تمهيد
مقدمة
1 - الدبلوماسي
2 - مستشار الأمراء
3 - منظر الحرية
4 - مؤرخ فلورنسا
أعمال مكيافيللي المقتبس منها في النص
قراءات إضافية
ملاحظات
تمهيد
مقدمة
1 - الدبلوماسي
2 - مستشار الأمراء
3 - منظر الحرية
4 - مؤرخ فلورنسا
أعمال مكيافيللي المقتبس منها في النص
قراءات إضافية
ملاحظات
مكيافيللي
مكيافيللي
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
كوينتن سكينر
ترجمة
رحاب صلاح الدين
مراجعة
هاني فتحي سليمان
تمهيد
نشر إصدار سابق من هذه المقدمة ضمن سلسلة «أساطين سابقون» عام 1981؛ وسأظل مدينا بالكثير لكيث توماس لدعوته إياي من أجل الإسهام في هذه السلسلة، ولفريق «مطبعة جامعة أكسفورد» (خصوصا هنري هاردي) لمساعدتهم الكبيرة لي في عملية التحرير في ذلك الحين، ولجون دن وسوزان جيمس وجيه جي إيه بوكوك وكيث توماس لقراءتهم المخطوط الأصلي بعناية فائقة، ولتزويدهم إياي بالعديد من التعقيبات القيمة. أحمل عظيم الامتنان أيضا لما لاقيته من مساعدة حرفية في إعداد هذه الطبعة الجديدة من جانب فريق التحرير في «مطبعة جامعة أكسفورد»، خاصة شيلي كوكس؛ لما لاقيته منها من قدر كبير من الصبر والتشجيع.
في هذه الطبعة الجديدة نقحت النص تنقيحا دقيقا، وعملت على تحديث مسرد المراجع، لكنني لم أغير المسار الأساسي للنقاش؛ إذ إنني ما زلت أرى مكيافيللي بوصفه ممثلا للشكل الكلاسيكي الجديد للفكر السياسي الإنساني. وأزعم أيضا أن أكثر جوانب رؤيته السياسية أصالة وإبداعا يمكن أن تفهم على أفضل نحو باعتبارها سلسلة من ردود الفعل الجدلية - والساخرة في بعض الأحيان - حيال افتراضات الحركة الإنسانية التي ورثها وظل يؤيدها. كان هدفي الرئيسي هنا أن أقدم مقدمة مباشرة وأمينة عن آراء مكيافيللي بشأن فن الحكم، ومع ذلك آمل أن ينال هذا التفسير جانبا من اهتمام المتخصصين في هذا المجال.
عندما اقتبست من أعمال بوثيوس وشيشرون وليفيوس وسالوست وسينيكا، استخدمت التراجم التي نشرتها مكتبة «لوب» للأعمال الكلاسيكية، وعندما اقتبست من مراسلات مكيافيللي ورسائله الدبلوماسية وما أطلق عليها «الأهواء» والمكتوبة باللغة الإيطالية، فقد اعتمدت على ترجمتي الشخصية. وعندما اقتبست من كتاب «الأمير» استخدمت ترجمة راسيل برايس لكتاب «الأمير»، من تحرير كوينتن سكينر وراسيل برايس (كامبريدج، 1988). وعندما اقتبست من أعمال مكيافيللي الأخرى اعتمدت (بعد نيل الإذن الكريم) على الإصدارات الإنجليزية الممتازة لترجمة «مكيافيللي: الأعمال الرئيسية وغيرها» لآلان جيلبرت (3 مجلدات، «مطبعة جامعة ديوك»، 1965). ستجد عزيزي القارئ أنني عندما أقتبس نصا من «المراسلات وخطابات التمثيل الدبلوماسي» أشير إلى ذلك بأن أضع بين قوسين الحرف «م» كناية عن المراسلات، أو الحرفين «ت د» كناية عن التمثيل الدبلوماسي، وأذكر أيضا رقم الصفحة التي اقتبست منها بعد كل اقتباس. وعندما أشير إلى أعمال مكيافيللي الأخرى، أحرص على أن يوضح السياق في كل حالة النص الذي أستشهد به، وأذكر بين قوسين رقم الصفحة التي اقتبست منها. ويمكن أن تجد التفاصيل الكاملة لجميع الطبعات التي اعتمدت عليها في قائمة «أعمال مكيافيللي المقتبس منها في النص» الواردة في نهاية الكتاب.
لا بد أن أوضح نقطتين أخريين تتعلقان بالتراجم التي اعتمدت عليها؛ فقد تجاسرت في مواضع قليلة على أن أدخل تعديلات على ترجمة جيلبرت، بغرض أن أظل أقرب إلى الأسلوب الأصلي الذي استخدمه مكيافيللي في كتابته. لطالما آمنت بأن مفهوم «القوة» (أو
virtus
في اللغة اللاتينية) المحوري لدى مكيافيللي لا يمكن أن يترجم إلى اللغة الإنجليزية الحديثة بكلمة واحدة، أو حتى بسلسلة من الكلمات التوضيحية المطولة. لكن هذا لا يعني أنني لم أناقش معناها؛ بل على العكس؛ لأن جانبا كبيرا من النص الذي قدمته يمكن أن يقرأ باعتباره تفسيرا لما رأيت أنه المعنى الذي كان يقصده مكيافيللي بها.
مقدمة
رحل مكيافيللي عن عالمنا منذ نحو 500 عام، لكن لا يزال اسمه حيا كنموذج للدهاء والازدواجية وانتهاج سوء النية في الشئون السياسية. وقد ظل «مكيافيللي السفاح» - كما يصفه شكسبير - أبدا محل بغض الفلاسفة الأخلاقيين على اختلاف اتجاهاتهم؛ المحافظين والثوريين على حد سواء. فقد زعم إدموند بيرك أنه رأى «الثوابت البغيضة للسياسة المكيافيللية» التي يقوم عليها «الاستبداد الديمقراطي» الموجود في «الثورة الفرنسية». وشن ماركس وإنجلز هجوما لا يقل شراسة على مبادئ المكيافيللية، وأكدا في الوقت نفسه على أن أنصار «السياسة المكيافيللية» الحقيقيين هم أولئك الذين يحاولون «إخماد الطاقات الديمقراطية» في فترات التغيير الثوري. والنقطة التي يتفق عليها كلا الطرفين هي أن شرور المكيافيللية تشكل أحد أشد المخاطر التي تتهدد الأساس الأخلاقي للحياة السياسية.
اكتنف قدر كبير من سوء السمعة اسم مكيافيللي، إلى درجة أن كون المرء شخصا مكيافيلليا لا يزال يمثل تهمة خطيرة في الجدل السياسي. على سبيل المثال، حينما تحدث هنري كيسنجر موضحا فلسفته في لقاء شهير نشر نصه في مجلة «ذا نيو ريببليك» عام 1972، عقب مضيفه بعد أن سمعه يناقش الدور الذي يضطلع به بصفته مستشارا للرئيس، بقوله: «المرء، إذ يسمعك، لا يتساءل إلى أي حد أثرت على رئيس الولايات المتحدة، بل إلى أي حد تأثرت بمكيافيللي.» وهذا تلميح كان كيسنجر حريصا أشد الحرص على أن يدحضه. هل كان كيسنجر مكيافيلليا؟ «كلا، على الإطلاق.» «ألم يتأثر بمكيافيللي إلى حد ما؟» «كلا البتة.»
ما سبب السمعة السيئة التي اكتسبها مكيافيللي؟ هل يستحقها حقا؟ ما الأفكار المتعلقة بالسياسة والخلق السياسي التي يطرحها فعليا في أعماله المهمة؟ هذه هي الأسئلة التي آمل أن أقدم إجاباتها في سياق هذا الكتاب. سوف أطرح فكرة أننا نحتاج - كي نفهم مذاهب مكيافيللي - إلى أن نبدأ بالنظر في المشكلات التي رأى جليا أنه يتصدى لها في كتابي «الأمير» و«المطارحات»، وفي أعماله الأخرى عن الفكر السياسي. ولكي ندرك هذا المنظور، نحتاج بدورنا إلى أن نعيد بناء السياق الذي ألفت فيه هذه الأعمال في الأساس؛ أي السياق الفكري للفلسفة الكلاسيكية وفلسفة عصر النهضة، فضلا عن السياق السياسي لحياة دولة المدينة في إيطاليا في مطلع القرن السادس عشر. وبمجرد أن نعيد مكيافيللي إلى العالم الذي تشكلت فيه أفكاره في الأصل، يمكننا أن نبدأ في تقدير الأصالة الاستثنائية لهجومه على الافتراضات الأخلاقية السائدة في عصره. وبمجرد أن نفهم تبعات منظوره الأخلاقي الخاص، نكون على استعداد لأن ندرك السبب في أن اسمه لا يزال يذكر كثيرا كلما نوقشت قضايا السلطة السياسية والقيادة.
الفصل الأول
الدبلوماسي
الخلفية الإنسانية
ولد نيكولو مكيافيللي في فلورنسا في الثالث من مايو عام 1469. أول ما يأتينا من أخباره هو دوره النشط في شئون مدينته ومسقط رأسه عام 1498، نفس العام الذي أسقط فيه النظام الحاكم بقيادة سافونارولا من السلطة. كان جيرولامو سافونارولا، الزعيم الدومينيكاني لسان ماركو الذي كانت خطبه النبوئية قد سيطرت على الساحة السياسية الفلورنسية طوال السنوات الأربع السابقة لهذا التاريخ؛ قد اعتقل بتهمة الهرطقة في أوائل شهر أبريل، ثم ما لبث مجلس المدينة الحاكم أن بدأ في إقالة من بقي من مؤيديه من مناصبهم في الحكومة. كان أحد أولئك الذين خسروا مناصبهم نتيجة لذلك أليساندرو براتشيزي، رئيس الهيئة الاستشارية الدبلوماسية الثانية. في بادئ الأمر ظل المنصب شاغرا، لكن بعد تأخير دام لعدة أسابيع طرح اسم مكيافيللي، الذي لم يكن معروفا تقريبا، بصفته بديلا محتملا. في ذلك الوقت كان مكيافيللي يبلغ من العمر نحو تسعة وعشرين عاما، وكان من الظاهر أنه لا يملك أي خبرة إدارية سابقة، لكن ترشيحه لهذا المنصب لم يواجه أي صعوبة على ما يبدو، وفي التاسع عشر من يونيو صادق المجلس النيابي حسب الأصول على تعيينه بمنصب المستشار الدبلوماسي الثاني لجمهورية فلورنسا.
شكل 1-1: قصر فيكيو بفلورنسا، حيث عمل مكيافيللي في الهيئة الاستشارية الدبلوماسية الثانية من عام 1498 إلى عام 1512. (© Stephanie Colasanti/Corbis)
حينما التحق مكيافيللي بالهيئة الاستشارية الدبلوماسية، كانت هناك طريقة راسخة للتعيين في مناصب الهيئة الرئيسية؛ إذ كان على المسئولين الطامحين لشغل هذه المناصب أن يعطوا أدلة تظهر مهاراتهم الدبلوماسية، كما كان يتعين عليهم أن يظهروا قدرا كبيرا من الكفاءة فيما يعرف بالتخصصات الإنسانية. استمد مفهوم «الدراسات الإنسانية» هذا من أصول رومانية، لا سيما من شيشرون، الذي أحيا الفلاسفة الإنسانيون الإيطاليون مثله التربوية في القرن الرابع عشر، وصاروا يمارسون تأثيرا قويا على الجامعات وعلى طبيعة الحياة العامة في إيطاليا. تميز الإنسانيون في المقام الأول بالتزامهم بنظرية خاصة تتمحور حول المكونات الصحيحة للتعليم «الإنساني الحقيقي». كانوا يطلبون من طلابهم أن يبدءوا بإجادة اللغة اللاتينية، ثم ينتقلوا إلى ممارسة الخطابة ومحاكاة أرفع الكتاب الكلاسيكيين شأنا، ثم يكملوا دراساتهم بقراءة وافية للتاريخ القديم والفلسفة الأخلاقية. وقد أشاعوا أيضا الاعتقاد الراسخ بأن هذا النوع من التدريب يشكل أفضل تأهيل للحياة السياسية. كما دأب شيشرون على التأكيد مرارا على أن هذه التخصصات تعزز القيم التي نحتاج إلى اكتسابها في المقام الأول من أجل أن نخدم بلادنا جيدا، والتي تتمثل في الاستعداد لإعلاء الصالح العام على مصالحنا الخاصة، والرغبة في محاربة الفساد والاستبداد، والتطلع لبلوغ أنبل هدفين على الإطلاق؛ الشرف والمجد لبلادنا ولأنفسنا أيضا.
ومع تزايد استيعاب الفلورنسيين لهذه المعتقدات، بدءوا يدعون كبار أساتذة العلوم الإنسانية إلى شغل أرفع المناصب المرموقة في حكومة المدينة، ويمكن القول إن هذه العادة قد بدأت مع تعيين كولوتشيو سالوتاتي مستشارا عام 1375، ثم سرعان ما أصبحت القاعدة السائدة. خلال سنوات نشأة مكيافيللي، كان الشخص الذي يشغل منصب المستشار الأول هو بارتولوميو سكالا، الذي ظل يعمل أستاذا في الجامعة طوال حياته المهنية في المجال الحكومي، وظل يكتب عن موضوعات إنسانية معتادة، وكانت أهم أعماله أطروحة أخلاقية وسردا لأحداث «تاريخ الفلورنسيين». خلال عهد مكيافيللي نفسه في الهيئة الاستشارية الدبلوماسية، كان مارسيللو أدرياني، خليفة سكالا، مستمسكا على نحو يثير الإعجاب بالتقاليد نفسها؛ إذ كان هو أيضا قد انتقل من التدريس بالجامعة إلى منصب المستشار الأول، وظل هو الآخر ينشر أعمالا بحثية في مجال العلوم الإنسانية، بما في ذلك كتاب دراسي عن تدريس اللغة اللاتينية، وأطروحة بالعامية «عن تعليم أشراف فلورنسا».
إن ذيوع هذه المثل يساعدنا على معرفة السبب في تعيين مكيافيللي في سن مبكرة نسبيا في موقع كبير المسئولية في إدارة الجمهورية؛ فرغم أن أفراد أسرته لم يكونوا أغنياء أو أرستقراطيين إلى حد كبير، كانت لهم صلات وثيقة ببعض أرفع أوساط أساتذة العلوم الإنسانية شأنا في المدينة، وكان برناردو والد مكيافيللي، الذي كان يكسب عيشه من العمل محاميا، طالبا متحمسا للعلوم الإنسانية، وكان على علاقة وثيقة بعدة أساتذة مرموقين، منهم بارتولوميو سكالا، الذي اتخذت أطروحته الصادرة عام 1483 تحت عنوان «القوانين والأحكام القانونية» شكل حوار بينه وبين من وصفه بقوله «صاحبي وصديقي الحميم»، برناردو مكيافيللي. يضاف لذلك أنه كان واضحا من «يوميات » دونها برناردو بين عامي 1474 و1487 أنه طوال الفترة التي كان ابنه نيكولو يشب فيها عن الطوق، كان منخرطا في دراسة العديد من النصوص الكلاسيكية المهمة التي كان قد تأسس عليها مفهوم عصر النهضة عن «العلوم الإنسانية»؛ فقد كتب يقول إنه استعار «فيليبيات» شيشرون عام 1477، وأعظم أعماله الخطابية «الخطيب» عام 1480، واستعار أيضا «الواجبات» - وهي أهم أطروحات شيشرون الأخلاقية - عدة مرات خلال سبعينيات القرن الخامس عشر، بل إنه تمكن عام 1476 من الحصول على نسخته الخاصة من «تاريخ ليفي»، وهو نفس النص الذي سيشكل، بعد مرور أربعين عاما، إطارا للكتاب الذي ألفه ابنه بعنوان «المطارحات»، أطول أعمال مكيافيللي وأعلاها طموحا عن الفلسفة السياسية.
يتضح أيضا من «يوميات» برناردو أنه كان حريصا على أن يزود ابنه بأساس ممتاز في «الدراسات الإنسانية»،
1
على الرغم مما كان يتطلبه ذلك من نفقات باهظة، كان يسجل بنودها بقلق. تأتينا أولى أخبار تعليم مكيافيللي عقب عيد ميلاده السابع مباشرة، حينما كتب والده في يومياته يقول: «ابني الصغير نيكولو بدأ يذهب إلى الأستاذ ماتيو»؛ كي ينال المرحلة الأولى من تعليمه الرسمي؛ أي دراسة اللاتينية. وحينما بلغ مكيافيللي الثانية عشرة، تخرج من هذه المرحلة لينتقل إلى المرحلة الثانية، ليحظى بعناية مدرس شهير هو باولو دا رونشيليوني، الذي قام بالتدريس لعدد من ألمع أساتذة العلوم الإنسانية في جيل مكيافيللي. يذكر برناردو هذه الخطوة الإضافية في مذكراته التي بعنوان «يوميات» بتاريخ الخامس من نوفمبر عام 1481، عندما يعلن في فخر أن «نيكولو يستطيع الآن أن يكتب مؤلفات له باللغة اللاتينية»؛ عملا بالأسلوب القياسي الإنساني المتمثل في محاكاة أفضل نماذج الأسلوب الكلاسيكي. أخيرا، يبدو - إن كان لنا أن نثق بما رواه باولو جوفيو - أن مكيافيللي ابتعث لاستكمال تعليمه في جامعة فلورنسا. يذكر جوفيو في «المبادئ الأساسية» أن مكيافيللي «تلقى أفضل جزء» من تعليمه الكلاسيكي من مارسيلو أدرياني؛ وهو الشخص الذي - كما رأينا - كان يعمل أستاذا في الجامعة لعدد من السنوات قبل تعيينه في منصب المستشار الأول.
هذه الخلفية الإنسانية ربما تنطوي على السبب الذي يفسر حصول مكيافيللي فجأة على منصبه الحكومي في صيف عام 1498. كان أدرياني قد تولى منصب المستشار الأول في وقت سابق من نفس العام، ومن ثم يبدو من المعقول أن نفترض أنه تذكر ما كان يتمتع به مكيافيللي من مواهب في العلوم الإنسانية، فقرر أن يكافئه وهو يملأ المناصب التي باتت شاغرة في الهيئة الاستشارية الدبلوماسية نتيجة لتغير النظام الحاكم. وبالتالي، من المرجح أن الانطلاقة التي وجد مكيافيللي نفسه يشهدها في حياته المهنية العامة في الحكومة الجديدة المناهضة لسافونارولا، كانت بفضل محاباة أدرياني له، وربما أيضا بفضل نفوذ أصدقاء والده برناردو من أساتذة العلوم الإنسانية.
البعثات الدبلوماسية
كان منصب مكيافيللي الرسمي يتطلب منه أداء نوعين من المهمات. فقد كانت الهيئة الاستشارية الدبلوماسية الثانية، التي أنشئت عام 1437، تتعامل أساسا مع المراسلات المتعلقة بإدارة أقاليم فلورنسا. لكن بينما كان مكيافيللي يرأس هذا القسم، كان يشغل أيضا واحدا من ستة مناصب سكرتارية للمستشار الأول، وبهذه الصفة جرى تكليفه بمهمة أخرى هي خدمة «لجنة العشرة لشئون الحرب»، المسئولة عن العلاقات الخارجية والدبلوماسية للجمهورية. كان هذا يعني أنه - بالإضافة إلى عمله المكتبي العادي - كان يمكن أن يستدعى للسفر إلى الخارج نيابة عن لجنة العشرة، ويعمل سكرتيرا لسفرائها، ويساعد في إرسال تقارير مفصلة إلى أرض الوطن عن الشئون الخارجية.
سنحت له أول فرصة للمشاركة في مهمة من هذا النوع في شهر يوليو عام 1500، عندما جرى تكليفه هو وفرانشيسكو ديلا كازا بالذهاب «بأقصى سرعة ممكنة» إلى بلاط لويس الثاني عشر ملك فرنسا (ت د 70). نشأ قرار إرسال هذه الهيئة الدبلوماسية من الصعوبات التي كانت فلورنسا تعانيها في الحرب ضد مدينة بيزا، وكان مواطنو بيزا قد تمردوا عام 1496، ونجحوا على مدى السنوات الأربع التالية في صد جميع المحاولات الرامية لإخماد مطالبتهم بنيل الاستقلال. لكن في مطلع عام 1500، وافق الفرنسيون على مساعدة الفلورنسيين في استعادة المدينة، وبعثوا قوة لفرض حصار عليها. لكن هذا أيضا أفضى إلى نتيجة مفجعة؛ فقد فر مرتزقة مقاطعة جاسكوني الذين استأجرتهم فلورنسا، وتمرد المساعدون السويسريون نتيجة لعدم حصولهم على أجورهم مقابل مشاركتهم في الحرب، فلم يعد هناك بد من إلغاء الهجوم برمته على نحو مخز.
كانت مهمة مكيافيللي الدبلوماسية تتمثل في «التأكيد على أن فشل هذا المشروع في تحقيق أي نتيجة لم يكن ناجما عن أي تقصير من جانبنا»، وفي الوقت نفسه «نقل الانطباع» أنه من الممكن أن يكون القائد الفرنسي قد تصرف «بفساد وجبن» (ت د 72، 74). لكن، كما تبين له ولزميله ديلا كازا في أول لقاء لهما مع لويس الثاني عشر، لم يكن الملك لديه كثير اهتمام بما تقدمه فلورنسا من أعذار لتبرير إخفاقاتها السابقة، بل كان يود أن يعرف نوعية المساعدة التي يمكن أن يتوقعها بواقعية في المستقبل من مثل هذه الحكومة، التي كان واضحا أنها تدار على نحو سيئ، وقد حدد هذا اللقاء الطريقة التي تجري بها كافة حواراتهما اللاحقة مع لويس وكبار مستشاريه، فلوريموند روبيرتيه ورئيس أساقفة مدينة روان. كانت ثمرة ذلك أنه - على الرغم من أن مكيافيللي ظل في البلاط الفرنسي ما يقرب من ستة أشهر - لم يتعلم من هذه الزيارة الكثير بشأن سياسات الفرنسيين، بقدر ما تعلم الكثير عن الموقف الملتبس لدول المدن الإيطالية.
كان أول درس تعلمه هو أن الأجهزة الحكومية الفلورنسية، بالنسبة لأي شخص لديه علم بمسالك النظام الملكي الحديث، تبدو متذبذبة وضعيفة على نحو يثير السخرية. بحلول نهاية شهر يوليو بات واضحا أن «السلطة الحاكمة» - أي مجلس المدينة الحاكم - قد يحتاج إلى إرسال بعثة دبلوماسية أخرى كي تعيد التفاوض على شروط التحالف مع فرنسا. ظل مكيافيللي طوال شهري أغسطس وسبتمبر في انتظار سماع أخبار تفيد بأن المبعوثين الجدد قد غادروا فلورنسا، وظل يطمئن رئيس أساقفة مدينة روان بقوله إنه ينتظر وصولهم في أي لحظة. بحلول منتصف شهر أكتوبر، حينما كان الأفق لا يزال خاليا من أي أمارات على وصولهم، بدأ رئيس أساقفة روان يتعامل مع هذه المراوغات المستمرة معاملة تحمل ازدراء صريحا؛ فقد ذكر مكيافيللي، باغتمام واضح، أن رئيس الأساقفة «رد بهذه الكلمات تحديدا» عندما أكد له أن البعثة الموعودة في طريقها أخيرا إلى فرنسا: «هذا ما تقوله أنت، لكن قبل وصول هؤلاء المبعوثين سنكون قد بتنا جميعا في عداد الموتى» (ت د 168). الأمر الأكثر إذلالا ومهانة أن مكيافيللي اكتشف أن إحساس مدينته فلورنسا بأهميتها يبدو في نظر الفرنسيين منفصلا على نحو يثير السخرية عن واقع مكانتها العسكرية وحجم ثرواتها. كان عليه أن يخبر «السلطة الحاكمة» أن الفرنسيين «لا يمنحون قيمة إلا لأولئك المسلحين تسليحا جيدا أو المستعدين لأن يدفعوا.» وتوصل إلى الاعتقاد بأن «هاتين الصفتين كلتيهما غائبتان في حالتكم.» وبرغم محاولاته أن يلقي على مسامع الملك خطبة عصماء عن «الأمن الذي يمكن أن تضفيه عظمتكم على مستعمرات جلالة الملك في إيطاليا»، وجد أن «كل هذا غير مجد»؛ إذ لم يكن من الفرنسيين إلا أن ضحكوا منه. الحقيقة المؤلمة التي يعترف بها هي: «أنهم يطلقون عليك السيد لا شيء» (ت د 126).
وعى مكيافيللي أول هذه الدروس بشدة آخذا إياها بجدية؛ وكتاباته السياسية الناضجة حافلة بالتحذيرات من حماقة المماطلة، وخطورة الظهور بمظهر متردد، وضرورة اتخاذ إجراء جريء وسريع في الحرب وفي السياسة على حد سواء. لكنه رأى جليا أن من المستحيل قبول التأثير المترتب على ذلك، والمتمثل في ألا يكون هناك مستقبل لدول المدن الإيطالية؛ فظل يضع نظريات عن ترتيباتها العسكرية والسياسية، مفترضا أنها لا تزال قادرة بالفعل على التعافي والحفاظ على استقلالها، حتى بالرغم من أن فترة حياته شهدت خضوعها النهائي والتام لقوى أكثر تفوقا منها بكثير، وهي فرنسا وألمانيا وإسبانيا.
انتهت البعثة إلى فرنسا في ديسمبر عام 1500، وهرع مكيافيللي إلى أرض الوطن بأقصى سرعة ممكنة. كانت المنية قد وافت شقيقته بينما كان في الخارج، ووافت والده قبل سفره بوقت قصير، ونتيجة لذلك (كما اشتكى للسلطة الحاكمة) «لم يعد من الممكن على الإطلاق رعاية» شئون أسرته (ت د 184). كان يحمل أيضا مخاوف بشأن وظيفته، فقد اتصل به مساعده أجوستينو فيسبوتشي في نهاية شهر أكتوبر، ونقل له شائعة مفادها «إذا لم تعد أدراجك، فسوف تفقد مكانك في البعثة الدبلوماسية » (م 60). أيضا، بعد ذلك بوقت قصير، بات لدى مكيافيللي سبب آخر يدفعه لأن يرغب القرب من فلورنسا: وهو تودده إلى ماريتا كورسيني، التي تزوج منها في خريف عام 1501. تظل ماريتا شخصية غامضة في قصة مكيافيللي، لكن رسائله تشير إلى أنه لم يتوقف قط عن حبه لها طيلة حياته، بينما أنجبت هي له ستة أطفال، ويبدو أنها احتملت خياناته في صبر، وعمرت بعده في نهاية المطاف ربع قرن.
خلال العامين التاليين، اللذين قضى مكيافيللي أغلبهما داخل فلورنسا وبالقرب منها، باتت «السلطة الحاكمة» قلقة من صعود قوة عسكرية جديدة وتهديدية على حدودها؛ هي قوة شيزاري بورجا. كان بورجا قد نصب دوقا لرومانيا من قبل والده البابا ألكسندر السادس في أبريل من عام 1501، ولم يلبث أن أطلق سلسلة من الحملات الجريئة بهدف أن يقتطع لنفسه إقليما يليق بلقبه الجديد والرنان؛ فاستولى أولا على مدينة فاينسا، وضرب حصارا على مدينة بيومبينو، التي دخلها في شهر سبتمبر عام 1501. بعد ذلك أشعل مساعدوه نار التمرد في مدينة فال دي تشيانا ضد فلورنسا في ربيع عام 1502، في حين زحف بورجا نفسه شمالا واستولى على دوقية أوربينو في «انقلاب» خاطف كالبرق. ولما بات بورجا مزهوا بهذه النجاحات، طلب بعد ذلك أن يتحالف رسميا مع الفلورنسيين، وطلب أن يرسل إليه مبعوث خاص ليسمع شروطه، وكان الرجل الذي وقع عليه الاختيار لهذه المهمة الحساسة هو مكيافيللي، الذي كان قد التقى بورجا في أوربينو. أسندت المهمة لمكيافيللي في الخامس من أكتوبر عام 1502، وقدم نفسه للدوق بعد ذلك بيومين في مدينة إيمولا.
تعد هذه المهمة بداية أهم فترة شكلت حياة مكيافيللي المهنية الدبلوماسية، وهي الفترة التي كان قادرا فيها على لعب أكثر دور سره على الإطلاق، هو دور مراقب ومقيم مباشر للطريقة التي تدار بها شئون الحكم المعاصر. كانت هذه أيضا هي الفترة التي توصل فيها إلى أحكام قاطعة عن معظم الزعماء الذين كان بوسعه أن يراقب سياساتهم خلال مرحلة تشكلها. كثيرا ما يقال إن كتاب مكيافيللي «التمثيل الدبلوماسي» لا يحوي سوى «مواد خام» أو «مسودات تمهيدية» لآرائه السياسية التي طرحها فيما بعد، وأنه نقح ملاحظاته في وقت لاحق وهذبها خلال سنوات تقاعده الجبري. لكن كما سنرى، تكشف دراسة أجريت عن «التمثيل الدبلوماسي» أن آراء مكيافيللي - وحتى ما أثر عنه من أقوال - قد خطرت له لحظيا في أغلب الأحيان، ثم أدرجت فيما بعد، دونما تغيير، في صفحات كتاب «المطارحات» وكتاب «الأمير» خاصة.
استمرت بعثة مكيافيللي إلى بلاط بورجا نحو أربعة أشهر، أجرى خلالها العديد من المحادثات الثنائية مع الدوق، الذي كان يبدو أنه يبذل قصارى جهده كي يجلي حقيقة سياساته وما تنطوي عليه من طموحات. كان هذا محط إعجاب عظيم من جانب مكيافيللي؛ فقد ذكر أن الدوق «يتمتع بشجاعة فائقة»، فضلا عن كونه رجلا ذا خطط عظيمة، «يظن أنه قادر على بلوغ أي شيء يريده» (ت د 520)، علاوة على أن أفعاله لا تقل إدهاشا عن أقواله؛ لأنه «يراقب كل شيء بنفسه»، ويحكم «في تكتم بالغ»، ومن ثم لديه القدرة على اتخاذ القرار وتنفيذ خططه «بسرعة مبهرة» (ت د 472، 503). باختصار، أدرك مكيافيللي أن بورجا ليس مجرد قائد محدث نعمة لمجموعة من المرتزقة، وإنما شخص «لا بد أن ينظر إليه الآن باعتباره قوة جديدة في إيطاليا» (ت د 422).
وما إن وصلت هذه الملاحظات، التي كانت قد أرسلت سرا إلى «لجنة العشرة لشئون الحرب»، حتى صارت منذ ذلك الحين محل شهرة واسعة؛ لأنها تكاد تتكرر كلمة كلمة في الفصل السابع من كتاب «الأمير». فمكيافيللي إذ يستعرض سيرة بورجا، يؤكد من جديد على شجاعة الدوق الفائقة وقدراته الاستثنائية ووضوح أهدافه (33-34). وهو أيضا يعرب ثانية عن رأيه بأن بورجا ليس أقل إبهارا عندما ينفذ مخططاته؛ فقد «استخدم كل الوسائل والإجراءات الممكنة» كي «يمد جذوره»، ونجح في إرساء «أسس متينة لسلطته في المستقبل» في زمن بالغ القصر إلى حد سيجعله، ما لم يجانبه حظه، «يتمكن من التغلب على أي صعوبة» (29، 33).
لكن رغم أن مكيافيللي أبدى إعجابه بسمات بورجا القيادية، فقد شعر بشيء من عدم الارتياح منذ بادئ الأمر فيما يتعلق بثقة الدوق المذهلة بنفسه؛ ففي أكتوبر من عام 1502 كتب من إيمولا يقول: «طوال الوقت الذي أمضيته هنا، لم يكن حكم الدوق قائما على أي شيء أكثر من حظه الجيد» (ت د 386). وبحلول بداية العام التالي، كان يتحدث في استنكار متزايد عن حقيقة أن الدوق كان لا يزال مقتنعا باعتماده على ما يتمتع به من «حسن حظ غير مسبوق» (ت د 520). وبحلول أكتوبر 1503، عندما كان مكيافيللي مبعوثا في مهمة دبلوماسية إلى روما، ونال ثانية فرصة مراقبة بورجا عن كثب، تبلورت شكوكه السابقة وصارت شعورا قويا بمحدودية ما يتمتع به الدوق من قدرات.
كان الغرض الرئيسي من رحلة مكيافيللي إلى روما أن يعد تقريرا عن أزمة طارئة كانت قد ظهرت في البلاط البابوي. كان البابا ألكسندر السادس قد توفي في شهر أغسطس، وكان خليفته بيوس الثالث قد توفي هو الآخر بعد شهر من توليه منصب البابوية، وكانت الحكومة الفلورنسية حريصة على أن تتلقى نشرات يومية عما كان من المرجح أن يحدث بعد ذلك، لا سيما بعد أن حول بورجا ولاءه ووافق على أن يدعم ترشيح الكاردينال جوليانو ديلا روفيري؛ إذ بدا أن هذا التطور يمكن أن يشكل تهديدا لمصالح فلورنسا؛ لأن دعم الدوق بورجا جرى شراؤه مقابل وعد بأنه سيعين قائدا عاما للجيوش البابوية حال انتخاب روفيري، وبدا من المؤكد أن بورجا، في حال حصوله على هذا المنصب، سيبدأ سلسلة جديدة من الحملات المعادية على حدود إقليم فلورنسا.
ولهذا تركز أولى برقيات مكيافيللي على اجتماع مجمع انتخاب البابا، الذي انتخب فيه روفيري «بأغلبية هائلة» واتخذ اسم يوليوس الثاني (ت د 599). لكن ما إن انتهى هذا الأمر، حتى تحول انتباه الجميع إلى الصراع الذي بدأ يندلع بين بورجا والبابا. وبينما كان مكيافيللي يراقب محترفي النفاق هذين وهما يتأهبان للتقاتل، أدرك أن شكوكه المبدئية في قدرات الدوق كانت في محلها تماما.
