الفصل الثالث:
في مراتب النفوس في السعادة والشقاوة بعد مفارقة النفس عن البدن.
ثم ألحقت بها خاتمة أذكر فيها العوالم الثلاثة التي هي عالم العقل، وعالم النفس، وعالم الجسم، وترتيب الوجود من لدن الحق الأول إلى أقصى مراتب الموجودات على الترتيب النازل من عنده تعالى؛ ليكون الناظر في هذه الرسالة مطلعا على جمل من أجناس المخلوقات وشطر من أنواعها، فأهديت هذه الرسالة التي هي مشتملة على أهم المطالب وهو معرفة الإنسان نفسه، وما يئول إليه حاله بعد الارتقاء. وأيضا فإن معرفة النفس مرقاة إلى معرفة الرب تعالى كما أشار إليه قائل الحق بقوله : «من عرف نفسه فقد عرف ربه.» ولو كان المراد بالنفس في هذا الحديث هو هذا الجسم لكان كل أحد عارفا بربه، أعني خصوص معرفة، وليس كذلك؛ فهذه الرسالة تهديك إلى الأسرار المخزونة في عالم النفس الذي غفل عنه الدهماء من الناس، بل أكثر العلماء عنه غافلون؛ ولهذا أوحي إلى رسول الله لما سئل عن حقيقة الروح:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ، ثم قال عقيبه:
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
تنبيها على أكثر الناس عن النفس وحقيقة الروح؛ فهذا هو الإشارة المختصرة إلى فوائد هذه الرسالة، فلنشرع فيما ذكر من الفصول بتوفيق الله وحسن هدايته.
الفصل الأول
في إثبات أن جوهر النفس مغاير لجوهر البدن
فنقول: المراد بالنفس ما يشير إليه كل أحد بقوله «أنا». وقد اختلف أهل العلم في أن المشار إليه بهذا اللفظ هو هذا البدن المشاهد المحسوس أو غيره. أما الأول فقد ظن أكثر الناس وكثير من المتكلمين أن الإنسان هو هذا البدن. وكل أحد فإنما يشير إليه بقوله «أنا»، فهذا ظن فاسد لما سنبينه. والقائلون بأنه غير هذا البدن المحسوس اختلفوا، فمنهم من قال إنه غير جسم، ولا جسماني، بل هو جوهر روحاني فاض على هذا القالب وأحياه واتخذه آلة في اكتساب المعارف والعلوم حتى يستكمل جوهره بها ويصير عارفا بربه عالما بحقائق معلوماته، فيستعد بذلك للرجوع إلى حضرته ويصير ملكا من ملائكته في سعادة لا نهاية لها، وهذا هو مذهب الحكماء الإلهيين والعلماء الربانيين. ووافقهم في ذلك جماعة من أرباب الرياضة وأصحاب المكاشفة؛ فإنهم شاهدوا جواهر أنفسهم عند انسلاخهم عن أبدانهم واتصالهم بالأنوار الإلهية، ولنا في صحة هذا المذهب من حيث البحث والنظر براهين:
البرهان الأول:
نامعلوم صفحہ