ابو العلاء المعری زوبعہ الدهور
أبو العلاء المعري زوبعة الدهور
اصناف
المعضلة العلائية
كيف كنت أفهم المعري؟
عصر الأسرار والخفاء
عصر أبي العلاء
دعوة أبي العلاء
رسالة أبي العلاء إلى المعريين
حبيس المعرة
مدرسة أبي العلاء
معتقده
أبو العلاء والحاكم
نامعلوم صفحہ
الليلة الأولى
الليلة الثانية
الليلة الأخيرة
بعد العاصفة
الحصن الذي لم يسكت
مذهب أبي العلاء
خلال ألف سنة
أراجيف وأساطير
شاعر العقل الفاطمي
بعد أربعمائة سنة
نامعلوم صفحہ
بين شيخين
عنزة ولو طارت
المعضلة العلائية
كيف كنت أفهم المعري؟
عصر الأسرار والخفاء
عصر أبي العلاء
دعوة أبي العلاء
رسالة أبي العلاء إلى المعريين
حبيس المعرة
مدرسة أبي العلاء
نامعلوم صفحہ
معتقده
أبو العلاء والحاكم
الليلة الأولى
الليلة الثانية
الليلة الأخيرة
بعد العاصفة
الحصن الذي لم يسكت
مذهب أبي العلاء
خلال ألف سنة
أراجيف وأساطير
نامعلوم صفحہ
شاعر العقل الفاطمي
بعد أربعمائة سنة
بين شيخين
عنزة ولو طارت
أبو العلاء المعري زوبعة الدهور
أبو العلاء المعري زوبعة الدهور
تأليف
مارون عبود
ولو طار جبريل بقية عمره
من الدهر ما اسطاع الخروج من الدهر
نامعلوم صفحہ
المعري
المعضلة العلائية
كيف كنت أفهم المعري؟
يفتتح داعي دعاة التوحيد، شيخ المعرة، «ألفية» فلسفته، بل كتاب المذهب: «لزوم ما لا يلزم» بقوله:
تكرم أوصال الفتى بعد موته
وهن إذا طال الزمان هباء
فخفت أن يزعجه هذا الإكرام بعد ألف سنة، وكأني به قد نظر إليه بعين الغيب، فقال:
وأكرمني على عيبي رجال
كما روي القريض على الزحاف
وقفت حيران لا أدري ماذا أقول في هذا العرس؛ فمن عادة البشر تعظيم العريس، مهما يكن شأنه، فكيف بنا وعريسنا اليوم أعزب الدهر كشيخنا أبي العلاء، الذي يكال له الثناء بالمد، ويقاس بالأميال وبالفراسخ؟
نامعلوم صفحہ
إن شيخنا المعظم يحب الهجو، ويسيء الظن، وينهى عن المدح، حتى قال لنا:
فلا تمدحاني، يمين الثناء
فأحسن من ذاك أن تهجواني
والعجيب الغريب أن يكذب الناس جميعهم: نبيهم ورسولهم، أديبهم وشاعرهم، خواصهم وعوامهم. أبغضهم وجافاهم فتهافتوا على سراج ينوس في مهب عواصف الدهر، فجزاهم على ابتسام بابتسام، حتى إذا ما انصرفوا من تلك الحضرة المتألهة، تقمص ربها روح ذاك الصعلوك القائل: «ولي دونكم أهلون سيد عملس.» فقال فيهم مثله:
والوحش في الفلوات أجمل عشرة
للمرء من أهليه في الأمصار
وأوغل في مفاوز إساءة الظن فقال أيضا:
أعدى عدو لابن آدم خلته
ولد يكون خروجه من ظهره
ثم رماهم بالجهل المطبق وأقصى الغباوة فقال:
نامعلوم صفحہ
لو قال سيد غضا بعثت بملة
من عند ربي، قال بعضهم: نعم
إذا نظرنا إلى «الظاهر» أيقنا أن الشيخ الإمام غضبان، حردان على الدنيا وبنيها، فألقى قنابل محشوة غازات وسموما على مدينة المثل العليا فأصابت الجميع:
قد ترامت إلى الفساد البرايا
واستوت في الضلالة الأديان
أنا أعمى، فكيف أهدى إلى المن
هج والناس كلهم عميان
قرأت في هذه الأشهر كل ما أملاه الإمام وأخرجته المطابع، وتتبعت آثاره في هوي «لزومياته»، وتسلقت قمم «رسائله» متلمسا النور من «سقط زنده» و«ضوء سقطه» لعلي أدرك بعض «غاياته»، وأشهد تمثيل «فصوله»، فكنت كمن يستنير بالحباحب. رأيتني في يهماء تكذب فيها العين والأذن.
