل حالة
فباطلها حق وحقي باطل
وما أرق قوله في عكس هذا المعنى:
ومغض للمهابة عن جوابي
وإن لسانه العضب الصقيل
أطلت عتابه عنتا وظلما
فدمع ثم قال: كما تقول!
ومن جيد الشعر في هيبة الحسن، قول الحسن بن وهب:
أقول وقد حاولت تقبيل كفها
وبي رعدة أهتز منها وأسكن
ليهنك أني أشجع الناس كلهم
لدى الحرب إلا أنني عنك أجبن
وقول بعض الأعراب:
أهابك إجلالا وما بك قدرة
علي ولكن ملء عين حبيبها
وما هجرتك النفس أنك عندها
قليل ولكن قل منك نصيبها
وفي الخضوع للحبيب يقول الشريف:
كم ذميل إليكم ووجيف
وصدود عنا لكم وصدوف
1
وغرام بكم لو ان غراما
جر نفعا للواجد المشغوف
صبوة ثم عفة ما أضر الح
ب في كل خلوة بالعفيف
هجرونا ولم يلاموا وواصل
نا على مؤلم من التعنيف
وطلبنا الوفاء حتى إذا عز
رضينا بالمطل والتسويف
كيف يرجو الكثير من راضه الشو
ق إلى أن رضي ببذل الطفيف
وانظر قول ابن الرومي:
أضعتني فرعيت
وخنتني فوفيت
أطعت في الأعادي
وكلهم قد عصيت
فكيف أصبحت غضبى
لما رضاك أتيت
الرضى بالقليل
وقد يقنع المحب وهو راغم، فيرضى بالوعد، ويفرح بالأماني، وهي كواذب؛ لأن الوصل عزيز المنال، فمن ذلك قول العباس بن الأحنف:
كفي حزنا أني وفوزا ببلدة
مقيمان في غير اجتماع من الشمل
أما والذي ناجى من الطور عبده
وأنزل فرقانا وأوحى إلى النحل
لقد ولدت حواء منك بلية
علي أقاسيها وخبلا من الخبل
أرى الناس لا يرضى ذوو العشق منهم
بشيء سوى حسن المواتاة والبذل
وإني ليرضيني الذي ليس بالرضى
وتقنع نفسي بالمواعيد والمطل
وفي هذا المعنى يقول الشريف:
لك الله هل بعد الصدود تعطف
وهل بعد ريعان البعاد تدان
وما غرضي أني أسومك خطة
كفاني قليل من رضاك كفاني
وقال بعض الظرفاء:
أنا راض منكم بأيسر شيء
يرتضيه من عاشق معشوق
بسلام على الطريق إذا ما
جمعتنا بالاتفاق الطريق
وقال توبة الحميري في ليلى الأخيلية:
وهل تبكين ليلى إذا مت قبلها
وقام على قبري النساء النوائح
كما لو أصاب الموت ليلى بكيتها
وجاد لها دمع من العين سافح
وأغبط من ليلى بما لا أناله
بلى كل ما قرت به العين صالح
وقد كثر القليل في قول ابن الطثرية:
أليس قليلا نظرة إن نظرتها
إليك؟ وكلا ليس منك قليل
وجاراه في هذا المعنى من قال:
إن ما قل منك يكثر عندي
وكثير ممن تحب القليل
وأبرع الشعر في هذا المعنى قول جميل:
وإني لأرضى من بثينة بالذي
لو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا، وبأن لا أستطيع، وبالمنى،
وبالأمل المرجو قد خاب آمله
وبالنظرة العجلى، وبالحول تنقضي
أواخره لا نلتقي وأوائله
وفي مقابل هذا يقول ابن الفارض:
وإذا اكتفى غيري بطيف خياله
فأنا الذي بوصاله لا أكتفي
وأبدع منه قول ابن الرومي:
أعانقه والنفس بعد مشوقة
إليه وهل بعد العناق تدان
وألثم فاه كي تزول حرارتي
فيشتد ما ألقى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الجوى
ليرويه ما تلثم الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفي غليله
سوى أن يرى الروحين يمتزجان
شفاء المحب
وقد يمرض المحب، فيفتن الناس في وصف دوائه، على أنه لا يبرأ إلا بقرب من يحب. وانظر قول عروة بن خزام وقد رأى عفراء:
وما هي إلا أن أراها فجاءة
فأبهت حتى ما أكاد أجيب
وأصدف عن رأيي الذي كنت أرتئي
وأنسى الذي أزمعت حين تغيب
ويظهر قلبي عذرها ويعينها
علي فما لي في الفؤاد نصيب
وقد علمت نفسي مكان شفاءها
قريبا وهل ما لا ينال قريب
فواكبدي أمست رفاتا كأنما
يلذعها بالموقدات طبيب
عشية لا عفراء منك بعيدة
فتسلو ولا عفراء منك قريب
لئن كان برد الماء حران صاديا
إلي حبيبا إنها لحبيب
وفي هذا المعنى يقول بعض الأعراب:
أيا زينة الدنيا التي لا ينالها
مناي ولا يبدو لقلبي صريمها
بعيني قذاة من هواك لو انها
تداوى بمن أهوى لصح سقيمها
وبرء قذاة العين إن لم يكن لها
طبيب يداوي نظرة تستديمها
فما صبرت عن ذكرك النفس ساعة
وإن كنت أحيانا كثيرا ألومها
ومن بديع الشعر في هذا الباب قول أبي العتاهية:
قل لمن لست أسمي
بأبي أنت وأمي
بأبي أنت لقد أصبح
ت من أكبر همي
ولقد قلت لأهلي
إذ أذاب الحب لحمي
وأرادوا لي طبيبا
فاكتفوا مني بعلمي
من يكن يجهل ما أل
قى فإن الحب سقمي
إن روحي لبغدا
د وفي الكوفة جسمي
القلب الخافق
نذكر هنا ألوانا من تصور الشعراء لخفوق القلب، فمنهم من يشبهه بتنزي الكرة، كما قال بشار:
يروعه السرار بكل شيء
مخافة أن يكون به السرار
كأن فؤاده كرة تنزى
حذار البين لو نفع الحذار
ومنهن من يشبهه بالوشاح القلق، فوق الخصر الدقيق، كقول مسلم بن الوليد:
أزكى من الماسك أنفاسا وبهجتها
أرق ديباجة من رقة النفس
كأن قلبي وشاحاها إذا خطرت
وقلبها قلبها في الصمت والخرس
1
تجري محبتها في قلب عاشقها
جري السلامة في أعضاء منتكس
وابن الأحنف يشبه القلب الخافق بيد القينة الهوجاء تضرب بالدف، ويقول:
يبين لساني عن فؤادي وربما
أسر لساني ما يبوح به طرفي
أعيذك أن تشقي بقتلي فإنني
أخاف عليك الله إن سمتني حتفي
إذا القلب أوما أن يطير صبابة
ضربت له صدري وألزمته كفي
كأن جناحيه إذا هاج شوقه
يدا قينة هوجاء تضرب بالدف
ومنهم من يشبهه بجناح الطير حين ينتفض، كقول أحد الأعراب:
ألا بأبي من ليس والله نافعي
بنيل ومن قلبي على النأي ذاكره
ومن كبدي تهفو إذا ذكر اسمه
كهفو جناح ينفض الطل طائره
وقد وضح هذا المعنى في قول نصيب:
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت
تجاذبه وقد علق الجناح
لها فرخان قد تركا بوكر
فعشهما تصفقه الرياح
إذا سمعا هبوب الريح نصا
وقد أودى به القدر المتاح
2
فلا في الليل نالت ما ترجي
ولا في الصبح كان لها براح
وابن ميادة يذكر أن قلبه أمسى وكأن يدا خبثت به، أي قبضت عليه وسامته العذاب، ويقول:
كأن فؤادي في يد ضبثت به
محاذرة أن يقضب الحبل قاضبه
وأشفق من وشك الفراق وإنني
أظن لمحمول عليه فراكبه
فوالله ما أدري أيغلبني الهوى
إذا جد جد البين أم أنا غالبه
فإن أستطع أغلب وأن يغلب الهوى
فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
مثال الحبيب
ومن العشاق من يرى مثال حبيبته كلما هب من نومه، أو أوى إلى فراشه كالذي يقول:
أآخر شيء أنت في كل هجعة
وأول شيء أنت عند هبوبي
مزيدك عندي أن أقيك من الردى
وود كماء المزن غير مشوب
والمنى تمثل الحبيب في قول راشد بن أرشد:
تحيرت في أمري وإني لواقف
أجيل وجوه الرأي فيك وما أدري
أأعزم عزم اليأس فالموت راحة
أو أقنع بالإعراض والنظر الشزر
وإني وإن أعرضت عنك لمنطو
على حرق بين الجوانب والصدر
إذا هاج شوقي مثلتك لي المنى
فألقاك ما بيني وبينك في السر
فمن ذاك لم أصبر ولي فيك حيلة
ولكن دعاني اليأس منك إلى الصبر
تصبرت مغلوبا وإني لموجع
كما يصبر الظمآن في البلد القفر
وراشد بن أرشد هذا هو الذي يقول:
ضحكت ولو تدرين ما بي من الهوى
بكيت لمحزون الفؤاد كئيب
لمن لم ترح عيناه من فيض عبرة
ولا قلبه من زفرة ونحيب
لمستأنس بالهم في دار وحشة
غريب الهوى باك لكل غريب
ألا بأبي العيش الذي بان وانقضى
وما كان من حسن هناك وطيب
وترداد مستور الأحاديث بيننا
على غفلة من كاشح ورقيب
ليالي يدعونا الصبا فنجيبه
ونأخذ من لذاته بنصيب
إلى أن جرى صرف الحوادث في الهوى
فبدل منا مشهد بمغيب
وقد ضاع شعر هذا الشاعر المجيد، وحرمنا منه صاحب زهر الآداب حين قال: «وله مذهب استفرغ فيه أكثر شعره، وصنت الكتاب عن ذكره.» وبهذه الصيانة فقدت الآداب شعر هذا الشاعر، وكم نتمنى أن لا يخلط المؤلفون بين الأدب والأخلاق.
