معقول و لا معقول
المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري
اصناف
رووه عن بعض فقهائهم أنه كان يحمل أخبارا مستورة لا يحتملها العوام، فضاق صدره بها، فكان يبرز إلى العراء فيحتفر بها حفيرة يودعها دنا، ثم ينكب على ذلك الدن فيحدثه بما سمع، فيروح عن قلبه، ويرى أنه قد نقل سره من وعاء إلى وعاء» (المرجع السابق، ص145).
وكان الأعمش (المحدث المعروف) إذا ضاق صدره بما فيه ، وتطلعت الأخبار إلى الخروج منه، يقبل على شاة كانت له، فيحدثها بالأخبار والفقه، حتى كان بعض أصحاب الحديث يقول: «ليت أني كنت شاة الأعمش» (نفس المكان السابق). «والسر إذا تجاوز صدر صاحبه وأفلت من لسانه إلى أذن واحدة، فليس حينئذ بسر، بل ذاك أولى بالإذاعة ... وإنما بينه وبين أن يشيع ويستطير أن يدفع إلى أذن ثانية، وهو مع قلة المأمونين عليه وكرب الكتمان حري بالانتقال إليها في طرفة عين، وصدر صاحب الأذن الثانية أضيق، وهو إلى إفشائه أسرع ... ثم هكذا منزلة الثالث من الثاني، والرابع من الثالث، أبدا إلى حيث انتهى» (المرجع نفسه، ص146-147). «هذا إذا كان المؤتمن على السر عاقلا، فكيف به إذا كان بطبعه نماما؟ فاللوم إذ ذاك على صاحب السر أوجب؛ لأنه كان مالكا لسره فأطلق عقاله وفتح أقفاله» (ص147).
واقرأ هذه اللفتة الجميلة عمن تودعه سرك كيف يكون أميل إلى إفشائه كلما ازددت أنت تحذيرا له: «... من أكثر الأعوان على إظهار السر ... التحذير من نشره؛ فإن النهي أغرى، لأنه تكليف مشقة، والصبر على التكليف شديد، وهو حظر، والنفس طيارة متقلبة، تعشق الإباحة وتغرم بالإطلاق» (ص154).
ثم ننتقل مع الجاحظ إلى رسالة أخرى، لنستمع إلى مختارات منها، فنزداد إيمانا بأننا حيال كاتب عقلاني من الطراز الأول يستشف الحجب ليواجه النفس الإنسانية عارية، والرسالة هذه المرة هي «في الجد والهزل» يقول فيها عن الغضب: «الغضب يصور لصاحبه مثل ما يصور السكر لأهله، والغضبان يشعله الغضب، ويغلي به الغيظ، وتستفرغه الحركة، ويمتلئ بدنه رعدة، وتتزايل أخلاطه، وتنحل عقده، ولا يعتريه من الخواطر إلا ما يزيده في دائه، ولا يسمع من جليسه إلا ما يكون مادة لفساده، وعلى أنه ربما استفرغ حتى لا يسمع، واحترق حتى لا يفهم ... وليس يصارع الغضب ... شيء إلا صرعه، ولا ينازعه قبل انتهائه وإدباره شيء إلا قهره، وإنما يحتال له قبل هيجه، ويتوثق منه قبل حركته، ويتقدم في حسم أسبابه وفي قطع علله، فأما إذا تمكن واستفحل، وأذكى ناره واشتعل، ثم لاقى ذلك من صاحبه قدرة، ومن أعوانه سمعا وطاعة، فلو سعطته (أي أدخلت في أنفه بالمسعط) بالتوراة، ووجرته بالإنجيل (أي أدخلته في فمه بالميجر) ولددته بالزبور (أي صببته بالمسعط في أحد شدقي الفم) وأفرغت على رأسه القرآن إفراغا، وأتيته بآدم عليه السلام شفيعا، لما قصر دون أقصى قوته ولتمنى أن يعار أضعاف قدرته» (رسائل الجاحظ، ج1، ص260-61).
