مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
ومع انتصار المسيحية، أطيح بهذا التحليل الكلاسيكي لمسألة «الحظ» كليا؛ فالرؤية المسيحية التي أوردها بوثيوس في أكثر صورها إقناعا في كتابه «عزاء الفلسفة»، قائمة على إنكار الافتراض الرئيسي بأن «الحظ» عرضة لأن يتأثر، وبذلك صارت إلهة الحظ تصور على أنها «قوة عمياء»، وبالتالي لا تحمل أي قدر من التعقل أو التمييز عند إغداق هباتها، وما عاد ينظر إليها باعتبارها صديقا محتملا، بل باعتبارها مجرد قوة لا ترحم، وما عاد يرمز إليها بقرن الخصب، وإنما بعجلة التغيير التي تدور بلا توقف «مثل انحسار الجزر وتدفق المد» (177-179).
هذه النظرة الجديدة إلى طبيعة «الحظ» اتفقت مع دلالة جديدة لأهميته؛ إذ بات يقال إن ما يميز الحظ من طيش وعدم اعتبار لجدارة المرء عند توزيع مكافآته، يذكرنا بأن هبات «الحظ» غير جديرة على الإطلاق بأن نسعى إليها؛ لأن الرغبة في الشرف والمجد الدنيوي - على حد وصف بوثيوس - «لا تساوي شيئا على الإطلاق في واقع الحال» (221)، ومن ثم فإن الحظ يعمل على توجيه خطانا بعيدا عن دروب المجد، وهذا يشجعنا على التطلع إلى ما هو خارج سجننا الأرضي بحثا عن وطننا السماوي. لكن هذا يعني أن «الحظ»، على الرغم من طغيانه النزواتي، فإنه في حقيقة الأمر «خادم الرب»، أو أداة من أدوات العناية الإلهية؛ وذلك لأن جزءا من تدبير الرب أن يظهر لنا أن «السعادة لا يمكن أن تقوم على الأشياء التصادفية لهذه الحياة الفانية»، وبهذا يجعلنا «نحتقر جميع الشئون الدنيوية، ونبتهج بفرحة السماء كي نتحرر من الأمور الدنيوية» (197، 221). ولهذا السبب تحديدا، يستنتج بوثيوس أن الرب قد وضع مقاليد السيطرة على ثروات العالم في يدي الحظ العاجزتين، وهدفه أن يعلمنا أن «الكفاءة لا يمكن بلوغها من خلال الثروة، وأن القوة لا يمكن نيلها من خلال الملك، وأن الاحترام لا يمكن اكتسابه من خلال المنصب، وأن الشهرة لا يمكن تحقيقها من خلال المجد» (263).
أحدث التصالح الذي أجراه بوثيوس بين الحظ والعناية الإلهية تأثيرا طويل الأمد على الأدب الإيطالي؛ فهو يشكل أساسا لمناقشة دانتي لموضوع «الحظ» في المقطع السابع من «الجحيم»، ويشكل موضوع بحث «علاج كلا النوعين من الحظ» للشاعر الإيطالي بترارك. لكن، مع استعادة القيم الكلاسيكية إبان عصر النهضة، صار هذا التحليل لمفهوم «الحظ» بوصفه «خادم الرب» محل اعتراض؛ نتيجة للعودة إلى الرؤية الأقدم التي تذهب إلى وجوب التمييز بين «الحظ» والقدر.
هذا التطور نشأ من تغير النظرة إلى طبيعة «تميز وكرامة» الإنسان، وهما سمتان لهما خصوصيتهما. عادة ما كان يعتقد أن هذا ناجم عن امتلاكه روحا خالدة، لكن في أعمال من خلفوا بترارك نلاحظ ميلا متناميا نحو تغيير بؤرة الاهتمام، بحيث يسلط الضوء على حرية الإرادة، لكن كان هناك شعور بأن حرية الإنسان مهددة بسبب النظر إلى «الحظ» بوصفه قوة لا تقهر. وهكذا نجد ميلا مقابلا نحو نبذ أي اقتراح بأن «الحظ» محض أداة من أدوات العناية الإلهية. ويشكل الفيلسوف بيكو ديلا ميراندولا مثالا صارخا على ذلك في هجومه على علم التنجيم المزعوم، فيندد بهذا العلم لكونه يجسد الافتراض الباطل بأن النجوم حددت لكل منا «حظه» ساعة ولادته. بعد ذلك بوقت قصير، نبدأ في ملاحظة استحسان واسع النطاق لرأي أكثر تفاؤلا بكثير يذهب إلى أنه - كما جاء على لسان كاسيوس بطل شكسبير في حديثه إلى بروتوس - إذا باءت جهودنا لبلوغ العظمة بالفشل، فيجب ألا يلقى اللوم في ذلك «على نجومنا وإنما على أنفسنا.»