وأجود ما قيل في مثال الحبيب قول كثير:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لي ليلى بكل سبيل
أهوال الصدود
ولقد أطال الشعراء في شكوى الصد، وما يقاسون فيه من أهوال، فمن ذلك قول الشريف:
وبين ذوائب العقدات ظبي
قصير الخطو في المرط المذال
ربيب إن أريغ إلى حديث
نوار إن أريد إلى وصال
فهل لي والمطامع مرديات
دنو من لمى ذاك الغزال
لقد سلبت ظباء الدار لبي
ألا ما للظباء بها ومالي
تنغصني بأيام التلاقي
معاجلتي بأيام الزيال
تحيفني الصدود وكنت دهرا
أروع بالصدود فلا أبالي
وكيف أفيق لا جسدي بناء
عن البلوى ولا قلبي بسالي
يرنحني إليك الشوق حتى
أميل من اليمين إلى الشمال
كما مال المعاقر عاودته
حميا الكأس حالا بعد حال
ويأخذني لذكركم ارتياح
كما نشط الأسير من العقال
وعبد الله بن مصعب يأسى على أن لم يعده أحبابه في مرضه، مع أنه يعود كلبهم إذا مرض! ولهذا لقب (عائد الكلب) حين قال:
ما لي مرضت فلم يعدني عائد
منكم ويمرض كلبكم فأعود
وأشد من مرضي علي صدودكم
وصدود عبدكم علي شديد
ويرى أبو النواس أن قرب الدار لا ينفع مع الصدود، ويقول:
لقد عاجلت قلبي جنان بهجرها
وقد كان يكفيني بذاك وعيد
رأيت تداني الدار ليس بنافع
إذا كان ما بين القلوب بعيد
وابن الأحنف يترك العتب على الصدأ، لئلا يرزأ بصد جديد، ويقول:
تركت صدودها وصبرت نفسي
بطول تجرع الغيظ الشديد
مخافة أن تجدد لي صدودا
وكنت حديث عهد بالصدود
وقد وضح هذا المعنى من قبل في قول أبي صخر الهذلي:
ويمنعني من بعض إنكاري ظلمها
إذا ظلمت يوما وإن كان لي عذر
مخافة أني قد علمت لئن بدا
لي الهجر منها ما على هجرها صبر
والبحتري يمزج الشكوى بالعتاب في قوله:
ظلمتني تجنيا وصدودا
غير مرتاعة الجنان لظلمي
ويسير عند القتول إذا ما
أثمت في أن تبوء بإثمي
أجد النار تستعار من النا
ر وينشو
1
من سقم عينيك سقمي
لعب ما أتيت من ذلك الصد
فنرضاه أم حقيقة عزم
وبحق إن السيوف لتنبو
تارة والعيون باللحظ تدمي
ويروقني الندم على الصدود في قول صاحب البدائع:
لقد صددناكم كما صددتم
فهل ندمتم كما ندمنا
التلفت إلى معالم الوجد
ومن أوجع ما تحدث به المتيمون، تلفتهم إلى معاهد الحب: عند الوداع، وبعد الفراق.
قال بعض الرواة: مررت بحمى الربذة فإذا صبيان يتقاسمون
1
في الماء، وشاب جميل الوجه ملوح الجسم قاعد، فسلمت عليه فرد علي السلام. وقاله: من أين وضح الراكب؟ قلت: من الحمى. قال: ومتى عهدك به ؟ قلت: رائحا . قال: وأين كان مبيتك؟ قلت: أدنى هذه المشاقر.
2
فألقى نفسه على ظهره، وتنفس الصعداء. فقلت تفسأ
3
حجاب قلبه، وأنشأ يقول:
سقى بلدا أمست سليمى تحله
من المزن ما تروى به وتسيم
وإن لم أكن من قاطنيه فإنه
يحل به شخص علي كريم
ألا حبذا من ليس يعدل قربه
لدي وإن شط المزار نعيم
ومن لامني فيه حبيب وصاحب
فرد بغيظ صاحب وحميم
ثم سكت سكتة كالمغمى عليه، فصحت بالأصبية، فأتوا بماء فصببته على وجهه فأفاق وأنشأ يقول:
إذا الصب الغريب رأى خشوعي
وأنفاسي تزين بالخشوع
ولى عين أضر بها التفاني
إلى الأجزاع مطلقة الدموع
إلى الخلوات تأنس فيك نفسي
كما أنس الوحيد إلى الجميع
والشاهد في الأبيات الأخيرة، وما أوجع تلفت القلب بعد العين في قول الشريف:
تلفت حتى لم يبن من بلادكم
دخان ولا من نارهن وقود
وإن التفات القلب من بعد طرفه
طوال الليالي نحوكم ليزيد
ولما تدانى البين قال لي الهوى
رويدا وقال القلب أين تريد
أتطمع أن تسلو على البعد والنوى
وأنت على قرب المزار عميد
ولو قال لي الغادون ما أنت مشته
غداة جزعنا الرمل قلت أعود
4
أأصبر والوعساء بيني وبينكم
وأعلام خبت، إنني لجليد!
