مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
اصناف
ويشكو مكيافيللي في سياق الرسالة نفسها من أنه قد انحدر به الحال وصار يعيش في «بيت متواضع وعلى إرث هزيل»، لكنه يجعل حياته محتملة بأن ينكفئ على دراسته كل مساء، ويقرأ عن التاريخ الكلاسيكي، ويدخل «البلاط القديم لقدامى الملوك» من أجل «الحديث معهم والاستفسار منهم عن أسباب تصرفاتهم». وكان أيضا يتأمل الخبرات التي اكتسبها «طوال خمسة عشر عاما» بينما كان «منخرطا في دراسة قواعد شئون الحكم». وثمرة ذلك، كما يقول، أنه ألف كتابا صغيرا عن «الإمارة»، يتعمق فيه «بأقصى قدر ممكن في مناقشات حول هذا الموضوع». كان هذا «الكتاب الصغير» هو رائعة مكيافيللي؛ «الأمير»، الذي كان يكتب - كما تشير هذه الرسالة - خلال النصف الثاني من عام 1513، وأتم بحلول «عيد الميلاد» من ذلك العام (م 303-305).
كان منتهى آمال مكيافيللي، حسبما أفضى إلى فيتوري، أن تعمل أطروحته هذه على أن تجذب إليه انتباه «حكامنا لوردات مديتشي» (م 305). أحد أسباب اهتمامه بجذب الانتباه إليه بهذه الطريقة - كما يوضح إهداء كتاب «الأمير» - كان رغبته في أن يقدم لعائلة مديتشي «أمارة ما على ولائي» بوصفه واحدا من رعاياهم المخلصين (3)، لكن قلقه إزاء هذا الهدف أضعف على ما يبدو ما عرف عنه من موضوعية معاييره في النقاش؛ وذلك لأنه في الفصل العشرين من كتاب «الأمير» يقرر بتأثر كبير أن الحكام الجدد يمكن أن يتوقعوا اكتشاف «أن الرجال الذين كانوا يعتبرونهم محل ارتياب في المراحل الأولى من حكمهم، أكثر جدارة بالثقة ونفعا من أولئك الذين كانوا موضع ثقتهم في البداية» (74). ونظرا لأن هذا الزعم قد وجد ما يناقضه تماما لاحقا في كتاب «المطارحات» (236)، فإنه من الصعب ألا يحس المرء بأن شيئا من التوسل الشخصي كان يداخل تحليل مكيافيللي في هذه المرحلة، خاصة وهو يكرر في قلق أنه «يجب ألا أغفل عن تذكير أي حاكم» بأن الرجال الذين كانوا «مرضيا عنهم في ظل النظام السابق» سوف يتبين دائما أنهم «أكثر نفعا» من أي شخص آخر (74-75).
لكن الهم الرئيسي لمكيافيللي كان بطبيعة الحال يتمثل في التوضيح لعائلة مديتشي أنه رجل جدير بالتعيين، لكونه خبيرا سيكون من الحمق تجاهله. فهو يصر في «إهدائه» على أنه من أجل «الفهم الصحيح لشخصية ولي الأمر»، من الضروري أن يكون المرء «رجلا من الشعب» (4). ويضيف بثقته المعتادة أن أفكاره من المرجح أن تكون ذات قيمة استثنائية، لسببين؛ فيشدد على ما له من «خبرة طويلة في الشئون المعاصرة» اكتسبها على مر «سنوات عديدة» و«بقدر كبير من الصعوبة والخطورة»، ويشير في فخر إلى البراعة النظرية في قواعد شئون الحكم التي اكتسبها في نفس الوقت من خلال «الدراسة المتواصلة للتاريخ القديم»، باعتباره مصدرا لا غنى عنه للحكمة، ظل يتفكر فيه مليا «بقدر كبير من العناية» (3).