فقد أحس أن بورجا كان يفتقر إلى بعد النظر؛ لأنه لم يتمكن من رؤية المخاطر التي ينطوي عليها تحوله إلى دعم روفيري . وذكر «لجنة العشرة» بأن الكاردينال روفيري كان قد أجبر على «أن يعيش في المنفى لعشر سنوات» حينما كان ألكسندر السادس، والد الدوق بورجا، يشغل منصب البابوية. وأضاف أنه من المؤكد أن روفيري «لا يمكن أن ينسى هذا الأمر بهذه السرعة» بحيث يشعر الآن باستحسان حقيقي إزاء تحالف مع ابن عدوه (ت د 599). لكن أكثر انتقادات مكيافيللي أهمية كانت تتمثل في أنه حتى في هذه الحالة الملتبسة والمحفوفة بالمخاطر، ظل بورجا يعتمد اعتمادا متعجرفا على رصيده الدائم من حسن الحظ. في البداية ذكر مكيافيللي ببساطة، في شيء من الاندهاش الواضح، أن «الدوق ينجرف وراء ثقته الهائلة» (ت د 599). وبعد مرور أسبوعين، عندما لم تكن بعثة بورجا البابوية قد وصلت بعد، وكانت مستعمراته في رومانيا قد بدأت تتمرد على نطاق واسع، كتب مكيافيللي يقول بأسلوب يحمل مزيدا من الانتقاد، إن الدوق «فقد صوابه» بفعل «ضربات القدر اللاذعة، التي لم يعتد مذاقها» (ت د 631). وبحلول نهاية الشهر، انتهى مكيافيللي إلى أن سوء حظ بورجا قد سلبه شجاعته تماما إلى حد جعله أصبح عاجزا عن أن يحتفظ بحسمه بشأن أي قرار، وفي السادس والعشرين من نوفمبر شعر مكيافيللي أن بوسعه أن يطمئن «لجنة العشرة» بقوله: «بوسعكم من الآن فصاعدا أن تتصرفوا دون حاجة للتفكير فيه بعد الآن» (ت د 683). وبعد أسبوع تعرض لأحوال بورجا للمرة الأخيرة، بمجرد الإشارة إلى «الدوق ينزلق شيئا فشيئا نحو حتفه» (ت د 709).
وكما حدث من قبل، نالت هذه الأحكام السرية على شخصية بورجا شهرة منذ ذلك الحين، من خلال إدماجها في الفصل السابع من كتاب «الأمير»، حيث يكرر مكيافيللي أن الدوق بدعمه «انتخاب يوليوس لمنصب البابوية» قد «أساء الاختيار»؛ لأنه «لم يكن ينبغي له إطلاقا أن يدع البابوية تذهب إلى أي كاردينال نال منه أذى» (34). وكان يعاود الإشارة إلى اتهامه الأساسي للدوق، وهو اعتماده إلى حد كبير على حظه، فبدلا من أن يواجه الدوق الاحتمال القائم بأنه قد يتلقى في مرحلة ما «ضربة ماكرة من ضربات القدر»، انهار بمجرد أن حدث هذا (29). ورغم الإعجاب الذي كان مكيافيللي يكنه لبورجا، كان حكمه النهائي عليه - الوارد في كتاب «الأمير» بقدر وروده في كتاب «التمثيل الدبلوماسي» - متناقضا مع هذا الإعجاب؛ إذ يقول إن بورجا: «نال منصبه بفضل حظ والده» وخسره بمجرد أن جانبه الحظ (28).
القائد المؤثر التالي الذي أتيحت لمكيافيللي فرصة أن يقيمه عن كثب هو البابا الجديد يوليوس الثاني. كان مكيافيللي حاضرا لعدة لقاءات وقت انتخاب يوليوس، لكنه لم ينل القدر الأوفى من فهم شخصية البابا وقيادته إلا خلال بعثتين لاحقتين له كانت أولاهما عام 1506، عندما عاد مكيافيللي بين شهري أغسطس وأكتوبر إلى البلاط البابوي. كانت مهمته في تلك المرحلة أن يحيط الحكومة الفلورنسية علما بالتقدم المحرز فيما وضعه يوليوس من خطة هجومية في الأغلب لاسترداد بيروجا وبولونيا، وغيرها من الأقاليم التي كانت ملكا للكنيسة من قبل. تسنت الفرصة الثانية عام 1510، عندما جرى إرسال مكيافيللي في بعثة دبلوماسية جديدة إلى بلاط فرنسا. بحلول ذلك الوقت كان يوليوس قد عقد العزم على شن حملة صليبية كبيرة لإجلاء البربر عن إيطاليا، وهو مطمح وضع الفلورنسيين في موقف حرج؛ فهم لم تكن لديهم رغبة في تكدير الحالة المزاجية للبابا التي تزداد ولعا بالقتال، لكنهم من ناحية أخرى كانوا حلفاء تقليديين للفرنسيين، الذين سرعان ما سألوا الفلورنسيين عن ماهية المساعدة التي يمكن أن ينالوها منهم إذا قرر البابا غزو دوقية ميلانو، التي كان لويس الثاني عشر قد استعادها في العام السابق. ومن ثم، كما حدث عام 1506، وجد مكيافيللي نفسه يراقب في قلق ما تحققه حملات يوليوس من تقدم، بينما يأمل ويخطط في الوقت نفسه للمحافظة على حيادية فلورنسا.
ظهر انبهار مكيافيللي - بل ذهوله أيضا - في بادئ الأمر وهو يراقب البابا المحارب في ميدان المعركة. كان يرى في البداية أن خطة يوليوس لإعادة غزو الولايات البابوية لا بد أن تفضي إلى كارثة؛ فكتب يقول في سبتمبر من عام 1506 إنه «ما من أحد يعتقد» أن البابا «سوف يتمكن من تحقيق ما كان يريده في الأصل» (ت د 996)، لكنه اضطر إلى التراجع عما قاله بين عشية وضحاها؛ فقد دخل يوليوس قبل حلول نهاية الشهر بيروجا مجددا و«فرغ من أمرها»، وقبل أن ينقضي شهر أكتوبر وجد مكيافيللي نفسه ينهي مهمته بتصريح حاسم أفاد بأن بولونيا استسلمت، على إثر حملة خاطفة، دون قيد أو شرط، وأن «سفراءها طلبوا العفو من البابا وسلموا له مدينتهم» (ت د 995، 1035).
لكن لم يمض وقت طويل حتى بدأ مكيافيللي يبدي لهجة أكثر انتقادا، لا سيما بعد أن اتخذ يوليوس القرار الخطير بأن يطلق قواته الهزيلة في مواجهة قوة فرنسا عام 1510. في بادئ الأمر، اكتفى بالتعبير ساخرا عن أمله في أن تكون جرأة يوليوس «قائمة على أساس آخر غير قداسته» (ت د 1234)، لكنه سرعان ما بات يكتب بلهجة أكثر جدية قائلا إنه «لا أحد هنا يعرف يقينا ما الأساس الذي تستند إليه تصرفات البابا»، وأردف يقول إن سفير يوليوس نفسه يصرح بأنه «في غاية الذهول» من هذه المغامرة برمتها؛ لأنه «يشك إلى حد كبير في أن يكون البابا يملك حقا الموارد أو التنظيم» اللازم للشروع فيها (ت د 1248). لم يكن مكيافيللي على استعداد بعد لأن يدين يوليوس صراحة؛ لأنه كان لا يزال يظن أنه من المعقول، «كما حدث في الحملة ضد بولونيا»، أن تعمل «جرأة البابا وسلطته الهائلتان» على تحويل اندفاعه الجنوني إلى نصر غير متوقع (ت د 1244). لكنه في الأساس بدأ يشعر بانزعاج بالغ، وصار يكرر في رثاء واضح ملاحظة لروبيرتيه مفادها أن يوليوس على ما يبدو «قد كلفه القدير بأن يدمر العالم» (ت د 1270)، وأضاف في وقار غير معتاد أن البابا بالفعل «يبدو عازما على تدمير الديانة المسيحية وإتمام انهيار إيطاليا» (ت د 1257).
هذه الإفادة عن سيرة البابا تظهر ثانية دون تغيير تقريبا في صفحات كتاب «الأمير»؛ إذ يعترف مكيافيللي أولا أنه على الرغم من أن يوليوس «كان مندفعا في جميع أموره»، إلا أنه كان «يحقق نجاحا دائما»، حتى في أكثر مغامراته استحالة. لكنه يستطرد مجادلا بأن هذا لم يكن إلا لأن «العصر وظروفه» كانا «مواتيين للغاية لطريقته الخاصة في التصرف»؛ وذلك لأنه لم يضطر قط لأن ينال ما يستحقه من عقاب على تهوره. ورغم ما حققه البابا من نجاحات مذهلة، يشعر مكيافيللي أنه محق تماما في الموقف السلبي الذي يتخذه من أسلوب حكمه. صحيح أن يوليوس «حقق باندفاعه ما لم يكن يستطيع أي بابا آخر - يتحلى بأقصى قدر من الحصافة الإنسانية - أن يحققه»، لكن «قصر حياته» فقط هو السبب فيما لدينا من انطباع بأنه كان بالضرورة قائدا عظيما من البشر؛ «فلو كانت أتت عليه أوقات يتعين عليه فيها أن يتصرف بحذر، لتسببت في سقوطه؛ لأنه لم يكن قط لينحرف كثيرا عن الأساليب التي يميل إليها بسليقته» (91-92).
في الفترة الواقعة بين بعثته إلى بلاط البابوية عام 1506 وعودته إلى فرنسا عام 1510، ذهب مكيافيللي في مهمة أخرى خارج إيطاليا، تمكن خلالها من تقييم حاكم بارز آخر عن قرب، هو ماكسيميليان، الإمبراطور الروماني المقدس. كان قرار الحكومة الفلورنسية بإرسال هذه البعثة قد نبع من قلقها بشأن خطة الإمبراطور الرامية للزحف إلى إيطاليا وتتويج نفسه حاكما لروما. فحينما أعلن نيته هذه، طلب دعما كبيرا من الفلورنسيين بهدف مساعدته في التغلب على ما يعانيه من قلة دائمة في الموارد. شعرت «السلطة الحاكمة» بالرغبة في إسداء هذا المعروف له إذا كان قادما حقا، وفي عدم فعل ذلك إذا لم يكن قادما بالفعل. فهل كان سيأتي بحق؟ في يونيو من عام 1507 جرى إيفاد فرانشيسكو فيتوري لمعرفة الجواب، لكنه أتى بتصريحات محيرة بدرجة جعلت الحكومة ترسل وراءه مكيافيللي بتعليمات إضافية بعد ستة أشهر. ظل كلا الرجلين في البلاط الإمبراطوري حتى يونيو من العام التالي، حينما جرى إلغاء هذه البعثة المقترحة.
كانت ملاحظات مكيافيللي بشأن كبير أسرة هابسبورج الحاكمة تخلو من الفوراق أو المؤهلات المميزة التي تضمنها وصفه لشيزاري بورجا ويوليوس الثاني. إجمالا، ترك الإمبراطور لدى مكيافيللي انطباعا بأنه حاكم أخرق تماما، يكاد لا يتمتع بأي من المؤهلات المناسبة لإدارة حكومة ناجحة، ورأى مكيافيللي أن نقيصته الأساسية تتمثل في نزوعه إلى أن يكون «متراخيا وساذجا إلى أقصى حد»، الأمر الذي جعله «قابلا دائما لأن يتأثر بكل رأي مختلف» يطرح عليه (ت د 1098-1099)، وهذا يجعل إجراء المفاوضات أمرا مستحيلا؛ لأنه حتى عندما يبدأ في اتخاذ قرار في أمر ما - مثل الحملة إلى إيطاليا - يظل بمقدور المرء أن يقول إن «الرب وحده يعلم إلام سينتهي» (ت د 1139). علاوة على أن هذا يعمل على إضعاف قيادته على نحو يتعذر علاجه؛ لأنه يجعل الجميع في «حيرة لا تنقطع»، و«دون أن يعرف أحد مطلقا ما سيفعله» (ت د 1106).
وتصوير مكيافيللي للإمبراطور في كتاب «الأمير» يعكس إلى حد كبير هذه الأحكام السابقة؛ فالإمبراطور ماكسيميليان محل نقاش في الفصل الثالث والعشرين، الذي كان موضوعه يدور حول حاجة الأمراء للإصغاء إلى النصائح الجيدة. يتناول مكيافيللي سلوك الإمبراطور باعتباره قصة تحذيرية عن مخاطر عدم التعامل مع المستشارين بحزم كاف. يوصف ماكسيميليان بأنه «لين العريكة» جدا إلى حد أنه إذا حدث و«أصبحت خططه معروفة على الملأ» ثم «رفضت من جانب المحيطين به»، فإن هذا الرفض يثنيه عن عزمه تماما إلى حد أنه «يتراجع عن هذه الخطط» على الفور، وهذا لا يؤدي فقط إلى إصابة المرء بالإحباط من التعامل معه، نظرا لأنه «لا أحد يدري على الإطلاق ما يرغب أو ينوي فعله»، بل إن هذا الأمر يجعله أيضا حاكما غير كفء؛ لأنه «من المستحيل الاعتماد» على أي قرارات يتخذها، ولأن «ما يفعله في يوم يدمره في اليوم التالي» (87).
دروس الدبلوماسية
بحلول الوقت الذي انتهى فيه مكيافيللي إلى تسجيل أحكامه النهائية على الحكام ورجال الدولة الذين قابلهم، كان قد توصل إلى استنتاج مفاده أنهم جميعا أساءوا فهم درس واحد بسيط لكنه أساسي، الأمر الذي أسفر عن فشلهم عموما في خططهم، أو نجاحهم بخلاف ذلك بفضل الحظ وليس الحكم السياسي الرشيد. كانت النقيصة الأساسية التي شابتهم جميعا تتمثل في افتقار مهلك إلى المرونة في مواجهة الظروف المتغيرة؛ فقد كان شيزاري بورجا في كل الأوقات مفرطا في الزهو بثقته في نفسه، وكان ماكسيميليان دائما حذرا ومفرط التردد، وكان يوليوس الثاني دائما متهورا ومفرط الحماس. إن ما لم يشاءوا جميعا أن يعترفوا به هو أنه كان بإمكانهم تحقيق نجاحات أكثر بكثير لو أنهم عملوا على تعديل شخصياتهم بما يتواءم مع مقتضيات العصر، بدلا من أن يحاولوا إعادة تشكيل عصورهم في القالب الذي يلائم شخصياتهم.
في نهاية المطاف وضع مكيافيللي هذا الحكم محورا لتحليله عن القيادة السياسية في كتاب «الأمير»، لكنه كان قد سجل هذا الرأي لأول مرة قبل ذلك بكثير، إبان عمله كدبلوماسي نشط. يضاف إلى ذلك أنه يتضح من كتابه «التمثيل الدبلوماسي» أن هذا التعميم طرأ بباله في البداية ليس نتيجة تأملاته الخاصة بقدر ما هو نتيجة استماعه إلى وجهات نظر اثنين من أبرع السياسيين الذين احتك بهم، ثم تفكر فيها لاحقا. فأول ما تبين له هذا الأمر كان في يوم انتخاب يوليوس الثاني لمنصب الكرسي البابوي؛ إذ وجد مكيافيللي نفسه منساقا في حوار مع فرانشيسكو سوديريني، كاردينال مدينة فولتيرا وشقيق بييرو سوديريني، زعيم حكومة فلورنسا. فأكد له الكاردينال أنه «لم يحدث منذ سنوات عديدة أن علقت مدينتنا كل هذا القدر من الآمال على أي بابا جديد، بقدر ما علقت آمالا على البابا الحالي.» وأضاف قائلا: «ليت المرء يتعلم كيف يتكيف مع العصر» (ت د 593). بعد ذلك بعامين، واجه مكيافيللي نفس الرأي أثناء التفاوض مع باندولفو بيتروتشي، سيد مدينة سيينا، الذي سيذكره فيما بعد بإعجاب في كتاب «الأمير» على اعتبار أنه «رجل بارع جدا» (85). كان مكيافيللي قد فوض من «السلطة الحاكمة» الفلورنسية بأن يستنطق باندولفو عن أسباب «كل الحيل والمكائد» التي انطوت عليها تعاملاته مع فلورنسا (ت د 911)، فرد باندولفو في وقاحة يبدو أنها أبهرت مكيافيللي كثيرا؛ حيث قال: «لأنني أرغب في أن أقلل أخطائي قدر الإمكان، أدير أمور حكومتي يوما بيوم، وأرتب شئوني ساعة بساعة؛ لأن الزمن أشد قوة من عقولنا» (ت د 912).
رغم أن تصريحات مكيافيللي عن حكام عصره يغلب عليها حدة النقد، سيكون من قبيل التضليل أن نستنتج أنه اعتبر أن كامل ما سجله عن إدارة شئون الدولة في زمنه لم يتجاوز كونه سردا لتاريخ جرائم وحماقات ومحن؛ فهو في عدة مناسبات من حياته الدبلوماسية كان قادرا على أن يراقب كيفية مواجهة مشكلة سياسية ما وحلها بطريقة لا تستدعي إعجابه المطلق فحسب، بل تؤثر أيضا تأثيرا واضحا على نظرياته عن القيادة السياسية. وقد وقعت إحدى هذه المناسبات عام 1503، أثناء صراع الذكاء الممتد الذي دار بين شيزاري بورجا والبابا؛ فقد خلب لب مكيافيللي وهو يرى كيف يتغلب يوليوس على المأزق الذي أحدثه حضور الدوق في البلاط البابوي. وكما ذكر «لجنة العشرة» فإن «الكراهية التي طالما حملها قداسته دائما» لبورجا «لا تخفى على أحد»، لكن هذا لا يكاد يغير حقيقة أن بورجا كان «عونا له أكثر من أي شخص آخر» في ضمان انتخابه، الأمر الذي جعل البابا يقطع «للدوق عددا هائلا من الوعود» (ت د 599). بدت المشكلة مستعصية على الحل؛ إذ كيف كان يمكن ليوليوس أن يأمل في نيل أي قدر من حرية التصرف من دون أن يحنث بوعده المقدس؟
لكن كما اكتشف مكيافيللي سريعا، كان الرد على هذا السؤال على مرحلتين بسيطتين استهدفتا كسر شوكة الدوق؛ فقد كان يوليوس قبل ترقيته حريصا على أن يؤكد أن «كونه رجلا على قدر عظيم من حسن النية» يجعله ملزما تمام الالتزام بأن «يظل على صلة» ببورجا «من أجل أن يفي بوعده له» (ت د 613، 621). لكنه بمجرد أن أحس بالأمان، أخلف على الفور كل ما قدمه له من وعود، فلم يكتف بحرمان الدوق من لقبه وقواته، بل أيضا ألقى القبض عليه وسجنه في القصر البابوي؛ وهذا جعل مكيافيللي يكاد لا يقدر على أن يكتم دهشته بهذا الانقلاب وإعجابه به في ذات الوقت، فهو يقول متعجبا: «انظروا الآن كيف يشرع هذا البابا في سداد ديونه بأمانة، إنه ببساطة يلغيها من خلال شطبها.» ويضيف لافتا النظر لدلالة الأمر أنه ما من شخص يرى أن البابوية أهينت ولحق بها العار، بل على العكس، «لا يزال الجميع يحمل نفس القدر من الحماس» لأن يدعو «بوركت يدا البابا» (ت د 683).
عند وقوع هذا الحدث شعر مكيافيللي بأن بورجا خيب ظنه إذ سمح لنفسه بأن ينخدع على هذا النحو المدمر، فعبر عن ذلك بقوله إن الدوق كان يتعين عليه ألا يفترض أن بإمكانه «أن يعول على كلام أي شخص آخر أكثر من كلامه هو» (ت د 600). ومع ذلك، كان بورجا دون شك هو أكثر حاكم أحس مكيافيللي أنه يتعلم من مراقبته له وهو يعمل، وحدث في مناسبتين أخريين أن حظي مكيافيللي بفرصة مراقبته وهو يواجه أزمة خطيرة، ويتغلب عليها في قوة وثبات أكسباه كامل احترام مكيافيللي.
أولى هاتين المناسبتين الطارئتين حدثت في ديسمبر عام 1502، عندما تفجر غضب أفراد شعب رومانيا فجأة إزاء الأساليب القمعية التي استخدمها نائب بورجا، ريميرو دي أوركو، في تهدئة الأوضاع في الإقليم في العام السابق. والحقيقة أن ريميرو لم يفعل ذلك إلا تنفيذا لأوامر الدوق، ونجح فيه نجاحا لافتا للانتباه، ورفع المنطقة برمتها من الفوضى إلى الحكم الرشيد، لكن قسوته أثارت قدرا عظيما من الكراهية عرض استمرار استقرار الإقليم للخطر. ماذا فعل بورجا؟ أظهر الحل الذي استخدمه قدرة عجيبة على التحرك السريع، وهي سمة عكسها مكيافيللي فيما رواه عن هذا الحدث. جرى استدعاء ريميرو إلى «إيمولا»، وبعد أربعة أيام «عثر عليه في الساحة العمومية، مقطوعا إلى نصفين، حيث لا تزال جثته ملقاة، على نحو أتاح للعامة برمتهم أن يروها.» أضاف مكيافيللي قائلا: «لقد كان من دواعي سرور الدوق أن يظهر أنه يستطيع صنع الرجال وتحطيمهم كيفما يشاء، وفقا لما يستحقونه» (ت د 503).
النقطة الأخرى التي أثار بها بورجا إعجاب وذهول مكيافيللي كانت تتعلق بالتعامل مع الأزمات العسكرية التي طرأت في رومانيا في نفس الوقت تقريبا. في بادئ الأمر كان الدوق مضطرا للاعتماد على لوردات المنطقة غير ذوي الشأن باعتبارهم الدعم العسكري الرئيسي له، لكن في صيف عام 1502 بات واضحا أن قادتهم - لا سيما من عائلتي أورسيني وفيتللي - لم يكونوا فقط غير جديرين بالثقة، بل كانوا أيضا يتآمرون ضده . فماذا ينبغي له أن يفعل؟ كانت أولى تحركاته أن تخلص منهم ببساطة عن طريق التظاهر بالتصالح معهم، حيث استدعاهم للقائه في مدينة سينيجاليا، ثم أجهز عليهم «جملة واحدة». وللمرة الأولى والأخيرة فقد مكيافيللي رباطة جأشه المتعمدة وهو يصف هذه المناورة، ويعترف بأنه «مندهش أشد الاندهاش من هذا التطور» (ت د 508). بعد ذلك، قرر بورجا أنه يجب ألا يستفيد في المستقبل أبدا من حلفاء خونة كهؤلاء، وإنما يجب عليه أن يؤسس قواته الخاصة. يبدو أن هذه السياسة - التي لم يكد أحد يسمع بها في هذا الوقت الذي كان جميع أمراء إيطاليا تقريبا يستخدمون فيه مرتزقة مأجورين في حروبهم - بدت لمكيافيللي على الفور باعتبارها خطوة استثنائية تتسم ببعد النظر؛ فهو يروي في استحسان واضح أن الدوق لم يقرر فقط أن يكون «أحد الأسس التي يبني عليها قوته هي أسلحته الخاصة» من الآن فصاعدا، لكنه بدأ أيضا عملية التجنيد بأعداد مذهلة، عندما «استعرض حالة خمسمائة جندي مسلح تسليحا جيدا، فضلا عن خمسمائة فارس خفيف التسليح» (ت د 419). ثم أوضح مكيافيللي بلهجة تحذيرية أنه «حريص على كتابة هذا كله أشد الحرص»؛ لأنه بات يعتقد أن «أي شخص مسلح تسليحا جيدا، وله جنوده، سيجد نفسه الرابح دائما، أيا كان الاتجاه الذي قد تتخذه الأحداث» (ت د 455).
بحلول عام 1510، بعد عقد من البعثات إلى الخارج، كان مكيافيللي قد توصل لرأيه النهائي بشأن معظم رجال الدولة الذين التقاهم، لكن ظل يوليوس الثاني وحده محيرا إلى حد ما بالنسبة له. فمن ناحية، كان إعلان البابا الحرب على فرنسا عام 1510 يكاد يبدو لمكيافيللي استهتارا جنونيا؛ فالأمر لم يكن يتطلب سعة خيال كي يرى أي امرئ أن «حالة العداء بين هاتين القوتين» قد تكون «أفظع البلايا التي يمكن أن تحدث» من وجهة نظر فلورنسا (ت د 1273). من ناحية أخرى، لم يكن يسعه ألا يأمل في أن يثبت يوليوس، باندفاعه الهائل، أنه المنقذ لإيطاليا وليس نكبتها المنتظرة. وفي نهاية الحملة ضد بولونيا، سمح مكيافيللي لنفسه بالتساؤل عما إذا كان البابا قد لا «يتمادى إلى ما هو أعظم من ذلك»، بحيث تجد «إيطاليا أنها قد أفلتت هذه المرة حقا من أيدي أولئك الذين خططوا لابتلاعها» (ت د 1028). بعد مرور أربع سنوات، ورغم ما شهدته الأزمة الدولية من تفاقم، كان مكيافيللي لا يزال يحاول درء مخاوفه المتزايدة من فكرة أن البابا، «كما حدث في حالة بولونيا»، قد «يجر الجميع نحو الهلاك إليه» (ت د 1244).
ولخيبة أمل مكيافيللي وفلورنسا، تمخضت مخاوفه عن تنبؤات أفضل من آماله؛ فبعد أن أنهك يوليوس في معارك عام 1511، تمثل رد فعله في إبرام تحالف غير وجه إيطاليا؛ ففي الرابع من أكتوبر عام 1511 وقع على «الحلف المقدس» مع فرديناند ملك إسبانيا، وكسب بذلك تأييد الجيش الإسباني في الحرب الصليبية ضد فرنسا. وما إن بدأت الحملات الجديدة عام 1512 حتى زحف عدد مهول من المشاة الإسبان إلى إيطاليا. في بادئ الأمر نجحوا في صد الزحف الفرنسي، وإجبار الفرنسيين على الانسحاب من رافينا وبارما وبولونيا وميلانو، والتراجع في نهاية المطاف إلى ما وراء ميلانو. ثم تحولوا نحو فلورنسا. لم تكن المدينة قد جرؤت على تحدي الفرنسيين، الأمر الذي جعلها لا تعرب عن تأييدها للبابا؛ فوجدت نفسها تدفع ثمن خطئها هذا غاليا؛ ففي التاسع والعشرين من أغسطس نهب الإسبان بلدة براتو المجاورة، وبعد ثلاثة أيام استسلم الفلورنسيون، وهرب «الجونفالونيري» سوديريني إلى المنفى، ودخلت عائلة مديتشي المدينة ثانية بعد غياب دام ثمانية عشر عاما، ثم حلت الجمهورية بعد بضعة أسابيع.
أفل نجم مكيافيللي مثلما أفل نجم النظام الجمهوري؛ ففي السابع من نوفمبر أقيل رسميا من منصبه في الهيئة الاستشارية الدبلوماسية، وبعد ثلاثة أيام حكم عليه بالحبس داخل الأراضي الفلورنسية لمدة عام، وكانت الكفالة مبلغا ضخما قوامه ألف فلورين. ثم في فبراير عام 1513، تلقى أسوأ ضربات القدر على الإطلاق؛ إذ اشتبه فيه بطريق الخطأ أنه شارك في مؤامرة فاشلة ضد حكومة مديتشي الجديدة، وبعد أن تعرض للتعذيب حكم عليه بالسجن ودفع غرامة ضخمة، وقد عبر عن ذلك حين اشتكى لاحقا إلى عائلة مديتشي في إهداء كتاب «الأمير»، قائلا إن «خبث القدر الهائل والمعهود» أطاح به بلا رحمة وعلى حين غرة (11).
الفصل الثاني
مستشار الأمراء
الحالة الفلورنسية
في وقت مبكر من عام 1513 سجلت عائلة مديتشي أروع انتصاراتها على الإطلاق. ففي الثاني والعشرين من شهر فبراير توجه الكاردينال جوفاني دي مديتشي إلى روما بعد علمه بوفاة يوليوس الثاني، وفي الحادي عشر من مارس خرج من اجتماع الكرادلة السري وهو في منصب البابا ليو العاشر. من ناحية، كان هذا يمثل ضربة أخرى لآمال مكيافيللي؛ لأنه أكسب النظام الجديد في فلورنسا شعبية غير مسبوقة؛ فجوفاني كان أول فلورنسي ينال منصب البابا، ووفقا لما رواه لوكا لاندوتشي - كاتب اليوميات الذي عاش في ذلك الزمن - ظلت المدينة تحتفل بإضرام النيران في الهواء الطلق وإطلاق المدافع طوال أسبوع تقريبا. لكن من ناحية أخرى، كان هذا التطور ضربة حظ جيد غير متوقعة لمكيافيللي؛ لأنه دفع الحكومة إلى إعلان عفو عام باعتبار ذلك جزءا من حالة الابتهاج العام، وأطلق سراح مكيافيللي.
وما إن خرج مكيافيللي من السجن حتى بدأ يخطط لكيفية تزكية نفسه للسلطات الجديدة في المدينة. كان زميله السابق فرانشيسكو فيتوري، قد عين سفيرا إلى روما، فكتب له مكيافيللي مرارا يحثه على أن يستخدم نفوذه «بحيث أبدأ في تولي بعض المهام من قداسة البابا» (م 244)، لكن سرعان ما اتضح أن فيتوري كان غير قادر على مساعدته، أو ربما غير راغب في ذلك. ولما ألم بمكيافيللي إحباط كبير، انسحب إلى مزرعته الصغيرة في «سانت أندريا» كي يكون (كما كتب إلى فيتوري) «بعيدا عن وجوه كل البشر» (م 516). ومن هناك بدأ لأول مرة يتأمل المشهد السياسي باعتباره محللا أكثر منه مشاركا فيه. في بادئ الأمر بعث برسائل طويلة وقوية الحجة إلى فيتوري عن الآثار المترتبة على استمرار التدخلات الفرنسية والإسبانية في إيطاليا، وبعد ذلك - كما أوضح في رسالة له بتاريخ العاشر من ديسمبر - بدأ يشغل فراغه القسري بأن يتفكر على نحو أكثر منهجية في خبرته الدبلوماسية ودروس التاريخ، ومن ثم في قواعد شئون الحكم.
شكل 2-1: صفحة العنوان لواحدة من الطبعات الفينيسية الأولى لكتاب «الأمير».
ويشكو مكيافيللي في سياق الرسالة نفسها من أنه قد انحدر به الحال وصار يعيش في «بيت متواضع وعلى إرث هزيل»، لكنه يجعل حياته محتملة بأن ينكفئ على دراسته كل مساء، ويقرأ عن التاريخ الكلاسيكي، ويدخل «البلاط القديم لقدامى الملوك» من أجل «الحديث معهم والاستفسار منهم عن أسباب تصرفاتهم». وكان أيضا يتأمل الخبرات التي اكتسبها «طوال خمسة عشر عاما» بينما كان «منخرطا في دراسة قواعد شئون الحكم». وثمرة ذلك، كما يقول، أنه ألف كتابا صغيرا عن «الإمارة»، يتعمق فيه «بأقصى قدر ممكن في مناقشات حول هذا الموضوع». كان هذا «الكتاب الصغير» هو رائعة مكيافيللي؛ «الأمير»، الذي كان يكتب - كما تشير هذه الرسالة - خلال النصف الثاني من عام 1513، وأتم بحلول «عيد الميلاد» من ذلك العام (م 303-305).
كان منتهى آمال مكيافيللي، حسبما أفضى إلى فيتوري، أن تعمل أطروحته هذه على أن تجذب إليه انتباه «حكامنا لوردات مديتشي» (م 305). أحد أسباب اهتمامه بجذب الانتباه إليه بهذه الطريقة - كما يوضح إهداء كتاب «الأمير» - كان رغبته في أن يقدم لعائلة مديتشي «أمارة ما على ولائي» بوصفه واحدا من رعاياهم المخلصين (3)، لكن قلقه إزاء هذا الهدف أضعف على ما يبدو ما عرف عنه من موضوعية معاييره في النقاش؛ وذلك لأنه في الفصل العشرين من كتاب «الأمير» يقرر بتأثر كبير أن الحكام الجدد يمكن أن يتوقعوا اكتشاف «أن الرجال الذين كانوا يعتبرونهم محل ارتياب في المراحل الأولى من حكمهم، أكثر جدارة بالثقة ونفعا من أولئك الذين كانوا موضع ثقتهم في البداية» (74). ونظرا لأن هذا الزعم قد وجد ما يناقضه تماما لاحقا في كتاب «المطارحات» (236)، فإنه من الصعب ألا يحس المرء بأن شيئا من التوسل الشخصي كان يداخل تحليل مكيافيللي في هذه المرحلة، خاصة وهو يكرر في قلق أنه «يجب ألا أغفل عن تذكير أي حاكم» بأن الرجال الذين كانوا «مرضيا عنهم في ظل النظام السابق» سوف يتبين دائما أنهم «أكثر نفعا» من أي شخص آخر (74-75).
لكن الهم الرئيسي لمكيافيللي كان بطبيعة الحال يتمثل في التوضيح لعائلة مديتشي أنه رجل جدير بالتعيين، لكونه خبيرا سيكون من الحمق تجاهله. فهو يصر في «إهدائه» على أنه من أجل «الفهم الصحيح لشخصية ولي الأمر»، من الضروري أن يكون المرء «رجلا من الشعب» (4). ويضيف بثقته المعتادة أن أفكاره من المرجح أن تكون ذات قيمة استثنائية، لسببين؛ فيشدد على ما له من «خبرة طويلة في الشئون المعاصرة» اكتسبها على مر «سنوات عديدة» و«بقدر كبير من الصعوبة والخطورة»، ويشير في فخر إلى البراعة النظرية في قواعد شئون الحكم التي اكتسبها في نفس الوقت من خلال «الدراسة المتواصلة للتاريخ القديم»، باعتباره مصدرا لا غنى عنه للحكمة، ظل يتفكر فيه مليا «بقدر كبير من العناية» (3).
إذن، ما الذي يظن مكيافيللي أنه يستطيع تعليمه للأمراء بوجه عام، وحكام عائلة مديتشي على وجه الخصوص، بناء على قراءاته وخبرته؟ يشعر أي شخص عند بدء قراءته لكتاب «الأمير» بأن مكيافيللي على ما يبدو ليس لديه الكثير ليقدمه أكثر من مجرد إجراء تحليل جاف مبالغ في تخطيطه لأنواع الإمارات ووسيلة «الاستحواذ عليها والاحتفاظ بها» (42). فهو يبدأ في الفصل الافتتاحي بدراسة فكرة «الأرض المملوكة» على نحو مستقل، مقررا أن كل الأراضي المملوكة «إما جمهوريات وإما إمارات»، ثم يستبعد مباشرة النوع الأول، مشيرا إلى أنه سيحذف في هذه المرحلة أي مناقشة عن الجمهوريات، وسيركز اهتمامه على الإمارات فحسب، بعد ذلك يقدم ملاحظة عادية مفادها أن جميع الإمارات إما موروثة وإما جديدة. وتارة أخرى يستبعد النوع الأول، بحجة أن الحكام الذين ورثوا الحكم يواجهون صعوبات أقل، ومن ثم هم أقل حاجة إلى نصحه. ثم يركز على الإمارات الجديدة، فيمضي ليميز بين تلك «الجديدة تماما» وتلك التي «مثل أطراف يضمها الحاكم إلى جسد الولاية التي ورثها» (5-6). في هذه المرحلة، لا يولي كثيرا من الاهتمام للنوع الأخير، وبعد ثلاثة فصول تتناول «الإمارات المختلطة» ينتقل في الفصل السادس إلى موضوع يبدو واضحا أنه آخذ بمجامع تفكيره أكثر من كل ما سواه، هو موضوع «الإمارات الجديدة تماما» (19). عند هذه المرحلة يجري تقسيما آخر لمادة كتابه، وفي الوقت نفسه يقدم ما يمكن أن يكون أهم طباق في مجمل نظريته السياسية، وهو الطباق الذي يشكل محور كتاب «الأمير»؛ إذ يعلن أن الإمارات الجديدة إما أن يستحوذ عليها المرء ويحتفظ بها «بفضل قوته وشمائله»، أو من خلال «قوة أشخاص آخرين وحظوظهم» (19، 22).