وانظر قوله من كلمة ثانية:
ترحلت عنكم لي أمامي نظرة
وعشر وعشر نحوكم من روائيا
ومن حذر لا أسأل الركب عنكم
وأعلاق وجدي باقيات كما هيا
ومن يسأل الركبان عن كل غائب
فلا بد أن يلقى بشيرا وناعيا
الصد والنوى
يأسى العشاق للصد، حتى إذا راعتهم مرارة النوى، علموا أن الصد كان حلو المذاق. وفي هذا المعنى يقول ابن الخياط:
كفي حزنا أنى أبيت معذبا
بنار هموم ليس يخبو سعيرها
وأن عدوي لا يراع وأنني
أبيت سخين العين وهو قريرها
وأني لرهن الشوق والشمل جامع
فكيف إذا حث الحداة أميرها
وما زلت من أسر القطيعة باكيا
فمن لي غداة البين أني أسيرها
وكنت أرى أن الصدود منية
يكون مع الليل التمام حضورها
فلما قضى التفريق بالبعد بيننا
وجدت الليالي كان حلوا مريرها
هوى ونوى يستقبح الصبر فيهما
وحسبك من حال يذم صبورها
وقد أصاب في تشبيه النوى بعد الهجر، بالجرح بعد الجرح حين قال:
أحن إلى سقمي لعلك عائدي
ومن كلف أني أحن إلى السقم
وحتام أستشفي من الداء ما به
سقامي وأستروي من الدمع ما يظمي
فراق أتى في إثر هجر وما أذى
بأوجع من كلم أصاب على كلم
وحنين المحب إلى سقمه، أملا في أن يعوده حبيبه، يذكرنا بقول كثير:
يود بأن يمسي سقيما لعلها
إذا سمعت عنه بشكوى تراسله
القريب والبعيد
هو الحبيب الذي يجاورك، أو يساكنك، ثم لا تملك وصله، ولا حديثه. وقد تزوره بلمح العين. كما قال ابن الدمينة:
ألا حب بالبيت الذي أنت هاجره
وأنت بتلماح من الطرف زائره
فيا لك من بيت لعيني معجب
وأحسن في عيني من البيت عامره
أصد حياء أن يلج بي الهوى
وفيك المنى لولا عدو أحاذره
وفي هذا المعنى يقول إبراهيم بن العباس:
تدانت بقوم عن تناء زيارة
وشط بليلى عن دنو مزارها
وإن مقيمات بمنعرج اللوى
لأقرب من ليلى وهاتيك دارها
والشعراء يشبهون الحبيب الممنوع في قربه، بالماء يمنع من وروده الظمآن، فنجد منهم من يقول:
إني وإياك كالصادي رأى نهلا
ودونه هوة يخشى بها التلفا
رأى بعينيه ماء عز مورده
وليس يملك دون الماء منصرفا
ومن يقول:
وإني على هجران بيتك كالذي
رأى نهلا ريا وليس بناهل
يرى برد ماء ذيد عنه وروضة
برود الضحى فينانة بالأصائل
وقد صور جميل هذا المعنى حين قال:
وما صاديات حمن يوما وليلة
على الماء يخشين العصي حواني
حوائم لم يصدرن عنه لوجهة
ولا هن من برد الحياض دواني
يرين حباب الماء والموت دونه
فهن لأصوات السقاة رواني
بأكثر مني غلة وصبابة
إليك ولكن العدو عراني
وقال أبو حية النميري أو العباس بن الأحنف:
كفي حزنا أني أرى الماء باديا
لعيني ولكن لا سبيل إلى الورد
وما كنت أخشى أن تكون منيتي
بكف أعز الناس كلهم عندي
حلاوة الملام
ومن المحبين من يستعذب اللوم، لذكر الحبيب، كما قال أبو نواس:
أحب اللوم فيها ليس إلا
لترداد اسمها فيما ألام
ويدخل حبها في كل قلب
مداخل لا تغلغلها المدام
وفي هذا المعنى يقول محمد بن أبي أمية:
وحدثني عن مجلس كنت زينه
رسول أمين والنساء شهود
فقلت له رد الحديث الذي مضى
وذكرك من بين الحديث أريد
وقد ظرف البها زهير حين قدم رضى الحبيب على رضى العذول، وقال:
يا من يهدد بالصدو
د نعم تقول وتفعل
قد صح عذرك في الهوى
لكنني أتعلل
قل للعذول لقد أطل
ت لمن تلوم وتعذل
عاتبت من لا يرعوي
وعذلت من لا يقبل
غضب العذول أخف من
غضب الحبيب وأسهل
وما أبدع قول أبي فراس:
أساء فزادته الإساءة حظوة
حبيب على ما كان منه حبيب
يعد علي العاذلون ذنوبه
ومن أين للوجه المليح ذنوب؟
والرقيب أخو اللائم في تنغيص حياة العشاق، ومن طريف الشعر في الألم لقرب الرقيب قول ابن المعتز:
وا بلائي في محضر ومغيب
من حبيب مني بعيد قريب
لم ترد ماء وجهه العين إلا
شرقت قبل ريها برقيب
وقوله:
قد دنت الشمس للمغيب
وحان شوقي إلى الحبيب
طوبى لمن عاش عشر يوم
له حبيب بلا رقيب
وما أظرف من يقول:
لسهم الحب جرح في فؤادي
وذاك الجرح من عين الرقيب
يوكل ناظريه بنا ويحكي
مكان الكاتبين من الذنوب
فلو سقط الرقيب من الثريا
لصب على محب أو حبيب
وانظر كيف ضرب المثل بغفلة الرقيب في قول أحد الظرفاء:
يسقيك من كفه مداما
ألذ من غفلة الرقيب
كأنها إذ صفت ورقت
شكوى محب إلى حبيب
وقد كلف سعيد الوراق بغلام من الرهبان فأصبحوا وكلهم رقباء، وفيهم يقول:
بربك يا حمامة دير زكى
وبالإنجيل عندك والصليب
قفي وتحملي مني سلاما
إلى قمر على غصن رطيب
حماه جماعة الرهبان عني
فقلبي ما يقر من الوجيب
وقالوا رابنا إلمام سعد
ولا والله ما أنا بالمريب
وقولي سعدك المسكين يشكو
لهيب جوى أحر من اللهيب
فصله بنظرة لك من بعيد
إذا ما كنت تمنع من قريب
وإن أنا مت فاكتب حول قبري
محب مات من هجر الحبيب
رقيب واحد تنغيص عيش
فكيف بمن له ألفا رقيب؟
إنه لا بد مقتول، كما قتل صاحب هذه الأبيات!
رؤية الضمير
ومن المحبين من يرى محبوبه في ضميره، كلما اشتاق إليه، كما قال الحكم بن قنبرة:
إن كنت لست معي فالذكر منك معي
يرعاك قلبي وأن غيبت عن بصري
العين تبصر من تهوى وتفقده
وناظر القلب لا يخلو من النظر
وقال آخر:
أما والذي لو شاء لم يخلق الهوى
لئن غبت عن عيني ما غبت عن قلبي
ترينيك عين الوهم حتى كأنني
أناجيك من قرب وإن لم تكن قربي
وقال أبو عثمان الناجم:
لئن كان من عيني أحمد غائبا
فما هو عن عين الضمير بغائب
له صورة في القلب لم يقصها النوى
ولم تتخطفها أكف النوائب
إذا ساءني يوما شحوط مزاره
وضاقت بقلبي في نواه مذاهبي
عطفت على شخص له غير نازح
محلته بين الحشا والترائب
ويقرب من هذا المعنى قول الآخر في الاستعانة باسم الحبيب:
وليل وصلنا بين قطريه بالسرى
وقد جد شوق مطمع في وصالك
أطلت علينا من دجاه حنادس
أعدن الطريق النهج وعر المسالك
فناديت يا أسماء باسمك فانجلت
وأسفر منها كل أسود حالك
بنا أنت من هاد نجونا بذكره
وقد نشبت فينا أكف المهالك
منحتك إخلاصي وأصفيتك الهوى
وإن كنت لما تخطريني ببالك
وفي مثل هذا المعنى يقول إسحاق الموصلي:
صب يحث مطاياه بذكركم
وليس ينساكم إن حل أو سارا
لو يستطيع طوى الأيام نحوكم
حتى يبيع بعمر القرب أعمارا
يرجو النجاة من البلوى بقربكم
والقرب يلهب في أحشائه النارا
القلب والكبد
موطن الحب هو القلب، في حديث الشعراء، وقد أثبت أخيرا أحد الأطباء الألمان أن موطن الحب هو الكبد، ونريد أن نذكر هنا طرفا من حديث العرب عن الكبد، وقرار الحب فيه، بما يماثل هذا الرأي الجديد. قال بعض الأعراب:
فيا كبدا يحمى عليها وإنها
مخافة هيضات النوى لخفوق
أقام فريق من أناس يودهم
بذات الغضا قلبي وبان فريق
بحاجة محزون يظل وقلبه
رهين ببضات الحجال صديق
وجرى ذكر القلب والكبد في كلمة صردر حين قال:
لا الحمى بعدكم مناخ ولا ما
ء اللوى إذ هجرتموه بورد
والفؤاد الذي عهدتم جموحا
راضه طول جوركم والتعدي
ما تريدون من دلائل شوقي
غير هذا الذي أجن وأبدي
كبد كلما وضعت عليه
راحتي قال أنت قادح زندي
وجفون جرين مدا وماء ال
بحر يرتاح بين جزر ومد
وكذلك جمع بينهما البحتري حين قال:
وما كبدي بالمستطيعة للأذى
فأسلو ولا قلبي كثير التقلب
وابن الأحنف حين قال:
ما للكلوم التي بالقلب من آسي
فاصبر على اليأس يا مستقبل الياس
ما أسمج الناس في عيني وأقبحهم
إذا نظرت فلم أبصرك في الناس
حتى متى كبدي حرى معطشة
ولا يلين لشيء قلبك القاسي
يا موري الزند قد أعيت قوادحه
اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس
بكاء الملاح
نذكر للقارئ شذرات من الشعر في بكاء الملاح، وما أغزر الدمع في بكاء المليح، حين يظفر بحسنه التراب: قال ابن عبد ربه: كان لمعلى الطائي جارية يقال لها (وصف)، وكانت أديبة شاعرة، فأخبر محمد بن وضاح قال: أدركت معلى الطائي بمصر وأعطي بجاريته وصف أربعة آلاف دينار فباعها. فلما دخل عليها قالت له: بعتني يا معلى؟! قال نعم. فقالت: والله لو ملكت منك مثل ما تملك مني ما بعتك بالدنيا وما فيها! فرد الدنانير واستقال صاحبه، ثم أصيب بها إلى ثمانية أيام، فقال يرثيها:
يا موت كيف سلبتني وصفا
قدمتها وتركتني خلفا
هلا ذهبت بنا معا فلقد
ظفرت يداك فسمتني خسفا
وأخذت شق النفس من بدني
فقبرته وتركت لي النصفا
فعليك بالباقي بلا أجل
فالموت بعد وفاتها أعفى
يا موت ما أبقيت لي أحدا
لما رفعت إلى البلى وصفا
هلا رحمت شباب غانية
ريا العظام وشعرها الوحفا
1
ورحمت عيني ظبية جعلت
بين الرياض تناظر الخشفا
تقضي إذا انتصفت مرابضه
وتظل ترعاه إذا أغفى
فإذا مشى اختلفت قوائمه
وقت الرضاع فينطوي ضعفا
متحيرا في المشي مرتعشا
يخطو فيضرب ظلفه الظلفا
فكأنها (وصف) إذا جعلت
نحوي تحير محاجرا وطفا
2
يا موت أنت كذا لكل أخي
إلف يصون ببره الإلفا
خلفتني فردا وبنت بها
ما كنت قبلك حاملا وكفا
3
أسكنتها في قعر مظلمة
بيتا يصافح تربه السقفا
بيتا إذا ما زاره أحد
عصفت به أيدي البلى عصفا
لا نلتقي أبدا معاينة
حتى نقوم لربنا صفا
لبست ثياب الحتف جارية
قد كنت ألبس دونها الحتفا
فكأنها والنفس زاهقة
غصن من الريحان قد جفا
يا قبر أبق على محاسنها
فلقد حويت البر والظرفا
وكتب أبو نواس على قبر جارية هذه الأبيات:
أقول لقبر زرته متلثما
سقى الله برد العفو صاحبة القبر
لقد غيبوا تحت الثرى قمر الدجى
وشمس الضحى بين الصفائح والقفر
عجبت لعين بعدها ملت البكا
وقلب عليها يرتجي راحة الصبر
وقال أبو تمام وقد ماتت جارية له:
جفوف البلى أسرعت في الغصن الرطب
وخطب الردى والموت أبرحت من خطب
لقد شرقت في الشرق بالموت غادة
تبدلت منها غربة الدار بالقرب
أقول، وقد قالوا استراحت لموتها
من الكرب روح الموت شر من الكرب
لها منزل تحت الثرى وعهدتها
لها منزل بين الجوانح والقلب
وما أجمل قوله من كلمة ثانية:
يقولون هل يبكي الفتى لخريدة
إذا ما أراد اعتاض عشرا مكانها
وهل يستعيض المرء من خمس كفه
ولو صاغ من حر اللجين بنانها
وقال ابن الرومي في بستان وكانت من المجيدات في الغناء:
ما أولع الدهر في تصرفه
بكل زين له ومفتخر
أطار قمرية الغناء عن الأر
ض فأي القلوب لم تطر
بستان يا حسرتا على زهر
فيك من اللهو بل على ثمر
بستان أضحى الفؤاد في وله
يا نزهة السمع منه والبصر
بستان ما منك لامرئ عوض
من البساتين لا ولا البشر
إن لم أكن مت فانقرضت فكم
من موتة للفؤاد في الذكر
وما أرق قوله في هذه القصيدة:
يا غضة السن يا صغيرته
أمسيت إحدى المصائب الكبر
أنى اختصرت الطريق يا سكني
إلى لقاء الأكفان والحفر
أبعد ما كنت باب مبتهج
للنفس أصبحت باب معتبر
كل ذنوب الزمان مغتفر
وذنبه فيك غير مغتفر
لله ما ضمنت حفيرتها
من حسن مرأى وطيب مختبر
أضحت من الساكني حفائرهم
سكنى الغوالي مداهن السرر
لو علم القبر من أتيح له
لانحفر القبر غير محتفر
وأحب لو تأمل القارئ ما في هذا الشعر من سمو الخيال.
وكان مرة بن عبد الله مغرما بفتاة من قومه يقال لها ليلى بنت زهير، وتزوجت من غيره بالرغم منه، ثم نقلت مع زوجها إلى راذان وماتت هناك، فقال مرة فيها كثيرا من الشعر الموجع. كقوله:
أيا ناعيي ليلى أما كان واحد
من الناس ينعاها إلي سواكما
ويا ناعيي ليلى لجلت مصيبة
بنا فقد ليلى لا أمرت قواكما
ولا عشتما إلا حليفي بلية
ولا مت حتى يشترى كفناكما
فأشمت والأيام فيها بوائق
بموتكما إني أحب رداكما
وقوله:
كأنك لم تفجع بشيء تعده
ولم تصطبر للنائبات من الدهر
ولم تر بؤسا بعد طول غضارة
ولم ترمك الأيام من حيث لا تدري
سقى جانبي راذان والساحة التي
بها دفنوا ليلى ملث من القطر
ولا زال خصب حيث حلت عظامها
براذان يسقي الغيث من هطل غمر
وإن لم تكلمنا عظام وهامة
هناك وأصداء بقين مع الصخر
وكان لإسحاق الموصلي غلام جميل يقال له زياد، وهو الذي يقول فيه:
إذا ما زياد علني ثم علني
ثلاث زجاجات لهن هدير
خرجت أجر الذيل زهوا كأنني
عليك أمير المؤمنين أمير
ثم مات زياد هذا، فقال إسحاق يبكيه:
فقدنا زيادا بعد طول صحابة
فلا زال يسقي الغيث قبر زياد
ستبكيك كأس لم تجد من يديرها
وظمآن يستبطي الزجاجة صادي
وكان محمد بن مناذر يعشق عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي، وكان عبد المجيد هذا من أجمل الفتيان وآدبهم وأظرفهم، وله مع ابن مناذر حديث طويل ذكره صاحب الأغاني، ثم مات عبد المجيد بعد مرض قصير وهو في سن العشرين، فقال فيه ابن مناذر قصيدة طويلة نختار منها هذه القطعة الباكية:
كل حي لاقى الحمام فمودي
ما لحي مؤمل من خلود
لا تهاب المنون شيئا ولا تب
قي على والد ولا مولود
ولقد تترك الحوادث والأيا
م وهيا في الصخرة الصيخود
4
ولو ان الأيام أخلدن حيا
لعلاء أخلدن عبد المجيد
ما درى نعشه ولا حاملوه
ما على النعش من عفاف وجود
ويح أيد جنت عليه وأيد
دفنته! ما غيبت في الصعيد!
