أما الحكومة العثمانية، فلم تشبه حكومة في الوجود، وما انتظم لها أمر في ماضيها ولا في حاضرها. ومثل رجالها كمثل سكان الخيام في زمان الجاهلية؛ إذا وليهم سيد عاقل واتخذ بطانة خير وحاشية عدل أنعش نفوس محكوميه، وأحيا موات آمالهم، وإذا وليهم غاشم جب منهم الغارب والسنام، وأذاقهم مضض الذل ومرارة العذاب. تجبى أموال الرعية بلا حساب، فيضيع بعضها في جيب الجابي وبعضها في جيب من هو فوقه، فلا يبقى لبيت مال الدولة إلا ما يتصدق به عليه السارق والناهب. فضالة ينفق جانب منها على طرب الملوك ولذاتهم وجانب على المقربين من الغرانقة، ويبقى الموظف الصغير صفر اليد أو تدرك آمره رحمة فينبذ إليه بما يسد به رمقه.
فإلى مثل هذا نظر رجال تركيا الفتاة وتوقعوا منه سوءا وأحبوا أن يفدوا ملكهم ووطنهم بأرواحهم.
فؤاد باشا.
وإذ كان الأوائل من رجال تركيا الفتاة فني أكثرهم، ولم يبق من شيعتهم من يعول عليه كما تقدم ذكره في هذا الفصل؛ أخذت جماعة من الناشئين الأحداث ممن تأدبوا بأدب كمال، وتعلموا من كتبه الخالدة على ممر الدهور، واستناروا بآرائه وآراء من كان معه، تنوب عنهم، فكانوا يتشاكون فيما بينهم مما يرون من سوء المصير. وقد أبغضوا السلطان لما اقترف من الآثام ولحنثه بيمينه، وكان كلما أحس السلطان بنهضة سلط أعوان نقمته فشرد دعاتها وبدد سراتها وكاد لها كيدا. ولقد بث الجواسيس وفتح أبواب السعاية والنميمة لكل خامل الذكر عاثر الجد لئيم الأصل، فمن دله من هؤلاء اللؤماء على نبيه ليذهله، وفاضل لينتقصه، وعائل يؤيم أهله، وبيت يخربه على صاحبه، أجزل عطاءه ورفع منزلته. ولقد أقصى عن دار الملك كل أريب صادق وفي، وقرب منه كل خئون ممقوت.
فلما حدثت المذابح الأرمنية التي وقعت في سنة 1894 حنق أكثر أنصار الحرية من العثمانيين، واستحوا أن يدعوها تمر بهم غير متألمين، فكان فيمن حنق على الحكومة الحميدية مراد «الطاغستاني». رفع كتابا طويلا إلى عبد الحميد أدمج له فيه وصف التهلكات المحيطة بالملك العثماني، وأبان له عن مصير الظلم. إلا أنه أحس بالشر وعرف أن عبد الحميد لا يترك جرأته بلا حساب، فخرج من الآستانة طالبا نجاته، فنزل بمصر وأصدر فيها جريدته «ميزان» التركية التي كان يصدرها بدار السلطنة قبل دخوله في خدمة الحكومة، وكان السلطان أمر إذ ذاك بتعطيلها لما نشر فيها من الرثاء لكمال بك الأعظم شهيد الأدب والوطن ، وكان لمراد منزلة كبرى في قلوب كثيرين من تلامذة المكتب الملكي؛ لأنه كان معلما لهم في التاريخ، ففازت جريدة «ميزان» من الشهرة والإرهاب بما أفزع عبد الحميد على سريره، ثم قضت الصروف على مراد بالخروج من مصر، فسافر إلى «جنيف» وأعاد إصدار ميزانه هنالك، وألف جمعية لمكافحة الدولة الظالمة، وجعل نفسه رئيسا لها. وإذا ابتلى الله العثمانيين بالحسد وحب الرئاسة في مثل تلك الأوقات نشأ الخلاف بين مراد وبين أحمد رضا. كل رأى نفسه أولى من صاحبه بأن يستقل بالأثرة ويتفرد بالسيادة، وكل رأى في مناوأة الظلم رأيا لا يشاكل رأي صاحبه. فأخذا يتراجحان ويتباريان حتى استرجع مراد إلى الآستانة بعدما ترك لاسمه دويا في أرجاء أوروبا والممالك العثمانية ملأ الأسماع وكاد يستولي على القلوب، وتفرقت من بعده جمعيته ولم تقم لها قائمة منذ ذلك.
ورأى عبد الحميد في رعيته أمارات الضجر، واستشعر من أذكياء الأمة انتباههم؛ فعمد إلى قوته يضرب بها ضعفهم، وغفله الله عن اصطناعهم بالجميل وإخضاعهم بالعدل وسياستهم بالحكمة، وزين له البغي أعوانه وقربوا منه أسبابه؛ فضاعف عدد الجواسيس واستبد على الناس فداخلهم حتى في وليماتهم ومناحاتهم، ففني صبر المتحالفين وخاف العقلاء عاقبة هذا الجور، فاجتمع فريق من الفضلاء وألفوا «جمعية الاتحاد والترقي العثمانية» في نحو سنة 1889، وجعلوا مركزها الأعظم بسلانيك، ومركزها العظيم بمناستر، ونهض أنور ونيازي يتقدمان صفوف المجاهدين في سبيل الحق ويستصرخان بكل صادق الود ثابت العزم من كبار الأمة وأهل نجدتها حتى كان هذا الانقلاب.
نعم وفت الجمعية وأبطالها بعهدهم، فوفى الله بعهده. وإنما قرب لهم الأسباب وسهل لهم إدراك الطلبة إفراط عبد الحميد في الظلم ومبالغته في الإساءة. وقد آنس ذلك قبولا في طبيعة الرعية للخير واستعدادا للمجد واستحقاقا للفخر، فقويت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة.
وإذا لم يشأ رجال الجمعية المقدسة وبطل الحرية نيازي الكبير أن يقولوا شيئا في تاريخ الجمعية وكيفية تألفها، واعتذروا بأن هذه الأسرار لا يمكن إفشاؤها، فأولى برجال التدوين إمساك القلم عن الخوض في هذا العباب تفاديا من الشطط واجتنابا للوم الأصدقاء.
مذابح شهداء الحرية من إخواننا الأرمن
مثل هذا الفصل يحتاج إلى أنامل «روبنس» مصور اللوح الشهير الذي سماه «مذبحة الأبرار»؛ فإن أنامل الشاعر المجيد والكاتب المبدع لا تفي بغرض ولا تأتي بفائدة في وصفه. الكلام على مذابح، والمذابح فيها جثث، والجثث معصفرة بالدماء، والدماء تجري على بطاح، والبطاح بها حجارة صلدة وهشيم يابس ونهر دافق، ومشهد العين غير خيال الفكر، والفكر يستمد من العين؛ فهي ينبوع العلم، والفكر مجلي المعاني؛ فليكن الكلام على قدر الإمكان لا على قدر الواجب.
نامعلوم صفحہ