فماذا تريد من أديب مفكر لماح لخصائص النفس البشرية أدق من هذا التصوير وأعمق إنسية؟ ثم لنقرأ معا هذه العبارة التالية التي تتضمن تأكيدا شديدا على وجوب أن يكون للفظ ما يشير إليه - هو المعنى - وإلا كان «كالظرف الخالي» الذي تفضه بغية أن تخرج منه ما يحتويه فإذا هو فارغ لا يعطيك شيئا، سبحانك ربي! لقد استخدم كاتب هذه الصفحات هذا التشبيه بعينه للألفاظ التي يتداولها الناس، ويظنون أنهم فهموا دلالتها حتى إذا ما ظهر بينهم رجل أخذته الريبة من قدرتها على الإشارة إلى مدلولات بعينها، ثم أخذ يحللها ليرى ماذا في جوفها، فإذا هي فارغة، كان كاتب هذه الصفحات قد أخذته الحماسة المشتعلة ذات حين معتقدا أن الناس عامة، والأمة العربية خاصة، قد ملأت لغتها بألفاظ لا تدل، بأسماء لا تسمي، فكانت النتيجة أنهم كتبوا وكتبوا، وقالوا ثم قالوا، لكن حصيلة الفكر أضأل جدا من هذا الدوي الهائل الذي أحدثوه! ولقد أورد هذا الكاتب تشبيه «الظرف الخالي» في كتاب له صدر سنة 1953م وعنوانه «خرافة الميتافيزيقا» فقامت جماعة من الناس ظنت أن في جماجمها ثقافة، وكتب أحدهم وقد ظن أن أعواما قضاها في أوروبا قد زودته بالسلاح المرهف الذي يرد به على «الكفرة»، فكان أن علق هذا الرجل على هذا التشبيه بعينه ليبين للناس إلى أي حد ذهب الضلال بصاحب «خرافة الميتافيزيقا» ... مسكين أنت يا أبا عثمان يا ابن بحر يا جاحظ، لو كان حظك قد شدك من زمنك في القرن التاسع لتعيش مع «المعاصرين!» لنا في القرن العشرين! فماذا قال الجاحظ في اللفظ ومعناه؟ قال: «ولا يجوز أن يعلمه [كان هذا القول تعليقا على تعليم الله لآدم عليه السلام الأسماء كلها ] الاسم ويدع المعنى، ويعلمه الدلالة ولا يضع له المدلول عليه، والاسم بلا معنى لغو، كالظرف الخالي، والأسماء في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح؛ اللفظ للمعنى بدن، والمعنى للفظ روح، ولو أعطاه الأسماء بلا معان لكان كمن وهب شيئا جامدا لا حركة له، وشيئا لا حس فيه، وشيئا لا منفعة عنده، ولا يكون اللفظ اسما إلا وهو مضمن بمعنى، وقد يكون المعنى ولا اسم له، ولا يكون اسم وليس له معنى» (رسالة في «الجد والهزل»، رسائل الجاحظ، ج1، ص262).
26
وصلنا إلى بغداد مرة أخرى، قادمين من البصرة، وكنا هذه المرة في صحبة الجاحظ، الذي أخذ يقرأ لنا مختارات من رسائله، فكان لا بد لهذا الرجل فور بلوغه بغداد أن يقف ذاهلا أمام حركة الترجمة عن تراث اليونان الأقدمين، والتي أشرنا إليها عند زيارتنا «لبيت الحكمة» في بغداد؛ فكأنما قال لنفسه: لئن كان العجم قد عرفوا في حضارتهم بالبنيان، والعرب قد عرفوا بالشعر، فهؤلاء اليونان قد عرفوا «بالكتاب»، ويبدو أن الكتاب أخلد من البنيان، فهو - كما نرى - أولى بتخليد مآثر الحضارات من «بنيان الحجارة وحيطان المدر؛ لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم، وأن يميتوا ذكر أعدائهم» (الحيوان، ج1، ص73).