وأرانا كالزرع يحصده الده
ر فمن بين قائم وحصيد
وكأنا للموت ركب مخبو
ن سراعا لمنهل مورود
إن عبد المجيد يوم تولى
هد ركنا ما كان بالمهدود
هد ركني عبد المجيد وقد كن
ت بركن أنوء منه شديد
وبعبد المجيد تامور نفسي
عثرت بي بعد انتعاش جدودي
5
وبعبد المجيد شلت يدي اليم
نى وشلت به يمين الجود
حين تمت آدابه وتردى
برداء من الشباب جديد
فسقاه ماء الشبيبة فاهتز
اهتزاز الغصن الندي الأملود
6
وكأني أدعوه وهو قريب
حين أدعوه من مكان بعيد
فلئن صار لا يجيب لقد كا
ن سميعا هشا إذا هو نودي
يا فتى كان للمقامات زينا
لا أراه في المحفل المشهود
لهف نفسي! أما أراك وما عن
دك لي إن دعوت من مردود
كان عبد المجيد سم الأعادي
ملء عين الصديق رغم الحسود
عاد عبد المجيد رزءا وقد كا
ن رجاء لريب دهر كنود
خنتك الود لم أمت كمدا بع
دك إني عليك حق جليد
لو فدى الحي ميتا لفدت نف
سك نفسي بطارفي وتليدي
ولئن كنت لم أمت من جوى الحز
ن عليه لأبلغن مجهودي
لأقيمن مأتما كنجوم اللي
ل زهرا يقطعن حر الخدود
موجعات يبكين للكبد الحر
ى عليه وللفؤاد العميد
7
ولعين مطروفة أبدا قا
ل لها الدهر لا تقري وجودي
كلما عزك البكاء فأنفد
ت لعبد المجيد سجلا فعودي
لفتى يحسن البكاء عليه
وفتى كان لامتداح القصيد
فبرغمي كنت المقدم قبلي
وبكرهي دليت في الملحود
كنت لي عصمة وكنت سماء
بك تحيا أرضي ويخضر عودي
وأغرم يعقوب بن الربيع بجارية تسمى (ملك) ومكث في طلبها سبع سنين، حتى رق ماله، وجاهه، ثم ملكها، فأقامت عنده ستة أشهر وماتت فقال يبكيها:
لله آنسة فجعت بها
ما كان أبعدها من الدنس
أتت البشارة والنعي معا
يا قرب مأتمها من العرس
يا ملك! نال الدهر فرصته
فرمى فؤادا غير محترس
أبكيك ما ناحت مطوقة
تحت الظلام تنوح في الغلس
وقال فيها:
ليت شعري بأي ذنب لملك
كان هجري لقبرها واجتنابي
ألذنب حقدته كان منها
أم لعلمي بشغلها عن عتابي
أم لأمني لسخطها ورضاها
حين واريت وجهها في التراب
إنما حسرتي إذا ما تذكر
ت عنائي بها وطول طلابي
لم أزل في الطلاب سبع سنين
أتأتى لذاك من كل باب
فاجتمعنا على اتفاق وقدر
وغنينا عن فرقة باصطحاب
أشهرا ستة صحبتك فيها
كن كالحلم أو كلمع السراب
وأتاني منك النعي مع البش
رى فيا قرب أوبة من ذهاب
وما أروع قوله في وصف احتضار هذه الجارية:
حتى إذا فتر اللسان وأصبحت
للموت قد ذبلت ذبول النرجس
وتسهلت منها محاسن وجهها
وعلا الأنين تحثه بتنفس
رجع اليقين مطامعي يأسا كما
رجع اليقين مطامع المتلمس
8
وقد وصف غربته من بعدها فقال:
فجعت بملك وقد أينعت
وتمت فأعظم بها من مصيبة
فأصبحت مغتربا بعدها
وأضحت بحلوان ملك غريبه
أراني غريبا وإن أصبحت
منازل أهلي مني قريبه
عطفت على أختها بعدها
فصادفتها ذات عقل أديبه
فأقبلت أبكي وتبكي معي
بكاء كئيب بحزن كئيبه
وقلت لها مرحبا مرحبا
بوجه الحبيبة أخت الحبيبه
سأصفيك ودي حفاظا لها
فذاك الوفاء بظهر المغيبه
أراك كملك وإن لم تكن
لملك من الناس عندي ضريبه
9
والشعر في بكاء الملاح كثير، ولكن حب الإيجاز يحملنا على الاكتفاء بهذا المقدار، وما هو بالقليل.
بكاء الحلائل
وأوجع ما يكون بكاء الملاح إذا كن حلائل، والحليلة المعشوقة متاع عزيز، فمن ذلك قول أحد الفتيان في بكاء امرأته، وكان بها من المغرمين:
أطأ التراب وأنت رهن حفيرة
هالت يداي على صداك ترابها
إني لأغدر من مشى إن لم أطأ
بجفون عيني ما حييت جنابها
قال ابن رشيق: ومن جيد ما رثي به النساء وأشجاه، وأشده تأثيرا في القلب، وإثارة للحزن، قول محمد بن عبد الملك الزيات في أم ولده:
ألا من رأى الطفل المفارق أمه
بعيد الكرى عيناه تبتدران
رأى كل أم وابنها غير أمه
يبيتان تحت الليل ينتجيان
وبات وحيدا في الفراش تحثه
بلابل قلب دائم الخفقان
يقول فيها بعد أبيات:
ألا إن سجلا واحدا قد أرقته
من الدمع أو سجلين قد شفياني
فلا تلحياني إن بكيت فإنما
أداوي بهذا الدمع ما تريان
وإن مكانا في الثرى خط لحده
لمن كان في قلبي بكل مكان
أحق مكان بالزيارة والهوى
فهل أنتما إن عجت منتظران
ومن أشجى الشعر رثاء قوله في هذه القصيدة:
فهبني عزمت الصبر عنها لأنني
جليد فمن بالصبر لابن ثمان
ضعيف القوى لا يعرف الأجر حسبة
ولا يأتسي بالناس في الحدثان
ألا من أمنيه المنى وأعده
لعثرة أيامي وصرف زماني
ألا من إذا ما جئت أكرم مجلسي
وإن غبت عنه حاطني ورعاني
ولم أر كالأقدار كيف يصبنني
ولا مثل هذا الدهر كيف رماني
ومن موجع الشعر قول امرأة شريفة ترثي زوجها ولم يكن دخل بها:
أبكيك لا للنعيم والأنس
بل للمعالي والرمح والفرس
أبكي على فارس فجعت به
أرملني قبل ليلة العرس
يا فارسا بالعراء مطرحا
خانته قواده مع الحرس
ما لليتامى إذا هم سغبوا
وكل عان وكل محتبس
وإني لآسف على قلة هذا النوع من الشعر في الآداب العربية، مع أنه من دلائل الوفاء، لو يعلم الشعراء!