وإزاء هذا التفرع الثنائي الأخير، يبدو مكيافيللي ثانية أقل اهتماما بالاحتمال الأول؛ فهو يقول بأن أولئك الذين ارتقوا السلطة من خلال «قوتهم» لا من خلال «الحظ» كانوا القادة «الأبرز»، ويسوق عليهم أمثلة من نوع «موسى وسايروس ورومولوس وثيزيوس ومن على شاكلتهم»، لكنه يعجز عن إيجاد أي أمثلة إيطالية معاصرة (ربما يستثنى من ذلك فرانشيسكو سفورتسا)، وخلاصة نقاشه أن هذه «القوة» الظاهرة هذه يكاد يستحيل وجودها في خضم ما يعج به العالم الحديث من فساد (20)؛ لذا فإنه يركز على حالة الإمارات المستحوذ عليها من خلال «الحظ» وبعون قوات أجنبية. هنا يجد - في المقابل - أن إيطاليا المعاصرة حافلة بالأمثلة الدالة، التي يأتي في صدارتها مثال شيزاري بورجا، الذي «اكتسب منصبه من خلال حظ والده»، والذي تستحق مسيرته «أن تتخذ كنموذج يحتذى به» لجميع أولئك «الذين ارتقوا السلطة من خلال «الحظ»، ومن خلال نفوذ أشخاص آخرين» (28).
بهذا التصريح تنتهي كل التقسيمات العامة والفرعية التي أجراها مكيافيللي، ونصل إلى أكثر نوع من أنواع الإمارات ركز مكيافيللي عليه. في هذه المرحلة يصبح من الواضح أيضا أنه رغم ما أظهره من حرص على أن يقدم حجته في شكل تسلسلي من أنماط محايدة، كان قد نظم بدهاء النقاش على نحو يسلط الضوء على نوع معين من الحالات، وذلك لما لها من أهمية محلية وشخصية. تلك هي الحالة التي تكون فيها الحاجة إلى مشورة خبير ضرورية على نحو استثنائي، ويكون الحاكم قد ارتقى السلطة من خلال «الحظ» وقوات أجنبية. لم يكن أي قارئ معاصر لكتاب «الأمير» ليخفق في إدراك أنه في المرحلة التي طرح فيها مكيافيللي هذا التصريح، كانت عائلة مديتشي قد استردت للتو سيادتها السابقة في فلورنسا نتيجة لضربة حظ مدهشة، إلى جانب القوة العارمة الأجنبية لقوات فرديناند ملك إسبانيا. لكن هذا بالطبع لا يعني أن حجة مكيافيللي يمكن دحضها بذريعة أنها لا تستند إلى أكثر من مجرد ارتباطها المحدود بالأحداث. ومع ذلك، يبدو فعلا أنه أراد لقرائه الأوائل أن يركزوا اهتمامهم على زمان ومكان محددين؛ المكان هو فلورنسا، أما الزمان فهو الفترة التي كان يجري خلالها تأليف كتاب «الأمير».
التراث الكلاسيكي
عندما أحس مكيافيللي ومعاصروه أنهم - كما حدث عام 1512 - مدفوعون إلى التفكر فيما يحدثه «الحظ» من تأثير هائل في الشئون الإنسانية، تحولوا بوجه عام إلى المؤرخين والفلاسفة الأخلاقيين الرومان كي يتزودوا بتحليل موثوق لشخصية إلهة الحظ. كان هؤلاء الكتاب قد رأوا أن الحاكم إذا كان يدين بمنصبه لتدخل إلهة «الحظ»، فإن أول درس يجب أن يتعلمه هو أن يخشاها، حتى عندما تغدق عليه الهبات. كان ليفيوس قد أورد شهادة مؤثرة للغاية عن هذا التصريح في «الكتاب الثلاثين» من سرده لتاريخ روما، في سياق وصفه اللحظة الدراماتيكية التي استسلم فيها حنبعل أخيرا لسكيبيو الشاب. يستهل حنبعل خطاب استسلامه بأن يشير في إعجاب إلى أن غريمه المنتصر «رجل لم يخنه الحظ قط» حتى تلك اللحظة، لكن هذا لا يدفعه إلا لتوجيه تحذير خطير بشأن مكان «الحظ» في الشئون الإنسانية؛ فالأمر لا ينتهي عند فكرة أن «قدرة الحظ هائلة»، بل يصل إلى أن «أعظم قدر من حسن الحظ هو دائما الأقل جدارة بالثقة.» فإذا اعتمدنا على «الحظ» لكي يرفع شأننا، فإننا معرضون للسقوط «على نحو مروع» عندما يتحول الحظ ويعاندنا، وهو ما سوف يفعله يقينا في نهاية المطاف (30 : 30، 12-23).
ومع ذلك، لم يحدث قط أن اعتبر الفلاسفة الأخلاقيون من الرومان «الحظ» قوة خبيثة لا محالة، على العكس من ذلك، كانوا يرون إلهة الحظ خيرة وحليفة محتملة يجدر محاولة جذب اهتمامها، والسبب في أهمية السعي لنيل صداقتها هو بالطبع أنها تمنح هبات «الحظ»، التي يفترض أنها أمنية كل الناس. وهذه الهبات يتنوع وصفها؛ فالكاتب سينيكا يؤكد على شرف المنزلة والثروات، وسالوست يفضل أن يذكر المجد والسلطة. لكن كان هناك اتفاق عام على أن أعظم هبات «الحظ» جمعاء، تتمثل في شرف المنزلة وما يستتبعه من مجد. ويشدد شيشرون مرارا في كتابه «الواجبات» على أن أعظم هبة ينالها المرء هي «بلوغ المجد»، و«زيادة شرف المرء ومجده»، واكتساب «أصدق مجد» يمكن الفوز به (2 : 9، 31 و2 : 12، 42 و2 : 14، 48).
كيف، إذن، يمكن أن نقنع إلهة «الحظ» بأن تحول ناظرها إلينا، وأن تغدق الهبات من أنعمها الوافرة علينا لا على سوانا؟ والجواب هو: صحيح أن «الحظ» إلهة، لكنها ما زالت امرأة، ونظرا لكونها امرأة، فإن أشد ما يجذبها هو «الذكر»، الرجل الذي يتمتع بالرجولة الحقيقية؛ لذا فإن إحدى الصفات التي تحب أن تكافئها على نحو خاص هي الشجاعة الرجولية. على سبيل المثال، يستشهد ليفيوس عدة مرات بقول مأثور مفاده أن «الحظ يفضل الشجعان»، لكن أكثر الصفات نيلا لإعجابها على الإطلاق هي «القوة»، صفة الرجل الحق. والفكرة الكامنة خلف هذا الاعتقاد ظاهرة في أوضح صورها في كتاب شيشرون «مناظرات توسكولوم»، التي يقرر فيها أن المعيار الذي يجعل الرجل رجلا بحق، هو التمتع بأعلى درجات «القوة». وتستكشف تبعات هذه الحجة على نحو واسع في كتب «تاريخ» ليفيوس، حيث دائما ما تعزى النجاحات التي أحرزها الرومان إلى حقيقة أن «الحظ» حتما يصاحب «القوة»، بل يقوم على خدمتها أيضا، ويبتسم بوجه عام لأولئك الذين يظهرونها.
ومع انتصار المسيحية، أطيح بهذا التحليل الكلاسيكي لمسألة «الحظ» كليا؛ فالرؤية المسيحية التي أوردها بوثيوس في أكثر صورها إقناعا في كتابه «عزاء الفلسفة»، قائمة على إنكار الافتراض الرئيسي بأن «الحظ» عرضة لأن يتأثر، وبذلك صارت إلهة الحظ تصور على أنها «قوة عمياء»، وبالتالي لا تحمل أي قدر من التعقل أو التمييز عند إغداق هباتها، وما عاد ينظر إليها باعتبارها صديقا محتملا، بل باعتبارها مجرد قوة لا ترحم، وما عاد يرمز إليها بقرن الخصب، وإنما بعجلة التغيير التي تدور بلا توقف «مثل انحسار الجزر وتدفق المد» (177-179).
هذه النظرة الجديدة إلى طبيعة «الحظ» اتفقت مع دلالة جديدة لأهميته؛ إذ بات يقال إن ما يميز الحظ من طيش وعدم اعتبار لجدارة المرء عند توزيع مكافآته، يذكرنا بأن هبات «الحظ» غير جديرة على الإطلاق بأن نسعى إليها؛ لأن الرغبة في الشرف والمجد الدنيوي - على حد وصف بوثيوس - «لا تساوي شيئا على الإطلاق في واقع الحال» (221)، ومن ثم فإن الحظ يعمل على توجيه خطانا بعيدا عن دروب المجد، وهذا يشجعنا على التطلع إلى ما هو خارج سجننا الأرضي بحثا عن وطننا السماوي. لكن هذا يعني أن «الحظ»، على الرغم من طغيانه النزواتي، فإنه في حقيقة الأمر «خادم الرب»، أو أداة من أدوات العناية الإلهية؛ وذلك لأن جزءا من تدبير الرب أن يظهر لنا أن «السعادة لا يمكن أن تقوم على الأشياء التصادفية لهذه الحياة الفانية»، وبهذا يجعلنا «نحتقر جميع الشئون الدنيوية، ونبتهج بفرحة السماء كي نتحرر من الأمور الدنيوية» (197، 221). ولهذا السبب تحديدا، يستنتج بوثيوس أن الرب قد وضع مقاليد السيطرة على ثروات العالم في يدي الحظ العاجزتين، وهدفه أن يعلمنا أن «الكفاءة لا يمكن بلوغها من خلال الثروة، وأن القوة لا يمكن نيلها من خلال الملك، وأن الاحترام لا يمكن اكتسابه من خلال المنصب، وأن الشهرة لا يمكن تحقيقها من خلال المجد» (263).
أحدث التصالح الذي أجراه بوثيوس بين الحظ والعناية الإلهية تأثيرا طويل الأمد على الأدب الإيطالي؛ فهو يشكل أساسا لمناقشة دانتي لموضوع «الحظ» في المقطع السابع من «الجحيم»، ويشكل موضوع بحث «علاج كلا النوعين من الحظ» للشاعر الإيطالي بترارك. لكن، مع استعادة القيم الكلاسيكية إبان عصر النهضة، صار هذا التحليل لمفهوم «الحظ» بوصفه «خادم الرب» محل اعتراض؛ نتيجة للعودة إلى الرؤية الأقدم التي تذهب إلى وجوب التمييز بين «الحظ» والقدر.
هذا التطور نشأ من تغير النظرة إلى طبيعة «تميز وكرامة» الإنسان، وهما سمتان لهما خصوصيتهما. عادة ما كان يعتقد أن هذا ناجم عن امتلاكه روحا خالدة، لكن في أعمال من خلفوا بترارك نلاحظ ميلا متناميا نحو تغيير بؤرة الاهتمام، بحيث يسلط الضوء على حرية الإرادة، لكن كان هناك شعور بأن حرية الإنسان مهددة بسبب النظر إلى «الحظ» بوصفه قوة لا تقهر. وهكذا نجد ميلا مقابلا نحو نبذ أي اقتراح بأن «الحظ» محض أداة من أدوات العناية الإلهية. ويشكل الفيلسوف بيكو ديلا ميراندولا مثالا صارخا على ذلك في هجومه على علم التنجيم المزعوم، فيندد بهذا العلم لكونه يجسد الافتراض الباطل بأن النجوم حددت لكل منا «حظه» ساعة ولادته. بعد ذلك بوقت قصير، نبدأ في ملاحظة استحسان واسع النطاق لرأي أكثر تفاؤلا بكثير يذهب إلى أنه - كما جاء على لسان كاسيوس بطل شكسبير في حديثه إلى بروتوس - إذا باءت جهودنا لبلوغ العظمة بالفشل، فيجب ألا يلقى اللوم في ذلك «على نجومنا وإنما على أنفسنا.»
وبناء على هذا الموقف الجديد من الحرية، تمكن الفلاسفة الإنسانيون في إيطاليا في القرن الخامس عشر من إعادة تشكيل الصورة الكلاسيكية الكاملة لدور «الحظ» في الشئون البشرية. نجد ذلك في أطروحة ليون باتيستا ألبرتي «عن العائلة»، وأطروحة جوفاني بونتانو «عن الحظ»، وبأوضح صوره في الكراسة الدينية التي أعدها إينياس سيلفيو بيكولوميني عام 1444 تحت عنوان «حلم بالحظ»؛ حيث يحلم الكاتب أنه يسير في مملكة «الحظ»، ويقابل إلهة الحظ، التي توافق على إجابة أسئلته، فتعترف بأنها تمارس سلطاتها على نحو متعمد؛ لأنه حينما سألها مستفسرا: «كم من الوقت تظلين كريمة مع البشر؟» أجابت: «ليس لفترة طويلة جدا.» لكنها لا تتجاهل على الإطلاق جدارة الإنسان، ولا تنكر فكرة أن «هناك مهارات يمكنك من خلالها تحقيق ما هو في صالحك.» وأخيرا، عندما سألها عن أحب الصفات إليها وأكثرها بغضا في نظرها، أجابت في إيماء إلى فكرة أن «الحظ» يفضل الشجعان، معلنة أن «من يفتقرون إلى الشجاعة أبغض إليها من أي شخص آخر.»
1
عندما يأتي مكيافيللي إلى مناقشة «تأثير الحظ في الأمور البشرية» في الفصل قبل الأخير من كتاب «الأمير»، تظهر طريقة تناوله هذا الموضوع الشديد الأهمية أنه ممثل نموذجي لمواقف الفلاسفة الإنسانيين؛ فهو يستهل هذا الفصل بأن يستحضر الاعتقاد المعهود بأن البشر «تحت سيطرة الحظ والرب»، وبأن يشير إلى المضمون الواضح بأننا «لا نملك دواء على الإطلاق » يقينا من تغير أحوال الدنيا؛ لأن كل أمر قد قدره الرب علينا مسبقا (84). بعد ذلك مباشرة، وعلى النقيض من هذه الافتراضات المسيحية، يقدم تحليلا كلاسيكيا لمفهوم الحرية؛ فهو يسلم، بطبيعة الحال، بأن حرية الإنسان منقوصة حتما؛ لأن «الحظ» قوي للغاية، و«قد يكون المتحكم في نصف أفعالنا»، لكنه يصر على أن الافتراض بأن مصيرنا مرهون تماما بيد الحظ يعد «إلغاء لحرية الإنسان». ولما كان يؤمن إيمانا راسخا بوجهة النظر الإنسانية بأن «الرب لا يريد أن يفعل كل شيء، كي لا يحرمنا من حريتنا ومن المجد الذي ينسب لنا»، فهو يخلص إلى أن ما يقرب من نصف أفعالنا خاضعة بالضرورة لسيطرتنا نحن، وليست خاضعة لنفوذ «الحظ» (84-85، 89).
إن أوضح تصوير قدمه مكيافيللي لهذا الشعور بأن الإنسان سيد مصيره له جذوره الكلاسيكية هو الآخر. فهو يؤكد أن إلهة «الحظ» امرأة، ومن ثم يسهل إغراؤها بالصفات الرجولية (87)؛ لذا فهو يرى إمكانية حقيقية لأن يجعل المرء نفسه حليفا للحظ، وأن يتعلم أن يفعل ما يتلاءم مع سلطات هذا الحظ، وأن يعمل على مقاومة طبيعته المتقلبة، وبالتالي يظل ناجحا في جميع شئونه.
وهذا يوصل مكيافيللي إلى السؤال الرئيسي الذي طرحه الفلاسفة الأخلاقيون الرومان في الأصل: كيف يمكننا أن نأمل في عقد تحالف مع «الحظ»، وكيف يمكننا أن نجعله يبتسم لنا؟ وهو يجيب بنفس الكلمات التي استخدموها من قبل؛ إذ يؤكد أن الحظ صديق الشجعان، وصديق من هم «أقل حذرا وأكثر جسارة». ويوضح فكرة أن أكثر ما ينال إعجاب إلهة الحظ، ويستدر تجاوبها هي «قوة» الرجل الحقيقي. فهو أولا، يوضح النقطة السلبية المتمثلة في أن الافتقار إلى «القوة» الرجولية هو أكثر ما يثير غضبها وبغضها، وكما أن وجود هذه «القوة» يعمل كسد منيع يقي المرء هجومها، فإنها توجه غضبها دائما إلى حيث تعلم أنه «ما من حواجز أو سدود بنيت»؛ بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، فيشير إلى أنها لا تظهر قوتها إلا إذا لم يتصد لها الرجال «الأقوياء»، وهذا يعني ضمنيا أنها تعجب بهذه الصفة إعجابا كبيرا جدا إلى حد لا يجعلها أبدا تصب جام غضبها على الذين يظهرون تلك الصفة (85، 87).
ومكيافيللي لا يكتفي بتكرار هذه الحجج الكلاسيكية، بل يزيد على ذلك بأن يضفي عليها ميلا شهوانيا وفريدا؛ فهو يلمح بأن إلهة «الحظ» قد تجد في الواقع لذة شاذة في أن تعامل معاملة عنيفة؛ فلا يكتفي بأن يدعي أن ««الحظ» امرأة، وإذا أراد المرء السيطرة عليها، فمن الضروري أن يعاملها معاملة خشنة»، بل يضيف أنها في الحقيقة «أكثر ميلا لأن تستسلم للرجال» الذين «يعاملونها معاملة أكثر جرأة ووقاحة» (87).
في بعض الأحيان، كانت تقدم فكرة أن الرجال قد يتمكنون من الاستفادة من «الحظ» بهذه الطريقة باعتبارها رؤية مكيافيللية خاصة. لكن، حتى في هذه الفكرة، يعتمد مكيافيللي على رصيد من الصور المألوفة؛ ففكرة أن «الحظ» يجب أن يعاند بعنف كانت محل تركيز سينيكا، في حين أن بيكولوميني في «حلم بالحظ» مضى يستكشف ما ينطوي عليه هذا المعتقد من إيحاءات شهوانية، فهو حينما يسأل إلهة «الحظ»: «من الذي يستطيع أن يحتفظ بك أكثر من غيره؟» اعترفت أنها تنجذب أشد الانجذاب إلى الرجال «الذين يشلون قوتي بالشجاعة الفائقة.» وأخيرا، حينما يجرؤ على أن يسأل: «من أكثر الأحياء قبولا بالنسبة لك؟» تخبره أنها بينما تنظر بعين الازدراء إلى «أولئك الذين يفرون مني»، تشعر بأشد الإثارة «تجاه أولئك الذين يطاردونني ويدفعونني إلى الفرار.»
1
وإذا كان الرجال قادرين على شل قوة «الحظ»، وبالتالي على بلوغ أسمى أهدافهم، فلا بد أن يكون السؤال التالي الذي ينبغي طرحه: ما الأهداف التي ينبغي للأمير الجديد أن يضعها نصب عينيه؟ يبدأ مكيافيللي بأن يرسي حدا أدنى، مستخدما عبارة يتردد صداها في كتاب «الأمير». يجب أن يكون الهدف الأساسي «الحفاظ على الدولة»، وهو يعني بذلك أن الحاكم الجديد يجب أن يحافظ على الحالة الراهنة للأمور، ويسيطر بصفة خاصة على النظام العام للحكومة، لكن إلى جانب الأهداف الرامية إلى الحفاظ على الدولة، هناك أهداف أكبر بكثير يجب السعي لتحقيقها، ومكيافيللي إذ يحدد ماهية هذه الأهداف يكشف من جديد أنه وريث شرعي بحق للمؤرخين والفلاسفة الأخلاقيين الرومان. فهو يفترض أن جميع الرجال يريدون في المقام الأول أن ينالوا هبات «الحظ»؛ لذا فإنه يتجاهل تماما فرض المسيحية الأرثوذكسية القويمة (الذي أكده، على سبيل المثال، القديس توما الأكويني في كتابه «حكم الأمراء») بأن الحاكم الرشيد يجب أن يتجنب إغراءات مجد الدنيا وثروتها، كي يتأكد من أنه سينال مكافآته السماوية. بل على العكس من ذلك، يبدو واضحا لمكيافيللي أن أسمى الجوائز التي يتعين على المرء أن يتبارى للفوز بها هما «المجد والثروة»؛ أروع هبتين تملك إلهة «الحظ» أن تهبهما (85).
لكن مكيافيللي، شأنه شأن الفلاسفة الأخلاقيين الرومان، ينحي اكتساب الثروات جانبا معتبرا إياها مسعى وضيعا، ويذهب إلى أن أنبل أهداف الأمير «البعيد النظر والبارع» يجب أن يتمثل في إرساء شكل من الحكم يكون «من شأنه أن يكسبه الشرف» ويجعله مجيدا (87). ويضيف أن الحكام الجدد تحديدا يمكنهم حتى نيل «مجد مضاعف»؛ إذ لا تتسنى لهم فقط فرصة تدشين إمارة جديدة، بل أيضا تثبيت دعائم هذه الإمارة «بقوانين جيدة، وأسلحة قوية، وحلفاء جديرين بالثقة، وسلوك يقتدى به» (83). وهكذا فإن بلوغ الشرف والمجد في الدنيا هو الهدف الأسمى لمكيافيللي بقدر ما هو كذلك لليفيوس أو شيشرون؛ فحينما يسأل نفسه في الفصل الأخير من كتاب «الأمير» عما إذا كانت ظروف إيطاليا مواتية لنجاح أي حاكم جديد، فهو يتعامل مع هذا السؤال على اعتبار أنه مرادف للتساؤل عما إذا كان أي رجل «قوي» يستطيع أن يأمل في أن «يشكلها في قالب يكسبه الشرف» (87). وحينما يعرب عن إعجابه بفرديناند ملك إسبانيا - أكثر من حظي باحترامه من بين كل الحكام الذين عاصرهم - يبرر ذلك بأن هذا الرجل قد فعل «أشياء عظيمة» جعلته «أكثر الملوك شهرة ومجدا في العالم المسيحي» (76).
يعتقد مكيافيللي أن هذه الأهداف ليست صعبة التحقيق للغاية - على الأقل، في أدنى صورها - عندما يرث الأمير ولاية «اعتادت على حكم من ينتمون إلى عائلة الحاكم الحالي» (6). لكنها صعبة التحقيق جدا على الأمير الجديد، لا سيما إذا كان يدين بمنصبه لضربة حظ، فمثل هذه الأنظمة «لا يمكن أن تمد جذورها كما ينبغي»، ومعرضة لأن تهوي مع أول عاصفة عارضة يشاء «الحظ» أن يرسلها عليها (23)، ولا يمكنها أن تضع - أو بالأحرى يتحتم عليها عمليا ألا تضع - أي قدر من الثقة في استمرار «الحظ» الحسن؛ لأن هذا يعني الاعتماد على أقل القوى جدارة بالثقة في الشئون الإنسانية. ويرى مكيافيللي أن السؤال التالي الأكثر حسما هو: ما المبادئ، وما التعاليم، التي يمكن أن تقدم إلى حاكم جديد، بحيث إذا «طبقت بمهارة» سوف تجعله «يبدو قويا وراسخا» (83)؟ إجابة هذا السؤال هي موضوع الجزء الباقي من كتاب «الأمير».
الثورة المكيافيللية
تأتي النصيحة التي يقدمها مكيافيللي للأمراء الجدد في جزأين أساسيين؛ النقطة الأولى والجوهرية التي يوضحها هي أن «الأساسين الرئيسيين لأي دولة» هما «القوانين الجيدة والجيوش القوية»، يضاف إلى ذلك أن الجيوش القوية قد تفوق القوانين الجيدة أهمية؛ لأن «من المستحيل أن توجد قوانين جيدة إلا إذا وجد جيش قوي»، بينما «إذا وجد جيش قوي فإن القوانين الجيدة توجد بالضرورة» (42-43). والمغزى - الذي عبر عنه تعبيرا يحمل لمسة معتادة من المبالغة - هو أن الأمير الرشيد «يجب ألا يضع نصب عينيه هدفا آخر» سوى «الحرب وأساليبها وممارساتها»، «وألا يشغله هم آخر» أكثر منها (51-52).
ويمضي مكيافيللي فيوضح أن الجيوش في الأساس نوعان: مرتزقة مأجورون وقوات مسلحة من أبناء الوطن. في إيطاليا كان نظام المرتزقة مطبقا على نطاق يكاد يكون شاملا، لكن مكيافيللي يشرع في الفصل الثاني عشر في شن هجوم شامل عليه، فيقول إن الإيطاليين ظلوا «لسنوات عديدة» «تحت سيطرة جيوش مرتزقة»، وكانت النتائج المترتبة على ذلك مروعة؛ فشبه الجزيرة برمته «احتله تشارلز، ونهبه لويس، ودمره فرديناند، وعامله السويسريون بازدراء» (47). لم يكن من الممكن توقع تحسن الأحوال؛ لأن كل المرتزقة «بلا فائدة ويمثلون خطورة»؛ فهم «مفككون، وطموحون وغير منضبطين وغادرون»، وقدرتهم على تدميرك «مؤجلة فقط إلى أن يحين الوقت، حينما يطلب منهم القتال» (43). بدت العواقب واضحة لمكيافيللي، فراح يعبر عنها بانفعال قوي في الفصل الثالث عشر ، ويقرر أن الأمراء الحكماء دائما ما «يتجنبون استخدام هذه الفرق العسكرية ويؤلفون جيوشا من رجالهم.» وهو مقتنع بهذا اقتناعا قويا إلى حد يجعله يضيف الزعم، الذي يكاد يكون سخيفا، بأنهم «يفضلون الخسارة باستخدام قواتهم الخاصة على النصر باستخدام قوات أجنبية» (49).
هذه النبرة الشديدة اللهجة في حاجة إلى بعض التفسير، لا سيما في ضوء حقيقة أن معظم المؤرخين قد انتهوا إلى أن نظام المرتزقة عادة ما يعمل على نحو بالغ الفعالية. أحد الاحتمالات أن مكيافيللي كان ببساطة يتبع تقليدا أدبيا في هذه المرحلة، فالادعاء بأن المواطنة الحقة تتضمن حمل السلاح كان محل تأكيد ليفيوس وبوليبيوس وأرسطو، ثم حمل رايتها عدة أجيال من الفلاسفة الإنسانيين الفلورنسيين بعد أن أحيا هذه القضية الجدلية ليوناردو بروني وتلاميذه. لكن، قد يكون من المستغرب جدا أن يتبع مكيافيللي أحب الأساتذة وأعزهم عنده بهذه الطريقة الخانعة، والاحتمال الأرجح أن مكيافيللي، على الرغم من هجومه بوجه عام على الجنود المأجورين، ربما كان يفكر بصفة خاصة في المصائب التي نزلت بمدينته الأم، التي قاست دون شك سلسلة من المهانات على أيدي قادتها المرتزقة إبان الحرب الممتدة ضد بيزا؛ إذ لم تكن حملة عام 1500 وحدها كارثة محققة، بل حلت نكسة مماثلة عندما شنت فلورنسا هجوما جديدا عام 1505 نتيجة لتمرد قادة الجند، الذين كانوا مرتزقة في أغلب الأحيان، حالما بدأ الهجوم، وفي غضون أسبوع كان لا بد من الانسحاب.
كما رأينا، أصيب مكيافيللي بالصدمة حينما اكتشف، وقت هزيمة عام 1500، أن الفرنسيين يعتبرون الفلورنسيين محط سخرية بسبب انعدام كفاءتهم العسكرية؛ ولا سيما بسبب عجزهم عن إخضاع بيزا لسيطرتهم. وبعد تجدد الفشل عام 1505، أخذ هذا الأمر على عاتقه ووضع خطة مفصلة لإحلال قوات مسلحة من مواطني فلورنسا محل القوات المأجورة التي تستخدمها. وافق المجلس الأعلى على الفكرة لفترة مؤقتة في ديسمبر عام 1505، وفوض مكيافيللي ببدء التجنيد، وبحلول شهر فبراير التالي كان جاهزا لإقامة أول عروضه العسكرية في المدينة، وهي مناسبة حظيت بإعجاب كبير من كاتب اليوميات لوكا لاندوتشي، الذي سجل يقول إن «هذا يعتقد أنه أرقى حدث على الإطلاق جرى ترتيبه لفلورنسا.»
2
خلال صيف عام 1506 كتب مكيافيللي «معايير إعداد المشاة»، مؤكدا على «ضآلة الآمال التي يمكن عقدها على القوات الأجنبية والمأجورة»، ومشددا أن على المدينة بدلا من ذلك أن «تتسلح بأسلحتها وبرجالها» (3). بحلول نهاية العام، كان المجلس الأعلى قد اقتنع أخيرا، وأنشئت لجنة حكومية جديدة، هي «لجنة التسعة للقوات المسلحة»، وانتخب مكيافيللي سكرتيرا لها، وبات أحد أعظم أهداف الحركة الإنسانية الفلورنسية حقيقة واقعة.
ربما كان المرء ليفترض أن تحمس مكيافيللي لقواته العسكرية كان ليفتر على إثر ما أظهرته من أداء كارثي عام 1512، حينما أرسلت للدفاع عن براتو فاكتسحها تقدم قوات المشاة الإسبانية دون جهد يذكر. لكن ما حدث أن حماسه ظل على توهجه؛ إذ نجده بعد مرور عام يؤكد على حكام عائلة مديتشي في نهاية كتاب «الأمير» أن ما عليهم أن يتأكدوا من فعله «قبل كل شيء» هو تزويد فلورنسا بجيوشها الخاصة (90). وعندما نشر كتابه «فن الحرب» عام 1521 - أطروحته الوحيدة التي طبعت أثناء حياته عن فن الحكم - واصل تكرار الحجج نفسها. كان الكتاب الأول كله مكرسا لتبرئة ساحة «نظام الجيش الوطني» في مواجهة من شككوا في جدواه (580). ومكيافيللي يسلم، بطبيعة الحال، أن هذه القوات ليست في منعة من الهزيمة، لكنه مع ذلك يصر على تفوقها على أي نوع آخر من القوات (585). ويستنتج بنفس المبالغة في التأكيد أن الحديث عن أن امرأ حكيما يرى عيبا في فكرة الجيش الوطني، هو ببساطة حديث يحمل شيئا من التناقض (583).
الآن يمكننا أن نفهم لماذا شعر مكيافيللي بإعجاب شديد تجاه شيزاري بورجا بصفته قائدا عسكريا، وأكد في كتاب «الأمير» أن سلوك الدوق يمثل أفضل مبادئ يمكن أن تقدم إلى أي حاكم جديد (23). فقد كان مكيافيللي حاضرا - كما رأينا - عندما اتخذ الدوق القرار الوحشي بالقضاء على قواده المرتزقة، والاستعاضة عنهم بقواته الخاصة. يبدو أن هذه الاستراتيجية الجريئة كان لها تأثير حاسم في تشكيل أفكار مكيافيللي؛ فهو يعود إليها بمجرد أن يطرح مسألة السياسة العسكرية في الفصل الثالث عشر من كتاب «الأمير»، متعاملا معها باعتبارها مثالا نموذجيا على التدابير التي يتعين على أي حاكم جديد أن يتخذها. فبورجا محل إشادة لأنه في المقام الأول أدرك دون تردد أن القادة المرتزقة عديمو الولاء على نحو خطير، ويستحقون أن يقضى عليهم بلا رحمة. بل إن مكيافيللي يفرط في مدح بورجا لفهمه الدرس الأساسي بأن أي أمير جديد في حاجة إلى أن يعلم أنه من الضروري عليه - إذا كان يرغب في الحفاظ على دولته - أن يتوقف عن الاعتماد على «الحظ» والقوات الأجنبية، وأن يؤسس فرقه الخاصة من الجند، وأن يجعل نفسه «سيدا مسيطرا على قواته» (25-26، 49).
القوات والرجل: هذان هما الموضوعان المهمان اللذان يتناولهما مكيافيللي في كتاب «الأمير». الدرس الآخر الذي يأمل بالتالي أن يقدمه إلى وطنه ولحكام عصره، مفاده أن الأمير الذي يتطلع لتسنم ذرى المجد يجب عليه، إلى جانب امتلاكه جيشا جديرا بالثقة، أن ينمي في نفسه الصفات المناسبة لقيادته كأمير، وطبيعة هذه الصفات قد جرى تحليلها تحليلا فعالا على يد الفلاسفة الأخلاقيين الرومان من قبل. كان هؤلاء قد برهنوا في المقام الأول على أن جميع القادة العظام بحاجة إلى حد ما لأن يكونوا محظوظين؛ لأنه إذا حدث ولم يبتسم الحظ، فما يرجى أن يساعدنا أي قدر من الجهد البشري المجرد على بلوغ أسمى أهدافنا. لكن كما رأينا، فإنهم أكدوا أيضا أن ثمة مجموعة خاصة من الصفات التي تميز «الرجل» غالبا ما تجذب انتباه «الحظ» على نحو إيجابي، وبهذه الطريقة تكاد هذه الصفات تضمن لنا تحقيق الشرف والمجد والشهرة. وأفضل تلخيص للافتراضات التي ينطوي عليها هذا الاعتقاد هو ذلك الذي قدمه شيشرون في كتابه «مناقشات توسكولوم»؛ حيث يذكر أننا إذا تصرفنا من منطلق التعطش إلى «القوة» دون أدنى قدر من التفكير في الفوز بالمجد نتيجة لذلك، فإن هذا سيمنحنا أفضل فرصة للفوز بالمجد أيضا، شريطة أن يبتسم الحظ؛ وذلك لأن المجد هو مكافأة «القوة» (1 : 38، 91).