إذن، ما الذي يظن مكيافيللي أنه يستطيع تعليمه للأمراء بوجه عام، وحكام عائلة مديتشي على وجه الخصوص، بناء على قراءاته وخبرته؟ يشعر أي شخص عند بدء قراءته لكتاب «الأمير» بأن مكيافيللي على ما يبدو ليس لديه الكثير ليقدمه أكثر من مجرد إجراء تحليل جاف مبالغ في تخطيطه لأنواع الإمارات ووسيلة «الاستحواذ عليها والاحتفاظ بها» (42). فهو يبدأ في الفصل الافتتاحي بدراسة فكرة «الأرض المملوكة» على نحو مستقل، مقررا أن كل الأراضي المملوكة «إما جمهوريات وإما إمارات»، ثم يستبعد مباشرة النوع الأول، مشيرا إلى أنه سيحذف في هذه المرحلة أي مناقشة عن الجمهوريات، وسيركز اهتمامه على الإمارات فحسب، بعد ذلك يقدم ملاحظة عادية مفادها أن جميع الإمارات إما موروثة وإما جديدة. وتارة أخرى يستبعد النوع الأول، بحجة أن الحكام الذين ورثوا الحكم يواجهون صعوبات أقل، ومن ثم هم أقل حاجة إلى نصحه. ثم يركز على الإمارات الجديدة، فيمضي ليميز بين تلك «الجديدة تماما» وتلك التي «مثل أطراف يضمها الحاكم إلى جسد الولاية التي ورثها» (5-6). في هذه المرحلة، لا يولي كثيرا من الاهتمام للنوع الأخير، وبعد ثلاثة فصول تتناول «الإمارات المختلطة» ينتقل في الفصل السادس إلى موضوع يبدو واضحا أنه آخذ بمجامع تفكيره أكثر من كل ما سواه، هو موضوع «الإمارات الجديدة تماما» (19). عند هذه المرحلة يجري تقسيما آخر لمادة كتابه، وفي الوقت نفسه يقدم ما يمكن أن يكون أهم طباق في مجمل نظريته السياسية، وهو الطباق الذي يشكل محور كتاب «الأمير»؛ إذ يعلن أن الإمارات الجديدة إما أن يستحوذ عليها المرء ويحتفظ بها «بفضل قوته وشمائله»، أو من خلال «قوة أشخاص آخرين وحظوظهم» (19، 22).
وإزاء هذا التفرع الثنائي الأخير، يبدو مكيافيللي ثانية أقل اهتماما بالاحتمال الأول؛ فهو يقول بأن أولئك الذين ارتقوا السلطة من خلال «قوتهم» لا من خلال «الحظ» كانوا القادة «الأبرز»، ويسوق عليهم أمثلة من نوع «موسى وسايروس ورومولوس وثيزيوس ومن على شاكلتهم»، لكنه يعجز عن إيجاد أي أمثلة إيطالية معاصرة (ربما يستثنى من ذلك فرانشيسكو سفورتسا)، وخلاصة نقاشه أن هذه «القوة» الظاهرة هذه يكاد يستحيل وجودها في خضم ما يعج به العالم الحديث من فساد (20)؛ لذا فإنه يركز على حالة الإمارات المستحوذ عليها من خلال «الحظ» وبعون قوات أجنبية. هنا يجد - في المقابل - أن إيطاليا المعاصرة حافلة بالأمثلة الدالة، التي يأتي في صدارتها مثال شيزاري بورجا، الذي «اكتسب منصبه من خلال حظ والده»، والذي تستحق مسيرته «أن تتخذ كنموذج يحتذى به» لجميع أولئك «الذين ارتقوا السلطة من خلال «الحظ»، ومن خلال نفوذ أشخاص آخرين» (28).
بهذا التصريح تنتهي كل التقسيمات العامة والفرعية التي أجراها مكيافيللي، ونصل إلى أكثر نوع من أنواع الإمارات ركز مكيافيللي عليه. في هذه المرحلة يصبح من الواضح أيضا أنه رغم ما أظهره من حرص على أن يقدم حجته في شكل تسلسلي من أنماط محايدة، كان قد نظم بدهاء النقاش على نحو يسلط الضوء على نوع معين من الحالات، وذلك لما لها من أهمية محلية وشخصية. تلك هي الحالة التي تكون فيها الحاجة إلى مشورة خبير ضرورية على نحو استثنائي، ويكون الحاكم قد ارتقى السلطة من خلال «الحظ» وقوات أجنبية. لم يكن أي قارئ معاصر لكتاب «الأمير» ليخفق في إدراك أنه في المرحلة التي طرح فيها مكيافيللي هذا التصريح، كانت عائلة مديتشي قد استردت للتو سيادتها السابقة في فلورنسا نتيجة لضربة حظ مدهشة، إلى جانب القوة العارمة الأجنبية لقوات فرديناند ملك إسبانيا. لكن هذا بالطبع لا يعني أن حجة مكيافيللي يمكن دحضها بذريعة أنها لا تستند إلى أكثر من مجرد ارتباطها المحدود بالأحداث. ومع ذلك، يبدو فعلا أنه أراد لقرائه الأوائل أن يركزوا اهتمامهم على زمان ومكان محددين؛ المكان هو فلورنسا، أما الزمان فهو الفترة التي كان يجري خلالها تأليف كتاب «الأمير».
