أقامت والدتي وامرأتي خمسة عشر يوما وهما لا تعرفان أين أنا. كلما ولجتا باب كبير من الكبراء زعر منهما أهله وحاشيته. لم تجد المرأتان في عاصمة الملك ذا جاه من الرجال يحبوهما نصحا أو يعينهما على صبر سوى وفاء من بعض أنصار الحرية أعلنوه بزياراتهم ومشاركتهم لهما في أحزانهم. وكم من ذي رأي يومئذ بان الخطل في رأيه! قالوا: استعطفا السلطان. وهل يستعطف الذئب على فريسته؟ قالوا: قبلا الأيادي والأقدام. وهل مثل أهلي يشترون دمي بشرفي؟ لقد أغناهما الله بالصبر ووهبهما الحكمة، فامتثلتا أمره واستنجدتا العبرات. وما أنا بعاتب على مقصر في نصرة ولا متحول عن ود. إن مواطن الهلكات لا تثبت فيها كل القلوب. ولولا اقتضاء الوصف لما كان للقارئ نظر في هذه السطور السود. أصف حال الجواسيس. بئست الخليقة تشاركنا في الحياة ولا تشاركنا في الاستشعار. أخذوا بطرفي الطريق وترصدوا باب الدار، وتراءوا للزائرين في وجوه كأنها الحجارة، بردت فيها حرارة الحياة، فلا تحمر ولا تصفر، بل تبقى غبرا كالحة لو ضربتها بصوانة لارتدت عنها الصوانة.
وددت أن أصف بعض ما كابده أهل بيتي من الشدائد، ولكني لا أجرؤ على ذلك؛ هذا أسف أخاف أن أستعيد ذكره. أقر بالجبن عنده وما جبنت عند خطر قبله. لقد باتت امرأتي وهي لا تجسر أن ترضع بنتنا؛ تغير لبنها ومجته الرضيعة. فكانت لنا جارة من سيدات الأرمن تأتي ليلا فترضع الشقية بنت الشقي خلسة ثم تعود. وكانت الباعة تجانب البيت حذرا. ولم يبق محب على عهوده سوى من ذكرت في الفصول المتقدمة وسوى الصديق الشهم حسن فؤاد باشا، الجندي الحر الباسل، ناظر الدروس في المدرسة الحربية العثمانية، وكذلك أهل بيته. غير أنه لم يلبث أن أصابه بعد ذلك ما أصابني، فنفي إلى رودس وظل بها إلى أن أعلن الدستور.
ولما أنفذت رسالتي البرقية إلى أهل بيتي اطمأنت قلوبهم وعاودتهم عقولهم، فأخذوا أهبتهم وبادروا نحوي مسرعين. وكان بكير باشا لم يبرح سيواس، فأذن لي في استقبالهم وأصحبني بجندي ليكون في خدمتي. فلما رأيت والدتي وامرأتي أنكرتهما لما بدا عليهما من التغير والشحوب. ثم رجعت معهما وبين يدي ابني وبنتي أخفف بهما آلام الغربة. وكان هذا اللقاء معوانا لي على احتمال النفي سبعة أعوام، ولولا ذلك لم أستطع تجلدا.
قدوم رشيد عاكف واليا على سيواس
الوزير الحر والفاضل الجليل رشيد عاكف باشا والي سيواس ثم ناظر الداخلية سابقا وأحد أعضاء مجلس الأعيان الآن.
لما التقيت بأهلي واستصحبتهم إلى سيواس أدللت على منزل للسكن فنزلناه. بئس منزل الساكن ذاك. غرفتان في الطبقة العليا وغرفة في الطبقة السفلى. وفي جوف ذلك البناء ظلام وهواء كله بلل، كالكهف بل أحسن منه الكهف، فما ولجنا الدار إلا انقبضت صدورنا. غير أننا وطنا النفوس على الصبر وقلنا: ما نحن بخالدين فيها، وعزمنا على أن نبدل عنها بخير منها حين تستقيم الحال ونعلم مصيرنا، فأمسينا وآن لنا أن نأوي إلى المضاجع، فوقفت إلى جانب كوة تطل على الطريق وقد خلت من كل عابر، فاستشعرت وجعا في أسناني بدأ خفيفا ثم اشتد حتى كدت أجن به جنونا. قلت: وهذا هم جديد، كأن ما كابدناه لم يكن كافيا فزادنا المرض لتتم المصائب، فأخذت قليلا من الكونياك وجعلت أتمضمض به تسكينا لوجعي فما زادنا إلا شرا، وبقيت ليلتي تلك واقفا أو ماشيا أو قاعدا أو مضطجعا إلى أن أصبحت، فبادرت إلى أجزاخانة تحت المنزل أسأل صاحبها دواء يسكن وجعي، فأخذ يجرب عقاقيره في غير طائل، فلما تجاوزت الشدة ذرع الصبر طلبت إليه أن يعطيني مقدارا من المورفين وحقنة أحقنه بها تحت اللثة، فامتنع أولا ثم أجابني راضيا، فحقنت الدواء وسكن الجوع واستلقيت سكران لا أحسن الكلام.
هذه سكرة ما تجشمت لها سرى ولا طرقت من أجلها حانة ولا أجلت في طلابها كأسا، أتت عفوا حين اشتدت الحاجة إليها، وإنها لسكرة مات بحسرتها شيخ المعرة إذ قال:
تمنيت أن الخمر حلت لنشوة
تجهلني كيف اطمأنت بي الحال
فأذهل أني بالعراق على شفا
نامعلوم صفحہ