تبنى الفلاسفة الإنسانيون إبان «عصر النهضة» في إيطاليا هذا التحليل دون تغيير، ومع نهاية القرن الخامس عشر، كان قد نشأ ضرب أدبي واسع النطاق من كتب إرشادات الفلاسفة الإنسانيين للأمراء، وبدأ يصل إلى جمهور لم يسبق لاتساعه مثيل، من خلال وسيلة الطباعة التي كانت حديثة العهد حينئذ. كان هناك كتاب مميزون، مثل بارتولوميو ساكي وجوفاني بونتاتو وفرانشيسكو باتريتزي، كتبوا جميعا أطروحات لإرشاد الحكام الجدد، تأسست كلها على نفس المبدأ الأساسي، وهو أن امتلاك «القوة» مفتاح نجاح أي أمير؛ إذ يؤكد بوتانتو مشددا في كراسته عن كتاب «الأمير»، أن أي حاكم يرغب في تحقيق أسمى غاياته «يجب أن يدفع نفسه إلى اتباع ما تمليه «القوة» عليه» في جميع تصرفاته المتعلقة بشئون الدولة. إن «القوة» هي «أروع الأشياء في العالم»، أكثر روعة حتى من الشمس؛ لأن «العميان لا يستطيعون رؤية الشمس»، بينما «يستطيعون رؤية «القوة» بأقصى قدر ممكن من الوضوح.»
3
إن مكيافيللي يؤكد تحديدا على نفس المعتقدات بشأن العلاقات التي تربط بين «القوة» و«الحظ» وتحقيق أهداف الأمير؛ فهو أولا يوضح هذه الحقائق الإنسانية في الفصل السادس من كتاب «الأمير»، حيث يرى أنه «في الإمارة الجديدة تماما، حيث يوجد حاكم جديد، ستتوقف الصعوبة التي سيواجهها الحاكم من أجل الحفاظ عليها» بالدرجة الأولى على «مدى قوته» (19). وهذه حقيقة يؤكدها فيما بعد ما ورد في الفصل الرابع والعشرين، والهدف منها هو تفسير «سبب فقدان حكام إيطاليا دولهم» (83). يصر مكيافيللي على أن اللوم ينبغي ألا يلقى على «الحظ» فيما لحق بهؤلاء الحكام من هوان؛ وذلك لأن كل ما فعلته إلهة «الحظ» هو أنها «أظهرت قوتها» حينما لم يكن الرجال أولو «القوة» على استعداد لمقاومتها (84، 85). لذا فإن خسائرهم ترد ببساطة إلى عدم إدراكهم أن «الدفاعات الفعالة والمضمونة والدائمة» الوحيدة هي تلك المبنية على «قوة» المرء الخاصة (84). ثمة تأكيد آخر على دور «القوة» في الفصل السادس والعشرين، في سياق «التوصية» القوية بتحرير إيطاليا، والتي يصل بها كتاب «الأمير» إلى نهايته. عند هذه النقطة يعود مكيافيللي إلى الإشارة إلى القادة المتفردين الذين أشاد بهم في الفصل السادس بسبب ما يتمتعون به من «قوة» ظاهرة؛ موسى وسايروس وثيزيوس (20). ويشير ضمنا إلى أن إنقاذ إيطاليا يتطلب بالضرورة اتحاد قدراتهم المذهلة مع أعظم قدر من حسن «الحظ». ثم يضيف في لحظة إطراء غير معهودة أن حكام عائلة مديتشي المجيدة يتمتعون لحسن الحظ بكل الصفات اللازمة لذلك؛ فهم يملكون «قوى» هائلة، ويحالفهم «الحظ» بقوة، ويدعمهم «الرب والكنيسة» (88).
في كثير من الأحيان يشكى من أن مكيافيللي لا يقدم أي تعريف لصفة «القوة»، وأنه بريء من أي استخدام ممنهج لهذه الكلمة، لكن سيتبين الآن أنه يستخدمها استخداما كامل الاتساق؛ فقد تعامل معها - سيرا على نهج أساتذته الكلاسيكيين والإنسانيين - باعتبارها الصفة التي تمكن أي أمير من الصمود في وجه خيانات «الحظ»، كي يستجدي رضا الإلهة، ويرتفع بالتالي إلى قمم شهرة الأمراء، فيفوز بالشرف والمجد لنفسه وبالأمن لحكمه.
لكن يبقى أن نأخذ في الاعتبار ماهية الصفات المميزة التي يتوقع أن تتوافر في الرجل ذي الإمكانات «القوية». كان الفلاسفة الأخلاقيون من الرومان قد ورثوا تحليلا معقدا لمفهوم «القوة»، يصور بوجه عام «الرجل» الحق بأنه رجل يتمتع بثلاث مجموعات متميزة، ومرتبطة أيضا، من الصفات، وذهبوا إلى أنه يتمتع في المقام الأول بأربع فضائل «جوهرية»، هي الحكمة والعدل والشجاعة وضبط النفس، وهي ذات الفضائل التي كان شيشرون (سائرا على خطى أفلاطون) قد بدأ بتسليط الضوء عليها في افتتاحية كتاب «الواجبات». لكنهم أيضا نسبوا إليه مجموعة أخرى من الصفات صارت ينظر إليها فيما بعد باعتبارها تخص «الأمراء» في طبيعتها. أهم هذه الصفات - والفضيلة المحورية في كتاب «الواجبات» لشيشرون - كانت ما أسماها شيشرون «الأمانة»، قاصدا بذلك الاستعداد لصون العهد والتعامل بشرف مع كل الرجال في جميع الأوقات، وهي صفة اعتقد أنها في حاجة إلى أن تلحق بصفتين أخريين، ورد وصفهما في كتاب «الواجبات»، وتناولهما سينيكا بتحليل واسع النطاق، حيث خصص لكل منهما أطروحة مستقلة، إحداهما شهامة الأمراء، وهي الموضوع الذي ناقشه سينيكا في كتابه «عن العفو»، والأخرى هي التسامح، وتشكل إحدى النقاط الرئيسية التي ناقشها سينيكا في كتابه «عن المنافع».
وأخيرا، كان يعتقد أن «الرجل» الحق يتميز بإقراره الراسخ بحقيقة أنه إذا كنا نرغب في بلوغ هدفي الشرف والمجد، فعلينا دائما أن نتأكد من أننا نتصرف بأقصى قدر مستطاع من الفضيلة. وهذا الرأي الجدلي - الذي مفاده أن من العقلانية دائما أن يكون المرء فاضلا - يكمن في صميم كتاب «الواجبات» لشيشرون؛ فهو يشير في الكتاب الثاني إلى أن العديد من الرجال يعتقدون أن «أي شيء يمكن أن يكون صحيحا من الناحية الأخلاقية دون أن يكون ملائما للمصلحة الشخصية، ويمكن أن يكون ملائما للمصلحة الشخصية لكنه ليس صحيحا من الناحية الأخلاقية.» لكن هذا محض وهم؛ لأن الأساليب الأخلاقية وحدها هي التي تتيح لنا أن نأمل في تحقيق أهداف رغباتنا، وأي مظاهر تدل على عكس ذلك تكون خادعة تماما؛ لأن النفعية الشخصية لا يمكن أبدا أن تتعارض مع الاستقامة الأخلاقية (2 : 3، 9-10).
هذا التحليل اعتمد مرة أخرى في مجمله من جانب مؤلفي كتب إسداء النصح لأمراء «عصر النهضة»؛ فقد جعلوا افتراضهم الرئيسي يذهب إلى أن المفهوم العام لصفة «القوة» يشير بالضرورة إلى قائمة كاملة من الفضائل المرتبطة بالقادة والأمراء، وهي قائمة شرعوا في تطويلها وتقسيمها بقدر كبير من الاهتمام بالفروق الطفيفة، إلى حد أننا - في أطروحة مثل «تعليم الملك» لباتريتزي - نجد أن الفكرة الرئيسية عن «القوة» فصلت إلى سلسلة لا يقل قوامها عن أربعين فضيلة أخلاقية ينبغي اكتسابها. بعد ذلك، أقروا دون تردد الزعم بأن المسار الرشيد الذي ينبغي للأمير أن يسلكه هو دائما المسار الأخلاقي، ودافعوا عن هذه النقطة بقدر كبير من القوة، إلى حد أنهم جعلوا من مقولة «الأمانة أفضل سياسة» قولا مأثورا. وأخيرا، قدموا اعتراضا ذا خصوصية مسيحية على أي تفريق بين النفعية الشخصية وعالم الأخلاق، وأكدوا على أننا - حتى إذا نجحنا في إعلاء مصالحنا عن طريق اقتراف الظلم في هذه الحياة الدنيا - يمكن أن نتوقع رغم ذلك أن نشاهد هذه المصالح الظاهرة تتهاوى حالما نتلقى الجزاء الإلهي العادل في الحياة الآخرة.
وإذا فحصنا الأطروحات الأخلاقية التي كتبها معاصرو مكيافيللي، سنجد أن هذه الحجج تكرر وتعاد بلا كلل، لكن عندما ننتقل إلى كتاب «الأمير » نجد أن هذا المظهر من مظاهر الأخلاق الإنسانية قد انقلب فجأة وبعنف رأسا على عقب. يبدأ هذا الانقلاب في الفصل الخامس عشر، عندما يبدأ مكيافيللي في مناقشة فضائل الأمير ورذائله، ويحذرنا في هدوء بقوله: «أعلم جيدا أن الكثير من الأشخاص قد كتبوا عن هذا الموضوع»، لكن «ما سوف أقوله سيكون مختلفا عن الإرشادات التي قدمها الآخرون» (54). ويبدأ بالإشارة إلى الملاحظات الإنسانية المألوفة التي تفيد بأن هناك مجموعة خاصة من فضائل الأمراء، وأنها تشمل بالضرورة أن يكون الأمير متسامحا ورحيما وصادقا، وأن على جميع الحكام أن ينموا في أنفسهم هذه الصفات. ثم يسلم - وهو لا يزال على الطريقة الإنسانية القويمة - بأن الأمير الذي يستطيع أن يتحرى هذه الطرق في تصرفاته في جميع الأوقات «جدير بأعظم ثناء». لكنه بعد ذلك يرفض تماما افتراض الفلاسفة الإنسانيين الجوهري بأن هذه الفضائل هي تلك التي يحتاج الحاكم إلى اكتسابها إذا أراد تحقيق أسمى أهدافه. ويعتبر أن هذا الاعتقاد - الذي يشكل جوهر كتب إسداء النصح للأمراء - خاطئ على نحو واضح وكارثي. وهو يوافق بالطبع على طبيعة الغايات التي يجب على أي أمير أن يسعى إلى تحقيقها؛ فأي أمير يجب أن يسعى للحفاظ على دولته وتحقيق المجد لنفسه، لكنه يعترض بأنه إذا كان المفترض لهذه الأهداف أن تتحقق، فما من حاكم يمكن أن يتحلى بكل الصفات التي عادة ما «يعتقد أنها جيدة»، أو يمارسها ممارسة كاملة. فالموقف الذي يجد أي أمير نفسه فيه هو أنه يحاول أن يحمي مصالحه في عالم مظلم مليء بالرجال عديمي الأخلاق. وإذا حدث في ظل هذه الظروف أنه «لم يفعل ما يفعل في العموم، واستمر في فعل ما يجب فعله»، فإنه ببساطة سوف يعمل على «تقويض سلطته لا الحفاظ عليها» (54).
وهكذا فإن انتقاد مكيافيللي للفلسفة الإنسانية الكلاسيكية والمعاصرة بسيط لكنه مدمر؛ فهو يذهب إلى أنه إذا رغب أي حاكم في بلوغ أسمى أهدافه، فإنه لن يرى دائما أنه من العقلانية التصرف على نحو أخلاقي، بل على العكس، سيتبين أن أي محاولة جادة لتعزيز فضائل الأمراء سياسة غير عقلانية ومدمرة (62). لكن ماذا عن الاعتراض المسيحي الذي يرى أن هذا النهج حماقة، فضلا عن كونه موقفا شريرا لا ينبغي تبنيه؛ نظرا لأنه يغفل يوم الدينونة الذي سيعاقب فيه أخيرا كل ظالم على ظلمه؟ لا يعلق مكيافيللي مطلقا على هذا، لكن صمته كان بليغا وبالغ التأثير؛ فقد أحدث دويا في أرجاء أوروبا المسيحية، فأثار في بادئ الأمر صمتا من الذهول، ثم عاصفة من اللعنات لم تهدأ قط.
لكن إذا لم يكن يتعين على الأمراء أن يتصرفوا وفقا لما تمليه عليهم الأخلاق التقليدية، فكيف يتعين عليهم أن يتصرفوا؟ يأتي رد مكيافيللي، الذي هو جوهر نصحه الإيجابي للحكام الجدد، في بداية الفصل الخامس عشر. فالأمير الحكيم ينبغي أن يتصرف وفق ما تقتضيه الضرورة لا أي شيء سواها؛ فإذا كان «يرغب في الحفاظ على سلطته»، فعليه دائما «أن يكون على استعداد لأن يتصرف على نحو غير أخلاقي متى يصبح ذلك ضروريا» (55). بعد ثلاثة فصول، يتكرر هذا المذهب الأساسي؛ فالأمير الحكيم يفعل الخير عندما يستطيع، لكن «إذا دعت الضرورة إلى الإحجام عن ذلك»، فعليه «أن يكون على استعداد لأن يتصرف على النحو المقابل ويكون قادرا على فعل ذلك.» يضاف إلى ذلك، أنه لا بد أن يتصالح مع الحقيقة التي تفيد بأنه «في سبيل الحفاظ على سلطته» ستضطره الضرورة في كثير من الأحيان لأن «يتصرف على نحو غادر وعديم الرحمة أو غير إنساني» (62).
كما رأينا، كانت الأهمية الحاسمة لهذه الرؤية الثاقبة قد تكشفت لمكيافيللي لأول مرة في مرحلة مبكرة من عمله الدبلوماسي. لقد شعر، بعد التحاور مع كاردينال فولتيرا عام 1503، ومع باندولفو بيتروتشي بعد ذلك بنحو سنتين، أنه لا بد أن يسجل ما أصبح فيما بعد معتقده السياسي الرئيسي، ومفاده أن مفتاح النجاح في إدارة شئون الدولة يكمن في إدراك قوة الظروف، وقبول ما تمليه عليه الضرورة، وتكييف سلوك المرء مع الزمن. فبعد عام من إعطاء باندولفو لمكيافيللي هذه الوصفة للنجاح في الإمارة، نجد الأخير يطرح لأول مرة مجموعة ملاحظات مماثلة على اعتبار أنها أفكاره الخاصة. وبينما كان معينا في بيروجيا في سبتمبر عام 1506، يراقب ما تحرزه حملة يوليوس الثاني من تقدم محموم، صرح بوحي تأملاته عن أسباب حدوث الانتصارات والملمات في الشئون المدنية والعسكرية، في رسالة إلى صديقه جوفاني سوديريني يقول فيها: «إن الطبيعة منحت كل إنسان موهبة وإلهاما خصوصيين» من شأنهما أن «يسيرا خطى كل واحد منا»، لكن «الزمن تغير، وهو عرضة لأن يتغير مرارا»، بحيث إن «أولئك الذين يفشلون في تغيير عاداتهم وسلوكياتهم»، لا بد أن يواجهوا «حسن الحظ في وقت ما، وسوء الحظ في وقت آخر.» والمغزى من هذا واضح؛ إذا رغب إنسان «في أن يتمتع بحسن الحظ دائما»، فعليه «أن يكون حكيما بما فيه الكفاية، بحيث يكيف نفسه مع تغير الزمن.» وإذا تمكن كل إنسان من «التحكم في طبيعته» بهذه الطريقة، و«وفق عاداته وسلوكه مع عصره»، «فسيتحقق صدقا القول بأن الرجل الحكيم هو المتحكم في النجوم والمصائر» (73).
وعندما كان مكيافيللي يؤلف كتاب «الأمير» بعد ذلك بسبع سنوات، نقل بدقة هذه «الأهواء»، كما أطلق عليها في استهجان، في فصله عن دور «الحظ» في الشئون الإنسانية؛ فيقول إن كل شخص يحب أن يتبع هواه الشخصي؛ فقد يتصرف رجل ما بحذر، ويتصرف آخر بتهور، وآخر بقوة، وغيره بدهاء، لكن في غضون ذلك، «يتغير الزمن والظروف»، بحيث إن أي حاكم «لا يغير من أساليبه» سوف «ينتهي به الحال إلى الفشل.» لكن «الحظ» قد لا يتغير إذا تعلم المرء «أن يغير شخصيته بحيث تناسب الزمن والظروف»، ومن ثم فإن الأمير الناجح سيكون دائما هو ذلك الذي يواكب الزمن (85-86).
الآن يتضح أن الثورة التي رسم مكيافيللي معالمها في هذا النوع من كتب إسداء النصح للأمراء، كانت قائمة في الحقيقة على إعادة تعريف مفهوم «القوة» المحوري. فهو يقر الافتراض التقليدي بأن «القوة» اسم لتلك المجموعة من الصفات التي تمكن أي أمير من محالفة الحظ وبلوغ الشرف والمجد والشهرة، لكنه يفصل معنى هذه الكلمة عن أي ارتباط لازم بفضائل القادة والأمراء، فيذهب إلى أن السمة المميزة للأمير «القوي» بحق هي الاستعداد لفعل كل ما تقتضيه الضرورة - سواء كان فعله هذا خيرا أو شريرا - في سبيل تحقيق منتهى غاياته؛ ومن ثم فإن «القوة» تشير تحديدا إلى الصفة الضرورية المتمثلة في المرونة الأخلاقية لدى الأمير؛ إذ «عليه أن يكون على استعداد لتغيير سلوكه حسبما تشتهي رياح الحظ، وحسبما تفرض عليه الظروف المتغيرة» (62).
يبذل مكيافيللي بعض العناء في توضيح أن هذا الاستنتاج يفتح هوة لا سبيل لسدها بينه وبين مجمل تراث الفكر السياسي الإنساني، وهو يفعل ذلك بأسلوب تهكمي بالغ القسوة. فالفضيلة الأخلاقية بالنسبة للفلاسفة الأخلاقيين الكلاسيكيين وأتباعهم الذين لا حصر لهم، كانت هي السمة المميزة للرجل «الحقيقي»؛ ومن ثم فإن البعد عن الفضيلة لم يكن يعد تصرفا غير عقلاني فحسب، بل كان يعد أيضا تخليا عن مكانة المرء كإنسان، وانحدارا إلى مستوى البهائم. وقد عبر عن ذلك شيشرون في الكتاب الأول من سلسلة «الواجبات»، حينما زعم أن هناك طريقتين لاقتراف الباطل، إما بالقوة وإما بالاحتيال، وأكد أن كلتا الطريقتين بهيمية و«لا تليقان على الإطلاق بالإنسان»؛ ذلك أن القوة رمز للأسد، والاحتيال «يبدو أنه صفة الثعلب الماكر» (1 : 13، 41).
في المقابل، بدا واضحا لمكيافيللي أن الرجولة ليست كافية. وهو يقر في مستهل الفصل الثامن عشر بأن هناك بالفعل طريقتين للتصرف، «الأولى تليق بالبشر، والثانية بالحيوانات»، لكن «نظرا لأن الأولى تكون غير فعالة في كثير من الأحيان، يتعين على المرء أن يلجأ للثانية» (61)؛ ومن ثم فإن أحد الأشياء التي ينبغي للأمير أن يعرفها، هو أن يعرف أي الحيوانات ينبغي له أن يقلده. كانت أكثر النصائح التي اهتم بها مكيافيللي أن الأمير سيبلي بلاء حسنا إذا تعلم أن يقلد «كلا من الثعلب والأسد»، فيتمم مثل الأخلاق الرجولية بمهارتي القوة والاحتيال الحيوانيتين (61). هذا المفهوم محل توكيد في الفصل التالي، الذي يتناول فيه مكيافيللي إحدى الشخصيات التاريخية المفضلة بالنسبة إليه، وهي شخصية الإمبراطور الروماني سبتيموس سيفيروس. فيؤكد أولا أن الإمبراطور كان رجلا ذا «قوة» عظيمة جدا (68)، بعد ذلك يشرع في تقديم بيان حكمه هذا، فيضيف أن صفتي سبتيموس العظيمتين كانتا تتمثلان في كونه «أسدا بالغ القوة وثعلبا بالغ المكر»؛ ونتيجة لذلك كان «مرهوب الجانب وموضع احترام من قبل الجميع» (69).
ويختتم مكيافيللي تحليله بالإشارة إلى مسارات السلوك المتوقعة من أي أمير «قوي» بحق، فهو يعرض في الفصل التاسع عشر لهذه النقطة شارحا ما لن يفعله مثل هذا الحاكم، مؤكدا أنه لن يفعل أبدا أي شيء يستحق الازدراء، وسوف يحرص أشد الحرص على تجنب التحول إلى هدف للكراهية (63). ثم يعرض لما سوف يفعله مثل هذا الحاكم في الفصل الحادي والعشرين، فيقول إنه سيبرز دائما بشجاعة، إما باعتباره «حليفا حقيقيا أو عدوا صريحا.» في الوقت نفسه سوف يحرص، مثل فرديناند ملك إسبانيا، على أن يظهر نفسه لرعاياه في أعظم جلال ممكن، فيفعل «أشياء عظيمة»، ويبقي رعاياه «في حالة من الترقب والدهشة في انتظار ما تؤتيه من ثمار» (77).
في ضوء ما سبق، يسهل ثانية أن نفهم السبب في شعور مكيافيللي بهذا القدر من الإعجاب تجاه شيزاري بورجا، ورغبته في اتخاذه نموذجا لفضيلة «القوة» - على الرغم مما كان يشوبه من عيوب واضحة - يحذو حذوه غيره من الأمراء الجدد. فقد أظهر بورجا، في مناسبة رهيبة، أنه فهم تماما الأهمية القصوى لتجنب كراهية الشعب مع إبقائهم في الوقت نفسه شاعرين بالرهبة منه، كانت هذه المناسبة عندما أدرك أن حكمه لرومانيا، حينما كان في يدي ريميرو دي أوركو الماهرتين لكن المستبدتين، معرض لأشد التهديدات خطورة، وهو أن يصبح مكروها من قبل من يعيشون تحت حكمه. وكما رأينا، كان مكيافيللي شاهد عيان على الحل القاسي لهذه المعضلة الذي نفذه بورجا، حينما قتل ريميرو على حين غرة، وعرض جثته في ميدان عام قربانا لاحتواء غضب الشعب.
ربما ينبغي أن نرد إيمان مكيافيللي بالحاجة الماسة إلى تجنب كراهية الشعب وتمرده إلى هذه اللحظة تحديدا. لكن على الرغم من أن تصرف الدوق لم يعمل إلا على تأكيد حسن تقديره للواقع السياسي، ليس ثمة شك في أن هذا الحدث خلف في نفس مكيافيللي تأثيرا عميقا؛ فحينما بدأ في مناقشة مسائل الكراهية والتمرد في كتاب «الأمير»، استدعى هذا الحدث تحديدا لتوضيح وجهة نظره، فأوضح أن تصرف بورجا أثار تأمله باعتباره صحيحا إلى حد بعيد؛ فقد كان تصرفه حازما، وتطلب شجاعة، وأحدث التأثير المرغوب تماما؛ لأنه «جعل الشعب راضيا ومندهشا معا»، وفي الوقت نفسه أزال سبب كراهيتهم. ثم يلخص مكيافيللي فكرته في أشد نبراته برودا، فيشير إلى أن هذه السياسة ليست جديرة «بأن تعرف» فقط، بل بأن تكون أيضا «مثلا يحتذى به من قبل الآخرين» (26).
الأخلاق الجديدة
يعي مكيافيللي تماما أن تحليله الجديد عن «قوة» الأمير يثير بعض الصعوبات الجديدة، وهو يعرض المعضلة الرئيسية في الفصل الخامس عشر قائلا: من جهة، فإن «الحاكم الذي يرغب في الاحتفاظ بسلطته يجب أن يكون على استعداد للتصرف على نحو غير أخلاقي متى يصبح ذلك ضروريا»، لكن من جهة أخرى لا بد له أن يحرص على عدم اكتساب سمعة رجل شرير؛ لأن هذا سوف يقوض سلطته بدلا من تأمينها (55). وهكذا فإن المعضلة تتمثل في كيفية تجنب الظهور بمظهر الشرير وأنت لا تستطيع أن تتجنب التصرف على نحو شرير.
علاوة على ذلك، فإن المعضلة أكثر تعقيدا من ذلك؛ لأن الهدف الحقيقي للأمير ليس مجرد تأمين سلطته، بل يضاف لذلك بطبيعة الحال الفوز بالكرامة والمجد. يشير مكيافيللي في روايته قصة أجاثوكليس ملك «صقلية» في الفصل الثامن إلى أن هذا يزيد تعقيد المعضلة التي يجد أي حاكم جديد نفسه في مواجهتها، فقد قيل لنا أن أجاثوكليس «كان يحيا دائما حياة منغمسة في الملذات»، وكان يعرف عنه أنه بلغ حدا مروعا من «السلوك القاسي عديم الإنسانية». حققت له هذه الصفات نجاحا هائلا، ما أتاح له أن يرتفع من «أحط الأصول وأكثرها فقرا» ليصبح ملكا على سرقوسة، وأن يحتفظ بإمارته «دون مواجهة أي شغب مدني» (30-31). لكن مكيافيللي يحذرنا بجملة كاشفة بدرجة كبيرة، بأن مثل هذا القدر من القسوة السافرة قد يجعلنا نفوز بالقوة «ولكن ليس بالمجد»؛ فعلى الرغم من أن أجاثوكليس كان قادرا على الحفاظ على مكانته وحكمه بالاعتماد على هذه الصفات، «لا يمكن أن توصف هذه الصفات بأنها «قوة»»، و«لا يمكن أن تجعله في مصاف أفضل البشر» (31).
يرفض مكيافيللي أن يسلم بفكرة أن المعضلة يمكن أن تحل من خلال وضع قيود صارمة لقدر الشر الذي ينبغي للأمير أن يمارسه، ومن خلال التصرف بشرف عموما مع رعاياه وحلفائه. هذا تحديدا هو ما لا يستطيع المرء أن يأمل في تحقيقه؛ لأن كل البشر في كل العصور «جاحدون متقلبون مدعون منافقون متجنبون للخطر متلهفون على المكاسب»، بحيث إن أي حاكم «يركن كليا إلى وعودهم، ويهمل إعداد وسائل الدفاع الأخرى، سوف يسقط» (59). مضمون ذلك هو أن أي أمير، لا سيما الجديد، غالبا - وليس فقط في بعض الأحيان - ما سيجد نفسه مضطرا بحكم الضرورة إلى التصرف على نحو يتعارض مع الإنسانية، إذا كان يرغب في أن يحتفظ بمنصبه ويتجنب التعرض للخداع (62).
هذه صعوبات شديدة، لكن مع ذلك يمكن التغلب عليها. فالأمير لا يحتاج إلا أن يتذكر أنه من غير الضروري امتلاك كل الصفات التي عادة ما تعتبر جيدة، لكن من اللازم التظاهر بامتلاكها (66). من المرغوب فيه أن ينظر إليك باعتبارك شخصا متسامحا، ومن العقلانية أن تبدو رحيما وليس قاسيا، ومن الضروري بوجه عام أن تبدو أهلا للتقدير (56، 58، 64). إذن، الحل هو أن تصبح متظاهرا ومنافقا كبيرا، وتتعلم مهارة «الدهاء في إرباك الناس» وجعلهم يصدقون ما تتظاهر به (61).
كان مكيافيللي قد تعلم درسا مبكرا عن قيمة الدهاء في إرباك الناس؛ فقد كان حاضرا - كما رأينا - حينما تطور الصراع بين شيزاري بورجا ويوليوس الثاني في الأشهر الأخيرة من عام 1503، والواضح أن الانطباعات التي خرج بها من تلك المناسبة كانت لا تزال تستحوذ على تفكيره عندما بدأ الكتابة عن النفاق في كتابه «الأمير». فهو يشير مباشرة إلى هذا الحدث الذي شهده، مستخدما إياه باعتباره مثاله الرئيسي على الحاجة إلى البقاء في حالة حذر من نفاق وازدواجية الأمراء، ويتذكر أن يوليوس تمكن من إخفاء كراهيته لبورجا ببراعة، بحيث استدرج الدوق للوقوع في الخطأ الفادح المتمثل في الاعتقاد بأن «المصالح الجديدة تجعل الرجال ذوي الشأن ينسون الجروح القديمة» (29). وهكذا تمكن يوليوس من استخدام قدراته في الخداع استخداما حاسما؛ فبعد أن فاز في انتخابات البابوية بدعم كامل من بورجا، كشف فجأة عن شعوره الحقيقي، وتحول ضد الدوق، وكان سببا في سقوطه النهائي. لا بد أن بورجا تخبط في هذه المرحلة، ويشعر مكيافيللي أنه يستحق أن يلام بشدة لخطئه هذا؛ فقد كان عليه أن يعلم أن موهبة نشر حالة من الإرباك والحيرة تشكل جزءا من ترسانة أسلحة أي أمير ناجح (34).
لكن من المستبعد أن مكيافيللي كان يجهل فكرة أنه من خلال تزكيته فنون الخداع باعتبارها مفتاحا للنجاح، فإنه يصبح عرضة لأن يبدو شخصا شديد السطحية. صحيح أن عددا أكبر من الفلاسفة الأخلاقيين الأرثوذكسيين كانوا على استعداد دائم للنظر في اقتراح إمكانية استخدام النفاق طريقا مختصرة موصلة إلى المجد، لكنهم دائما ما ذهبوا إلى استبعاد أي إمكانية من هذا القبيل، فشيشرون على سبيل المثال تناول هذه الفكرة تناولا صريحا في الكتاب الثاني من سلسلة «الواجبات»، لا لسبب آخر سوى استبعادها باعتبارها حمق بين؛ إذ يقول إن أي شخص «يعتقد أنه يستطيع الفوز بمجد دائم عن طريق التظاهر مخطئ جدا»، والسبب هو أن «المجد الحقيقي يمد جذورا عميقة وينشر فروعه على نطاق واسع»، في حين أن «جميع صور التظاهر سرعان ما تهوي أرضا مثل الأوراق الذابلة المتساقطة» (2 : 12، 43).
ويرد مكيافيللي، كما فعل من قبل، برفض مثل هذه المشاعر الجادة بأشد أساليبه سخرية، فيصر في الفصل الثامن عشر على أن ممارسة النفاق ليست مجرد عنصر ضروري في حكم الأمراء، بل يمكنه أيضا المداومة عليها دون كثير عناء طالما دعته الحاجة لذلك. ويوجد سببان مختلفان لهذا الاستنتاج الذي يثير الاستفزاز عن عمد، أحد هذين السببين أن معظم البشر سذج في تفكيرهم، والأهم من هذا أنهم ميالون لخداع أنفسهم، لدرجة أنهم عادة ما يأخذون الأمور بظواهرها دون تمحيص على الإطلاق (62). وأما السبب الآخر فهو أنه عندما يتعلق الأمر بتقييم سلوك الأمراء ، ثمة احتمال كبير بأن يحكم على الأمور بظواهرها حتى أكثر المراقبين حنكة؛ وذلك لأن الأمير يكون بمعزل عن الجماهير، ومدعوما بجلال مكانته التي تجعل الجميع «لا يسعهم أن يروا إلا ما يبدو عليه في الظاهر»، عدا «قلة قليلة هم من يملكون دراية مباشرة بما أنت عليه حقا» (63)؛ لذلك ليس ثمة سبب لافتراض أن خطاياك ستكشف أمرك، بل على العكس من ذلك، «المخادع الماهر دائما ما يجد الكثير ممن يتركون أنفسهم فريسة للخداع» (62).
المسألة الأخرى التي يناقشها مكيافيللي تتمثل في ماهية الموقف الذي ينبغي اتخاذه من القواعد الجديدة التي ينبغي ترسيخها في الذهن. للوهلة الأولى، يبدو أنه يتبنى موقفا أخلاقيا تقليديا إلى حد ما؛ فهو يقر في الفصل الخامس عشر بأنه من «الجدير بالثناء» أن يظهر الأمير الجديد الصفات التي عادة ما تعد جيدة، كما يساوي مكيافيللي بين التخلي عن فضائل الأمراء وبين «التصرف على نحو غير أخلاقي» (55). ثم يتكرر نفس القدر من القيم حتى في الفصل السيئ السمعة الذي يتناول «كيف ينبغي للحكام أن يوفوا بوعودهم»؛ إذ يبدأ مكيافيللي بالتأكيد على أن الجميع يدرك إلى أي مدى يكون الحاكم جديرا بالثناء، حينما «يتحرى في حياته الاستقامة وليس الاحتيال» (61). ويمضي فيؤكد على أن الأمير لا يتعين عليه فقط أن يبدو فاضلا على النحو المتعارف عليه، بل ينبغي له أيضا «أن يكون كذلك حقا» بقدر ما تسمح به الظروف، وينبغي له «ألا يحيد عن السلوك الصحيح إذا كان ذلك ممكنا، على أن يكون قادرا في الوقت ذاته على خوض مسلك الإيذاء متى يصبح ذلك ضروريا» (62).
ومع ذلك، يقدم مكيافيللي في الفصل الخامس عشر حجتين مختلفتين جدا، تصبح كل منهما محل تفصيل فيما بعد؛ فهو بادئ ذي بدء، يتشكك إلى حد ما فيما إذا كان من الصواب أن نقول إن تلك الصفات التي تعتبر جيدة، لكنها رغم ذلك مدمرة، جديرة حقا بأن توصف بأنها فضائل. وبما أن من شأنها أن تسبب الدمار، فهو يفضل القول بأنها «تبدو فاضلة»، وبما أن أضدادها من الأرجح أن تعزز موقف المرء، فإنه يفضل القول بأنها تبدو فقط وكأنها رذائل (55).
يواصل مكيافيللي عرض هذه الفكرة في كلا الفصلين اللاحقين؛ ففي الفصل السادس عشر، الذي عنوانه «الكرم والشح»، يتناول فكرة تناولها جميع الفلاسفة الأخلاقيين الكلاسيكيين، ويقلبها رأسا على عقب. فشيشرون عندما يناقش فضيلة الكرم في كتابه «الواجبات» (2 : 17، 58 و2 : 22، 77) يعرفها بأنها الرغبة في «تجنب أي شبهة بالبخل»، ويوضح أن ما من نقيصة أشد كراهة في أي قائد سياسي من البخل والجشع. ويرد مكيافيللي بالقول بأنه، إذا كان هذا هو ما نعنيه بالكرم، فإننا لا نصف فضيلة وإنما رذيلة. ثم يوضح أن الحاكم الذي يرغب ألا يشتهر بالبخل سيجد أنه «بحاجة لأن ينفق في بذخ وتفاخر»، ونتيجة لذلك سيجد نفسه مضطرا «لفرض ضرائب باهظة على الناس» كي يسدد ثمن سخائه، وهذه سياسة سرعان ما ستجعله «مكروها من رعاياه». في المقابل، إذا بدأ الحاكم يقلع عن أي رغبة في التصرف بهذا القدر من السخاء، فقد يبدو للناس بخيلا في بادئ الأمر، لكنه «في نهاية المطاف سيتبين أنه أكثر سخاء»، وسوف يكون ممارسا بالفعل لفضيلة الكرم الحقيقية (59).
