فما ضر هذا السلطان الفاتح لو أجهد هماته في إعمار بلاده ورفع المباني في مواضع الأعشاش والخيام، واستنزل أهل الغارات من أعالي جبالهم واستدرج بهم في الحضارة حتى تزول عنهم جاهليتهم ويأنسوا إلى الناس ويستلذوا أطايب الحياة.
هذا مرام يصعب مناله على من تراخت عزائمه. أما أولئك الفاتحون ووراءهم أبطال نجدتهم والعيون ملأى منهم والصدور منطوية على هيبتهم، فلا يعجزهم طلاب ذلك. ولسنا نلومهم على ما قصروا فيه عن البلوغ مبلغ المتمدينين في أيامنا، وإنما نلومهم على أن لم يتأهبوا في زمانهم كمن تأهب من ملوك الغرب، ونذم من كانوا لهم مشاورين وعندهم مقربين من رجال لم يحدثوهم إلا بأحاديث الجنة والنار والحور والولدان، ولم يشيروا عليهم إلا بالجهاد وسبي النساء وجمع الأسلاب، ولم يطربوهم إلا بسير المتقدمين من جبابرة الفرس والعرب والهند واليونان. هزوا المعاطف في كبريائها وعتوها بالمدح الكاذب، وأعانوا على المبالغة في البذخ وعلى الإفراط في التجبر، فظنت الملوك أن الرعية عبدان لهم، وأن أرواح الناس إليهم مرجعها، وأنهم أولى بالعباد منهم بأموالهم وأعراضهم.
وإن من البلية أن تنشأ الذراري على حب الفتك والانتقام. فإذا كانت هدنة أو تمادي سلم بدلوا من صهوات الجياد فرش النوم ومن بيض السيوف مترعة الأكؤس، ومن مجالدة الأبطال مغازلة القيان. وأن تصبح الأمة كلها على ثقة من حوادث الأيام، فتزعم أن لن تبدل حالها وأن لن يخلق الله غالبا لها، وأن تؤلف بين الكأس والدين ولا تؤلف بين العقل والدين.
ولاية آيدين: هي إحدى ولايات الأناضولي، تستخرج في العام الواحد أكثر من الثلاثة ملايين كيلوغرام من القطن. يباع ربعه في البلاد ويرسل باقيه إلى أوروبا، وأكثر من المليون قنطار من العنب الذي لا بذر له والعنب المعروف بالرزاقي والعنب الأسود، ويصنع من الكل الزبيب، ينتفع أهل البلاد بالقليل منه ويحمل جله بعد ذلك إلى أوروبا. ويجني أهل آيدين من التين أكثر من الأربعة ملايين كيلوغرام ومن الزيتون الذي أهمل شجره ولم يلقح ما يربي ثمنه على الثلاثمائة ألف جنيه. هذا والزراعة في تلك البلاد لم يدخلها شيء من مستحدثات الفنون العصرية، ولصوص «الزيبك» تقطع الطرق وتشن الإغارات على القرى، والحكومة لا تحرك ساكنا والمتغلبون يسلبون كل ما وقعت عليه أنظارهم.
وكم بالأناضولي من بلاد كنوزها مقفلة ومفاتيحها بيد الحكومة، لا هي تفتحها ولا تأذن للأمة بفتحها. هذه أركلي يستخرج منها الفحم الحجري ألوفا من القناطير، وفي طرابزون وأرضروم معادن من الفحم والكهرباء الأسود (الكهرمان) لم تعمل فيها يد عامل، وفي كموشخانة وطرابزون وتوقاد من معادن الفضة والرصاص والحديد والنحاس ما لا يحصيه عد، لا تنتفع الدولة ولا أبناؤها إلا بالقليل منها. وفي ولايتي قونية وأنقرة مقادير من الملح الصخري، وفي شواطئ البحر ملاحات جمة لولا مصلحة «الديون العمومية» لاندثرت معالمها وخفيت آثارها.
كان المسافر من منذ عشرين سنة سلفت يخرج في القافلة من قيصرية إلى صامسون، فيقطع في سفره أكثر من الستمائة كيلومتر وهو في كل أوقاته مطأطئ الرأس من كثرة الأغصان. كل تلك الأرض كانت حراجا أنهارها دافقة وظلالها وارفة ووحوشها سارحة وأطيارها متجاوبة. وقد أتيح لي أن أقطع نصف تلك المسافة يوم نفيت، فما ألفيت بين صامسون وسيواس خمسين شجرة في مكان واحد، خلا ما يعترض المسافر من مدخل توقاد وآماسيا وعلى «جاملي بل». أصابت المعاول تلك الجذوع فأمالتها وكان منها وقود للناس وكان منها سقائف لهم. ولم يفكر في غرس عود مكان شجرة اقتلعها. ولن يلبث سكان الكثير من الولايات الباردة مثل سيواس وغيرها أن يفنوا بقر الشتاء فلا يجدون وقودا يحفظون بناره حر الحياة في أجسادهم.
