معقول و لا معقول
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
اصناف
فقال الزعيم: الآية تعني أنه خلقه في تناسب تام مع ظروفه، فلم يجعله طويلا دقيقا، ولا قصيرا لزيقا، بل ما بين ذلك، وكذلك الأمر معنا؛ فنحن من هذه الناحية سواء.
قال الإنسي لزعيم البهائم: من أين لكم اعتدال القامة واستواء البنية وتناسب الصورة، وقد نرى الجمل عظيم الجثة، طويل الرقبة، صغير الأذنين، قصير الذنب، ونرى الفيل عظيم الخلقة، طويل النابين، واسع الأذنين، صغير العينين؟ ...
فأجاب زعيم البهائم: ذهب عليك - أيها الإنسي - أحسنها، وخفي عليك أحكمها، أما علمت أنك لما عبت المصنوع فقد عبت الصانع؟ أولا ترى بأن هذه كلها مصنوعات الباري الحكيم، خلقها بحكمته لعلل لا يعلمها إلا هو والراسخون في العلم؟ فإذا كان الجمل طويل الرقبة، فلكي يكون ذلك مناسبا لطول قوائمه لينال الحشيش من الأرض، وليبلغ مشفره إلى سائر أطراف بدنه فيحكها، وأما خرطوم الفيل فعوض عن طول الرقبة، وكبر أذنيه ليذب البق والذباب عن مآقي عينيه وفمه، إذ كان فمه مفتوحا أبدا لا يمكنه ضم شفتيه لخروج أنيابه منه، وأنيابه سلاح له يمنع بها السباع عن نفسه ... وأما الذي ذكرت - أيها الإنسي - من حسن الصورة، وافتخرت به علينا، فليس فيه شيء من الدلالة على ما زعمت بأنكم أرباب ونحن عبيد، فإذا كان حسن الصورة شيئا مرغوبا فيه لتنجذب ذكوركم إلى إناثكم، وإناثكم إلى ذكوركم، فلنا كذلك ما ينتج هذا التجاذب بين ذكورنا وإناثنا.
وأما الذي ذكرته من جودة حواسكم ودقة تمييزكم، وافتخرتم به علينا، فليس ذلك لكم خاصة تنفردون به دون سائر الحيوان، لأن فيها ما هو أجود منكم حاسة وأدق تمييزا ، فالجمل يرى موضع قدميه في الطرقات الوعرة في ظلم الليل، مما لا يرى أحدكم إلا بسراج، وترى الفرس الجواد يسمع وطء الماشي من البعد في ظلمة الليل، حتى إنه ربما نبه صاحبه من نومه بركضه رجله حذرا عليه من عدو أو سبع ...
وأما الذي ذكرته من رجحان العقول، فلسنا نرى له أثرا أو علامة؛ لأنه لو كان لكم عقول راجحة لما افتخرتم علينا بشيء ليس هو من أفعالكم، وإنما العقلاء يفتخرون بأشياء هي أفعالهم؛ من صنائع وأفكار، وعلوم ومذاهب، ومن استقامة وعدل.
قال ملك الجن للإنسي: قد سمعت من زعيم البهائم جوابه، فهل عندك شيء غير ما ذكرت؟
فقال الإنسي: نعم، هنالك مناقب غير ما ذكرت، تدل على أننا أرباب وهم عبيد لنا؛ فمن ذلك بيعنا وشراؤنا لها، وإطعامنا وسقينا لها إذا مرضت، وندفع عنها السباع أن تفترسها ...
قال زعيم البهائم: أما قوله إنا نبيعها ونشتريها، فهكذا يفعل أبناء فارس بأبناء الروم، وأبناء الروم بأبناء فارس، إذا ظفر بعضهم ببعض، أفترى أيهم العبيد وأيهم الموالي والأرباب؟ وهكذا قل في أبناء السند مع أبناء الهند، وفي أبناء الحبشة مع أبناء النوبة، وفي الأعراب والأكراد والأتراك، فأي هؤلاء وأولئك العبيد؟ وأيهم الموالي بالحقيقة؟ وهل هي إلا دول ونوب تدور بين الناس؟ وأما الذي ذكره الإنسي بقوله: إنا نطعمها ونسقيها وبقية ما ذكره من سائر ما يفعلون بنا، فليس ذلك لشفقة علينا منهم، بل مخافة أن نهلك فيخسروا أثماننا وتفوتهم منافعنا لهم.
وهنا تكلم الحمار ليؤيد البغل زعيم البهائم، فقال: أيها الملك! لو رأيتنا ونحن أسارى في أيدي بني آدم، موقرة ظهورنا بأثقالهم، وبأيديهم العصا والمقارع يضربون أدبارنا بحنق وعنف وضجر، لرحمتنا، فأين الرحمة بنا التي زعمها الإنسي؟
وعقب الثور فقال: لو رأيتنا أيها الملك مشدودين في دواليبهم وأرحيتهم مغطاة وجوهنا، وهم مع ذلك يضربوننا، لرحمتنا، فأين الرأفة منهم علينا التي زعمها الإنسي؟
نامعلوم صفحہ