ثمة مفارقة مماثلة تظهر في الفصل التالي، الذي عنوانه «القسوة والرحمة». هذا أيضا كان موضوعا أثيرا لدى الفلاسفة الأخلاقيين من الرومان، ومقال سينيكا «عن العفو» هو أشهر تناول لهذا الموضوع. يقول سينيكا إن الأمير الرحيم دائما ما يبدو عليه «كم هو كاره لأن تمتد يده» بإنزال العقاب، وأنه لن يلجأ إليه إلا «عندما ينال تكرار الخطأ العظيم من صبره كل منال»، ولن ينزله إلا «بعد ممانعة كبيرة» و«كثير من التسويف»، ومع أكبر قدر ممكن من الرأفة (1 : 13، 4 و1 : 14، 1 و2 : 2، 3). في المقابل، يصر مكيافيللي ثانية على أن هذه العقيدة تمثل سوء فهم تاما للفضيلة محل النقاش. فإذا بدأت بمحاولة أن تكون رحيما بحيث «تفرط في السماح بظهور اضطرابات»، ولا تلجأ إلى العقاب إلا بمجرد أن يبدأ «القتل والنهب»، لن يكون سلوكك هذا تسامحا ورحمة بقدر ما هو سلوك حاكم لا يملك الشجاعة لأن يجعل ممن تزعموا الفتنة عبرة لمن يعتبر . ويضرب مكيافيللي مثالا على ذلك بني وطنه الفلورنسيين الذين أرادوا ألا يظهروا بمظهر القسوة في مواجهة انتفاضة ما، ونتيجة لذلك تصرفوا على نحو أسفر عن دمار مدينة بأكملها، وهذه نتيجة أشد بشاعة في قسوتها من أي نوع من القسوة كان ذهنهم ليتفتق عنه. هذا يختلف عن سلوك شيزاري بورجا الذي «كان يعتبر قاسيا»، والذي أدت إجراءاته الصارمة «إلى استعادة النظام في رومانيا، وتوحيدها وجعلها مسالمة وموالية للدولة» من خلال وحشيته المزعومة (58).
هذا يقود مكيافيللي إلى سؤال وثيق الصلة يثيره - بنفس روح المفارقة المتعمدة - لاحقا في نفس الفصل «عما إذا كان الأفضل للمرء أن يكون محبوبا لا مرهوب الجانب، أم العكس» (59). من جديد، كان الجواب الكلاسيكي واردا في كتاب «الواجبات» لشيشرون؛ «إن الرهبة ليست إلا ضمانة ضعيفة لاستمرار البقاء في السلطة»، بينما الحب «يمكن أن يكون محل ثقة في أنه سيجعل السلطة في مأمن إلى الأبد» (2 : 7، 23). ومن جديد، يعرب مكيافيللي عن تمام اختلافه مع هذا الرأي، ويرد بأن «الأكثر أمنا بكثير» لأي أمير «أن يكون مرهوب الجانب على أن يكون محبوبا»، وسبب ذلك أن كثيرا من الصفات التي تجعل الأمير محبوبا غالبا ما تجلب عليه الاستهانة به والتمرد عليه، فإذا لم تكن رعيتك «يرهبون العقاب»، فلن يفوتوا فرصة لخداعك من أجل مصلحتهم، لكن إذا جعلت نفسك مرهوب الجانب، فسوف يفكرون مليا قبل أن يلحقوا بك ضررا أو يهينوك، وبالتالي سيكون من الأسهل عليك بكثير أن تحتفظ بدولتك (59).
شكل 2-2: صفحة العنوان لترجمة إدوارد داكري لكتاب «الأمير»، أقدم نسخة إنجليزية تم طباعتها.
المسار الآخر للنقاش في هذين الفصلين يعكس رفضا أكثر ازدراء للأخلاق الإنسانية التقليدية؛ إذ يشير مكيافيللي إلى أنه حتى إذا كانت الصفات التي عادة ما تعتبر جيدة هي فضائل بالفعل - بحيث إن الحاكم الذي لا يلتزم بها سيسقط في الرذيلة لا شك - فينبغي للحاكم ألا يقلق بشأن هذه الرذائل، سواء كان يعتقد أنها مفيدة أو غير ذات صلة بتسيير شئون حكمه.
الشغل الشاغل لمكيافيللي فيما يتعلق بهذه النقطة هو تذكير الحكام الجدد بأكثر واجباتهم أهمية على الإطلاق، والمتمثل في أن الأمير الحكيم «ينبغي ألا يخشى اكتساب سمعة سيئة جراء اتصافه بهذه الرذائل التي من دونها سيصعب عليه الاحتفاظ بسلطته»، وسيرى أن هذه الانتقادات ما هي إلا ثمن محتوم عليه أن يدفعه في سبيل أداء التزامه الأساسي، الذي يتمثل بالطبع في الاحتفاظ بدولته (55). يوضح مكيافيللي انعكاسات هذا المبدأ أولا فيما يتعلق بما يفترض أنها رذيلة الشح؛ فبمجرد أن يدرك الأمير الحكيم أن الشح «أحد الرذائل التي تمكنه من الحكم»، لن يقلق بعد ذلك من أن يقال إنه رجل بخيل (57). الأمر نفسه ينطبق أيضا في حالة القسوة؛ فاستعداد الأمير للتصرف في بعض الأحيان بقسوة شديدة ضروري وحاسم في المحافظة على استقرار النظام في الشئون المدنية والعسكرية على حد سواء، وهذا يعني أن الأمير الحكيم «ينبغي ألا يقلق بشأن اكتسابه سمعة بأنه قاس»، وأن من الضروري ألا يقلق المرء من أن يوصف بأنه قاس إذا كان قائدا للجيش؛ لأن من دون هذه السمعة لن يتحقق أملك أبدا في إبقاء قواتك «متحدة ومهيأة للعمل العسكري» (60).
وأخيرا، يتعرض مكيافيللي للنقطة المتعلقة بما إذا كان من المهم للحاكم أن يتجنب رذائل الطبيعة البشرية وخطاياها الأهون شأنا، إذا كان يرغب في الاحتفاظ بدولته. في أغلب الأحيان كان مؤلفو كتب إسداء النصح للأمراء يتناولون هذه المسألة في سياق أخلاقي صارم، يعيد إلى الأذهان إصرار شيشرون في كتابه الأول من سلسلة «الواجبات»، على أن الاستقامة «ضرورية للحكم على نحو أخلاقي»، ومن ثم فإن كل من هم في مواقع السلطة يتعين عليهم أن يتجنبوا كل الزلات السلوكية في حياتهم الشخصية (1 : 28، 98). في المقابل، يرد مكيافيللي في استهانة بأن الأمير الحكيم «يسعى لاجتناب تلك الرذائل إن استطاع، لكن إذا رأى أنه لا يستطيع، فإنه لن يقلق نفسه دون شك» أكثر مما ينبغي بشأن هذه الحساسيات الأخلاقية العادية (55).
الفصل الثالث
منظر الحرية
مع انتهاء مكيافيللي من كتاب «الأمير»، تجددت آماله في العودة إلى موقع حكومي مؤثر؛ فقد كتب إلى فيتوري في شهر ديسمبر عام 1513 أن منتهى تطلعاته كانت لا تزال تتمثل في أن يجعل من نفسه «نافعا لحكامنا من عائلة مديتشي، حتى إذا بدءوا بتكليفي بدحرجة حجر.» وتساءل عما إذا كانت أكثر الطرق فعالية لتحقيق طموحه هذا هي الذهاب إلى روما «بأطروحتي الصغيرة هذه» كي يقدمها شخصيا إلى جوليانو دي مديتشي، فيبين له بذلك أنه «قد يسر كثيرا بتلقي خدماتي» (م 305).
في بادئ الأمر بدا أن فيتوري على استعداد لدعم هذه الخطة؛ إذ رد بأن مكيافيللي يجب أن يرسل له الكتاب، حتى «يتسنى لي أن أرى ما إذا كان من المناسب تقديمه» (م 312). وحينما أرسل مكيافيللى - حسب الاتفاق - النسخة المنقحة التي كان قد بدأ إعدادها للفصول الافتتاحية، قال فيتوري إنه «سعيد بها للغاية»، لكنه احتاط بأن أضاف قائلا: «لا أرغب في إصدار حكم نهائي؛ نظرا لأن بقية العمل ليست لدي» (م 319).
لكن سرعان ما تبين جليا أن آمال مكيافيللي ستنقطع من جديد؛ ذلك لأن فيتوري بعدما قرأ كامل نص كتاب «الأمير» في بدايات عام 1514، رد بصمت لا يبشر بخير، فهو لم يشر مرة أخرى إلى الكتاب، وإنما بدأ يملأ رسائله بثرثرة مشتتة للانتباه عن آخر علاقاته الغرامية. ورغم أن مكيافيللي أجبر نفسه على أن يرد عليه بروح مماثلة، كان لا يكاد يستطيع إخفاء قلقه المتصاعد. وبحلول منتصف العام، بات يدرك أخيرا أن كل هذا لا طائل من ورائه، وكتب في مرارة كبيرة لفيتوري ليقول إنه لن يواصل النضال، وقال لقد بات واضحا «أنني سأضطر لأن أظل أحيا هذه الحياة البائسة، دون أن أعثر على رجل واحد يتذكر خدمة قدمتها أو يعتقد أنني قادر على فعل أي خير» (م 343).
بعد خيبة الأمل هذه شهدت حياة مكيافيللي تغيرا دائما؛ فهو لما تخلى عن كل أمل في العودة للعمل الدبلوماسي، بدأ أكثر فأكثر يرى نفسه أديبا. أبرز علامات هذا التوجه الجديد أنه بعد سنة أخرى أو أكثر من «الخمول الشديد» في الريف، بدأ يشارك مشاركة مهمة في الاجتماعات التي عقدتها مجموعة من الفلاسفة الإنسانيين والأدباء، الذين كانوا يلتقون بانتظام في حدائق كوزيمو روتشيللاي على مشارف فلورنسا، من أجل التحاور المفيد والترفيه عن أنفسهم.
جانب من هذه المناقشات التي كانت تعقد في حديقة أورتي أوريتشلاري كان ذا طابع أدبي. كانت المناقشات تتضمن مناظرات حول المزايا المتنافسة للغتين اللاتينية والإيطالية من حيث كونهما لغتين أدبيتين، وكانت تتضمن قراءات بل وعروضا مسرحية أيضا. كان تأثير ذلك على مكيافيللي يتمثل في توجيه طاقاته الخلاقة في اتجاه جديد كليا؛ فقد قرر أن يكتب مسرحية من تأليفه، وكانت ثمرة ذلك مسرحية «ماندراجولا»، الكوميديا البارعة والموجعة في ذات الوقت عما تقوم به امرأة شابة وجميلة متزوجة من إغواء لقاض عجوز. كانت النسخة الأصلية قد أنجزت على الأرجح عام 1518، ويحتمل أنها قرئت على مسامع أصدقاء مكيافيللي في حديقة أورتي، قبل أن تعرض على الجمهور لأول مرة في فلورنسا وروما خلال العامين التاليين.
لكن من الواضح أن أكثر النقاشات حدة في حديقة أورتي كانت تتناول موضوعات سياسية؛ فقد روى أنطونيو بروشيولي أحد المشاركين في الاجتماعات في عمله الفلسفي «الحوارات» أنهم كانوا لا يكفون عن مناقشة مصير الأنظمة الجمهورية: كيف تبلغ العظمة، وكيف تحافظ على حرياتها، وكيف تنحدر وتسقط في براثن الفساد، وكيف تصل في نهاية المطاف إلى مرحلة الانهيار الحتمية. ولم يكن اهتمامهم بالحرية المدنية يعبر عن نفسه بمجرد كلمات؛ فقد أصبح بعض أعضاء الفريق معارضين شرسين لعودة «استبداد» عائلة مديتشي إلى حد أنهم تورطوا في مؤامرة فاشلة لاغتيال الكاردينال جوليو دي مديتشي عام 1522. كان من بين من أعدموا بعد فشل المؤامرة ياكوبو دا دياتشيتو، ومن بين من حكم عليهم بالنفي زانوبي بونديلمونتي ولويجي ألاماني، وبروشيولي نفسه. كان كل هؤلاء أعضاء بارزين في وسط أورتي أوريتشلاري، أو الاجتماعات التي انتهت نهاية مفاجئة بعد فشل محاولة «الانقلاب».
لم يكن مكيافيللي قط ذا انتماء حزبي متعصب للحرية الجمهورية بدرجة تدفعه لأن يشارك في أي من المؤامرات المتعددة المناهضة لحكم مديتشي، لكن من الواضح أنه تأثر تأثرا شديدا باتصالاته بكوزيمو روتشيللاي وأصدقائه. إحدى نتائج مشاركته في مناقشاتهم تمثلت في أطروحته عن «فن الحرب»، التي نشرها عام 1521. فهذا العمل مكتوب بالفعل في شكل محادثة تجري في حديقة أورتي أوريتشلاري؛ حيث يطرح روتشيللاي الحجة بينما يؤدي بونديلمونتي وألاماني دوري المتحاورين الرئيسيين. لكن أهم ما نتج عن علاقة مكيافيللي بهؤلاء المتعاطفين الجمهوريين تمثل في قراره أن يكتب «المطارحات»، أطول أعماله وربما أكثرها ابتكارا عن فن الحكم. لم يكتف مكيافيللي بإهداء هذا العمل إلى روتشيللاي وبونديلمونتي، وإنما نسب لهما الفضل في كتابته لهذا العمل صراحة في إهدائه؛ لأنهما «دفعاني لكتابة ما لم أكن لأكتبه أبدا من تلقاء نفسي» (188).
السبيل إلى العظمة
تتخذ «مطارحات» مكيافيللي من حيث الشكل صورة تعليق على الكتب العشرة الأولى من تاريخ ليفيوس مؤرخ روما، والتي تتبع فيها ليفيوس بلوغ المدينة منزلة العظمة بعد هزيمة منافسيها المحليين، وطرد ملوكها وتأسيس «الدولة الحرة». لكن مكيافيللي يتوسع عبر نص ليفيوس بدرجة أكبر بكثير مما يوحي العنوان، ويعالج موضوعاته المختارة بطريقة استطرادية غير ممنهجة بل ومتشظية في بعض الأحيان؛ فقد كان يستخدم أحيانا سرد ليفيوس كأساس يبني فوقه مناقشة واسعة النطاق لبعض الموضوعات المهمة في نظرية فن الحكم، لكنه في أحيان أخرى كان يكتفي بالتحدث عن شخصيات فردية، أو يروي قصة ما ويستنبط منها مغزى معينا. لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال القول بأن متاهته هذه لا تحوي خطا توجيهيا؛ فالكتاب الأول من الكتب الثلاثة التي يتكون منها كتاب «المطارحات» معني في المقام الأول بدستور الدولة الحرة، والثاني بكيفية الاحتفاظ بقوة عسكرية فعالة، والثالث بمسائل تتعلق بالقيادة. لكن مع أنني سأتبع هذه الخطوط العامة، يجب أن يوضع في الحسبان مسألة أن نتيجة ذلك لن تعطي انطباعا بأن مكيافيللي نجح في الابتكار، أو ربما حتى أراد الابتكار، بقدر ما ستعطي انطباعا بأن النص منظم على نحو أكثر دقة.
ومكيافيللي إذ يبدأ البحث في تاريخ روما المبكر، يشغله سؤال واحد أكثر من أي شيء آخر، هذا السؤال يذكره مكيافيللي أولا في الفقرة الافتتاحية من أول «مطارحة»، ويشكل أساسا لقدر كبير من بقية الكتاب . يقول مكيافيللي إن هدفه أن يكتشف «السبب في الصعود إلى «منزلة الهيمنة» التي بلغتها تلك الجمهورية» (192). ما الذي مكن روما من بلوغ مكانة منقطعة النظير من العظمة والسلطة؟
توجد روابط واضحة بين هذا الموضوع وموضوع كتاب «الأمير». صحيح أن مكيافيللي في كتاب «الأمير» يبدأ باستبعاد الجمهوريات من نطاق بحثه، بينما في «المطارحات» تشكل الجمهوريات أدلته الرئيسية، إلا أنه سيكون من الخطأ أن نستنتج أن «المطارحات» ليست معنية إلا بالجمهوريات في مقابل الإمارات؛ فمكيافيللي يؤكد في الفصل الثاني على أن اهتمامه ليس منصبا على الجمهوريات في حد ذاتها، بل على حكم المدن، سواء كانت تحكم باعتبارها «جمهوريات أو إمارات» (195). يضاف إلى ذلك أن هناك تشابها كبيرا بين رغبة مكيافيللي في كتاب «الأمير» في أن يقدم النصح للحكام بشأن كيفية بلوغ المجد من خلال فعل «أشياء عظيمة»، وتطلعه في كتاب «المطارحات» إلى أن يفسر السبب في أن بعض المدن ترتقي «منزلة العظمة»، وكذلك السبب في أن مدينة روما تحديدا تمكنت من بلوغ «أوج العظمة» ومن إنتاج تلك «النتائج العظيمة» (207-211، 341).
ماذا إذن كانت «الطرق اللازمة لبلوغ العظمة» في حالة روما (358)؟ بالنسبة لمكيافيللي، هذا سؤال مفيد؛ لأن مكيافيللي يؤيد الافتراض التقليدي للفلاسفة الإنسانيين الذي مفاده أن أي شخص «يتدارس الشئون الحالية ونظيرتها القديمة، يسهل عليه أن يدرك أن جميع المدن وجميع الشعوب لها نفس الرغبات ونفس السمات»، وهذا يعني أن «من يفحص جديا الأحداث الماضية يسهل عليه أن يتوقع أحداث المستقبل»، و«يستطيع أن يستخدم معها الحلول التي استخدمها القدماء في الماضي»، أو على الأقل «يبتكر حلولا جديدة نتيجة لتشابه أحداث الماضي بالحاضر» (278). وهكذا فإن الأمل المبهج الذي تقوم عليه «المطارحات» ويمنحها حيوية نابضة، مضمونه أننا إذا كنا نستطيع معرفة سبب نجاح روما، فربما نستطيع أن نكرره مرة أخرى.
وتكشف إحدى دراسات التاريخ الكلاسيكي، وفقا لبداية «المطارحة» الثانية، عن أن مفتاح فهم إنجازات روما يمكن تلخيصه في جملة واحدة وهي: «تدل التجارب على أن المدن لم يحدث قط أن حققت رقيا على صعيد الهيمنة أو الثروات إلا حينما كانت في حالة حرية.» ويقال إن العالم القديم يحوي مثالين موضحين لهذه الحقيقة العامة ومثيرين على نحو خاص، أولهما «أنه لأمر مدهش أن نتفكر فيما بلغته أثينا من عظمة في غضون مائة سنة من تحرير نفسها من طغيان بيزستراتوس»، لكن المثال الأهم «أنه لمن المدهش جدا أن نلاحظ ما بلغته روما من عظمة بعد أن حررت نفسها من ملوكها» (329). على النقيض من ذلك، «يحدث عكس كل هذا في البلدان التي تحيا حياة العبيد» (333)، وذلك سببه أنه «بمجرد أن يمارس استبداد على مجتمع حر»، فإن أولى العواقب الوخيمة الناجمة عن ذلك هي أن مثل تلك المدن «لم تعد تتقدم إلى الأمام، ولم تعد تنمو على صعيد القوة أو الثروات، وإنما تتخلف دائما، في واقع الحال» (329).
إن ما يرمي إليه مكيافيللي في المقام الأول من وراء تركيزه البالغ على الحرية، هو أن أي مدينة عازمة على بلوغ العظمة يجب أن تظل متحررة من كل أشكال العبودية السياسية، سواء كانت هذه العبودية تفرض «من الداخل» بفعل حاكم طاغية، أو «من الخارج» من قبل قوة استعمارية (195، 235)، وهذا بدوره يعني أن القول بأن مدينة ما تمتلك حريتها يعادل القول بأنها محافظة على استقلاليتها عن أي سلطة عدا سلطة المجتمع نفسه. فالحديث عن «دولة حرة» يعادل بالتالي الحديث عن دولة تحكم نفسها، ومكيافيللي يوضح هذا في الفصل الثاني من «المطارحة» الأولى، حيث يعلن أنه سوف «يغفل مناقشة تلك المدن» التي نشأت «خاضعة لشخص ما»، وسوف يركز على المدن التي نشأت في حالة حرية؛ أي على المدن التي «تحكم نفسها بقراراتها منذ نشأتها» (195). ويتكرر هذا التعهد نفسه لاحقا في الفصل الذي يشيد فيه مكيافيللي أولا بقوانين سولون المتعلقة بتأسيس «شكل للحكم يستند إلى الشعب»، ثم يمضي ويقرر أن العيش وفقا لهذا النظام يساوي العيش «في حرية» (199).
وهكذا فإن النتيجة العامة الأولى التي نستخلصها من «المطارحات»، هي أن المدن لا «تنمو نموا كبيرا في وقت بالغ القصر» وتكتسب عظمة، إلا إذا كان «الشعب هو الذي يحكمها» (316). هذا لا يقود مكيافيللي إلى فقدان الاهتمام بالإمارات؛ لأنه في بعض الأحيان (لكن ليس دائما) على استعداد لأن يعتقد أن الحفاظ على السيطرة الشعبية قد يكون متوافقا مع شكل من أشكال الحكم الملكي (مثال 427)، لكنه يقوده بلا شك إلى التعبير عن تفضيله الملحوظ للأنظمة الجمهورية على الإمارات. وهو يذكر أسبابه على نحو قاطع في بداية «المطارحة» الثانية، إن «الصالح العام وليس الفردي» هو الذي «يجعل المدن تبلغ العظمة»، «ومما لا شك فيه أن هذا الصالح العام لا يعتبر مهما إلا في الجمهوريات.» لكن في ظل حكم الأمراء «يحدث العكس»؛ لأن «ما في صالحه عادة ما يلحق الضرر بالمدينة، وما في صالح المدينة يلحق به الضرر»، وهذا ما يفسر السبب في أن المدن التي تحت حكم ملكي نادرا ما «تتقدم إلى الأمام»، بينما «كل المدن والمقاطعات التي تحيا في حرية في أي مكان في العالم» دائما ما «تحقق مكاسب كبيرة جدا» (329، 332).
إذا كانت الحرية مفتاح بلوغ العظمة، فكيف يمكن اكتساب الحرية نفسها، وكيف يمكن تأمينها؟ يبدأ مكيافيللي بالاعتراف بأن الأمر يتضمن دائما توفر عنصر ما من حسن الحظ؛ فمن الضروري لأي مدينة أن تكون قد بدأت «بداية حرة، دون أن تعتمد على أي شخص»، إذا كان هناك أي احتمال بأن تحقق مجدا مدنيا (193، 195). أما المدن التي تعاني سوء الحظ المتمثل في نشوئها في حالة عبودية، فغالبا ما تجد أن «وضع قوانين تحافظ على حريتها» وتوصلها إلى المكانة المرموقة، «ليس أمرا صعبا فحسب وإنما مستحيل» (296).
لكن كما هو الحال في كتاب «الأمير»، يرى مكيافيللي الافتراض بأن بلوغ العظمة يعتمد كليا على أهواء «الحظ» يعد خطأ جوهريا، فهو بعد أن يثير هذه المسألة في بداية «المطارحة» الثالثة، يقر بأن بعض الكتاب «من العيار الثقيل جدا»، منهم بلوتارخ وليفيوس، ذهبوا إلى أن ارتقاء الشعب الروماني ذرى المجد يكاد يعزى على نحو تام إلى «الحظ»، لكنه يرد على ذلك بأنه «ليس على استعداد لأن يسلم بهذا بأي حال من الأحوال» (324). ثم يعترف لاحقا بأن الرومان تمتعوا بقدر وافر من هبات «الحظ»، وكذلك استفادوا من مختلف البلايا التي أنزلتها بهم إلهة الحظ، «كي يجعلوا روما أكثر قوة ويدفعوا بها إلى العظمة التي بلغتها» (408). لكنه يصر - على غرار رؤيته في كتاب «الأمير» - على أن تحقيق الأشياء العظيمة ليس على الإطلاق ثمرة لحسن «الحظ» وحده، وإنما يكون دائما ثمرة لحسن «الحظ» المصحوب بصفة «القوة» التي لا غنى عنها، والتي تمكننا من مواجهة ما ينزل بنا من مصائب برباطة جأش، وفي الوقت ذاته تجذب رضا واهتمام إلهة «الحظ». ومن ثم فهو يخلص إلى أننا إذا أردنا أن نفهم سبب «منزلة الهيمنة» التي ارتقتها الجمهورية الرومانية، فعلينا أن ندرك أن الإجابة تكمن في حقيقة أن روما امتلكت «قدرا عظيما من «القوة»»، ونجحت في أن تضمن استمرار هذه الصفة الحاسمة «باقية في تلك المدينة لقرون عديدة» (192). ولما كان الرومان «يخلطون ما يتمتعون به من «حظ» مع «قوتهم» الهائلة»، كان ذلك هو السبب في احتفاظهم بحريتهم الأصلية، وارتقائهم في نهاية المطاف إلى منزلة الهيمنة على العالم (326).
حينما ينتقل مكيافيللي إلى تحليل هذا المفهوم المحوري لصفة «القوة»، فإنه يتبع حرفيا الخطوط التي كان قد وضعها في كتاب «الأمير». صحيح أنه يستخدم المصطلح بحيث يشير إلى إضافة واحدة مهمة إلى رؤيته السابقة، لكنه في كتاب «الأمير» ربط هذه الصفة ربطا حصريا بأعظم القادة السياسيين والقادة العسكريين؛ بينما في «المطارحات» يصر صراحة على أنه إذا كان لأي مدينة أن تبلغ العظمة، فمن الضروري أن يتصف بصفة القوة كل مواطنيها (498). لكنه حينما يصل إلى تعريف ما تعنيه «القوة»، يكرر كثيرا حججه السابقة، مسلما في يقين بالاستنتاجات المذهلة التي كان قد توصل إليها بالفعل.
وهكذا فإن امتلاك «القوة» ممثل في شكل استعداد لفعل كل ما هو ضروري لتحقيق المجد والعظمة المدنيين، سواء كانت التصرفات اللازمة لتحقيق ذلك خيرة في جوهرها أو شريرة في طبيعتها، وهذا يعتبر في المقام الأول السمة الأكثر أهمية للقيادة السياسية. وكما فعل مكيافيللي في كتاب «الأمير»، فقد أوضح هذه النقطة عن طريق الإلماح إلى الفلسفة الإنسانية لشيشرون، واستنكارها على نحو ساخر. كان شيشرون قد أكد في كتاب «الواجبات» على أن رومولوس عندما قرر أنه «من الأنسب له أن يحكم منفردا» ومن ثم قتل شقيقه، قد ارتكب جريمة لا سبيل للتغاضي عنها؛ وذلك لأن دفاعه عن تصرفه هذا «لم يكن معقولا ولا مقبولا على الإطلاق» (3 : 10، 41). على عكس ذلك، يصر مكيافيللي على أنه ما من «فكر حصيف» من شأنه أبدا أن «يدين أي شخص في عمل غير مشروع كان الهدف من استخدامه تنظيم مملكة أو إقامة جمهورية». ثم يستشهد بحالة قتل رومولوس لأخيه، فيذهب إلى أن «هذا الفعل يدينه ولا شك، لكن نتيجته يجب أن تشفع له، وطالما كانت النتيجة خيرا، كنتيجة ما فعله رومولوس، فإنها دائما ما ستشفع له؛ لأن من يمارس العنف ليدمر هو من يجب أن يدان عنفه وليس من يمارس العنف ليصلح» (218).
ويعتقد أن الاستعداد لإعلاء مصالح المجتمع على كل المصالح الخاصة والاعتبارات الأخلاقية المتعارف عليها، لا يقل ضرورة وأهمية في حالة المواطنين العاديين. ومن جديد، يوضح مكيافيللي هذه النقطة عن طريق السخرية من قيم الفلسفة الإنسانية الكلاسيكية. كان شيشرون قد أعلن في كتاب «الواجبات» أن «بعض التصرفات إما مقيتة للغاية وإما شريرة للغاية إلى حد أنه ما من رجل حكيم سيقدم على ارتكابها، حتى إن كان هدفه من ورائها إنقاذ بلاده» (1 : 45، 159). يدحض مكيافيللي هذا الرأي بقوله: «عندما تكون المسألة برمتها مسألة سلامة دولة المرء»، يصبح من واجب كل مواطن أن يدرك أنه «لا مجال للنظر إلى ما هو عادل أو ما هو غير عادل، وإلى ما هو رحيم أو ما هو قاس، أو ما هو جدير بالثناء أو ما هو مشين، وإنما لا بد أن يتخلص المرء من أي تردد، ويتبع أقصى خطة ممكنة من شأنها أن تنقذ حياة الدولة وتحافظ على حريتها» (519).
هذه، إذن، أمارة على «قوة» الحكام والمواطنين على حد سواء؛ إذ يجب على كل امرئ أن يكون على استعداد «لإعلاء المصلحة العامة على مصالحه الشخصية ، وإعلاء مصلحة الوطن المشترك على مصلحة ذريته» (218). لهذا السبب يتحدث مكيافيللي عن الجمهورية الرومانية باعتبارها مستودعا «للكثير جدا من «القوة»»؛ حيث كان الشعور بالوطنية يكاد يكون «أقوى من أي اعتبار آخر»، ونتيجة لذلك أصبح العامة «طوال أربعمائة عام أعداء لصفة الملك، ومحبين للمجد والصالح العام لمدينتهم الأم» (315، 450).
لكن الواضح أن الزعم بأن مفتاح الحفاظ على الحرية يكمن في ترسيخ صفة «القوة» في عامة المواطنين ككل، يثير سؤالا آخر أهم من كل ما سبق، ألا وهو: كيف يكون لنا أن نأمل في غرس هذه الصفة على نطاق واسع بما فيه الكفاية، وأن نحتفظ بها لفترة طويلة بما فيه الكفاية، كي نضمن بلوغ المجد المدني؟ من جديد، يعترف مكيافيللي بأن الأمر دائما ما يتضمن عنصرا من حسن «الحظ»؛ فما من مدينة يمكنها أن تأمل في تحقيق العظمة ما لم يحدث مصادفة أن يضعها أب مؤسس عظيم على الطريق الصحيحة، يرد إليه الفضل في ميلادها «كأنها ابنة له» (223). أما المدينة التي لم «تصادف مؤسسا حكيما»، فغالبا ستجد نفسها «في موقف بائس إلى حد ما» (196). على عكس ذلك، المدينة التي تحوي ذاكرتها «قوة» مؤسس عظيم وأساليبه، مثلما تحوي ذاكرة روما رومولوس، تكون قد «صادفت أوفر قدر من حسن «الحظ»» (244).
والسبب في حاجة أي مدينة إلى هذا النوع من «الحظ الأوفر»، هو أن تأسيس جمهورية أو إمارة لا يمكن أبدا أن يتحقق «من خلال «قوة» الجماهير»؛ لأن «اختلاف آرائهم» دائما ما سيمنعهم من بلوغ «التوافق اللازم لتنظيم الحكم» (218، 240)، وبناء على ذلك فإنك «إذا أردت أن تؤسس جمهورية، فمن الضروري أن تكون وحدك» (220). يضاف لذلك أن أي مدينة ما إن «تتدهور جراء الفساد» فإنها ستحتاج بالمثل ««قوة» رجل يكون موجودا على قيد الحياة حينئذ»، وليس ««قوة» الجماهير» كي تستعيد عظمتها (240). ومن ثم يخلص مكيافيللي إلى أننا «يجب أن نعتبر ما يلي قاعدة عامة: من النادر، أو من المستحيل، أن يتم تنظيم أي جمهورية أو مملكة تنظيما جيدا من البداية، أو يعاد تنظيمها بالكامل» في وقت لاحق ، «ما لم يكن نظمها رجل واحد» (218).
لكن مكيافيللي يعلن بعد ذلك أن أي مدينة إذا كانت بالغة الحمق بحيث تعتمد على هذا «الحظ» الحسن المبدئي، فإنها لن تكون بذلك تخدع نفسها بأنها عظيمة فحسب، وإنما ستكون إلى جانب ذلك على شفا الانهيار. صحيح أن «امرأ واحدا فقط يمكنه وحده أن ينظم» الحكم، لكن ما من حكم يسعه أن يأمل في البقاء «إذا كان يقوم على أكتاف امرئ واحد فقط» (218)؛ فالنقيصة المحتومة في أي نظام حكم يضع ثقته في ««قوة» رجل واحد وحيد» تتمثل في أن هذه ««القوة» تفنى بفناء حياة هذا الرجل، ونادرا ما ينجح الورثة في إعادة سيرتها الأولى» (226)؛ ومن ثم فإن «وجود أمير يحكم بالحكمة طالما ظل على قيد الحياة» ليس بالأمر البالغ الأهمية لنجاة أي مملكة أو جمهورية، وإنما المهم «وجود أمير سينظمها بحيث» لا يعتمد حظها فيما بعد عليه، وإنما على ««قوة» الجماهير» (226، 240). وأعمق أسرار فن الحكم أن تعرف كيفية تحقيق ذلك.
ويؤكد مكيافيللي أن هذه المشكلة ذات صعوبة استثنائية؛ لأنه في حين يمكننا أن نتوقع وجود درجة فائقة من «القوة» لدى الآباء المؤسسين للمدن، فلا يمكننا أن نتوقع توافر نفس الصفة بطبيعة الحال وسط صفوف المواطنين العاديين. بل على العكس من ذلك، معظم البشر «أميل للشر منهم للخير»، ومن ثم فإنهم يميلون لتجاهل مصالح مجتمعهم كي يتصرفوا «وفقا لفساد أمزجتهم متى تسنت لهم حرية التصرف» (201، 215). وهكذا فإن جميع المدن تميل لأن تتراجع عن مستوى «قوة» مؤسسيها و«تنحدر إلى حالة أسوأ»، وهذه عملية يلخصها مكيافيللي بقوله إنه حتى أرقى المجتمعات عرضة لأن يضرب الفساد أطنابها (322).
إن الصورة التي ينطوي عليها هذا التحليل صورة أرسطية؛ فكرة اعتبار نظام الحكم كجسد طبيعي - شأنه شأن كل مخلوقات الدنيا - معرض لأن «يوهنه الدهر» (45). ويبرز مكيافيللي الاستعارة التي تصور نظام الحكم في شكل جسد إبرازا خاصا في بداية «المطارحة» الأولى؛ حيث يعتقد أنه «من الواضح وضوح الشمس أن هذه الأجساد إذا كانت لا تتجدد فإنها تفنى ولا تبقى»؛ لأن ما تملكه من «قوة» يفسد بمرور الزمن، وهذا الفساد سيقضي عليها لا محالة إذا لم تداو جروحها (419).