يعز على الحر أن تبيت هذه الأقطار الشاسعة على ما فصلت من الحال، وأن يظل أهلها وهم أكثر من الثمانية مليون وليس بينهم ما يزيد على المائتي ألف نفس ممن يعرفون القراءة والكتابة. وتلك معرفة لا تكشف عن البصر غطاء ولا تبعث في القلب نورا. حفظ الناس أمثالا كقولهم: «القناعة كنز لا يفنى» و«سفينة التوكل لا تغرق»، وقام بينهم رجال يقولون لهم إن الدنيا دار غرور ومستودع باطل ولا عيش إلا عيش الآخرة، وحببوا إليهم التواكل والخمول وبغضوا إليهم محاسن التمدين، فقالوا: هذه من أعمال الكافرين وهم أصحاب الدنيا ولا ينبغي لنا أن نتشبه بهم ولا أن نزاحمهم فيها، وإنهم لحاسدونا غدا في الجنة إذ نأوي إلى نعيمها الخالد ويلقون هم في النار لعذاب خالد. وبذا فترت الهمم وصغرت النفوس وقلت الآمال، فترى جماعات من الناس جالسين إلى أصل جدار أو مستظلين بظل شجرة يتثاءبون، حديثهم كله لغو وهذر، وأنسهم ذكر الغانيات وقصص الغرام، وكل رجل منهم يحمل مسدسا أو خنجرا وليس في بيت أحد منهم كتاب يستفيد منه.
على أن أهل الأناضولي شداد شجعان، أهل ذكاء، يحبون الكرم، وللأضياف عندهم منزلة السادة، والغريب في أرضهم محمي الجانب مشفع لا يشتكي وحدة ولا يعاني هما. وإن خيرهم طباعا وأكثرهم دعة وأجدهم عملا لمن أهل القرى. أولئك يبخلون بالخبز على أنفسهم ويضنون بالوثير من الفرش والغطاء على أبنائهم ويدخرون ذلك كله لضيف طارق، لا يقبلون منه أجرا ولا يسألونه شكرا ولا أحدوثة عند الناس وإنما يصنعون ذلك كرما لا تكرما.
كأن نوب الدهر التي تناوبتهم منذ العصور أبقت فيهم بقية رمق حتى جاء عبد الحميد يستنفد تلك البقية. سل عليهم سيف البغي واستحل منهم كل ما حرمه شرع، ولم يسمع منهم شكاية ولا أنس ضجرة، بل علت من جوانب عرشه أصواتهم بالدعاء وكان منهم الجازرون وكانت منهم الأضاحي.
كانت الحكومة تنفذ الفارس الواحد من فرسان الجاندرمة ليجبي لها المال من القرى فلا ينزل إلا على أبسطهم يدا وأحسنهم حياة، رجل لا يملك إلا بقرة أو بقرتين وليس له من الأرض إلا فدان أو فدانان، فيقول له : أشبع فرسي علفا، واطبخ دجاجات آكل منها ما يشبعني وأتزود منها لسفري، واسقني الخمر حتى أسكر، وابغني مغنيا أو مغنية وانظر هل عندك من المال فضلة فآخذ منها حاجتي، ثم يصبح فيطالب الرجل وأهل القرية بمال الحكومة، فما يدفع له أحدهم إلا استزاده وما يمتنع عليه أحد لخلة تكون أصابته إلا ويطرحه أرضا ويرفع السوط ويضعه من كاهله إلى قدمه، ثم يأخذ فرشه وما ملكت يداه فيبيعه ويخرج من القرية خروج الملك الغالب من المعركة. ولولا اعتقاد في أولئك المساكين بأن عاصي السلطان ملعون من الله والملائكة وأنهم مأمورون بالطاعة له وإن جار؛ لكفت نفخة واحدة من أفواههم يستطيرون بها ذلك الفارس وفرسه، ولولا هذا الجهل المخيم على عقول الأمة ما دام الحكم الحميدي ثلاثة وثلاثين عاما.
نامعلوم صفحہ