لوعة الشوق
نمتع القارئ في هذا الباب بألوان من سحر الحديث عن تغلغل الشوق في طيات الفؤاد. فمن ذلك قول أحد الشعراء وقد اشتاق إلى أرض جلق، وتمنى لو كحل أجفانه بترابها:
وإن اصطباري عن معاهد جلق
غريب فما أجفى الفراق وأجفاني
سقى الله أرضا لو ظفرت بتربها
كحلت بها من شدة الشوق أجفاني
وقال أبو بكر بن سعادة يتشوق إلى قرطبة:
أقرطبة الغراء هل لي أوبة
إليك وهل يدنو لنا ذلك العهد
سقى الجانب الغربي منك غمامة
وقعقع في ساحات دوحاتك الرعد
لياليك أسحار وأرضك روضة
وتربك في استنشاقه عنبر ورد
وإني ليبكيني قول الشريف:
ذكرت الحمى ذكر الطريد محله
يذاد ذياد العاطشات ويرجع
وأين الحمى لا الدار بالدار بعدهم
ولا مربع بعد الأحبة مربع
سلام على الأطلال لا عن جنابة
ولكن يأسا حين لم يبق مطمع
نشدتكم هل زال من بعد أهله
زرود وهل زالت طلول وأربع
نعم عادني عيد الغرام ونبهت
علي الجوى دار بميثاء بلقع
وطارت بقلبي نفحة غضوية
تنفسها حال من الروض ممرع
نظرت الكثيب الأيمن اليوم نظرة
ترد إلي الطرف يدمى ويدمع
وأيقظت للبرق اليماني صاحبا
بذات النقا يخفى مرارا ويلمع
أأنت معيني للغليل بنظرة
فنبكي على تلك الليالي ونجزع
معاذ الهوى لو كنت مثلي في الهوى
إذن لدعاك الشوق من حيث تسمع
هناك الكرى، إني من الوجد ساهر
وبرء الحشا، إني من البين موجع
فلا لب لي إلا تماسك ساعة
ولا قوم لي إلا النعاس المروع
ألا ليت شعري كل دار مشتة
ألا موطن يدنو بشمل ويجمع
وانظر كيف يقول:
وما حائمات يلتفتن من الصدى
إلى الماء قد موطلن بالرشفان
إذا قيل هذا الماء لم يملكوا لها
معاجا بأقران ولا بمثان
بأظما إلى الأحباب مني وفيهم
غريم إذا رمت الديون لواني
فيا صاحبي رحلي أقلا فإنني
رأيت بليلى غير ما تريان
ويا مزجي النضو الطليح عشية
تراك ببطن المأزمين تراني
وهل أنا غاد أنشد النبلة التي
بها عرضا ذاك الغزال رماني
وانظر كيف يستمطر الدمع حين يقول:
خذوا نظرة منى فلاقوا بها الحمى
ونجدا وكثبان اللوى والمطاليا
ومروا على أبيات حي برامة
فقولوا لديغ يبتغي اليوم راقيا
وقولوا لجيران على الخيف من منى
تراكم من استبدلتم بجواريا
ومن حل ذاك الشعب بعدي وأرشقت
لواحظه تلك الظباء الجوازيا
ومن ورد الماء الذي كنت واردا
به ورعى الروض الذي كنت راعيا
فوا لهفتي! كم لي على الخيف شهقة
تذوب عليها قطعة من فؤاديا
صفا العيش من بعدي لحي على النقا
حلفت لهم لا أقرب الماء صافيا
فيا جبل الريان إن تعر منهم
فإني سأكسوك الدموع الجواريا
ويا قرب ما أنكرتم العهد بيننا
نسيتم وما استودعتم الود ناسيا
أأنكرتم تسليمنا ليلة النقا
وموقفنا نرمي الجمار لياليا
عشية جاراني بعينيه شادن
حديث النوى حتى رمى بي المراميا
رمى مقتلي من بين سجفي غبيطه
فيا راميا لا مسك السوء راميا
فيا ليتني لم أعل نشزا إليكم
حراما ولم أهبط من الأرض واديا
ولم أدر ما جمع وما جمرتا منى
ولم ألق في اللاقين حيا يمانيا
ويا ويح نفسي كيف زايدت في مها
بذي البان لا يشرين إلا غواليا
ويقول الأبيوردي يصف شوقه إلى حبيبته:
وأقسم بالبيت الرحيب فناؤه
وبالحجر الملثوم والحجر والركن
لأنت إلى نفسي أحب من الغنى
وذكرك أحلى في فؤادي من الأمن
ويصور الحارث بن خالد شوقه إلى عائشة بنت طلحة بشوق الغريق إلى النجاة، ويقول:
يا أم عمران ما زالت وما برحت
بنا الصبابة حتى مسنا الشفق
القلب تاق إليكم كي يلاقيكم
كما يتوق إلى منجاته الغرق
وإنك لتلمس حرارة الشوق في قول العذري:
لو جز بالسيف رأسي في مودتكم
لمر يهوي سريعا نحوكم راسي
ولو بلي تحت أطباق الثرى جسدي
لكنت أبلى وما قلبي لكم قاسي
أو يقبض الله روحي صار ذكركم
روحا أعيش به ما عشت في الناس
لولا نسيم لذكراكم يروحني
لعدت محترقا من حر أنفاسي
والشوق يحمل ابن الدمينة على أن يحمد لحبيبته ذكرها له بالمساءة ويقول:
أرى الناس يرجون الربيع وإنما
ربيعي الذي أرجو نوال وصالك
أرى الناس يخشون السنين وإنما
سني التي أخشى صروف احتمالك
لئن ساءني أن نلتني بمساءة
لقد سرني أني خطرت ببالك
ليهنك إمساكي بكفي على الحشا
ورقراق عيني رهبة من زيالك
وانظر لوعة الشوق في قول أحد المتيمين:
أقول لأصحابي وهم يعذلونني
ودمع جفوني دائم العبرات
بذكر منى نفسي فبلوا إذا دنا
خروجي من الدنيا جفوف لهاتي
راحة السلوان
ومن العشاق من يستريح إلى السلو، ولكن أين إلى السلو السبيل؟ فمن ذلك قول العديل بن الفرخ:
صحا عن طلاب البيض قبل مشيبه
وراجع غض الطرف فهو خفيض
كأني لم أرع الصبا ويروقني
من الحي أحوى المقلتين غضيض
دعاني له يوما هوى فأجابه
فؤاد إذا يلقى المراض مريض
لمستأنسات بالحديث كأنه
تهلل غر برقهن وميض
وقال الشريف:
هي سلوة ذهبت بكل غرام
والحب نهب تطاول الأيام
ولقد نضحت من السلو وبرده
حر الجوى فبردت أي ضرام
من بعد ما أظما الغليل جوانحي
وأطال من ملل الزلال أوامي
لا يدع العذال نزع صبابتي
بيدي حسرت عن الغرام لثامي
قد كانت الصبوات تعصف مقودي
فالآن سوف أطيل من إجمامي
هيهات يخفضني الزمان وإنما
بيني وبين الذل حد حسامي
وظاهر هذا الشعر أن أصحابه نزعوا عن الحب طائعين. وفي مقابل هذا المعنى يقول إبراهيم بن العباس:
وعلمتني كيف الهوى وجهلته
وعلمكم صبري على ظلمكم ظلمي
وأعلم ما لي عندكم فيردني
هواي إلى جهلي فأرجع عن علمي
ويقول ابن الأحنف في اليأس من السلوان:
تجنب يرتاد السلو فلم يجد
له عنك في الأرض العريضة مذهبا
فعاد إلى أن راجع الوصل صاغرا
وعاد إلى ما تشتهين وأعتبا
ويقول من كلمة ثانية:
كم قد تجرعت من غيظ ومن حرق
إذا تجدد حزن هون الماضي
وكم سخطت وما باليتم سخطي
حتى رجعت بقلب ساخط راضي
ويقول أيضا إبراهيم بن العباس:
لمن لا أرى أعرضت عن كل من أرى
وصرت على قلبي رقيبا لقاتله
أدافعه عن سلوة وأرده
حنينا إلى أوصابه وبلابله
ويقول ابن أذينة:
إن التي زعمت فؤادك ملها
خلقت هواك كما خلقت هوى لها
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقة فأدقها وأجلها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي
ما كان أكثرها لنا وأقلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة
شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها
ويقرب من هذا المعنى قول صاحب البدائع:
ولما نسيتم ودنا وغرامنا
ولم تحفظوا بعد الفراق لنا عهدا
جعلنا نغض الطرف عنكم وعندنا
من الشوق نار لا نطيق لها وفدا
غدر الغواني
ولا بد من ذكر شيء مما تألم له الشعراء في حياة الحب، التي طالما يغدر فيها النساء. وإنا لنجد من بينهم من يحسب الغواني جميعا غادرات، ويقول:
فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها
سجية نفس، كل غانية هند
ويقول كثير في السخر من عهود النساء:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة
إذا غمزوها بالأكف تلين
تمتع بها ما ساعفتك ولا تكن
عليك شجا في الحلق حين تبين
وإن هي أعطتك الليان فإنها
لآخر من خلانها ستلين
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها
فليس لمخضوب البنان يمين
وقال الشريف يشكو المطل والتسويف:
يا ظبية البان ترعى في خمائله
ليهنك اليوم أن القلب مرعاك
الماء عندك مبذول لشاربه
وليس يرويك إلا مدمع الباكي
وعد لعينيك عندي ما وفيت به
يا قرب ما كذبت عيني عيناك
أنت النعيم لقلبي والعذاب له
فما أمرك في قلبي وأحلاك
عندي رسائل شوق لست أذكرها
لولا الرقيب لقد بلغتها فاك
هامت بك العين لم تتبع سواك هوى
من علم العين أن القلب يهواك
وإني ليشجيني قوله من كلمة ثانية:
تهفو إلى البان من قلبي نوازعه
وما بي البان بل من داره البان
أسد سمعي إذا غنى الحمام به
كيلا يبين سر الوجد إعلان
ورب دار أوليها مجانبة
وبي إلى الدار أطراب وأشجان
إذا تلفت في إطلالها ابتدرت
للقلب والعين أمواه ونيران
كلم بقلبي أداويه ويقرفه
طول ادكاري لمن لي منه نسيان
1
لا للوائم إقصار بلائمة
عن العميد ولا للقلب سلوان
على مواعيدهم خلف إذا وعدوا
وفي ديونهم مطل وليان
هم عرضوا بوفاء العهد آونة
حتى إذا عذبوني بالمنى خانوا
وابن الرومي يجعل الغدر من طبائع الحسان، إذ يشبههن بالحديقة، تحمل الثمر حينا وتعرى من الورق حينا، وإليك قوله من قصيدة طويلة:
يولين ما فيه أغرام وآونة
يولين ما فيه للمعشوق سلوان
ولا يدمن على عهد لمعتقد
أنى؟ وهن كما شبهن بستان
يميل طورا بحمل ثم يعدمه
ويكتسي ثم يلفى وهو عريان
تغدو الفتاة لها خل فإن غدرت
راحت ينافس فيها الخل خلان
ما للحسان مسيئات بنا ولنا
إلى المسيئات طول الدهر تحنان
وإن تبعن بعهد قلن معذرة
إنا نسينا وفي النسوان نسيان
يكفي مطالبنا بالذكر ناهية
أن اسمنا الغالب المشهور نسوان
لا نلزم الذكر إنا لم نسم به
ولا منحناه بل للذكر ذكران
فضل الرجال علينا أن شيمتهم
جود وبأس وأحلام وأذهان
وأن فيهم وفاء لا نقوم به
ولن يكون مع النقصان رجحان
صدقن ما شئن لكنا تقنصنا
منهن عين تلاقينا وأدمان
2
أنكى وأزكى حريقا في جوانحنا
خلق من الماء والألوان نيران
إذا ترقرقن والإشراق مضطرم
فيهن لم يملك الأسرار كتمان
ماء ونار فقد غادرن كل فتى
لابسن وهو غزير الدمع حران
تخضل منهن عين فهي باكية
ويستحر فؤاد وهو هيمان
وقال فتى في ابنة عمه، وقد تجنت عليه وغدرت به:
أأحبابنا لو تعلمون بحالنا
لما كانت اللذات تشغلكم عنا
تشاغلتم عنا بصحبة غيرنا
وأبديتم الهجران ما هكذا كنا
وآليتم أن لا تخونوا عهودنا
فقد وحياة الحب خنتم وما خنا
غدرتم ولم نغدر وخنتم ولم نخن
وحلتم عن العهد القديم وما حلنا
وقلتم ولم توفوا بصدق حديثكم
ونحن على صدق الحديث الذي قلنا
وكان صخر بن عمرو، أخو الخنساء، يحب سلمى بنت عوف ثم تزوجها؟ وتعاهدا على أن لا يتزوج واحد منهما بعد صاحبه، ثم طعن في أحد الأيام، فمرض سنة كاملة، فقصرت زوجه في السهر عليه، والرفق به. ولا كذلك أمه الرءوم. قالوا: وسمع يوما امرأة تقول لأمه: كيف حال صخر؟ فقالت: نحن بخير ما دمنا نرى وجهه. وسمع أخرى تقول لامرأته كيف حال صخر؟ فقالت: لا حي فيرجى، ولا ميت فينعى! وحكي أنه جلس يوما ليستريح وقد رفع له سجف البيت، فرأى سلمى واقفة تحادث رجلا من بني عمها وقد وضع يده على عجيزتها، فسمعه يقول لها: أيباع هذا الكفل؟ فقالت: عن قريب! فقال صخر لأمه: علي بسيفي، لأنظر هل صدئ أم لا. فأتته به فجرده، وهم بقتل سلمى، فلما دخلت رفع السيف فلم يستطع حمله، فبكى وقال:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي
وملت سليمى مضجعي ومكاني
فأي امرئ ساوى بأم حليلة
فلا عاش إلا في شقا وهوان
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه
وقد حيل بين العير والنزوان
وما كنت أخشى أن أكون جنازة
لديك ومن يغتر بالحدثان
ويذكرون أن غسان بن جهضم كان مفتونا بابنة عمه، ثم تزوجها، فلما حضره الموت حلفت لا تتزوج من بعده، ثم حنثت في يمينها، فأنشدها في نومها ليلة الزفاف:
غدرت ولم ترعي لبعلك حرمة
ولم تعرفي حقا ولم تحفظي عهدا
ولم تصبري حولا حفاظا لصاحب
حلفت له يوما ولم تنجزي وعدا
غدرت به لما ثوى في ضريحه
كذلك ينسى كل من سكن اللحدا
ويذكرني هذا الشعر بقول أبي العتاهية:
إذا ما انقضت عني من العيش مدتي
فإن غناء الباكيات قليل
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي
ويحدث من بعد الخليل خليل
وهذه طبيعة العالم يا صاح، فاقض من أوطارك ما أنت قاض، واترك الوهم للمجانين!
ميزان الحب1
ميزان الحب فيما يرى جميل أن يهب المحب لمحبوبه دمه وماله، وانظر كيف يقول:
لحا الله من لا ينفع الود عنده
ومن حبله إن مد غير متين
ومن هو ذو لونين ليس بدائم
على ثقة خوان كل أمين
فلو أرسلت يوما بثينة تبتغي
يميني ولو عزت علي يميني
لأعطيتها ما جاء يبغي رسولها
وقلت لها بعد اليمين سليني
سليني مالي يا بثين فإنما
يبين عند المال كل ضنين
فما لك لما خبر الناس أنني
أسأت بظهر الغيب لم تسليني
فأبلي عذرا أو أجيء بشاهد
من الناس عدل أنهم ظلموني
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي
وهموا بقتلي يا بثين لقوني
إذا ما رأوني طالعا من ثنية
يقولون من هذا؟ وقد عرفوني!
الليالي الخوالي
وما أكثر حنين الشعراء إلى الأيام السوالف، والليالي الخوالي!
ويذكرون أن المتوكل أحب أن ينادمه الحسين بن الضحاك؛ ليرى ما بقي من ظرفه وشهوته لما كان عليه، فأحضره وقد كبر وضعف، فسقاه حتى سكر وقال لخادمه شفيع : اسقه! فسقاه وحياه بوردة، وكانت على شفيع أثواب موردة، فمد الحسين يده إلى درع شفيع، فقال المتوكل: أتجس غلامي بحضرتي؟ فكيف لو خلوت به! ما أحوجك يا حسين إلى أدب! وكان المتوكل غمز شفيعا على العبث به، فقال الحسين: يا سيدي! أريد دواة وقرطاسا. فأمر له بهما فكتب:
وكالوردة البيضاء حيا بأحمر
من الورد يسقى في قراطق كالورد
له عبثات عند كل تحية
بكفيه يستدعي الخلي إلى الوجد
تمنيت أن أسقى بكفيه شربة
تذكرني ما قد نسيت من العهد
سقى الله عيشا لم أبت فيه ليلة
من الدهر إلا من حبيب على وعد
فطرب المتوكل لهذا الشعر، وهم بتقديم الغلام إليه، لو كان مما تسمح بمثله النفس!