بناء على هذا، ظهور الفساد يعادل خسارة «القوة» أو تبديدها، ومكيافيللي يظن أن هذه عملية اضمحلال تنشأ بإحدى طريقتين؛ فقد يفقد جسد عامة المواطنين «قوته»، ومن ثم حرصه على الصالح العام، وذلك من خلال فقدان الاهتمام بالسياسة تماما، ما يجعل الجسد «كسولا وغير مؤهل بدنيا لأي من الأنشطة التي تتطلب القوة» (194). لكن التهديد الأكثر خطورة ينشأ عندما يظل المواطنون على حالهم من النشاط فيما يتعلق بشئون الدولة، لكنهم يبدءون في إعلاء طموحاتهم الفردية أو ولاءاتهم الفئوية على حساب المصلحة العامة. وهكذا يعرف مكيافيللي الخطة السياسية الفاسدة بأنها الخطة التي «يطرحها رجال مهتمون بما يمكنهم الحصول عليه من الجمهور، وليس بما هو في صالح الجمهور» (386). ويعرف الدستور الفاسد بأنه الدستور الذي يستطيع فيه «الأقوياء وحدهم» أن يقترحوا التدابير، ولا يفعلون ذلك «لخدمة الحرية العامة، وإنما لتعزيز سلطتهم الخاصة» (242). ويعرف المدينة الفاسدة بأنها المدينة التي لم يعد يشغل مناصبها العليا «من يملكون أكبر قدر من القوة»، وإنما من يملكون أكبر قدر من السلطة، وبالتالي من الراجح جدا أن يعملوا كل ما من شأنه أن يحقق أغراضهم الشخصية الأنانية (241).
شكل 3-1: لوحة تصور مكيافيللي بريشة سانتي دي تيتو في قصر فيكيو بفلورنسا. (© Bettman/Corbis)
هذا التحليل يقود مكيافيللي إلى معضلة؛ فهو من ناحية يؤكد دائما على أن «طبيعة الإنسان طموحة ومتشككة» إلى حد أن معظم الناس لن «يفعلوا أبدا أي شيء جيد إلا رغما عن إرادتهم» (201، 257)، لكنه من ناحية أخرى يصر على أن السماح للبشر بأن «يرتقوا من طموح إلى آخر»، سرعان ما يتسبب في تمزق مدينتهم «إربا» وضياع أي فرصة لها في أن تصبح عظيمة (290). والسبب في ذلك أنه مع كون الحفاظ على الحرية شرطا ضروريا لتحقيق العظمة، دائما ما يكون نمو الفساد فتاكا بالنسبة للحرية، وما إن يبدأ الأفراد الأنانيون أو أصحاب المصالح الطائفية يكسبون التأييد، حتى تبدأ رغبة الشعب في التشريع «باسم الحرية» تتآكل بالتوازي مع ذلك ، وتبدأ الفصائل تتولى مقاليد الأمور و«يحل الاستبداد سريعا» محل الحرية (282). وبناء على ذلك فإن الفساد حينما يدخل جسد عامة المواطنين ويتملك منه تماما، فإنه يجعلهم لا «يستطيعون أن يعيشوا أحرارا ولو لفترة قصيرة، أو بالأحرى لا يعيشون أحرارا أبدا» (235، قارن 240).
وهكذا فإن معضلة مكيافيللي تتمثل فيما يلي: كيف يمكن غرس صفة «القوة» في جسد عامة المواطنين، الذي لا يتمتع طبيعيا بهذه الصفة؟ وكيف يمكن منع المواطنين من الانزلاق إلى الفساد، وكيف يمكن حملهم على الاحتفاظ باهتمامهم بالصالح العام على مدى فترة طويلة بما فيه الكفاية لتحقيق العظمة المدنية؟ حل هذه المعضلة هو ما تركز عليه بقية «المطارحات».
القوانين والقيادة
يعتقد مكيافيللي أن المعضلة التي كشف عنها يمكن الالتفاف عليها بعض الشيء بدلا من الاضطرار إلى التغلب عليها مباشرة؛ ذلك لأنه يسلم بأننا في حين لا يمكن أن نتوقع من عامة المواطنين أن يتمتعوا بالكثير من «القوة» الطبيعية، فليس من الكثير علينا أن نأمل في أن تتمتع مدينة من وقت لآخر بحسن «الحظ» الذي يجعلها تجد زعيما تظهر أفعاله - كأفعال أي أب مؤسس عظيم - صفة «القوة» الطبيعية بدرجة عالية (420).
ويعتقد أن مثل هؤلاء المواطنين النبلاء حقا يلعبون دورا لا غنى عنه في إبقاء مدنهم على الطريق إلى المجد. ويذهب مكيافيللي إلى أن هذه النماذج الفردية للقوة لو كانت «ظهرت كل عشر سنوات على الأقل» على مدى تاريخ روما، لكانت «النتيجة الحتمية لذلك» هي عدم «ظهور الفساد بالمدينة قط» (421). بل ويعلن أن «أي مجتمع إذا كان محظوظا بما فيه الكفاية»، بحيث يجد زعيما بهذه الشخصية في كل جيل «يصلح قوانين هذا المجتمع ولا يكتفي بوقفه عن التدهور، وإنما يعيده إلى سابق عهده»، فسوف تكون نتيجة ذلك تحقق معجزة الجمهورية «الخالدة»؛ أي الجسد السياسي القادر على الإفلات من الفناء (481).
كيف يمكن لدفعات «القوة» الشخصية هذه أن تسهم في تحقيق المدينة منتهى غاياتها؟ إن محاولة الإجابة على هذا السؤال تشغل مكيافيللي طوال «المطارحة» الثالثة، التي تهدف إلى توضيح «الطريقة التي أسهمت بها أفعال الأفراد في زيادة عظمة الرومان، وكيف أحدثت كثيرا من التأثيرات الجيدة في تلك المدينة» (423).
من الواضح أن مكيافيللي في بحثه هذه النقطة لا يزال شديد القرب من روح كتاب «الأمير»؛ لذا من غير المستغرب أن نجده يدرج في هذا القسم الأخير من «المطارحات» عددا كبيرا من الإشارات المرجعية - نحو اثنتي عشرة إشارة مرجعية في أقل من مائة صفحة - لمحتوى كتابه السابق. يضاف إلى ذلك أنه يقرر، كما فعل في كتاب «الأمير»، أن هناك طريقتين مختلفتين يستطيع أي رجل دولة أو قائد عسكري فائق «القوة» أن يحقق من خلالهما أشياء عظيمة؛ أولاهما هي تأثيره على غيره من المواطنين الأقل شأنا. يبدأ مكيافيللي بافتراض أن هذا الأمر يمكن أن يحدث في بعض الأحيان تأثيرا ملهما إلهاما مباشرا؛ لأن «هؤلاء الرجال ذوو سمعة ممتازة ويشكلون قدوة بالغة التأثير بدرجة تجعل الرجال الجيدين يرغبون في الاقتداء بهم، وتجعل الرجال الأشرار يستحون من أن يحيوا حياة تتناقض مع حياتهم» (421). إلا أن الحجة الأساسية التي يطرحها هي أن «قوة» القائد البارز سوف تتمثل دائما، في جزء منها، في شكل قدرة على إضفاء نفس هذه الصفة الضرورية على أتباعه، رغم أنها قد لا تكون من بين الصفات الطبيعية التي يتمتعون بها. والافتراض الرئيسي الذي يطرحه مكيافيللي إذ يناقش كيفية عمل هذا الشكل من أشكال التأثير، هو نفسه الذي طرحه في كتاب «الأمير»، ثم لاحقا في الكتاب الرابع من «فن الحرب»، ومفاده أن أكثر الوسائل فعالية لحمل الناس على التصرف «بقوة» تكون من خلال تخويفهم من عواقب التصرف بأي طريقة أخرى تخالف ذلك. وقد أشاد في هذا الصدد بالقائد حنبعل؛ لأنه أدرك ضرورة بث الخوف في نفوس أفراد قواته «من خلال صفاته الشخصية»، كي يبقيهم «متحدين ومسالمين طائعين» (479). ويدخر إعجابه الأكبر للقائد مانليوس تركواتوس الذي مكنته «نفسه القوية» وصرامته التي كانت مضربا للمثل، من أن «يتخذ قرارات قوية»، ويعيد مواطنيه مجددا إلى حالة «القوة» الأصيلة التي كانوا قد بدءوا في التراجع عنها (480-481).
الطريقة الثانية التي يساهم بها الأفراد المميزون في تحقيق المجد المدني أكثر آنية؛ إذ يعتقد مكيافيللي أن ما يتمتعون به من «قوة» بالغة تساعد في حد ذاتها على تجنب الفساد والانهيار، ومن ثم فإن أحد اهتماماته الرئيسية في «المطارحة» الثالثة تتمثل في توضيح ماهية الجوانب الخاصة للقيادة «القوية»، التي من شأنها إحداث هذه النتيجة المفيدة بأقصى قدر من السهولة. وهو يبدأ بطرح إجابته في الفصل الثالث والعشرين، الذي يستعرض فيه سيرة كاميلوس، «أكثر القادة العسكريين الرومان حكمة على الإطلاق» (462)، والصفات التي جعلت كاميلوس مميزا على نحو استثنائي، ومكنته من تحقيق العديد من «الأمور الرائعة» كانت «حرصه وحصافته، وشجاعته البالغة»، وقبل كل هذا «أسلوبه الممتاز في إدارة الجيوش وقيادتها» (484، 498). بعد ذلك يخصص مكيافيللي سلسلة من الفصول ليقدم فيها تناولا أشمل لهذا الموضوع؛ فهو أولا يذهب إلى الاعتقاد بأن على عظماء القادة المدنيين أن يعرفوا كيف يكسرون شوكة الحاسد؛ «لأن الحسد في كثير من الحالات يمنع الرجال» من اكتساب «السلطة الضرورية في الأمور ذات الأهمية» (495-496)، علاوة على أنهم بحاجة إلى أن يكونوا رجالا لديهم مستوى عال من الشجاعة الشخصية، لا سيما إذا ما استدعت الحاجة أن يعملوا في المجال العسكري، وفي هذه الحالة يجب أن يكونوا على استعداد - بحسب قول ليفيوس - «لإبداء الفعالية في أحمى وطيس للمعركة» (515)، وعليهم أيضا أن يتمتعوا بدرجة عالية من حسن التدبير السياسي، القائم على الدراية بالتاريخ القديم والشئون المعاصرة على حد سواء (521-522). وأخيرا عليهم أن يتصفوا بأعلى درجات الحيطة والحذر، بحيث لا يكونون عرضة لأن يقعوا فريسة لاستراتيجيات أعدائهم المخادعة (526).
من خلال هذا النقاش يتضح أن مصير مدينة فلورنسا، مسقط رأس مكيافيللي، لم يبعد قيد أنملة عن أفكاره؛ فكلما يستشهد بمظهر ضروري من مظاهر القيادة «القوية»، يتوقف ليشير إلى أن انحدار الجمهورية الفلورنسية وانهيارها المخزي عام 1512 كانا راجعين في جزء كبير منهما إلى عدم الاهتمام بما فيه الكفاية بهذه الصفة الحاسمة؛ فالزعيم «القوي» بحاجة لأن يعرف كيف يتعامل مع الحسود. ولم يتمكن سافونارولا ولا سوديريني من «التغلب على الحسد»، ونتيجة لذلك «سقط كلاهما » (497). والزعيم «القوي» يجب أن يكون مستعدا لأن يستفيد من دروس التاريخ، لكن الفلورنسيين الذين كانوا يستطيعون بكل سهولة «القراءة عن عادات البدائيين القدامى أو تعلمها»، لم يقدموا على أي محاولة لفعل ذلك فسهل خداعهم ونهبهم (522). والزعيم «القوي» ينبغي له أن يكون رجلا حذرا حصيفا، لكن حكام فلورنسا أبدوا سذاجة في مواجهة الغدر إلى حد أنهم - كما حدث في الحرب ضد بيزا - جلبوا الخزي الشديد على الجمهورية (527). بهذا الاتهام اللاذع، يختتم مكيافيللي «المطارحة» الثالثة.
بالعودة إلى المعضلة التي بدأ مكيافيللي بطرحها، يتضح أن حجج «المطارحة» الثالثة تترك هذه المعضلة بلا حل؛ إذ رغم أنه شرح كيف يمكن حمل المواطنين العاديين على التحلي بصفة «القوة» من خلال نموذج القيادة العظيمة، فإنه قد اعترف أيضا أن ظهور زعماء عظام دائما ما يتوقف تماما على حسن «الحظ»، ومن ثم لا يشكل وسيلة يمكن الاعتماد عليها لتمكين أي مدينة من بلوغ المجد؛ لذا يبقى السؤال الأساسي هو: كيف يستطيع عامة البشر - الذين دائما ما سيكونون ميالين لأن يسمحوا لأنفسهم بأن تفسد بفعل الطموح أو الكسل - أن يغرسوا في أنفسهم صفة «القوة»، ويحافظوا عليها لفترة طويلة بما يكفي لأن يضمنوا تحقيق المجد المدني؟
عند هذه النقطة الحاسمة يبدأ مكيافيللي في الخروج بحسم من حدود رؤيته السياسية الواردة في كتاب «الأمير»، ويقرر أن مفتاح حل هذه المشكلة هو التأكد من أن المواطنين «مهيئون جيدا»؛ أي منظمون على نحو يتيح حملهم على اكتساب «القوة» والاحتفاظ بحرياتهم. هذا الحل مطروح مباشرة في بداية الفصل الافتتاحي في «المطارحة» الأولى، فإذا أردنا أن نفهم كيف تسنى «الاحتفاظ بقدر كبير من «القوة»» في روما «طوال قرون عديدة»، فإن ما نحن بحاجة لأن نحقق فيه هو «كيف كان يجري تنظيم روما» (192). الفصل التالي يكرر نفس النقطة، فلكي ندرك كيف نجحت مدينة روما في التوصل إلى «الطريق المباشرة» التي أوصلتها «إلى الغاية المطلقة والحقيقية»، علينا قبل كل شيء أن ندرس «تنظيم» مؤسساتها وترتيباتها الدستورية وأساليب ضبط مواطنيها وتنظيمهم (196).
والمسألة الأوضح التي يتطلب منا هذا الأمر أن نتناولها، وفقا لمكيافيللي، هي توضيح المؤسسات التي تحتاج أي مدينة تطويرها كي تتجنب نمو الفساد في شئونها «الداخلية» التي يقصد بها ترتيباتها السياسية والدستورية (195، 295). ومن ثم فإنه يخصص الجزء الأكبر من هذه المطارحة الأولى للنظر في هذا الموضوع، مستمدا أمثلته الرئيسية من تاريخ روما المبكر، ومبرزا دائما «إلى أي مدى جرى تكييف مؤسسات تلك المدينة على نحو يجعلها عظيمة» (271).
ويخص مكيافيللي بالذكر طريقتين لازمتين لتنظيم شئون الوطن على نحو يبث صفة «القوة» في جسد عامة المواطنين؛ فيبدأ - في الفصول من الحادي عشر إلى الخامس عشر - بالذهاب إلى أن من أكثر المؤسسات أهمية لأي مدينة تلك المعنية بتدعيم العبادة الدينية وضمان «استخدامها على نحو جيد» (234)، بل إنه يعلن أيضا أن «الحرص على التعليم الديني» أمر بالغ الأهمية إلى حد أنه يعمل في حد ذاته على تحقيق «العظمة للجمهوريات» (225). على عكس ذلك، هو يعتقد أن «المرء لا يمكن أن يلحظ مؤشرا أوضح» يدل على فساد البلاد وخرابها من «أن يرى العبادة الإلهية لا تحظى بالتقدير الكافي» (226).
وقد أدرك الرومان تماما كيفية الاستفادة من الدين في تعزيز صالح جمهوريتهم ورفاهيتها. فالملك نوما - الذي خلف رومولوس مباشرة - على وجه الخصوص، أدرك أن إرساء عقيدة مدنية «ضروري كل الضرورة إذا كان يرغب في الحفاظ على تحضر المجتمع» (224). في المقابل، فشل حكام إيطاليا المعاصرون فشلا ذريعا في إدراك أهمية هذه النقطة. صحيح أن مدينة روما لا تزال المركز الرمزي للديانة المسيحية، لكن المفارقة التي تبعث على السخرية هي أن ما ضربته الكنيسة الرومانية من «نموذج سيئ»، جعل «هذه الأرض تخسر كل قدر من التقوى والتدين» (228). ونتيجة هذه الفضيحة هي أن الإيطاليين، من خلال كونهم أقل الشعوب تدينا في أوروبا، صاروا أشد الشعوب فسادا. وكنتيجة مباشرة لذلك، فإنهم فقدوا حريتهم، ونسوا كيفية الدفاع عن أنفسهم، ولم يسمحوا فقط بأن تصبح بلادهم «فريسة للبرابرة الأقوياء، بل فريسة أيضا لكل من يغير عليها» (229).
والسر المعروف لكل قدماء الرومان - والمنسي في العالم المعاصر - هو أن المؤسسات الدينية يمكن أن تلعب دورا يشبه دور الأفراد البارزين في الإسهام في تعزيز العظمة المدنية، فالدين يمكن استخدامه لإلهام عامة الناس - وإذا لزم الأمر ترهيبهم - على نحو يحثهم على تفضيل صالح مجتمعهم على كل المصالح الأخرى. ويقدم مكيافيللي إفادته الرئيسية عن كيفية تشجيع الرومان هذا الشكل من أشكال الوطنية في مناقشته موضوع قراءة الطالع؛ فقد كان القادة الرومان قبل الذهاب إلى المعركة دائما ما يحرصون على أن يعلنوا أن طالعهم حسن، وكان هذا يحفز قواتهم للقتال بإيمان واثق بأنهم على يقين من النصر، وهي ثقة كانت تجعلهم يتصرفون على نحو يحمل من «القوة» ما يجعلهم يحققون النصر على نحو شبه دائم (233). لكن مكيافيللي بطبيعته أكثر إعجابا بطريقة استخدام الرومان دينهم لإثارة الرعب في جسد الشعب، ومن ثم حثهم على التصرف بقدر من «القوة» ما كانوا ليكتسبوه لولا ذلك. وهو يقدم أكثر الأمثلة دراماتيكية على ذلك في الفصل الحادي عشر؛ إذ يقول «بعد أن هزم حنبعل الرومان في معركة كاناي، تجمع عدد كبير من المواطنين الذين اتفقوا، بعد أن ملأهم اليأس من وطنهم، على الرحيل من إيطاليا»، وحينما سمع سكيبيو بهذا، التقى بهم «بسيفه المشهر في يده»، وأجبرهم على أن يقسموا اليمين الرسمية التي تلزمهم الدفاع عن أرضهم. كان تأثير ذلك إجبارهم على اكتساب «القوة»؛ فرغم أن «حبهم بلادهم وقوانينها» لم يقنعهم بالبقاء في إيطاليا، كان خوفهم من الوقوع في الكفر إذا ما حنثوا بقسمهم هو ما حقق هدف بقائهم في إيطاليا (224).
إن الفكرة التي تذهب إلى أن المجتمع الذي يخشى الرب يحصد بطبيعة الحال ثواب المجد المدني، كانت فكرة مألوفة بالنسبة لمعاصري مكيافيللي. وكما يشير هو نفسه، كان هذا هو الوعد الذي قامت عليه حملة سافونارولا في فلورنسا خلال تسعينيات القرن الخامس عشر، والتي أقنع من خلالها الفلورنسيين «بأنه تحدث إلى الرب»، وأن رسالة الرب إلى المدينة أنه سيعيدها إلى عظمتها السابقة ما إن تثوب إلى ما كانت عليه من تقوى (226). لكن وجهات نظر مكيافيللي نفسه عن قيمة الدين تدفعه للإقلاع عن تعامله التقليدي مع هذا الموضوع في ملمحين أساسيين؛ فهو أولا يختلف عن سافونارولا من حيث مبرراته التي تقف وراء الرغبة في الحفاظ على الأساس الديني للحياة السياسية. فهو ليس مهتما اهتماما يذكر بمسألة الحقيقة الدينية، وإنما مهتم فقط بالدور الذي تلعبه المشاعر الدينية «في إلهام الناس، وفي جعلهم أخيارا، وفي جعل الأشرار يشعرون بالخزي»، وهو يحكم على قيمة مختلف الديانات مستندا كليا إلى قدرة كل منها على تعزيز التأثيرات النافعة (224). لذا فهو لا يخلص فقط إلى أن زعماء أي مجتمع عليهم واجب «قبول وتمجيد» أي شيء من شأنه أن «يدعم صالح الدين»، بل يصر أيضا على أنهم يجب أن يفعلوا ذلك دوما، «حتى إن كانوا يعتقدون أن ما يفعلونه ليس صوابا» (227).
المنحى الآخر الذي ينحوه مكيافيللي بعيدا عن التقليدية مرتبط بهذا النهج البراجماتي؛ فهو يعلن - وفقا لهذه المعايير - أن ديانة الرومان القديمة أفضل بكثير من الديانة المسيحية؛ فليس هناك ما يبرر عدم تفسير المسيحية «بما يتلاءم مع «القوة»» وعدم استخدامها في «تعزيز» المجتمعات المسيحية و«الدفاع عنها»، لكنها في الواقع فسرت على نحو يوهن الصفات الضرورية للحياة المدنية الحرة المفعمة بالقوة؛ فقد «مجدت الأشخاص البسطاء المتصوفين»، «ووضعت على رأس صالح الأعمال التواضع والخضوع واحتقار الأمور البشرية»، وألغت قيمة «عظمة العقل، وقوة الجسد»، أو أي من السمات الأخرى للمواطنين «الأقوياء». ومن خلال فرض هذه الصورة الأخروية للتميز البشري، لم تعمل فقط على تقويض المجد المدني، بل ساعدت أيضا على التسبب في اضمحلال دول عظيمة وسقوطها عن طريق إفساد الحياة المجتمعية فيها. وهكذا يخلص مكيافيللي - في لهجة ساخرة تليق بالمؤرخ جيبون - إلى أن الثمن الذي دفعناه مقابل حقيقة أن المسيحية «ترينا الحقيقة والطريق القويمة»، هو أنها «جعلت العالم ضعيفا وحولته إلى فريسة للأشرار» (331).
بقية «المطارحة» الأولى مكرسة في أغلبها للادعاء بأن هناك وسيلة أخرى أكثر فعالية لحمل الناس على اكتساب «القوة»: باستخدام سلطات القانون الجبرية على نحو يفرض عليهم إعلاء مصالح مجتمعهم فوق كل المصالح الفردية ، وهذه النقطة موضحة في البداية بعبارات عامة في فصول الكتاب الافتتاحية؛ حيث يقال إن كل الأمثلة الرائعة على القوة المدنية «تعزى إلى التعليم الجيد»، الذي يعزى بدوره إلى «قوانين جيدة» (203). وإذا أردنا أن نعرف كيف نجحت بعض المدن في الحفاظ على «قوتها» على مدى فترات طويلة على نحو استثنائي، فستكون الإجابة الأساسية في كل حالة أن «القوانين سبب نجاحها» (201). الوضع المحوري لهذا الجدل في نقاش مكيافيللي العام يتبين جليا في بداية «المطارحة» الثالثة، حيث يقول إنه إذا أرادت مدينة أن «تعود لحياة جديدة» وتتقدم على الطريق الموصلة إلى المجد، فهذا لا يمكن أن يتحقق إلا «عن طريق «قوة» رجل ما أو عن طريق «قوة» القانون» (419-420).
بناء على هذا الاعتقاد، يمكننا أن نرى لماذا يمنح مكيافيللي تلك الأهمية البالغة للآباء المؤسسين للمدن؛ فهم في مكانة فريدة تجعلهم بمنزلة المشرعين، ومن ثم يزودون مجتمعاتهم من البداية بأفضل وسيلة لضمان تعزيز «القوة» والتغلب على الفساد. ويقال إن أروع الأمثلة على ذلك تتمثل في المشرع ليكرجوس، المؤسس الأول لمدينة إسبرطة؛ فقد سن مجموعة قوانين على درجة من الإحكام جعلت المدينة تتمكن من «العيش في أمان بموجبها» على مدى «أكثر من ثمانمائة عام دون التقليل من شأن تلك القوانين»، ومن دون أن تخسر حريتها (196، 199). ما لا يكاد يقل عن ذلك روعة يتمثل فيما أنجزه رومولوس ونوما، أول ملكين لروما؛ فمن خلال العدد الكبير من القوانين الجيدة التي شرعاها، كانت صفة «القوة» «مفروضة على المدينة» بقدر من الحسم حال دون «ضرب الفساد أطنابها طوال قرون عديدة رغم عظمتها واتساعها»، وظلت «مفعمة بقوة كبيرة لم يسبق أن تميزت بها أي مدينة أو جمهورية» (195، 200).
وفقا لمكيافيللي، هذا يقودنا إلى أحد أهم الدروس المفيدة التي قد نأمل في تعلمها من دراسة التاريخ؛ فقد بين أن أعظم المشرعين هم أكثر من فهموا كيفية استخدام القانون من أجل إعلاء قضية العظمة المدنية، وبناء على ذلك، إذا حققنا في تفاصيل القوانين الدستورية التي وضعوها، فقد نتمكن من اكتشاف سر نجاحهم، ومن ثم إتاحة حكمة القدماء لحكام العالم المعاصر على نحو مباشر.
بعد إجراء هذا التحقيق، خلص مكيافيللي إلى أن الاكتشاف الحاسم الذي اتفق عليه مشرعو العصور القديمة جميعهم يمكن التعبير عنه ببساطة؛ فهم فهموا جميعا أن الأشكال الدستورية الثلاثة «المجردة» للحكم - النظام الملكي، وحكم الطبقة الأرستقراطية، والحكم الديمقراطي - غير مستقرة بطبيعتها، وغالبا ما تولد دورة من الفساد والانحلال، وأصابوا حينما استنتجوا أن مفتاح فرض «القوة» بموجب القانون سيتأتى بالضرورة من خلال وضع دستور مختلط، يتدارك مواطن الضعف الموجودة في الأشكال المجردة للحكم، وفي الوقت نفسه يجمع بين نقاط القوة التي تميزها. وكالمعتاد، تشكل روما أوضح الأمثلة على هذا؛ وذلك لأن السبب في أنها ارتقت في نهاية المطاف إلى منزلة «الجمهورية المثالية»، هو أنها تمكنت من استحداث نظام «حكم مختلط» (200).
بطبيعة الحال، كان المألوف عن الآراء النظرية السياسية الرومانية أنها تدافع عن مزايا الدساتير المختلطة، فقد كان هذا الرأي محوريا في «تاريخ» بوليبيوس، وتكرر في عدد من أطروحات شيشرون، ثم صار فيما بعد محط تفضيل معظم الفلاسفة الإنسانيين في فلورنسا في القرن الخامس عشر. لكن حينما نأتي على الأسباب التي يقدمها مكيافيللي للاعتقاد بأن الدستور المختلط هو أفضل ما يتلاءم مع تعزيز «القوة» والحفاظ على الحرية، نلاحظ تحولا دراماتيكيا عن وجهة النظر الإنسانية التقليدية.
إذ تنطلق حجته من الحقيقة البديهية التي تقول إن «كل جمهورية تحوي فصيلين متعارضين، فصيل الشعب وفصيل الأغنياء» (203). وهو يعتقد أن من الواضح أنه إذا جرى ترتيب الدستور على نحو يمنح أيا من هذين الفصيلين سيطرة كاملة وحده، فسوف «يكون إفساد الجمهورية أمرا سهلا» (196). فإذا تولى شخص من فصيل الأغنياء منصب الأمير، فسيكون هناك تهديد مباشر بظهور الاستبداد؛ لأن الأغنياء إذا أرسوا شكلا أرستقراطيا للحكم، فربما يميلون إلى الحكم وفقا لما يخدم مصالحهم الخاصة، وإذا كان الحكم ديمقراطيا، فسينطبق نفس الأمر على عامة الشعب؛ وهذا يعني أنه في كلتا الحالتين سيكون الصالح العام رهنا بالولاءات الفئوية، ونتيجة لذلك، سرعان ما ستضيع «قوة» الجمهورية، ومن ثم حريتها (197-198، 203-204).
يرى مكيافيللي أن حل ذلك أن تستنبط القوانين المتعلقة بالدستور على نحو يحقق توازنا قويا بين هاتين القوتين الاجتماعيتين المتعارضتين، بحيث يظل جميع الأطراف مشاركين في عمل الحكومة، ويراقب «كل منهم الآخر» كي يتسنى اتخاذ خطوات استباقية لمنع غطرسة «الأغنياء»، وكذلك «شق الشعب عصا الطاعة» (199)؛ ذلك لأن الجماعات المتنافسة حينما تتربص لانتقاد بعضها بعضا على أي بادرة تنذر بمحاولة الانفراد بالسلطة العليا، سيعني انحسار الضغوط الناشئ عن ذلك أنه ما من «قوانين وتشريعات» ستمرر إلا تلك التي تحقق «الحرية العامة». ورغم أن تحركات الفصائل تخضع في الأساس لما يتوافق مع مصالحها الخاصة، ستعمل هذه النزاعات فيما بينها على توجيهها - مثل يد خفية - نحو إعلاء الصالح العام عند صياغتها جميع القوانين التشريعية؛ أي إن «كل القوانين التي تصاغ على نحو يدعم الحرية» تكون «ناتجة عن تنازع هذه الفصائل» (203).
هذه الإشادة بفائدة النزاع أفزعت معاصري مكيافيللي، وقد تحدث نيابة عنهم جميعا فرانشيسكو جويتشارديني حينما رد على ذلك في كتابه «تأملات في المطارحات»، بأن «الإشادة بالخلاف مثل استحسان مرض رجل ما لأنه ينال فوائد من الدواء الذي يستخدم لعلاجه.»
1
كانت حجة مكيافيللي تتعارض مع مجمل تقاليد الفكر الجمهوري في فلورنسا، وهو الفكر الذي يتضمن الاعتقاد بأن النزاع لا بد أن يحظر لأنه مثير للشقاق، والاعتقاد بأن الشقاق يشكل أخطر تهديد للحرية المدنية، وكان قد جرى التشديد عليه منذ نهاية القرن الثالث عشر، حينما أطلق ريميجو دي جيرولامي، وبرونيتو لاتيني ودينو كومباني، والأهم منهم دانتي، اتهامات عنيفة لمواطنيهم بأنهم يخاطرون بحريتهم من خلال رفضهم العيش في سلام، ومن ثم فإن الإصرار على الرأي المثير للدهشة بأن الاضطرابات التي شهدتها روما - حسب قول مكيافيللي - «جديرة بأعظم الثناء»، كان كفرا بأحد أكثر الافتراضات جدارة بالتقدير في نظر التيار الإنساني في فلورنسا.
ومع ذلك، فمكيافيللي غير نادم على هجومه على هذا الاعتقاد الراسخ، وهو يشير صراحة إلى «رأي الكثيرين» الذين يعتقدون أن الصدامات المستمرة بين العامة والنبلاء في روما جعلت المدينة «تسودها الفوضى» إلى حد أن الفضل في أنها لم تمزق نفسها إربا لا يعزى إلا إلى «حسن الحظ» و«القوة العسكرية»، لكنه رغم ذلك يصر على أن من يدينون اضطرابات روما لا يدركون أن هذه الاضطرابات حالت دون انتصار المصالح الطائفية، ومن ثم «يعيبون على تلك الصدامات التي كانت السبب الأول في بقاء روما حرة» (202). وهكذا يخلص إلى أن الخلافات، وإن كانت شرا في حد ذاتها، فإنها كانت «شرا لا بد منه لبلوغ العظمة الرومانية» (211).
منع الفساد
يمضي مكيافيللي فيؤكد أن الدستور المختلط ضروري دون شك، لكنه رغم ذلك ليس كافيا بأي حال من الأحوال لضمان الحفاظ على الحرية، وسبب ذلك - كما يحذر من جديد - أن معظم الناس يكونون أكثر انصياعا لطموحاتهم الخاصة من التزامهم بالصالح العام، و«لا يفعلون أبدا أي شيء جيد إلا اضطرارا» (201). ونتيجة ذلك أن المواطنين ذوي النفوذ المفرط وجماعات المصالح القوية دائما ما يميلون لإخلال توازن الدستور بما يصب في صالح غاياتهم الأنانية والفئوية الخاصة، وبالتالي يغرسون بذور الفساد في الجسد السياسي ويهددون حريته.
ولمجابهة هذا التهديد المتأصل، يقدم مكيافيللي اقتراحا دستوريا آخر، يؤكد فيه أن ثمن الحرية هو اليقظة الدائمة. فمن الضروري في المقام الأول أن ندرك إشارات الخطر، كي نعرف الوسائل التي قد يتمكن من خلالها مواطن فرد أو حزب سياسي من «اكتساب قدر من السلطة يفوق الحد الآمن» (265).
بعد ذلك، من الضروري وضع مجموعة خاصة من القوانين والتشريعات للتعامل مع مثل هذه الحالات الطارئة. فالجمهورية، على حد قول مكيافيللي، «يجب أن يكون من بين قواعد «تنظيمها» السماح بمراقبة المواطنين بحيث لا يتسنى لهم فعل الشر تحت ستار الخير، وبحيث لا يكتسبون سوى ذلك النوع من الشعبية الذي يعزز الحرية ولا يلحق بها ضررا» (291). وأخيرا، من الضروري عندئذ أن تظل أعين الجميع «مفتوحة»، بحيث لا يكونون على استعداد لاكتشاف مثل هذه التوجهات المفسدة فحسب، بل أيضا لتوظيف قوة القانون في استئصال شأفتها بمجرد - أو حتى قبل - أن تبدأ تشكل مصدرا للخطر (266).
يقرن مكيافيللي بهذا التحليل فكرة أن هناك درسا دستوريا آخر بالغ الأهمية ينبغي استخلاصه من تاريخ روما المبكر؛ فلما كانت روما قد احتفظت بحريتها لأكثر من أربعمائة عام، يبدو أن مواطنيها نجحوا في اكتشاف أشد المخاطر التي كانت تتهدد حرياتهم، وشرعوا في وضع «القوانين» المناسبة للتعامل معها؛ ومن ثم، إذا أردنا أن ندرك هذه المخاطر وسبل مجابهتها، سيكون من المفيد لنا أن ننتقل ثانية إلى تاريخ الجمهورية الرومانية، سعيا للاستفادة من حكمتها القديمة وتطبيقها في العالم المعاصر.
