معقول و لا معقول
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
اصناف
وأقروا أنه لا خالق إلا الله، وأن سيئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله عز وجل، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئا.
وأن الله وفق المؤمنين لطاعته وخذل الكافرين ... وأن الله - سبحانه - يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد ألا يصلح الكافرين ... وأراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم، وأضلهم، وطبع على قلوبهم.
وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره ...
ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق ... ويقولون: إن الله - سبحانه - يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون؛ لأنهم عن الله محجوبون ... ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله لصحبة نبيه
صلى الله عليه وسلم ، ويأخذون بفضائلهم ... ويقدمون أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليا، رضوان الله عليهم، ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون ...
على هذا السرد ذكر الأشعري معتقدات أصحاب الحديث وأهل السنة، ليقرر بعد ذلك أنها هي معتقداته، ونحن وإن كنا لا نرى في أي شيء من ذلك ما يوجب «لعنة الأرض والسماء» - على رأي أبي العلاء المعري - لكننا في الوقت نفسه نقف حيارى متسائلين: أين إذن يكون إعمال العقل الذي قال به الأشعري وحدد له حدوده ليترك الباقي للإيمان؟ أين يكون إعمال العقل إذا كان مما يريدنا على الإيمان به تصديقا وتسليما أن الخير والشر جميعا بقضاء الله وقدره، وأن الله يرى بالأبصار يوم القيامة، وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين لكنه لا يريد ذلك، وأن سيئات العباد يخلقها الله ...؟ الحق أننا لا نحن قادرون على رؤية ما يراه المعري في الأشعري من استحقاقه للعنة الأرض والسماء، ولا نحن قادرون على رؤية ما يراه الأشعري من أشياء تستوجب الاعتقاد بغير إعمال العقل في تأويلها .
ومهما يكن من أمر، فيكفينا من الأشعري منهجه من حيث الصورة حتى وإن لم نجد له التطبيق عنده على النحو الذي نود أن نفهمه به. فإذا ما انتقلنا إلى الجزء الثاني من كتابه «مقالات الإسلاميين» واستعرضنا الموضوعات التي قال إنها كانت مثار اختلافات بين أصحاب النظر، أدركنا كم كانت غزيرة في مشكلاتها ومحاولاتها تلك الفترة التي نتحدث عنها! وأعني القرنين التاسع والعاشر بالتاريخ الميلادي؛ فقد اختلفوا في طبيعة الأجسام ماذا تكون، وفي الطفرة ما أوجه قبولها أو رفضها، وفي الحركة هل تشمل الأجسام جميعا، أو منها ما هو متحرك وما هو ساكن، واختلفوا في حقيقة الإنسان ما هي؟ وفي الروح والنفس، وفي الحواس، وهل يمكن أن تصبح للإنسان حاسة سادسة؟ وكيف يفهم الخلق؟ وماذا نعني بالبقاء والفناء؟ وفي السببية بكل تفريعاتها، وفي معرفة الإنسان للأشياء والحقائق ما سبيلها إلخ إلخ ... خضم زاخر بالمسائل، واهتمام شديد بالتماس الحلول، وحرارة في مناصرة الرأي أو في معارضته، تلك هي حياة الفكر العربي في الفترة المذكورة.
48
نحن الآن في عصر الفلسفة، فكأنما هو عصر أوشك أن يتحول إلى «عقل» خالص، لا يكاد يصادف شيئا إلا حاول أن يعلله تعليلا يقنعه ويرضيه، بادئا من أبسط مظاهر الطبيعة ومنتهيا إلى الله ووجوده، ولما كانت خطتي في هذا الكتاب - كما ذكرت فيما سبق - عدم الغوص في فروع التخصص العلمي؛ كعلوم اللغة والنحو، وكالفقه والفلسفة، والعلوم الطبيعية والرياضية؛ حتى لا نسيء إلى هذه التخصصات بأقوال رحالة عابر، وأن أكتفي بالهوامش الثقافية العامة، التي كثيرا ما تكون هي المشير الواضح الدلالة لما يقلق رجال الفكر من مسائل؛ أقول: إنه لما كانت هذه هي خطة الكتاب، فلن أتناول الفلاسفة: الكندي، والفارابي، وابن سينا (وسأدع ابن رشد إلى أن يحين حينه من مراحل الطريق) لن أتناول هؤلاء إلا بإشارات تحوم حول حماهم ولا تقع فيه، وإلا فهل يجوز أن يكون «العقل» مدار الحديث، وأن يكون القرنان التاسع والعاشر الميلاديان هما الفترة التي يدار حولها السمر، دون أن يرد ذكر لعمالقة «العقل » عندئذ؛ الكندي، والفارابي، وابن سينا؟
وأما الكندي (أبو يوسف يعقوب بن إسحاق) (801-865م) الذي ينسب إلى كندة، والذي يكنى أحيانا بفيلسوف العرب؛ لأنه كان أول من اشتغل بالفلسفة منهم، فقد ولد بالكوفة - وكان أبوه أميرا عليها - ودرس في البصرة وبغداد، فقد بدأ حياته العقلية متكلما، وشارك المعتزلة في بحوثهم عن العدل والتوحيد وغيرهما من مبادئ المعتزلة التي بسطناها في أكثر من مناسبة سابقة، لكنه انصرف فيما بعد عن علم الكلام، إلى التفلسف النظري المجرد، ناهلا في ذلك عن أرسطو وأفلوطين، وكسائر الفلاسفة المسلمين، حاول أن يوفق بين أصول العقيدة الإسلامية ونظريات الفلسفة اليونانية.
نامعلوم صفحہ