وانظر ما يقول ابن هانئ في ذكرى أيامه السوالف:
قمن في مأتم على العشاق
ولبسن السواد في الأحداق
وبكين الفراق بالعنم الرط
ب المقنا وبالخدود الرفاق
ومنحن الفراق رقة شكوا
هن حتى عشقت يوم الفراق
ومع الجيرة الذين غدوا دم
ع طليق ومهجة في وثاق
حاربتهم ذوائب الدهر حتى
آذنوا بالفراق قبل التلاقي
ودنوا للوداع حتى ترى الأج
ياد فوق الأجياد كالأطواق
يوم راهنت في البكاء عيونا
فتقدمت في عنان السباق
أمنع القلب أن يذوب ومن يمن
ع جمر الغضى عن الإحراق
رب يوم لنا رقيق حواشي الله
و حسنا جوال عقد النطاق
قد لبسناه وهو من نفحات ال
مسك درع الجيوب درع التراقي
وما أوجع قول ابن الرومي في البكاء على لياليه الخوالي:
أأيام لهوي هل مواضيك عود
وهل لشباب ضل بالأمس منشد
رزئت شبابي عودة بعد بدأة
وهن الرزايا بادئات وعود
سلبت سواد العارضين وقبله
بياضهما المحمود إذ أنا أمرد
وبدلت من ذاك البياض وحسنه
بياضا ذميما لا يزال يسود
لشتان ما بين البياضين: معجب
أنيق ومنشوء إلى العين أنكد
وكنت جلاء للعيون من القذى
فقد جعلت تقذي بشيبي وترمد
هي الأعين النجل التي كنت تشتكي
مواقعها في القلب والرأس أسود
فما لك تأسى الآن لما رأيتها
وقد جعلت مرمى سواك تعمد
تشكى إذا ما أقصدتك سهامها
وتأسى إذا نكبن عنك وتكمد
كذلك تلك النبل من وقعت به
ومن صرفت عنه من القوم مقصد
إذا عدلت عنا وجدنا عدولها
كموقعها في القلب بل هو أجهد
وبيضاء يخبو درها من بياضها
ويذكو له ياقوتها والزبرجد
إذا ما التقى السكران: سكر شبابها
وأكوابها، كادت من اللين تعقد
لهوت بها ليلا قصيرا طويله
وما لي إلا كفها متوسد
وكم مثلها من ظبية قد تفيأت
ظلالي وأغصان الشبيبة ميد
ليالي سنتريس
وقد أكثر صاحب البدائع من الحنين إلى سنتريس،
1
وهي مهوى قلبه، ومنية روحه، إذ كانت ملعب صباه، وميدان لهوه، في أيامه السوالف، ولياليه الخوالي!
وانظر كيف يقول:
ليالي النيل واللذات ذاهبة
وجدي عليكن أشجاني فأضناني
لو يرجع الدهر لي منكن واحدة
في سنتريس ويدني بعض خلاني
إذن تبين دهري كيف يرحمني
من ظلم همي ومن عدوان أحزاني
كم ليلة لي بذاك النهر سالفة
قضيتها بين غادات وولدان •••
وذي دلال هو الدنيا وزينتها
يردي الأسود بطرف منه نعسان
كأنما فعل عينيه بعاشقه
فعل المدامة في أعطاف نشوان
شربت من ريقه راحا مشعشعة
بخالص الود لم تمزج بسلوان
وكم حبيب براح الريق أسكرني
وكم جميل بورد الخد حياني •••
يا موقد النار في قلبي مؤججة
وقاطنا بين أنهار وريحان
عرج علي فما نفسي بصابرة
على نواك وما طرفي بوسنان
وإليك قوله من كلمة ثانية:
إيه يا فتنة الوجود سلام
من مشوق متيم القلب عان
لو يشاء الهوى حوتك ضلوع
حائمات على صباك حواني
فارحمي فانيا من الوجد يشقى
بغرام مؤجج غير فان
رنقت ورده الليالي فأمسى
يرقب الصفو من خلال الأماني •••
آه لو يسمح الزمان ونلقى
من طوى قربهم عناد الزمان
وترى سنتريس والدهر غاف
ما قضينا من الليالي الحسان
حين كنا من السرور نشاوى
في نجاة من النوى وأمان
نتساقى الحديث عذبا شهيا
وقطوف المنى رطاب دواني •••
يا خليلي والرفيق معين
أسعفاني ببعض ما تملكان
أبتغي آسيا فقد عيل صبري
من توالي الوجيب والخفقان
أبتغي صاحبا توله قبلي
وشجاه من الجوى ما شجاني
فلقد يسعف الجريح أخاه
ويواسي الزميل في الأحزان
وقد لحن هذه القصيدة البلبل الغريد الشيخ عبد السميع عيسى الباجوري، وما أروع شعر الوجدان إذا غني بمثل صوته العذب الجميل!
صبا نجد
وما أشوق القلب إلى شميم صبا نجد! فقد حببه إلينا الشعراء حتى لنجد (صردر) يرى المرور بنجد شركا من أشراك الهوى، حين يقول:
النجاء النجاء من أرض نجد
قبل أن يعلق الفؤاد بوجد
إن ذاك الثرى لينبت شوقا
في حشا ميت اللبابات صلد
كم خلي غدا إليه وأمسى
وهو يهذي بعلوة أو بهند
وظباء فيه تلاقي الموالي
والمعادي من الجمال بجند
بشتيت من المباسم يغري
وسقام من المحاجر يعدي
1
وبنان لولا اللطافة ظنت
لجناياتها براثن أسد
وحديث إذا سمعناه لم ند
ر بخمر نضحننا أم بشهد
أنفت من براقع الخز والقز
خدود قد برقعوها بورد
ويقول الطغرائي:
يا حبذا نجد وإعراق الثرى
لدن وأنفاس النسيم رقاق
فهواؤه خصر النسيم وتربه
حالي الأديم وماؤه رقراق
وبساكنيه إن استقربنا النوى
تشفي النفوس وتمسك الأرماق
ويقول ابن الخياط:
خذا من صبا نجد أمانا لقلبه
فقد كان رياها يطير بلبه
وإياكما ذاك النسيم فإنه
إذا هب كان الوجد أيسر خطبه
خليلي لو أحببتما لعلمتما
مكان الهوى من مغرم بالقلب صبه
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى
يتوق ومن يعلق به الحب يصبه
غرام على يأس الهوى ورجائه
وشوق على بعد المزار وقربه
وقال ابن التعاويذي:
يا رفيقي هل لذاهب أيا
م تقضت حميدة من مرد
أنجداني بوقفة في مغاني ال
حي إن جزتما بأعلام نجد
وابكياها بمقلتي واسألاها
من سقاها ماء المدامع بعدي
جنبا عندها مصارع من ما
ت بداء الغرام فالشوق يعدي
فبأكنافها جآذر رمل
بين أثوابها براثن أسد
جناية العين والقلب
من الشعراء من يرى أن عينه سبب بلائه، كقول خالد الكاتب:
أعان طرفي على جسمي وأحشائي
بنظرة وقفت جسمي على دائي
وكنت غرا بما يجني على بدني
لا علم لي أن بعضي بعض أدوائي
ومثله قول الأرجاني:
تمتعتما يا مقلتي بنظرة
وأوردتما قلبي أشر الموارد
أعيني كفا عن فؤادي فإنه
من البغي سعي اثنين في قتل واحد
ويرى الشريف الرضي أن قلبه سبب شجاه، ويقول:
قلب كيف علقت في إشراكهم
ولقد عهدتك تفلت الأشراكا
أكثبت حتى أقصدتك سهامهم
قد كنت عن أمثالها أنهاكا
إن ذبت من كمد فقد جر الهوى
هذا السقام علي من جراكا
لا تشكون إلي وجدا بعدها
هذا الذي جرت علي يداكا
لأعاقبنك بالغليل فإنني
لولاك لم أذق الهوى لولاكا
ويأسى صردر على أن كانت أجفانه حجاب قلبه، ويقول:
لواحظنا تجني ولا علم عندها
وأنفسنا مأخوذة بالجرائر
ولم أر أغبى من نفوس عفائف
تصدق أخبار العيون الفواجر
ومن كانت الأجفان حجاب قلبه
أذن على أحشائه للفواقر
وقال ابن الأحنف يشكو ظلم قلبه وحبيبه:
يهيم بجيران الجزيرة قلبه
وفيها غزال فاتر الطرف ساحره
يؤازره قلبي علي وليس لي
يدان بمن قلبي علي يؤازره
قضاء الله
ونختم هذا الكتاب بقول صاحب البدائع:
قالوا عشقت فقلت كم من فتنة
لم تغن فيها حكمة الحكماء
إن الذي خلق الملاحة لم يشأ
إلا شقائي في الهوى وبلائي
ولله الأمر من قبل ومن بعد!
نامعلوم صفحہ