رأيت، بادئ ذي بدء، رجلا يقودني إلى حيث لا يدري ولا أدري، فلم أجد أكفأ من كلمة ذلك الوزير الذي زاره فقال له: ما هذا الذي يرويه الناس عنك؟ فأجابه: قوم حسدوني فكذبوا علي. فسأله الوزير: وعلام حسدوك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة؟ فأجاب المعري: والآخرة ...
وأطرق منطويا على نفسه، بل على سره الذي كان من كتمانه في جهد جهيد.
نامعلوم صفحہ
أجل، رأيتني باتباعي شيخ المعرة أصبحت لا دنيا ولا دين ولا آخرة، وهذا عجيب.
يدعو الرجل إلى تطليق الدنيا ولا يرتجي غيرها، فكيف يكون هذا؟ ما رأيت فلسفة بلا غاية إلا فلسفة المعري، فقام في ذهني إذ ذاك، أن الرجل ساخط، متبرم، متشائم، يهجو الأنام، لا أكثر ولا أقل، لا يرى الجمال فيفتنه سحره، ويلطف مرارة عيشه، فاتبع «العقل»، والعقل يهدي ولكنه هاد زميت، جاف العشرة.
ظننت أن الإكسير الذي يحلي مرارة العيش ليس في متناول يد المعري، أخفق في طلب الدنيا لأنه غير مستطيع، فانطوى على نفسه في عقر بيته واستدار يفح فحيحا راعبا.
انزوى كالخلد يقرض جذور التعاليم لييبس ما غرسه السلف، وصب على الدنيا وبنيها زيت سخطه المغلي، فشواها بناره وكبريته. كنت أظن أن نسك أبي العلاء لا يراد منه الثواب، ولكنه فعل ما فعله ديوجين حين داس كبرياء أرسطو بكبرياء أكبر منها ...
يخيب بعضنا في الحياة، فيهرع إلى الدير. فإن كان رجلا خطب ود مريم وحل هذا الزواج الصوفي محل الزواج الآخر، وتسامى صاحبه إلى المثل الأعلى، فخدم البشرية خدمات جلى. وإن كان أنثى، كان عريسها يسوع القائل: «من لا يترك من أجلي أبا أو أخا أو أما فهو لا يستحقني.» فحبا بالعريس المرجى تقف حول سرير المريض، وتحنو على اللقيط، وتعطف على اليتيم.
أما نسك شيخنا - رحمات الله عليه - فيسفر في ظاهره عن سخط أشبه بالقذف؛ فهو يذم الأمهات والأخوات بأردأ النعوت والألقاب، يخاف عليهن حتى من أقرب الناس. ما قصر عن الحطيئة في شيء، بل ما خلته إلا مثله حين قرأت قوله:
بدء السعادة أن لم تخلق امرأة
فهل تود جمادى أنها رجب؟
ولم تتب لاختيار كان منتجبا
لكنك العود إذ يلحى وينتجب
نامعلوم صفحہ
وما احتجبت عن الأقوام من نسك
وإنما أنت للنكراء محتجب
فهل تدل هذه الأبيات على شيء؟ أستغفر الله، إنني، علم الله، حسن الظن بالشيخ، ولكن ألا يحق لي أن أشك فيه كما شك هو لعلمي أنه بعض الأنام؟
ولكن لا، إنني أثق به، إنه لصادق السريرة والعلانية، غير أني أسمح لوجداني أن يعتقد أن أبا العلاء فجع بالأنثى التي تعلقها قلبه، وما هجا الدنيا ذاك الهجو المر إلا لأجل تلك التي لم ترع لهذا الضرير عهدا، وقد تكون هي التي حملته على الهجرة إلى العراق على قلة استطاعته.