وبناء على هذا الموقف الجديد من الحرية، تمكن الفلاسفة الإنسانيون في إيطاليا في القرن الخامس عشر من إعادة تشكيل الصورة الكلاسيكية الكاملة لدور «الحظ» في الشئون البشرية. نجد ذلك في أطروحة ليون باتيستا ألبرتي «عن العائلة»، وأطروحة جوفاني بونتانو «عن الحظ»، وبأوضح صوره في الكراسة الدينية التي أعدها إينياس سيلفيو بيكولوميني عام 1444 تحت عنوان «حلم بالحظ»؛ حيث يحلم الكاتب أنه يسير في مملكة «الحظ»، ويقابل إلهة الحظ، التي توافق على إجابة أسئلته، فتعترف بأنها تمارس سلطاتها على نحو متعمد؛ لأنه حينما سألها مستفسرا: «كم من الوقت تظلين كريمة مع البشر؟» أجابت: «ليس لفترة طويلة جدا.» لكنها لا تتجاهل على الإطلاق جدارة الإنسان، ولا تنكر فكرة أن «هناك مهارات يمكنك من خلالها تحقيق ما هو في صالحك.» وأخيرا، عندما سألها عن أحب الصفات إليها وأكثرها بغضا في نظرها، أجابت في إيماء إلى فكرة أن «الحظ» يفضل الشجعان، معلنة أن «من يفتقرون إلى الشجاعة أبغض إليها من أي شخص آخر.»
1
عندما يأتي مكيافيللي إلى مناقشة «تأثير الحظ في الأمور البشرية» في الفصل قبل الأخير من كتاب «الأمير»، تظهر طريقة تناوله هذا الموضوع الشديد الأهمية أنه ممثل نموذجي لمواقف الفلاسفة الإنسانيين؛ فهو يستهل هذا الفصل بأن يستحضر الاعتقاد المعهود بأن البشر «تحت سيطرة الحظ والرب»، وبأن يشير إلى المضمون الواضح بأننا «لا نملك دواء على الإطلاق » يقينا من تغير أحوال الدنيا؛ لأن كل أمر قد قدره الرب علينا مسبقا (84). بعد ذلك مباشرة، وعلى النقيض من هذه الافتراضات المسيحية، يقدم تحليلا كلاسيكيا لمفهوم الحرية؛ فهو يسلم، بطبيعة الحال، بأن حرية الإنسان منقوصة حتما؛ لأن «الحظ» قوي للغاية، و«قد يكون المتحكم في نصف أفعالنا»، لكنه يصر على أن الافتراض بأن مصيرنا مرهون تماما بيد الحظ يعد «إلغاء لحرية الإنسان». ولما كان يؤمن إيمانا راسخا بوجهة النظر الإنسانية بأن «الرب لا يريد أن يفعل كل شيء، كي لا يحرمنا من حريتنا ومن المجد الذي ينسب لنا»، فهو يخلص إلى أن ما يقرب من نصف أفعالنا خاضعة بالضرورة لسيطرتنا نحن، وليست خاضعة لنفوذ «الحظ» (84-85، 89).
إن أوضح تصوير قدمه مكيافيللي لهذا الشعور بأن الإنسان سيد مصيره له جذوره الكلاسيكية هو الآخر. فهو يؤكد أن إلهة «الحظ» امرأة، ومن ثم يسهل إغراؤها بالصفات الرجولية (87)؛ لذا فهو يرى إمكانية حقيقية لأن يجعل المرء نفسه حليفا للحظ، وأن يتعلم أن يفعل ما يتلاءم مع سلطات هذا الحظ، وأن يعمل على مقاومة طبيعته المتقلبة، وبالتالي يظل ناجحا في جميع شئونه.
وهذا يوصل مكيافيللي إلى السؤال الرئيسي الذي طرحه الفلاسفة الأخلاقيون الرومان في الأصل: كيف يمكننا أن نأمل في عقد تحالف مع «الحظ»، وكيف يمكننا أن نجعله يبتسم لنا؟ وهو يجيب بنفس الكلمات التي استخدموها من قبل؛ إذ يؤكد أن الحظ صديق الشجعان، وصديق من هم «أقل حذرا وأكثر جسارة». ويوضح فكرة أن أكثر ما ينال إعجاب إلهة الحظ، ويستدر تجاوبها هي «قوة» الرجل الحقيقي. فهو أولا، يوضح النقطة السلبية المتمثلة في أن الافتقار إلى «القوة» الرجولية هو أكثر ما يثير غضبها وبغضها، وكما أن وجود هذه «القوة» يعمل كسد منيع يقي المرء هجومها، فإنها توجه غضبها دائما إلى حيث تعلم أنه «ما من حواجز أو سدود بنيت»؛ بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، فيشير إلى أنها لا تظهر قوتها إلا إذا لم يتصد لها الرجال «الأقوياء»، وهذا يعني ضمنيا أنها تعجب بهذه الصفة إعجابا كبيرا جدا إلى حد لا يجعلها أبدا تصب جام غضبها على الذين يظهرون تلك الصفة (85، 87).
ومكيافيللي لا يكتفي بتكرار هذه الحجج الكلاسيكية، بل يزيد على ذلك بأن يضفي عليها ميلا شهوانيا وفريدا؛ فهو يلمح بأن إلهة «الحظ» قد تجد في الواقع لذة شاذة في أن تعامل معاملة عنيفة؛ فلا يكتفي بأن يدعي أن ««الحظ» امرأة، وإذا أراد المرء السيطرة عليها، فمن الضروري أن يعاملها معاملة خشنة»، بل يضيف أنها في الحقيقة «أكثر ميلا لأن تستسلم للرجال» الذين «يعاملونها معاملة أكثر جرأة ووقاحة» (87).
نامعلوم صفحہ