ويوضح مثال روما أن الخطر الأول الذي يتعين على أي دستور مختلط أن يجابهه سينشأ دائما من أولئك الذين كانوا يستفيدون من النظام السابق. يقول مكيافيللي إن هذا هو الخطر الذي كان يشكله «أبناء بروتوس»، وهو يذكر هذه المشكلة لأول مرة في الفصل السادس عشر، ثم يؤكد عليها لاحقا في بداية «المطارحة» الثالثة. كان يونيوس بروتوس قد حرر روما من طغيان تاركونيوس سوبربوس، آخر ملوكها، لكن «أبناء بروتوس كانوا ممن استفادوا من استبداد الحكم» (235)، وهكذا بدا لهم أن إرساء «حرية الشعب» ليس أفضل حالا من العبودية؛ ونتيجة لذلك، جرت الاستعانة بهم «للتآمر ضد مدينتهم، لا لسبب سوى أنهم لم يكن باستطاعتهم تحقيق مكاسب غير مشروعة في ظل القناصل الجدد كما كانوا يفعلون في ظل الملوك» (236).
في مواجهة هذا النوع من المخاطر، «ليس ثمة علاج أقوى، ولا أكثر فعالية ولا أكثر ضمانة ولا أكثر ضرورة من قتل أبناء بروتوس» (236). ومكيافيللي يقر أنه قد يبدو أمرا قاسيا - ويضيف بأكثر نبراته برودا أن هذا ولا شك «مثال صادم بين الأحداث التاريخية المسجلة» - أن نقول إن بروتوس كان ينبغي له أن يكون على استعداد لأن «يجلس على مقعد الحكم ولا يكتفي بمجرد الحكم على أبنائه بالموت، بل أن يشهد مقتلهم أيضا» (424). لكنه يصر على أن هذه الصرامة لا غنى عنها في حقيقة الأمر؛ «لأن من يستفد من استبداد ولا يقتل بروتوس، ومن يحرر دولة ولا يقتل أبناء بروتوس، فلن يؤمن نفسه إلا لأمد قصير» (425).
ثمة خطر آخر على الاستقرار السياسي ينشأ من النزوع الشهير الممقوت لدى جمهوريات الحكم الذاتي نحو تشويه سمعة مواطنيها القياديين ونكران حسن صنيعهم. يلمح مكيافيللي إلى هذا العيب أولا في الفصل التاسع والعشرين، حيث يقول إن أحد أشد الأخطاء جسامة التي يمكن أن ترتكبها أي مدينة في «حق الحفاظ على حريتها»، هو أن «تلحق الأذى بالذين كان ينبغي لها أن تكافئهم.» وهذا مرض خطير إلى حد بعيد لا ينبغي أن يترك دون علاج؛ لأن من يعانون هذه الأشكال من الظلم يكونون بوجه عام في مركز قوي يؤهلهم للأخذ بثأرهم، ومن ثم يعيدون مدينتهم «بأسرع ما يمكن إلى الاستبداد، كما حدث في حالة روما مع يوليوس قيصر، الذي أخذ بالقوة ما أنكر عليه بفعل الجحود» (259).
العلاج الوحيد الممكن لذلك هو وضع «قوانين» خاصة تهدف لصرف كل حاسد وناكر للجميل عن تقويض سمعة الشخصيات البارزة، وأفضل طريقة لتنفيذ ذلك هو «إتاحة الفرصة لعرض الاتهامات» الموجهة لشخص ما على القضاء؛ وبذلك فإن أي مواطن يشعر أنه وقع ضحية افتراء، يجب أن يكون بمقدوره، «دون أدنى خوف أو تردد»، أن يطالب بمثول من اتهمه أمام المحكمة لتقديم ما يبرهن على صحة مزاعمه، فإذا تبين عندئذ، بمجرد «توجيه الاتهام الرسمي والتحقيق فيه جيدا»، أن التهم لا يمكن إثباتها، فيجب أن يفرض القانون معاقبة القاذف عقابا شديدا (215-216).
وأخيرا، يناقش مكيافيللي ما يرى أنه أشد التهديدات خطورة على توازن الدستور المختلط، والذي يتمثل في أنه ربما يحاول مواطن طموح تشكيل حزب على أساس الولاء لنفسه لا الولاء للصالح العام. يبدأ مكيافيللي بتحليل مصدر الاضطراب هذا في الفصل الرابع والثلاثين، ثم يخصص معظم ما تبقى من «المطارحة» الأولى للنظر في كيفية نشوء هذا الفساد في أغلب الأحيان، ونوعية «القوانين» اللازمة للتأكد من أن تظل بوابة الاستبداد هذه موصدة.
من الأمور التي تشجع على نمو الشقاق والانقسام السماح بطول أمد القيادة العسكرية، بل إن مكيافيللي يشير إلى أن «السلطة التي اكتسبها المواطنون» بهذه الطريقة، هي التي أدت في نهاية المطاف، أكثر من أي شيء آخر، إلى «استعباد روما» (267)، والسبب في أن «منح امرئ سلطة مطلقة لفترة ما» دائما ما «يلحق الضرر بالحرية»، هو أن السلطة المطلقة دائما ما تفسد الأشخاص بتحويلهم إلى «أصدقاء ومتحزبين» لها (270، 280)، وهو ما حدث مع جيوش روما في ظل الجمهورية المتأخرة؛ «فعندما كان يتولى مواطن ما قيادة الجيش فترة طويلة، كان يكتسب دعم هذا الجيش ويجعله مناصرا له»، إلى حد أن الجيش «في وقت ما كان ينسى «مجلس الشيوخ» ويعتبر هذا المواطن قائده» (486). حينئذ، لم يكن الأمر يتطلب سوى أن يعثر قادة مثل سولا، وماريوس، ثم يوليوس قيصر على «جنود يمكن أن يتبعوا أوامرهم، بما يتعارض مع الصالح العام» كي يشهد توازن الدستور اختلالا عنيفا لدرجة تجلب الاستبداد والطغيان في أعقابه (282، 486).
والرد المناسب على هذا الخطر ليس الخوف من فكرة السلطة الدكتاتورية نفسها؛ لأنها قد تكون أحيانا ضرورة ملحة في حالات الطوارئ الوطنية (268-269)، وإنما ينبغي أن يكون الرد بالتأكد - من خلال «القوانين» المناسبة - من أن هذه السلطات لن يساء استخدامها، وهذا يمكن تحقيقه بطريقتين رئيسيتين: ضرورة أن تكون جميع السلطات المطلقة «لفترة محدودة، لا مستديمة»، والتأكد من أن ممارسة هذه السلطات مقيدة على نحو لا يتيح لأصحابها سوى «التصرف في الشأن الذي منحت من أجله» هذه السلطات. وما دامت هذه «القوانين» تحترم وتطبق، فلن يكون هناك خطر من أن تتسبب السلطة المطلقة في «إفساد الحكم وإضعافه على الإطلاق» (268).
المصدر الرئيسي الآخر للشقاق والانقسام هو التأثير الخبيث الذي يمارسه أصحاب الثروة الشخصية الهائلة؛ فالأغنياء دائما في وضع يمكنهم من تقديم خدمات لغيرهم من المواطنين، كأن «يقرضوهم المال، ويسهموا في زواج بناتهم، ويحموهم من رجال القضاء»، ويقدموا لهم بوجه عام خدمات متنوعة. هذا النوع من الرعاية مفسد لأقصى حد؛ لأنه يميل إلى «جعل الرجال أنصارا لأولياء نعمتهم» على حساب الصالح العام، وهذا بدوره يعمل على «منح الرجل الذي يتبعونه شجاعة الاعتقاد بأنه يستطيع إفساد العامة وخرق القوانين» (493). من هنا يصر مكيافيللي على أن «الفساد وضعف الاستعداد للعيش بحرية ينبعان من انعدام المساواة في أي مدينة»، ومن هنا يأتي تحذيره الذي يتكرر مرارا من أن «طموح الأغنياء، الذي لا تكبح المدينة جماحه بمختلف الوسائل والطرق، هو الذي ينزل بها الخراب سريعا» (240، 274).
والسبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو أن تحرص «الجمهوريات المنظمة تنظيما جيدا» على أن «تبقي خزائنها عامرة بالأموال، ومواطنيها فقراء» (272). ومكيافيللي غامض إلى حد ما فيما يتعلق بنوع «القوانين» اللازمة لتحقيق ذلك، لكنه واضح ومباشر فيما يتعلق بالمكاسب المرجوة من هذه السياسة؛ فهو يذهب إلى أننا إذا استخدمنا القانون في «إبقاء المواطنين فقراء»، فإن هذا سيفلح في منعهم - حتى إذا كانوا «عديمي الخير والحكمة» - من أن يتمكنوا من «إفساد أنفسهم أو غيرهم بالأموال» (469). وإذا تأتى في الوقت نفسه أن تظل خزائن المدينة عامرة، فستكون الحكومة قادرة على المزايدة على الأغنياء في أي «مخطط لكسب تأييد الشعب»؛ لأنه سيكون بمقدورها تقديم دعم للخدمات العامة أكثر من الخدمات الخاصة (300). وبناء على ذلك يخلص مكيافيللي إلى أن «أهم الأشياء المجدية التي يمكن أن يفعلها مجتمع حر هو أن يبقي أفراده فقراء» (486). ويختتم نقاشه بملحوظة قوية في تأثيرها حين يضيف أنه «كان سيسهب في بيان أن الفقر يؤتي ثمارا أفضل بكثير من الثراء»، لو لم تكن «كتابات من كتبوا غيري قد أوضحت هذا الأمر جليا» (488).
بوصولنا إلى هذه النقطة في تحليل مكيافيللي، يسهل علينا أن ندرك - كما في «مطارحته» الثالثة - أن ثمة انشغالا دائما ينطوي عليه نقاشه العام بما حكمت به المقادير على مدينة فلورنسا مسقط رأسه؛ فهو في أول الأمر يذكرنا بأن أي مدينة إذا أرادت الحفاظ على حريتها، فمن الضروري أن يتضمن دستورها نصا معينا لمواجهة شيوع رذيلة الافتراء على المواطنين البارزين والتشكيك في مصداقيتهم، ثم يشير إلى أن هذا الأمر «كان دائما ما يساء تدبيره في مدينتنا فلورنسا»، فأي شخص «يقرأ تاريخ هذه المدينة سيرى كيف كان العديد من الافتراءات دائما ما ينشر ضد المواطنين الذين يتولون شئونها المهمة»؛ وهذا أسفر عن «مشكلات لا تعد ولا تحصى»، ساعدت كلها على تقويض الحريات في المدينة، وكان من السهل تلافيها كلها لو جرى فقط في وقت ما وضع «نظام لإمكانية رفع دعوى ضد من يروجون شائعات تشوه السمعة، ومعاقبتهم إن تبين كذب افتراءاتهم» (216).
خطت فلورنسا خطوة أخرى نحو العبودية عندما لم تمنع كوزيمو دي مديتشي من تأسيس حزب كرس جهوده لإعلاء المصالح الخاصة لعائلته. كان مكيافيللي قد بين الاستراتيجية التي ينبغي لأي مدينة أن تتبناها إذا حاول مواطن ذو شأن أن يفسد الناس بثروته، إذ يقول: من الضروري أن تنافسه بأن تجعل خدمة الصالح العام أكثر نفعا للمواطن العادي. لكن ما حدث أن منافسي كوزيمو اختاروا أن يجبروه على الخروج من فلورنسا، مما أثار قدرا كبيرا من الاستياء وسط أتباعه لدرجة أنهم في نهاية المطاف «دعوه للعودة وجعلوه أميرا للجمهورية، وهذه منزلة لم يكن ليبلغها لولا تلك المعارضة الصريحة» (266، 300).
ثم حانت فرصة فلورنسا الأخيرة لضمان حرياتها عام 1494، عندما أجبر حكام عائلة مديتشي مجددا على الخروج إلى المنفى واستعيدت الجمهورية كاملة. لكن عند هذه المرحلة، ارتكب قادة المدينة الجدد، بقيادة بييرو سوديريني، أشد الأخطاء جسامة على الإطلاق بعدم تبني سياسة، وصفها مكيافيللي بأنها ضرورية ضرورة مطلقة عند حدوث تغير كهذا في النظام الحاكم؛ فكل من «قرأ التاريخ القديم» يعرف أنه بمجرد تحول نظام «من الاستبداد إلى الجمهورية»، يكون من الضروري قتل «أبناء بروتوس» (424-425)، لكن سوديريني «اعتقد أنه بالصبر والإحسان يستطيع التغلب على لهفة أبناء بروتوس على العودة في ظل حكم آخر»؛ لأنه اعتقد أنه «يستطيع أن يقضي على الفصائل الشريرة» من دون إراقة دماء، «وأن يستأصل عداء بعض الأشخاص» بالعطايا والمكافآت (425). كانت نتيجة هذه السذاجة الصادمة أن أبناء بروتوس - أي أنصار عائلة مديتشي - ظلوا على قيد الحياة إلى أن دمروه واستعادوا استبداد مديتشي بعد هزيمة عام 1512.
لم يطبق سوديريني المبدأ المحوري لفن الحكم المكيافيللي؛ فقد تردد في ارتكاب الشر الذي كان من شأنه أن يتمخض عن خير، ومن ثم رفض سحق خصومه؛ لأنه كان يدرك أنه قد يحتاج إلى الاستحواذ على سلطات غير شرعية كي يفعل ذلك. لكن ما لم يدركه أن من الحماقة أن يرضخ لمثل هذا التردد عندما تكون حريات المدينة في خطر حقيقي. كان ينبغي له أن يدرك أن «أعماله ونواياه لن يحكم عليها إلا وفقا لنتائجها»، وأن يدرك أنه «ما دام يملك «الحظ» والحياة معه، فهو يستطيع إقناع الجميع بأن ما فعله كان في سبيل الحفاظ على مدينته وليس لخدمة طموحه الشخصي» (425). لكن ما حدث أن عواقب «عدم تمتعه بالحكمة التي تجعله يكون مثل بروتوس»، كانت كارثية إلى أقصى حد، فهو لم يخسر «منصبه وسمعته» فحسب، بل خسر أيضا مدينته وحرياتها، وسلم مواطني مدينته «ليصبحوا عبيدا» (425، 461). ينتهي نقاش مكيافيللي، كما حدث في «المطارحة» الثالثة له، إلى تنديد عنيف بالزعيم وبالحكومة التي كان هو نفسه يعمل فيها.
السعي نحو الإمبراطورية
يكشف مكيافيللي في بداية «المطارحة» الثانية له عن أن نقاشه لموضوع «القوانين» لم يكتمل سوى نصفه فقط؛ فهو حتى ذلك الحين، ذهب إلى أن أي مدينة إذا أرادت تحقيق العظمة، فعليها أن تؤسس القوانين والتشريعات المناسبة كي تضمن أن مواطنيها يتصرفون بأكبر قدر من «القوة» في تسيير شئونهم «الداخلية». ثم أشار الآن إلى أن ما لا يقل عن ذلك أهمية هو وضع مجموعة أخرى من «القوانين» تهدف لتشجيع المواطنين على التصرف بقدر مماثل من «القوة» في شئونهم «الخارجية»، قاصدا بذلك العلاقات العسكرية والدبلوماسية مع الممالك والجمهوريات الأخرى (339). وتفسير هذه الحجة الأخيرة هو شغله الشاغل على مدى الجزء الأوسط من كتابه.
تنشأ الحاجة إلى هذه القوانين والتشريعات الإضافية من حقيقة أن جميع الجمهوريات والإمارات توجد في حالة من المنافسة العدائية بعضها مع بعض؛ فالبشر «لا يقنعون أبدا بالعيش على مواردهم الخاصة»، بل دائما ما «يميلون إلى محاولة حكم غيرهم» (194)، وهذا يجعل من «المستحيل على أي جمهورية أن تنجح في الثبات على حالها والتمتع بحرياتها» (379)، وأي مدينة تحاول سلوك هذا المسار المسالم تسقط سريعا ضحية للتغير المستمر في الحياة السياسية، التي دائما ما تكون حظوظ الجميع فيها عرضة لأن «تزدهر أو تنعدم» دون أن يتمكنوا أبدا من البقاء «ثابتين على حالهم» (210). والحل الوحيد لذلك هو اعتبار الهجوم خير وسيلة للدفاع، وتبني سياسة توسعية من أجل ضمان قدرة أي مدينة على «أن تدافع عن نفسها ضد من يغيرون عليها، وأن تسحق كل من يعترض سبيلها إلى العظمة» (194). وهكذا فإن السعي إلى الهيمنة في الخارج يعتبر شرطا لازما لتحقق الحرية على أرض الوطن.
يتحول مكيافيللي، كما فعل من قبل، لتأييد هذه المزاعم العامة بأحداث من تاريخ روما المبكر، فيذكر في الفصل الافتتاحي أنه «ما من جمهورية أخرى سوى روما» امتلكت هذا الكم الهائل من «القوانين» الداعمة للتوسع والغزو (324). كانت روما تدين بالفضل في هذه القوانين إلى رومولوس، أول مشرعيها، الذي تصرف بقدر كبير من بعد النظر جعل المدينة تتمكن منذ بداية أمرها من ممارسة «قدر استثنائي وهائل من «القوة»» في تسيير شئونها العسكرية (332)، وهذا بدوره مكنها، بما تتمتع به من حسن «حظ» استثنائي، من أن تتبوأ في نهاية الأمر - من خلال سلسلة من الانتصارات الباهرة - مكانتها من «العظمة الفائقة» و«القوة الهائلة» (337، 341).
كان رومولوس مصيبا إذ أدرك ضرورة اعتماد إجراءين أساسيين إذا أرادت المدينة تنظيم شئونها «الخارجية» على نحو مقبول؛ ففي المقام الأول، من الضروري توفير أكبر عدد ممكن من المواطنين لأغراض التوسع والدفاع أيضا، ولتحقيق ذلك يجب اتباع سياستين مرتبطتين بهذا الأمر: الأولى - نوقشت في الفصل الثالث - وهي تشجيع الهجرة؛ إذ لا شك أن من المفيد لمدينتك، لا سيما لقوتها العاملة، أن تجعل «الطرق مفتوحة وآمنة للأجانب الراغبين في المجيء للعيش فيها» (334). والاستراتيجية الثانية - نوقشت في الفصل الرابع - «أن تكتسب شركاء لك»؛ فأنت بحاجة لأن تحيط نفسك بالحلفاء، وأن تجعلهم في وضع التبعية لك، على أن تحميهم بقوانينك مقابل أن يكون بمقدورك طلب خدماتهم العسكرية إذا دعت الضرورة (336-337).
الإجراء الحاسم الآخر مرتبط بهذا التفضيل لتجميع أكبر قدر ممكن من القوى؛ فلكي تحقق أفضل استفادة من هذه القوى، ومن ثم تخدم مصالح مدينتك بأفضل درجة من الفعالية، من الضروري أن تجعل حروبك «قصيرة وكبيرة»، وهذه كانت سنة الرومان في حروبهم؛ لأنهم كانوا «حالما تعلن الحرب »، دائما ما «يقودون جيوشهم لملاقاة العدو ويخوضون معركة على الفور». وهكذا يستنتج مكيافيللي بوضوح أنه ما من سياسة يمكن أن تكون «أكثر أمنا أو أقوى أو أفضل مردودا» من هذه؛ لأنها تمكنك من أن تتصالح مع خصومك من موقع قوة، وبأقل قدر من التكلفة أيضا (342).
وبعد أن يوجز مكيافيللي هذه «القوانين» العسكرية، فإنه يتجه للنظر في سلسلة من دروس أكثر تحديدا عن سير الحرب، يعتقد أن من الممكن استخلاصها من دراسة إنجاز روما. هذا الموضوع، الوارد في الفصل العاشر، يشغل بقية «المطارحة» الثانية، ثم يتعرض له أيضا - بأسلوب أكثر تأنقا لكنه مشابه في جوهره - في الأجزاء الوسطى من أطروحته التالية «فن الحرب».
ربما يدلل على تشاؤم مكيافيللي المتنامي حيال فرص إحياء «القوة» العسكرية القديمة في العالم المعاصر، أن كل استنتاجاته في هذه الفصول مقدمة بصيغة سلبية، فهو بدلا من أن ينظر في ماهية السبل التي تشجع «القوة» وتعزز العظمة، يركز كليا على التكتيكات والاستراتيجيات التي تتضمن أخطاء، ومن ثم تجلب «الموت والخراب» لا النصر (377-378)، وهذا أنتج قائمة طويلة من العبر والمحاذير، منها أنه من الحمق أن نوافق على المبدأ الشائع الذي يرى أن «الثروات هي عصب الحرب» (348-349). كذلك من الضرر اتخاذ «قرارات مترددة» أو «بطيئة ومتأخرة» (361)، ومن الخطأ تماما أن نفترض أن «أسلحة المدفعية هي التي ستتحكم في مسار الحرب مع تطور الزمن» (367، 371)، ومن غير المجدي استخدام جنود مساعدين أو مرتزقة، وهي حجة يذكرنا مكيافيللي بأنه سبق أن عرضها «تفصيليا في عمل آخر» (381). ومن غير المجدي في وقت الحرب، والمضر ضررا بالغا في وقت السلم، الاعتماد على الحصون باعتبارها نظاما رئيسيا للدفاع (394). ومن الخطورة أن تجعل من المستحيل على المواطن أن ينال «انتقاما شافيا» إذا شعر بالإهانة أو لحق به أذى (405)، وأسوأ الأخطاء على الإطلاق في حال تعرضك لهجوم من قوات متفوقة عليك «أن ترفض أي اتفاق»، وتحاول بدلا من ذلك أن تلحق بها الهزيمة رغم أن الظروف غير مواتية (403).
والسبب الذي يقدمه مكيافيللي لإدانة هذه الممارسات يتكرر في كل الحالات؛ إذ تشترك جميعها في العجز عن إدراك أن تحقيق المجد المدني مرهون بأهم صفة يجب أن يغرسها المرء في جيوشه - وتتحسب لها جيوش أعدائه - وهي صفة «القوة»؛ أي استعداد المرء لتنحية جميع اعتبارات السلامة الشخصية والمصلحة في سبيل الدفاع عن حريات وطنه.
ويعتقد مكيافيللي أن الخطر الذي قد تنطوي عليه بعض السياسات التي يسردها يتمثل في إثارة «قوة» استثنائية ضد من يمارسون هذه السياسات. وهذا، على سبيل المثال، هو السبب في أنه من الخطأ الاعتماد على الحصون؛ فالأمن الذي توفره لك يدفعك لأن تكون «أسرع في قمع رعيتك وأقل ترددا حيال ذلك»، لكن هذا بدوره «يثير حنقهم على نحو لا يصبح معه حصنك، الذي هو سبب ذلك الحنق، قادرا على حمايتك» من كراهيتهم وغضبهم منك (393). ونفس الأمر ينطبق على معارضة أن يثأر من لحق بهم ضرر لأنفسهم؛ لأن المواطن إذا شعر بأنه أهين إهانة بالغة، فإنه قد يستمد «قوة» كبرى من هذا الشعور بالإساءة إلى حد أنه قد يلحق بمهينه أذى في تهور على سبيل الثأر، كما حدث في حالة بافسانياس، الذي اغتال فيليب ملك مقدونيا لأنه كان قد حرمه من أن يثأر لإهانة تعرض لها (405-406).
والخطر الذي تنطوي عليه حالات أخرى هو أن مصيرك قد يكون في أيدي أشخاص ليس لديهم أي قدر من الاهتمام بالصالح العام، وهذا هو ما يحدث إذا سمحت بأن تتخذ القرارات السياسية بوتيرة بطيئة أو على نحو متردد؛ لأن من الأسلم عموما أن تفترض أن من يرغبون في الحيلولة دون التوصل إلى قرار «مدفوعون بشعور أناني»، ويحاولون في حقيقة الأمر «إسقاط الحكم» (361). وينطبق الأمر نفسه على استخدام قوات مساعدة أو مرتزقة، فنظرا لأن هذه القوات دائما ما تكون فاسدة تماما، فهي «عادة ما تنهب من استأجرها بقدر ما تنهب من استؤجرت للحرب ضدهم» (382).
الأخطر من ذلك كله هو عدم إدراك أن صفة «القوة» أهم من أي شيء آخر في الشئون العسكرية والشئون المدنية على حد سواء؛ ولذلك من المدمر جدا أن تزن أعداءك بثرواتهم، بل ما يجب عليك أن تزنه هو «قوتهم»؛ لأن «الحرب عتادها الحديد لا الذهب» (350). من الخطر أيضا الاعتماد الكلي على المدفعية لكسب المعارك. صحيح أن مكيافيللي يقر بأن الرومان «كانوا ليحققوا انتصاراتهم بوتيرة أسرع لو توفرت في زمانهم مدافع وأسلحة نارية» (370)، لكنه يصر على الاعتقاد بأنه من الخطأ البالغ الافتراض بأن «الرجال لا يستطيعون استخدام «قوتهم» أو إظهارها كما كانوا يفعلون في العصور القديمة بسبب ظهور هذه الأسلحة النارية» (367). وبناء على ذلك، يتوصل مكيافيللي إلى استنتاج متفائل بعض الشيء مفاده أن «المدفعية مفيدة لأي جيش إذا صاحبتها «قوة» القدماء»، لكنها تكون «عديمة الجدوى تماما أمام أي جيش «قوي»» (372). وأخيرا، تفسر هذه الاعتبارات نفسها السبب في أنه من بالغ الخطورة رفض المفاوضات في حال مواجهة قوات متفوقة؛ فمن غير الواقعي أن تطلب هذا حتى من أكثر الجيوش «قوة»، وكأنك تحاول أن «تبدل النتيجة» - كي «تنال رضاء «الحظ»» - بطريقة «لا يخاطر بأن يستخدمها أي رجل حكيم إلا إذا اضطر لذلك» (403).
كما حدث في «المطارحتين» الأخريين لمكيافيللي، نجد أن بحثه في التاريخ الروماني يدفعه لأن ينهي حديثه بمقارنة بائسة بين الفساد التام الذي عانته مدينته، و«القوة» المثالية التي اتسم بها العالم القديم. فقد كان من السهل على الفلورنسيين أن «يدركوا الوسائل التي استخدمها الرومان» في شئونهم العسكرية، و«كان من الممكن أن يحذوا حذوهم» (380)، لكنهم في الواقع لم يستفيدوا بأي قدر من الأساليب الرومانية، ونتيجة لذلك وقعوا في كل ما يمكن تصوره من مآزق (339). فقد كان الرومان يدركون تماما ما كان ينطوي عليه التصرف على نحو متردد من مخاطر، لكن قادة فلورنسا لم يستوعبوا هذا الدرس الواضح من دروس التاريخ، وهذا جعلهم يجلبون «الخراب والعار على جمهوريتنا» (361). وكان الرومان دائما يدركون عدم جدوى القوات المرتزقة والمساعدة. لكن الفلورنسيين، شأنهم شأن العديد من الجمهوريات والإمارات الأخرى، لا يزالون يعانون إذلالا لا داعي له جراء اعتمادهم على هذه القوى الفاسدة والجبانة (383). وكان الرومان يرون، فيما يتعلق بمراقبة مواطنيهم، أن سياسة «تشييد الحصون لتكون بمنزلة لجام يضمن ولاءهم» لن تولد إلا السخط وانعدام الأمن. لكن، على النقيض من ذلك، «المثل الدارج في فلورنسا على لسان حكمائنا، أن بيزا ومثيلاتها من المدن يجب أن تؤمن بالحصون» (392). وأخيرا يأتي مكيافيللي بمنتهى الحسرة على ذكر المناورة التي كان قد وصمها بأنها تفتقر لأي قدر من التعقل على الإطلاق، والتي تتمثل في رفض التفاوض عند مواجهة قوات متفوقة في قوتها الحربية؛ فجميع الشواهد المستمدة من التاريخ القديم تشير إلى أن هذه هي أكثر الطرق تهورا لنيل رضا «الحظ»، لكن هذا هو تحديدا ما فعله الفلورنسيون عند اجتياح جيوش فرديناند في صيف عام 1512؛ فبمجرد أن عبر الإسبان الحدود، وجدوا أنهم يعانون نقصا في المؤن الغذائية، وحاولوا أن يعقدوا هدنة، لكن «شعب فلورنسا، الذي أصابه ذلك بالغرور، لم يقبل بالهدنة» (403)، فكانت النتيجة المباشرة طرد براتو واستسلام فلورنسا، وسقوط الجمهورية وعودة طغيان مديتشي، وهي عواقب كان من الممكن تلافيها كلها. وهكذا يجد مكيافيللي نفسه مدفوعا - كما حدث من قبل - لأن ينهي حديثه بتعليق يكلله الغضب اليائس من حماقات النظام الذي كان هو نفسه يخدمه.
الفصل الرابع
مؤرخ فلورنسا
الغرض من تسجيل التاريخ
عقب انتهاء مكيافيللي من كتابة «المطارحات» بوقت قصير، ضرب الحظ ضربته أخيرا وعلى نحو مفاجئ، حيث وهب مكيافيللي الدعم الذي طالما رغب فيه من حكام عائلة مديتشي. فقد حدث أن لورنزو دي مديتشيتو الذي كان مكيافيللي قد أعاد إهداء كتاب «الأمير» له بعد وفاة جوليانو عام 1516، توفي فجأة بعد ثلاث سنوات، وخلفه في السيطرة على شئون فلورنسا ابن عمه، الكاردينال جوليو، الذي سرعان ما انتخب لمنصب بابا الكنيسة الكاثوليكية باسم كليمنت السابع، وتصادف أن الكاردينال على صلة بأحد أقرب أصدقاء مكيافيللي، وهو لورنزو ستروتسي، الذي أهداه مكيافيللي فيما بعد كتاب «فن الحرب». ونتيجة لهذا الاتصال، تمكن مكيافيللي من الحصول على فرصة تقديم نفسه في البلاط المديتشي في مارس من عام 1520، وبعد ذلك بوقت قصير تلقى تلميحا بأن ثمة وظيفة ما - وإن كانت أدبية وليست دبلوماسية - ربما تكون متاحة له . ولم تخب توقعاته؛ ففي نوفمبر من نفس العام تلقى تفويضا رسميا من حكومة مديتشي بكتابة تاريخ فلورنسا.
ظلت عملية كتابة «تاريخ فلورنسا» تشغل مكيافيللي طوال ما تبقى من حياته تقريبا، كان ذلك هو أطول أعماله وأكثرها تأنيا، فضلا عن كونه العمل الذي حرص فيه مكيافيللي أشد الحرص على اتباع العادات الأدبية لمن يفضلهم من الأدباء الكلاسيكيين. كان المذهبان الأساسيان لعلم التأريخ الكلاسيكي - وبالتالي الإنساني - أن تتضمن الأعمال التاريخية تلقين دروس أخلاقية، ومن ثم أن تختار موادها وتنظم على نحو يسلط الضوء على الدروس الأخلاقية بأقصى قوة. وقد قدم سالوست، على سبيل المثال، إفادة مؤثرة عن هذين المبدأين، فقد قال في كتاب «حرب يوغرطة» إن هدف المؤرخ يجب أن يتمثل في التفكر في الماضي على نحو «مفيد» و«نافع» (4: 1-3). وفي كتاب «حرب كاتيلين» توصل إلى الاستدلال على أن النهج الصحيح يجب، تبعا لذلك، أن يتضمن «اختيار الأجزاء» التي تبدو «جديرة بأن تسجل»، وعدم محاولة تقديم سرد كامل لما وقع من أحداث (4 : 2).
شكل 4-1: مكتب مكيافيللي في بيته في «سانت أندريا» في ضاحية بيركوسينا بجنوب فلورنسا، حيث ألف كتاب «الأمير» عام 1513. (© AKG London/Eric Lessing)
التزم مكيافيللي التزاما شديدا بهذين المطلبين وهو يسرد، لا سيما في تناوله مختلف نقاط التحول وذرى الأحداث. فالكتاب الثاني، على سبيل المثال، ينتهي برواية مفيدة تحكي كيف صار دوق أثينا يحكم فلورنسا كطاغية عام 1342، وكيف أسقط من السلطة خلال السنة التالية. بعد ذلك يتحول الكتاب الثالث على نحو يكاد يكون فوريا إلى الحلقة التالية الكاشفة من ثورة «التشومبي» عام 1378، عقب وصف بسيط يعرض الخمسين سنة التي تخللها هذا الحدث. وبالمثل، ينتهي الكتاب الثالث بوصف لرد الفعل الذي تلا ثورة عام 1378، ثم يبدأ الكتاب الرابع، مسقطا فجوة زمنية قوامها أربعون عاما، بمناقشة كيفية نجاح عائلة مديتشي في ارتقاء سدة الحكم.
من مذاهب الكتابة التاريخية الإنسانية الأخرى أن المؤرخ إذا أراد نقل أكثر الدروس إفادة بأكثر الطرق انطباعا في الذاكرة، فعليه أن يستخدم أسلوبا بلاغيا قويا. وقد أعلن سالوست في بداية «حرب كاتيلين» أن الصعوبة الخاصة التي ينطوي عليها التاريخ تكمن في حقيقة أن «أسلوب الكلام ووقعه يجب أن يكونا على مستوى الأفعال المسجلة» (3 : 2). ومكيافيللي يأخذ أيضا هذا المبدأ على محمل الجد، لدرجة أنه قرر في صيف عام 1520 أن يصوغ «أنموذجا» أسلوبيا لسرد تاريخي، ووزع صيغته التمهيدية على أصدقائه في أورتي أوريتشلاري بهدف التماس تعليقاتهم على النهج الذي سلكه. كان الموضوع الذي اختاره مكيافيللي لهذا النموذج هو سيرة حياة كاستروتشو كاستراكاني، طاغية بدايات القرن الرابع عشر الذي كان يحكم مدينة لوكا، لكن مكيافيللي لم يكن مهتما بتفاصيل حياة كاستروتشو - التي كان بعض تفاصيلها من اختلاق مكيافيللي - بقدر ما كان مهتما بالعمل على اختيارها وترتيبها بطريقة راقية ومفيدة. فالوصف الافتتاحي لميلاد كاستروتشو وتقديمه على أنه لقيط، ليس سوى وصف مختلق، لكنه يمنح مكيافيللي الفرصة لكتابة كلام حماسي طنان عن نفوذ «الحظ» في الشئون الإنسانية (533-534). وحينما يبدأ كاستروتشو - الذي تلقى تعليمه على يد كاهن - في شبابه في «شغل نفسه بالأسلحة»، هذا أيضا يمنح مكيافيللي فرصة ليقدم شكلا من الجدل الكلاسيكي حول الهوايتين المتعارضتين المتمثلتين في الأدب والقتال (535-536). أما الخطاب الذي يلقيه الطاغية بأشد الندم لحظة موته، فيمثل هو الآخر أفضل تقاليد أسلوب التأريخ القديم (553-554). ثم تختتم القصة بأمثلة عديدة على ذكاء كاستروتشو اللامع، وإن كانت أغلب الأمثلة مسروقة مباشرة في حقيقة الأمر من «حياة الفلاسفة» لديوجينس لارتيس، وجرى إدراجها لمجرد إضفاء طابع بلاغي (555-559).