التراث الكلاسيكي
عندما أحس مكيافيللي ومعاصروه أنهم - كما حدث عام 1512 - مدفوعون إلى التفكر فيما يحدثه «الحظ» من تأثير هائل في الشئون الإنسانية، تحولوا بوجه عام إلى المؤرخين والفلاسفة الأخلاقيين الرومان كي يتزودوا بتحليل موثوق لشخصية إلهة الحظ. كان هؤلاء الكتاب قد رأوا أن الحاكم إذا كان يدين بمنصبه لتدخل إلهة «الحظ»، فإن أول درس يجب أن يتعلمه هو أن يخشاها، حتى عندما تغدق عليه الهبات. كان ليفيوس قد أورد شهادة مؤثرة للغاية عن هذا التصريح في «الكتاب الثلاثين» من سرده لتاريخ روما، في سياق وصفه اللحظة الدراماتيكية التي استسلم فيها حنبعل أخيرا لسكيبيو الشاب. يستهل حنبعل خطاب استسلامه بأن يشير في إعجاب إلى أن غريمه المنتصر «رجل لم يخنه الحظ قط» حتى تلك اللحظة، لكن هذا لا يدفعه إلا لتوجيه تحذير خطير بشأن مكان «الحظ» في الشئون الإنسانية؛ فالأمر لا ينتهي عند فكرة أن «قدرة الحظ هائلة»، بل يصل إلى أن «أعظم قدر من حسن الحظ هو دائما الأقل جدارة بالثقة.» فإذا اعتمدنا على «الحظ» لكي يرفع شأننا، فإننا معرضون للسقوط «على نحو مروع» عندما يتحول الحظ ويعاندنا، وهو ما سوف يفعله يقينا في نهاية المطاف (30 : 30، 12-23).
ومع ذلك، لم يحدث قط أن اعتبر الفلاسفة الأخلاقيون من الرومان «الحظ» قوة خبيثة لا محالة، على العكس من ذلك، كانوا يرون إلهة الحظ خيرة وحليفة محتملة يجدر محاولة جذب اهتمامها، والسبب في أهمية السعي لنيل صداقتها هو بالطبع أنها تمنح هبات «الحظ»، التي يفترض أنها أمنية كل الناس. وهذه الهبات يتنوع وصفها؛ فالكاتب سينيكا يؤكد على شرف المنزلة والثروات، وسالوست يفضل أن يذكر المجد والسلطة. لكن كان هناك اتفاق عام على أن أعظم هبات «الحظ» جمعاء، تتمثل في شرف المنزلة وما يستتبعه من مجد. ويشدد شيشرون مرارا في كتابه «الواجبات» على أن أعظم هبة ينالها المرء هي «بلوغ المجد»، و«زيادة شرف المرء ومجده»، واكتساب «أصدق مجد» يمكن الفوز به (2 : 9، 31 و2 : 12، 42 و2 : 14، 48).
كيف، إذن، يمكن أن نقنع إلهة «الحظ» بأن تحول ناظرها إلينا، وأن تغدق الهبات من أنعمها الوافرة علينا لا على سوانا؟ والجواب هو: صحيح أن «الحظ» إلهة، لكنها ما زالت امرأة، ونظرا لكونها امرأة، فإن أشد ما يجذبها هو «الذكر»، الرجل الذي يتمتع بالرجولة الحقيقية؛ لذا فإن إحدى الصفات التي تحب أن تكافئها على نحو خاص هي الشجاعة الرجولية. على سبيل المثال، يستشهد ليفيوس عدة مرات بقول مأثور مفاده أن «الحظ يفضل الشجعان»، لكن أكثر الصفات نيلا لإعجابها على الإطلاق هي «القوة»، صفة الرجل الحق. والفكرة الكامنة خلف هذا الاعتقاد ظاهرة في أوضح صورها في كتاب شيشرون «مناظرات توسكولوم»، التي يقرر فيها أن المعيار الذي يجعل الرجل رجلا بحق، هو التمتع بأعلى درجات «القوة». وتستكشف تبعات هذه الحجة على نحو واسع في كتب «تاريخ» ليفيوس، حيث دائما ما تعزى النجاحات التي أحرزها الرومان إلى حقيقة أن «الحظ» حتما يصاحب «القوة»، بل يقوم على خدمتها أيضا، ويبتسم بوجه عام لأولئك الذين يظهرونها.
نامعلوم صفحہ