فماذا - إذن - عن شعر العرب بالقياس إلى «كتب» اليونان؟ الجواب عنده باختصار، هو أن عيب الشعر في تخليده لأصحابه أنه لا يترجم فتعرفه الشعوب المتكلمة بلغات أخرى، على حين أن «الكتب» المحتوية على فكر وعلم وفلسفة يمكن ترجمتها - كما نرى - فتتسع دائرة من يعرفونها؛ يقول في ذلك: «وفضيلة الشعر مقصورة على العرب (!) وعلى من تكلم بلسان العرب، والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حول تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب ... وقد نقلت كتب الهند ، وترجمت حكم اليونانية، وحولت آداب الفرس [ليلحظ القارئ أن الجاحظ قد لخص في هذه العبارة الأخيرة موارد نقل الثقافات الأجنبية إلى اللغة العربية كما شهد ذلك بعينيه في بغداد] فبعضها ازداد حسنا، وبعضها ما انتقص شيئا، ولو حولت حكمة العرب [الواردة في شعرهم] لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن، مع أنهم لو حولوها لم يجدوا معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم» (الحيوان، ج1، ص75).
ويمضي الجاحظ في حديثه عن حركة الترجمة التي شهدها أمامه قائمة على قدمين وساقين، فيقول: «إن الترجمان لا يؤدي أبدا ما قال الحكيم، على خصائص معانيه، وحقائق مذاهبه، ودقائق اختصاراته، وخفيات حدوده، ولا يقدر أن يوفينها حقوقها، ويؤدي الأمانة فيها، ويقوم بما يلزم الوكيل ويجب على الجري (الجري هو كالوكيل)، وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها، والإخبار عنها على حقها وصدقها، إلا أن يكون في العلم بمعانيها، واستعمال تصاريف ألفاظها وتأويلات مخارجها، مثل مؤلف الكتاب وواضعه» (الحيوان، ج1، ص76).
فهذا القول من الجاحظ عن الترجمة عموما، من استحالة أن تؤدي ما في الأصل بلا نقص أو زيادة، هو كالذي نقوله اليوم من أن الترجمة مهما جادت وحسنت، فهي تخون الأصل خيانة ليس في وسعها اجتنابها ولو حرصت، وهو قول حق بلا ريب، لكن ترى ما الذي دعا الجاحظ إلى هذا التعليق؟ أيكون قد لاحظ نقصا وتشويها فيما قرأه مما نقل المترجمون إلى العربية، لا بمراجعته الترجمة على الأصل؛ لأنه فيما أظن لم يعرف إلا العربية وحدها، بل باستدلاله ذلك من نصوص الترجمة التي تعذر فهمها لرداءة لغتها، فرجح ألا يكون الأصل بهذه الركاكة، وأن يكون المترجمون قد بذلوا جهدهم، لكن القصور منشؤه طبيعة الترجمة نفسها، ولقد تداعت المعاني في رأس الجاحظ وهو يكتب هذا، فمضى يتصور للترجمان الجيد شروطا وخصائص حتى يؤتمن على هذه العملية الخطيرة في نقل الثقافات من أمة إلى أمة؛ يقول: «ولا بد للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة، في وزن علمه في نفس المعرفة، وينبغي أن يكون أعلم الناس باللغة المنقولة والمنقول إليها؛ حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه أيضا قد تكلم بلسانين، علمنا أنه قد أدخل الضيم عليهما؛ لأن كل واحدة من اللغتين تجذب الأخرى، وتأخذ منها، وتعترض عليها، وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه، كتمكنه إذا انفرد بالواحدة؟ وإنما له قوة واحدة، فإن تكلم بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليها، وكذلك إن تكلم بأكثر من لغتين، على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات، وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق، والعلماء به أقل، كان أشد على المترجم، وأجدر أن يخطئ فيه، ولن تجد البتة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء» (الحيوان، ج1، ص76-77).
نامعلوم صفحہ