عندما أرسل مكيافيللي كتاب «حياة كاستروتشو» إلى صديقيه ألاماني وبونديلمونتي، لاقى الكتاب منهما استحسانا كبيرا باعتباره بروفة للعمل التاريخي الضخم الذي كان مكيافيللي يأمل في أن يكتبه في ذلك الوقت. فقد رد بونديلمونتي على مكيافيللي في رسالة كتبها له في سبتمبر عام 1520، تحدث فيها عن كتاب «حياة كاستروتشو» بوصفه «نموذجا لسردك التاريخي»، وأضاف أنه لهذا السبب يعتقد أن من الأفضل التعقيب على النص «من حيث اللغة والأسلوب في المقام الأول»، وأعرب عن بالغ إعجابه بانطلاقاته البلاغية، قائلا إنه استمتع بخطبة فراش الموت المبتكرة «أكثر من أي شيء آخر». ثم قال لمكيافيللي أكثر أمر يظن أنه كان يرغب في سماعه وهو يتأهب لخوض هذا المعترك الأدبي الجديد، وهو: «يبدو لنا جميعا أنك الآن لا بد أن تشرع في العمل على كتابة سردك التاريخي بمنتهى الاجتهاد» (م 394-395).
حينما عكف مكيافيللي كما ينبغي على كتابه سرده التاريخي بعد بضعة أشهر، استخدم هذه الأدوات الأسلوبية في عمله على نحو مدروس، فقد صيغ الكتاب بأكثر أساليبه توظيفا للأقوال المأثورة ولطريقة المقابلة والتضاد، وتتكرر فيه كل الموضوعات الرئيسية لنظريته السياسية لكن في ثوب بلاغي. في الكتاب الثاني، على سبيل المثال، يقدم مكيافيللي مشهدا يقف فيه أحد «السادة» في مواجهة دوق أثينا ليلقي على مسامعه خطابا مؤثرا عن «اسم الحرية، الذي لا تسحقه أي قوة، ولا يبليه طول الدهر مهما طال، ولا يضارعه أي منال» (1124). وفي الكتاب التالي يلقي أحد المواطنين العاديين خطابا ساميا بالقدر نفسه على مسامع «السيد» عن موضوع «القوة» والفساد، وعن ضرورة أن يخدم كل مواطن الصالح العام دائما (1145-1148). وفي الكتاب الخامس يحاول رينالدو ديجلي آلبيتزي أن يلتمس عون دوق ميلانو ضد نفوذ عائلة مديتشي المتنامي بخطاب آخر عن «القوة» والفساد، وواجب المواطن أن يقدم ولاءه للمدينة التي «تحب كل مواطنيها بالقدر نفسه»، لا للمدينة التي «تخضع إلى قلة قليلة من مواطنيها وتتجاهل كل الآخرين» (1242).
كان أهم مبدأ تعلمه الفلاسفة الإنسانيون من أساتذتهم الكلاسيكيين أن المؤرخين يجب أن يركزوا اهتمامهم على أرقى إنجازات أسلافنا، وبذلك يشجعوننا على محاكاة أنبل أعمالهم وأكثرها مجدا. ورغم أن كبار المؤرخين الرومان كانوا يميلون إلى التشاؤم في استشراف التوقعات، وكانوا يستفيضون كثيرا في ذكر الفساد المستشري في العالم، كان هذا عادة ما يدفعهم إلى التحمس في إصرارهم على أن المؤرخ يجب أن يذكرنا بأيام أفضل حالا. والمؤرخ سالوست يشرح في كتاب «حرب يوغرطة» أن استبقاء «ذكر الأعمال العظيمة» هو الذي يمكننا من أن نأمل في أن نلهب «في صدور الرجال النبلاء» ذلك النوع من الطموح، «الذي لا يمكن أن تنطفئ شعلته حتى يبلغوا مجد أجدادهم وحسن سمعتهم من خلال «قوتهم» هم أنفسهم » (4: 6). يضاف إلى ذلك أن هذا الشغف بالطابع التمجيدي في عمل المؤرخ هو أهم ما استمده الفلاسفة الإنسانيون في عصر النهضة من دراستهم لأعمال ليفيوس وسالوست ومن عاصرهما. ويمكن رؤية هذا بوضوح، على سبيل المثال، فيما كتب عن الغرض من سرد التاريخ، في إهداء كتاب «تاريخ الشعب الفلورنسي» الذي أنهى المستشار بوجو براتشوليني كتابته في خمسينيات القرن الخامس عشر. هذا يؤكد أن «الفائدة العظيمة المستمدة من التاريخ الصادق حقا» هي «أننا نستطيع أن نرى ما يمكن أن تحققه «قوة» أكثر الرجال تميزا.» فنحن نرى كيف حفزهم وحركهم الحرص على «المجد، وعلى حرية بلادهم، وعلى صالح أبنائهم، وعلى آلهتهم، وعلى جميع الأمور الإنسانية»، ونجد أنفسنا «نتأثر أشد التأثر» بقدوتهم الرائعة وكأنهم «يحثوننا» على منافستهم في عظمتهم.
1
ما من شك في أن مكيافيللي كان يعي تماما هذا المظهر الأكثر عمقا من مظاهر تأريخ الفلاسفة الإنسانيين؛ لأنه يشير في إعجاب إلى عمل بوجو في افتتاحية كتابه «تاريخ فلورنسا» (1031)، لكن عند هذه المرحلة - بعد أن سار على النهج الإنساني بهذا القدر الكبير من الالتزام - إذا به يحطم فجأة التوقعات التي أثارها من قبل؛ ففي بداية الكتاب الخامس، عندما يتحول إلى دراسة تاريخ فلورنسا خلال القرن السابق، يعلن أن «الأمور التي فعلها أمراؤنا، في الخارج والداخل، لا يمكن أن يقرأها المرء بنفس قدر الإعجاب «بالقوة» والعظمة، الذي يقرأ به عن الأمور التي فعلها القدماء». ببساطة ليس من الممكن «أن نحكي عن شجاعة الجنود أو عن «قوة» القادة العسكريين أو عن حب المواطنين وطنهم»، وإنما يمكننا فقط أن نحكي عن عالم يزداد فسادا نشهد فيه «نوعية الحيل والمخططات التي أدار بها الأمراء والجنود وزعماء الجمهوريات شئونهم، من أجل الحفاظ على السمعة التي لم يكونوا جديرين بها.» وهكذا يحدث مكيافيللي تغييرا تاما للافتراضات السائدة بشأن الغرض من سرد التاريخ؛ فبدلا من سرد رواية «تلهب الأرواح الحرة لتحفزها على التقليد»، هو يأمل أن «يلهب هذه الأرواح ليحفزها على تجنب مفاسد الحاضر والتخلص منها» (1233).
وهكذا فإن مجمل كتاب «تاريخ فلورنسا » يدور حول موضوع الاضمحلال والسقوط؛ إذ يصف الكتاب الأول انهيار الإمبراطورية الرومانية في الغرب، وزحف البرابرة على إيطاليا. وتصف نهاية الكتاب الأول وبداية الكتاب الثاني كيف أن «المدن والولايات الجديدة التي ولدت من بين الرفات الروماني تميزت بقدر من «القوة» جعلها تحرر إيطاليا من البرابرة، وتصد عنها أذاهم» (1233). لكن بعد هذه الفترة الزمنية الوجيزة من النجاح المتواضع، يقدم مكيافيللي بقية سرده - من وسط الكتاب الثاني إلى نهاية الكتاب الثامن، الذي ينتهي عند تسعينيات القرن الخامس عشر - على صورة سنوات من الفساد والانهيار المتصاعد، ثم يصل إلى الحضيض عام 1494، عندما تحدث المهانة المطلقة: حيث «تخضع إيطاليا للعبودية من جديد» تحت حكم البرابرة الذين كانت إيطاليا قد نجحت في إجلائهم من قبل (1233).
اضمحلال فلورنسا وسقوطها
إن الموضوع الغالب على كتاب «تاريخ فلورنسا» هو الفساد، حيث يصف مكيافيللي كيف تملك نفوذه الخبيث من فلورنسا، فخنق حريتها، وانتهي بها أخيرا إلى الطغيان والعار. ومثلما فعل مكيافيللي في «المطارحات» - التي يتبع نفس نهجها اتباعا دقيقا - يرى أن هناك مجالين رئيسيين تميل روح الفساد لأن تنشأ فيهما. وبعد أن يميز بينهما في تمهيد الكتاب، يستخدم ذلك في تنظيم كل ما سيرويه فيما بعد. أولا، التعامل على صعيد السياسات «الخارجية» دائما ما ينطوي على خطر الفساد، والأعراض الرئيسية لذلك تتمثل في نزوع نحو إدارة الشئون العسكرية بقدر متزايد من التردد والجبن. وثانيا، ثمة خطر مماثل فيما يتعلق بالأمور «التي تجرى في الداخل على أرض الوطن»، حيث يتمثل نمو الفساد في المقام الأول في شكل «صراع أهلي وتشاحن داخلي» (1030-1031).
يتناول مكيافيللي أولى هاتين القضيتين في الكتابين الخامس والسادس، اللذين يتناول فيهما في المقام الأول تاريخ الشئون الخارجية الفلورنسية، لكنه لا يتكفل - كما سبق وفعل في «المطارحات» - بأن يقدم تحليلا مفصلا عما شهدته المدينة من أخطاء وسوء تقدير في المجال الاستراتيجي، بل يكتفي بتقديم سلسلة من الأمثلة الساخرة على القصور العسكري الفلورنسي؛ وبهذا يتمكن من الحفاظ على الشكل المتعارف عليه للسرد التاريخي الإنساني - الذي كان دائما ما يحوي روايات مستفيضة عن أشهر المعارك - بينما في الوقت نفسه يحاكي مضمونه على نحو ساخر. فأهمية ما يورده مكيافيللي من روايات عن الأحداث العسكرية هو أن جميع الاشتباكات العسكرية التي يصفها تبعث على السخرية، ولا تتسم بالشجاعة أو المجد على الإطلاق. على سبيل المثال، حينما يكتب عن معركة «زاجونارا» الكبرى، التي دارت رحاها عام 1424 في بداية الحرب ضد ميلانو، أشار أولا إلى أن هذه الحرب اعتبرت في حينها هزيمة نكراء لفلورنسا، وأنها «حكيت أخبارها في كل أنحاء إيطاليا.» ثم يضيف أنه ما من أحد مات في الحرب عدا ثلاثة فلورنسيين «سقط كل منهم من فوق صهوة جواده، وغرق في الوحل» (1193). بعد ذلك، يضفي نفس الطابع الساخر على الانتصار الشهير الذي حققه الفلورنسيون في معركة «أنجياري» عام 1440، فهو يشير إلى أنه طوال هذه المعركة الممتدة، «لم يمت إلا رجل واحد، لم يهلك متأثرا بجراح أو بأي ضربة مشرفة، بل لأنه سقط من فوق صهوة حصانه وداسته الأقدام» (1280).
يخصص ما تبقى من «تاريخ فلورنسا» للحكاية البائسة التي تدور حول ازدياد فلورنسا فسادا على الصعيد الداخلي، وعندما يتحول مكيافيللي إلى هذه النقطة في بداية الكتاب الثالث، يوضح في بادئ الأمر أنه، بالحديث عن الفساد الداخلي، يقصد في المقام الأول - كما هي الحال في «المطارحات» - اتجاه قوانين المدينة وتشريعاتها لأن تكون «غير هادفة للنفع العام»، وإنما للنفع الفردي أو الطائفي (1140).
وينتقد مكيافيللي اثنين من أسلافه العظام، هما بروني وبوجو؛ لأنهما لم يتنبها بالقدر اللازم لهذا الخطر في سردهما لتاريخ فلورنسا (1031) ويبرر انشغاله الشديد بهذا الموضوع بأنه مصر على أن العداوات التي تنشأ عندما يفقد المجتمع «قوته» بهذه الطريقة «تجلب مفاسد تستشري في المدينة»، والحالة البائسة التي انتهت إليها فلورنسا خير مثال على ذلك (1140).
في بادئ الأمر يسلم مكيافيللي بأن أي مدينة ستحوي دائما «عداوات شديدة وطبيعية بين الشعب والنبلاء»، بسبب «رغبة النبلاء أن يحكموا ورفض الشعب أن يستعبد» (1140). لكنه، كما فعل في «المطارحات»، لم يفترض أنه من الممكن تجنب جميع هذه العداوات، ويكرر رأيه السابق بأن «بعض الانقسامات تضر بالجمهوريات وبعض الانقسامات تفيدها»؛ فالانقسامات تلك التي تضرها يصحبها وجود فصائل وموالين؛ وتلك التي تفيدها لا يصحبها وجود فصائل وموالين، «ومن ثم فإن هدف المشرع الحصيف لا ينبغي أن يكون «منع وجود عداوات»، وإنما أن يضمن «ألا تكون هناك فصائل» قائمة على العداوات التي ستنشأ لا محالة (1336).
لكن العداوات التي نشأت في فلورنسا كانت دائما يصحبها وجود «فصائل» (1337)، ونتيجة لذلك، كانت المدينة من بين المجتمعات السيئة الحظ التي حكم عليها بأن تتأرجح بين قطبين مدمرين على حد سواء، متذبذبة بين «العبودية والانفلات» وليس «الحرية والعبودية»؛ فقد كان عامة الناس هم «المروجون للانفلات»، في حين كان النبلاء هم «المروجون للعبودية»، وبالتالي كانت المدينة المغلوبة على أمرها تترنح «من النموذج الاستبدادي إلى المنفلت، ومن المنفلت إلى الاستبدادي»، وكان كل طرف يشكل عدوا قويا بالنسبة للآخر، الأمر الذي جعل أيا منهما لا يتمكن من فرض الاستقرار في المدينة لأي فترة من الزمن (1187).
وهكذا يبدو تاريخ فلورنسا الداخلي منذ القرن الثالث عشر بالنسبة لمكيافيللي على هيئة سلسلة من الانتقالات المحمومة بين هذين النقيضين، تمزقت خلالها المدينة وحرياتها إربا في نهاية المطاف. يستهل الكتاب الثاني ببداية القرن الرابع عشر حينما كان النبلاء ممسكون بزمام السلطة، هذا أدى مباشرة إلى طغيان دوق أثينا عام 1342، حينما رأى المواطنون «هيبة حكومتهم تتحطم، وقواعدها تكسر، وقوانينها يضرب بها عرض الحائط» (1128)؛ لذلك هبوا ضد الطاغية ونجحوا في تأسيس نظامهم الشعبي، لكن - حسبما روى مكيافيللي في الكتاب الثالث - هذا النظام بدوره تفسخ وتحول إلى الانفلات عندما تمكن «العامة النزقون» من السيطرة على الجمهورية عام 1378 (1161-1163)، ثم تأرجح البندول تارة أخرى عائدا إلى «الأرستقراطيين ذوي الأصول الشعبية»، وبحلول منتصف القرن الخامس عشر كان هؤلاء أيضا يسعون إلى تقليص حريات الشعب، مما ساعد على ظهور شكل جديد من أشكال الحكم الاستبدادي (1188).
من الصحيح أن مكيافيللي، بوصوله إلى هذه المرحلة النهائية من سرده في الكتابين السابع والثامن، يبدأ في تقديم سرده بأسلوب أكثر التفافا وتحفظا؛ حيث يصبح موضوعه الرئيسي هو لا شك صعود عائلة مديتشي، ويبدو واضحا أنه يشعر بوجوب إفساح بعض المجال لحقيقة أن نفس العائلة هي التي منحته فرصة كتابة «تاريخ فلورنسا». لكن رغم أنه يتجشم عناء كثيرا كي يخفي عداءه لهم، يسهل علينا أن نستبين مجددا شعوره حيال دور عائلة مديتشي في تاريخ فلورنسا، إذا ربطنا أجزاء بعينها من نقاشه الذي يحرص على أن يبقيها منفصلة.
الكتاب السابع يبدأ بنقاش عام عن أخبث الوسائل التي يستطيع مواطن بارز من خلالها أن يأمل في إفساد الجماهير بحيث يشجع ظهور الفصائل المنقسمة، ويكتسب لنفسه سلطة مطلقة. وهذه مسألة جرى تناولها بالفعل تناولا مكثفا في «المطارحات»، ويكتفي مكيافيللي في الأغلب بتكرار ما قدمه من حجج سابقة؛ إذ يقول إن الخطر الأكبر هو السماح للأغنياء باستخدام أموالهم في كسب «أنصار يتبعونهم سعيا إلى تحقيق منفعة خاصة»، بدلا من السعي إلى تحقيق الصالح العام. ويضيف بأن هذا يجري بطريقتين أساسيتين؛ الأولى: «من خلال تقديم خدمات لمختلف المواطنين، كالحماية من رجال القانون والمساعدة بالمال والمساعدة في الحصول على مناصب هم غير أهل لها.» والثانية: «من خلال إسعاد الجماهير بوسائل الترفيه وتقديم الهبات الاجتماعية»، وهذا يتضمن تأدية عروض مكلفة من نوعية تهدف لكسب شعبية زائفة وتسكين الشعب إلى أن يخسر حرياته (337).
إذا انتقلنا إلى الكتابين الأخيرين من «تاريخ فلورنسا» آخذين هذا التحليل في الاعتبار، فلن يصعب علينا أن نتبين لهجة البغض المستترة وراء ما يرويه مكيافيللي من سرد حار العاطفة عن حكومات مديتشي المتعاقبة. فهو يبدأ بكوزيمو، الذي يغدق عليه مديحا راقيا في الفصل الخامس من الكتاب السابع، مشيدا به على وجه الخصوص لتفوقه على «كل رجال عصره»، ليس فقط «في النفوذ والثروة، لكن في السخاء أيضا.» لكن سرعان ما يتبين لنا أن ما كان مكيافيللي يقصده فعلا هو أن كوزيمو حين مات «لم يكن هناك مواطن في المدينة، مهما كان مستواه، إلا وكان كوزيمو قد أقرضه مبلغا ضخما من المال» (1342)، وقد أشار مكيافيللي من قبل إلى التأثير المفسد لهذا السخاء المتعمد. بعد ذلك، ينتقل مكيافيللي إلى السيرة المهنية القصيرة لابن كوزيمو ، بييرو دي مديتشي. في أول الأمر يوصف بأنه «فاضل ومبجل»، لكننا سرعان ما نعلم أن إحساسه بالتبجيل شجعه على أن يقيم سلسلة من بطولات الفروسية والاحتفالات الأخرى، التي كانت باذخة وفخمة إلى درجة كانت تجعل المدينة تظل منشغلة لأشهر في التحضير لها وعرضها (1352). ومن جديد، ليست هذه المرة الأولى التي يحذرنا فيها مكيافيللي من التأثير الضار الذي تلحقه هذه المغريات الصاخبة بالجماهير. وأخيرا، عندما يأتي مكيافيللي على ذكر سنوات لورنزو العظيم - ومن ثم على ذكر فترة شبابه - نراه لا يكاد يتكلف عناء إخفاء نبرة الكراهية المتصاعدة؛ فهو حينما يصل إلى هذه المرحلة، يعلن أن «حظ» عائلة مديتشي وسخاءهم» لعبا دورا حاسما في تحقيق تأثيرهم المفسد، لدرجة أن «آذان الناس قد صمت» عن فكرة التخلص من طغيان عائلة مديتشي، وبالتالي «لم تعد فلورنسا تعرف الحرية» (1393).
المحنة الأخيرة
رغم نكوص فلورنسا إلى الطغيان، ورغم عودة البرابرة، كان مكيافيللي يشعر بأنه يمكن أن يواسي نفسه بالاعتقاد في أن إيطاليا نجت من أحط أشكال الإذلال على الإطلاق؛ ذلك لأن البرابرة رغم دخولهم إيطاليا، لم يفلحوا في تخريب أي من مدنها الكبرى. وقد ذكر مكيافيللي في كتاب «فن الحرب» أن تورتونا خربت حقا، «لكن هذا لم يحدث مع ميلانو، فقد حدث التخريب مع كابوا لكن لم يحدث مع نابولي، وحدث مع بريشا لكنه لم يحدث مع البندقية.» وأخيرا «حدث مع رافينا لكنه لم يحدث مع روما» أهم رمز في إيطاليا على الإطلاق (624).
كان يتعين على مكيافيللي أن يتعرف على طريقة أفضل لالتماس رضاء «الحظ» من هذا الشعور بالثقة المفرطة؛ وذلك لأنه في مايو عام 1527 حدث ما لم يكن يخطر ببال. كان فرانسيس الأول قد تآمر عام 1526 بالدخول في تحالف، كي يستعيد مستعمرات له في إيطاليا كان قد اضطر لتسليمها بعد أن مني بهزيمة ساحقة على يد القوات الإمبراطورية عام 1525. وإزاء هذا التحدي، أمر شارل الخامس جيوشه بأن تدخل إيطاليا مجددا في ربيع عام 1527، لكن نظرا لأن القوات لم تكن قد حصلت على أجورها، ولأنها كانت تفتقر إلى التنظيم والانضباط، فإنها بدلا من أن تهاجم الأهداف العسكرية، تقدمت مباشرة نحو روما، فدخلت المدينة العزلاء في السادس من شهر مايو، وعاثت فيها فسادا خلال مذبحة دامت أربعة أيام أرعبت وأذهلت العالم المسيحي بأسره.
بسقوط روما، اضطر كليمنت السابع للفرار كي ينجو بحياته، وبفقدان الدعم الذي توفره البابوية، سرعان ما انهارت حكومة مديتشي التي كانت شعبيتها تشهد تدهورا متزايدا في فلورنسا. وفي السادس عشر من شهر مايو اجتمع مجلس المدينة لإعلان استعادة الجمهورية، وفي صباح اليوم التالي ارتحل شباب أمراء مديتشي من المدينة إلى المنفى.
بالنسبة لمكيافيللي، المعروف بتأييده القوي للنظام الجمهوري، كانت استعادة الحكم الحر في فلورنسا لحظة انتصار ولا شك، لكن في ضوء علاقاته بعائلة مديتشي، التي كانت تدفع راتبه على مدى السنوات الست الماضية، كان في نظر الجيل الأصغر سنا من الجمهوريين لا يكاد يزيد عن كونه عميلا مسنا وعديم الأهمية للاستبداد السيئ السمعة. ورغم أن آماله في استعادة منصبه القديم في البعثة الدبلوماسية الثانية كانت قد تجددت، لم يكن ثمة شك في أنه لن يمنح أي منصب في الحكومة الجديدة المناهضة لعائلة مديتشي.
يبدو أن كل هذا القدر من سخرية القدر قد حطم معنويات مكيافيللي على نحو سرعان ما عجل بإصابته بمرض لم يتعاف منه قط. ولعل قصة طلبه أن يحضر إليه كاهن وهو على فراش الموت كي يسمع منه اعترافا أخيرا، كانت أكثر القصص التي أعاد كتاب السير ذكرها، لكن هذا دون شك تلفيق ديني الطابع جرى اختلاقه في وقت لاحق. كان مكيافيللي ينظر طوال حياته بعين الازدراء إلى الطقوس الكنسية، وما من شيء يشير إلى أنه غير رأيه هذا لحظة موته. وقد توفي في الحادي والعشرين من يونيو، بين أفراد عائلته وأصدقائه، ودفن في كنيسة سانتا كروتشي في اليوم التالي.
صار جليا أنه لا يمكن بوجه عام مقاومة إغراء تعقب مكيافيللي بعد مماته - أكثر من تعقب أي منظر سياسي آخر - بهدف إيجاز فلسفته والحكم عليها. بدأت هذه العملية عقب وفاته مباشرة، ولا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، وقد شعر بعض أوائل نقاد مكيافيللي، مثل فرانسيس بيكون، أنهم قادرون على أن يقروا بأنهم «مدينون بالشكر الجزيل لمكيافيللي وغيره، ممن يكتبون ما يفعله البشر، لا ما يتعين على البشر فعله.» لكن غالبية قراء مكيافيللي القدامى صدموا للغاية من رؤيته إلى حد أنهم نعتوه بأنه من عمل الشيطان، بل إنه الشيطان نفسه. على النقيض من ذلك، كان الجزء الأكبر من المعقبين المعاصرين على مكيافيللي يواجهون حتى أكثر مذاهبه كراهة بروح عملية واعية، لكن بعضهم - لا سيما ليو ستراوس وتلاميذه - ظلوا متمسكين بقوة بوجهة النظر التقليدية التي ترى أن مكيافيللي (بحسب تعبير ستراوس) لا يمكن أن يوصف إلا بأنه «معلم الشر».
لكن مما لا شك فيه أن عمل المؤرخ يجب أن يكون مثل عمل الملاك المكلف بتسجيل الأعمال، لا قاضي الإعدام؛ ومن ثم كان كل ما سعيت إليه في الصفحات السابقة هو استعادة الماضي ووضعه أمام الحاضر، دون أن أحاول توظيف معايير الوقت الحاضر المحدودة والزائلة في الإشادة بالماضي أو انتقاده. وقد نقشت على ضريح مكيافيللي عبارة تشي بالفخر لتذكرنا بأن «ما من وصف يمكن أن يفي هذا الاسم العظيم حقه من التقدير.»
أعمال مكيافيللي المقتبس منها في النص
The Art of War,
in
Machiavelli: The Chief Works and Others,
trans. A. Gilbert, 3 vols (Durham, NC, 1965), 561-726.
Caprices [
Ghiribizzi ], in R. Ridolfi and P. Ghiglieri, 'I Ghiribizzi al Soderini’,
La Bibliofilia,
72 (1970), 71-4.
Correspondence [
Lettere ], ed. F. Gaeta (Milan, 1961).
Discourses on the first Decade of Titus Livius,
in
Machiavelli,
trans. Gilbert, 175-529.
The History of Florence,
in
Machiavelli,
trans. Gilbert, 1025-1435.
The Legations [
Legazioni e commissarie ], ed. S. Bertelli, 3 vols (Milan, 1964).
The Life of Castruccio Castracani of Lucca,
in
Machiavelli,
trans. Gilbert, 533-59.
The Prince,
ed. Q. Skinner and R. Price (Cambridge, 1988).
A Provision for Infantry,
in
Machiavelli,
trans. Gilbert, 3.
قراءات إضافية
المراجع
Silvia Ruffo Fiore,
Niccolò Machiavelli: An Annotated Bibliography of Modern Criticism and Scholarship (New York, 1990) covers the previous half-century of studies. For an analysis of my own approach see Roberta Talamo, 'Quentin Skinner interprete di Machiavelli’,
Croce Via
3 (1997), pp. 80-101.
السيرة الذاتية
The standard work remains Roberto Ridolfi,
The Life of Niccolò Machiavelli,
trans. Cecil Grayson (1963). Sebastian de Grazia,
Machiavelli in Hell (Princeton, 1989) is an unusual intellectual biography. John M. Najemy,
Between Friends: Discourses of Power and Desire in the Machiavelli-Vettori Letters of 1513-1515 (Princeton, 1993) concentrates on the period in which
The
was written. For the most up-to-date account see Maurizio Viroli,
Il sorriso de Niccolò: Storia di Machiavelli (Rome, 1998).
السياق السياسي
For the period of Machiavelli’s youth see Nicolai Rubinstein,
The Government of Florence under the Medici 1434-1494 (Oxford, 1966). On the 1490s see Donald Weinstein,
Savonarola and Florence (Princeton, 1963). On Machiavelli’s political and diplomatic career see the section 'Machiavelli and the Republican Experience’-essays by Nicolai Rubinstein, Elena Fasano Guarini, Giovanni Silvano, Robert Black, and John M. Najemy-in
Machiavelli and Republicanism,
ed. Gisela Bock, Quentin Skinner, and Maurizio Viroli (Cambridge, 1990), pp. 1-117. On the vicissitudes of the Florentine republic during Machiavelli’s adult life see Rudolf von Albertini,
Firenze dalla repubblica al principato (Turin, 1970), H. C. Butters,
Governors and Government in Early Sixteenth-Century Florence, 1502-1519 (Oxford, 1985), and J. N. Stephens,
The Fall of the Florentine Republic, 1512-1530 (Oxford, 1983).
السياق الفكري
The essays collected in P. O. Kristeller,
Renaissance Thought,
2 vols (New York, 1961-65) remain indispensable. For the fullest survey of the intellectual life of the period see
The Cambridge History of Renaissance
ed. Charles Schmitt, Eckhard Kessler, Quentin Skinner, and Jill Kraye (Cambridge, 1988). For the classic account of 'civic humanism’ see Hans Baron,
The Crisis of the Early Italian Renaissance (revised edn, Princeton, 1966). See also Donald J. Wilcox,
The Development of Florentine Humanist Historiography in the Fifteenth Century (Cambridge, Mass., 1969) and Peter Godman,
From Poliziano to Machiavelli: Florentine Humanism in the High Renaissance (Princeton, 1998). For surveys of the political theory of the period see Quentin Skinner,
The Foundations of Modern Political Thought,
2 vols (Cambridge, 1978) and
The Cambridge History of Political Thought 1450-1700,
ed. J. H. Burns and Mark Goldie (Cambridge, 1991).
دراسات عامة عن الفكر السياسي لمكيافيللي
The fullest outline is Gennaro Sasso,
Niccolò Machiavelli I. Il pensiero politico (Bologna, 1980). A classic work is Felix Gilbert,
Machiavelli and Guicciardini:
(revised edn, New York, 1984). Mark Hulliung,
Citizen Machiavelli (Princeton, 1983) stresses Machiavelli’s subversion of classical humanism. Leo Strauss,
Thoughts on Machiavelli (Glencoe, Ill., 1958) views him as 'a teacher of evil’. The place of religion in Machiavelli’s thought has been valuably reappraised in a symposium-with contributions by John H. Geerken, Marcia L. Colish, Cary J. Nederman, Benedetto Fontana, and John M. Najemy-in the
Journal of the History of Ideas
60 (1999), pp. 579-681. See also Anthony J. Parel,
The Machiavellian Cosmos (New Haven, 1992).
المفردات السياسية لمكيافيللي
J. H. Whitfield, 'On Machiavelli’s Use of
Ordini ’ in
Discourses on Machiavelli (Cambridge, 1969), pp. 141-62. J. H. Hexter, 'Il Principe
and
lo stato’
in
The Vision of Politics on the Eve of the Reformation (London, 1973), pp. 150-78. Russell
Virtú
in Machiavelli’ in
European Studies Review
4 (1973), pp. 315-45. Russell Price, 'The Theme of
Gloria
in Machiavelli’ in
Renaissance Quarterly
30 (1977), pp. 588-631. Victor A. Santi,
La 'Gloria’ nel pensiero di Machiavelli (Ravenna, 1979). Quentin Skinner, 'Machiavelli on the Maintenance of Liberty’ in
18 (1983), pp. 3-15. Hanna Fenichel Pitkin,
Fortune is a Woman: Gender and Politics in the Thought of Niccolò Machiavelli (Berkeley, Cal., 1984). Russell Price, 'Self-Love, “Egoism” and
Ambizione
in Machiavelli’s Thought’ in
History of Political Thought
9 (1988), pp. 237-61. Harvey C. Mansfield,
Machiavelli’s Virtue (Chicago, 1996).
أسلوب مكيافيللي البلاغي
This has recently become a major focus of research. For pioneering studies see Nancy S. Struever,
The Language of History in the Renaissance: Rhetoric and Historical Consciousness in Florentine Humanism (Princeton, 1970) and Brian Richardson, 'Notes on Machiavelli’s Sources and his Treatment of the Rhetorical Tradition’,
Italian Studies
26 (1971), pp. 24-48. The first part of Victoria Kahn,
Machiavellian Rhetoric from the Counter-Reformation to Milton (Princeton, 1994) considers the rhetoric of Machiavelli’s
and
Discourses . Quentin Skinner, 'Thomas Hobbes: Rhetoric and the Construction of Morality’ in
76, pp. 1-61, highlights Machiavelli’s use of rhetorical redescription. Virginia Cox, 'Machiavelli and the
Rhetorica ad Herennium : Deliberative Rhetoric in
The Prince ’ in
Sixteenth Century Journal
28 (1997) connects Machiavelli’s vocabulary directly to the Roman
ars rhetorica . Maurizio Viroli,
Machiavelli (Oxford, 1998) lays particular emphasis on the rhetorical character of Machiavelli’s thought.
دراسات عن كتاب «الأمير»
Hans Baron, 'Machiavelli: The Republican Citizen and the Author of
The Prince ’ in
The English Historical Review
76 (1961), pp. 217-53. Felix Gilbert, 'The Humanist Concept of the Prince and
The
of Machiavelli’ in
History: Choice and Commitment (Cambridge, Mass., 1977), pp. 91-114. Marcia Colish, 'Cicero’s
De Officiis
and Machiavelli’s
’ in
Sixteenth Century Journal
9 (1978), pp. 81-94. J. Jackson Barlow, 'The Fox and the Lion: Machiavelli Replies to Cicero’ in
History of Political Thought
20 (1999), pp. 627-45.
دراسات عن كتاب «المطارحات»
For a classic reading of the text and its context see J. G. A.
The Machiavellian Moment: Florentine Political Thought and the Atlantic Republican Tradition (Princeton, 1975),
Machiavelli’s republicanism see Maurizio Viroli,
From
Language of Politics, 1250-1600 (Cambridge, 1992). Harvey Mansfield,
Machiavelli’s New Modes and Orders (Ithaca, 1979) offers a chapter-by-chapter commentary. More specialized studies include Felix Gilbert, 'The Composition and Structure of Machiavelli’s
Discorsi ’ in
History: Choice and Commitment,
1977, pp. 115-33; Felix Gilbert, 'Bernardo Rucellai and the Orti Oricellari: A Study on the Origin of Modern Political Thought’ in
History: Choice and Commitment,
1977, pp. 215-46; Quentin Skinner, 'Machiavelli’s
Discorsi
and the Pre-humanist Origins of Republican Ideas’ in
Machiavelli and Republicanism,
ed. Bock, Skinner, and Viroli, pp. 121-41.
دراسات عن كتاب «تاريخ فلورنسا»
The fullest analysis is Gennaro Sasso,
Niccolò Machiavelli II. La storiografia (Bologna, 1993). The following detailed studies are of particular importance: Felix Gilbert, 'Machiavelli’s
Istorie Fiorentine : An Essay in Interpretation’ in
History: Choice and Commitment,
1977, pp. 135-53; John M. Najemy 'Arti
and
Ordini
in Machiavelli’s
Istorie Fiorentine’
in
Essays Presented to Myron P. Gilmore
ed. Sergio Bertelli and Gloria Ramakus, 2 vols (Florence, 1978), pp. 161-91; Carlo Dionisotti, 'Machiavelli storico’ in
Machiavellerie (Turin, 1980), pp. 365-409 and Gisela Bock, 'Civil Discord in Machiavelli’s
Istorie Fiorentine ’ in
Machiavelli and Republicanism,
ed. Bock, Skinner and Viroli 1990, pp. 181-201.
ملاحظات
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
نامعلوم صفحہ