يشير الشيخ على الناس بشيء، ولكن إشارته تبعث على اليأس، ويا ليته يأس مريح، إنه يأس يستوي فيه الأعمى والبصير كقوله:
والخير أفضل ما اعتقدت فلا تكن
هملا، وصل بقبلة أو زمزم
1
كنت أحسب هذا تظرفا من الشيخ - والشيخ كان ظريفا في شبابه ولكن ظرفه تحول فيما بعد - فقلت إذ ذاك: «كم من متدين هو أسمى عقلا منا، فكيف يغرب هذا عن بصير كالمعري؟» فإذا بي أرى الشيخ مدركا هذا يقر به ويقول في رسالة الغفران: «وقد تجد الرجل حاذقا في الصناعة، بليغا في النظر والحجة، فإذا رجع إلى الديانة ألفي كأنه غير مقتاد، وإنما يتبع ما اعتاد» (ص255).
لست بالمبشر في هذا المقال، ولكني قرأت اللزوميات لأرى ما يدعو إليه أبو العلاء، فلم أقع - أولا - على شيء، فعدت من قراءتها وقراءة كل آثاره، كما عاد صاحبنا من العراق راضيا من الغنيمة بالإياب.
نامعلوم صفحہ
رأيت رجلا يهجو الدنيا ويزدريها كالمسيح، ولكنه لا يترجى ملكوتا ولا نعيما، فماذا نعمل نحن الذين لا نصلي ولا نشكر إلا طمعا بالثواب؟ وأين هي الغاية نسعى لها؟ بل أين هي الفلسفة التي يجب أن نقر له بها ونضعه لأجلها بين حكماء الأجيال؟
فنفضت يدي من صاحبي وقلت: لا هذا ولا ذاك. ما هناك إلا أعزب الدهر مقيم في غرفة سوداء، يناجي الأشباح والأرواح، شفتان ترتجفان وتتمتمان، يستعرض جبهة الأزل وساحات الأبد، يفكر دائما بالمعضلة السرمدية، ويصوب نحوها نبراس عقله، فيهرب الظلام ولا يكشف له النور عن شيء، فيلتجئ إلى ما طبع عليه؛ أي السخر والهزء، فيضحك من موكب الحياة الصاخب؛ لأنه لا يقدر أن يماشيه، فيرى جميع الناس صما عميا بكما:
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تخدع الناس ولا تكذب
فقلت: تلك نتيجة مركب النقص، كما يزعم علماء هذا الزمان. عجز أبو العلاء، فرأى جميع الناس أشرارا قساة القلوب، يفتكون بالضعيف ويصفون له «الفروج» لأنهم استضعفوه، فلماذا لم يصفوا شبل الأسد؟
غضب المعري على المستطيعين؛ لأنه غير مستطيع مثلهم، فعد النسل جناية.
تحدث كثيرا عن المرأة لأنه يحبها، وأساء الظن بها لأنه يريدها ويغار عليها، وهو عاجز من جهتين، فقعد يكره الناس بالحياة، وفي الحياة ناموس يجذبنا إليها؛ فكيف يقوى على صده ضرير، ولا سيما أنه يقول: «أم دفر لقد هويتك جدا ...» كما سترى. إذن، غضب أبو العلاء على الدنيا لأنها لم تحسن استقباله، فهجاها انتقاما منها، ولكنها أجابته بقوله :
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
أقول هذا وأشهد أني ظلمت الشيخ - قبل أن أدرك سره - والله وحده يعلم إن كنت أدركت شيئا ...
نامعلوم صفحہ
لم أستغرب قول صاحب يتيمة الدهر إنه عرف في معرة النعمان شاعرا ظريفا اسمه أحمد بن سليمان؛ فصاحبنا أبو العلاء ظريف حقا. لا بد هنا من تصفية حساب إحدى مشاكل الرجل؛ فقد توهم الناس حتى الخواص من الأدباء - هدانا الله وإياهم - أن أبا العلاء خلق منزها عن الشهوات، بريئا مما يسميه غيرنا الضعف البشري، لا ينقصه شيء من الكمال في نظرهم، حتى كادوا يجعلونه بمعزل من الغرائز، كأنه غير مركب من لحم ودم.
إن أبا العلاء، أيها الفضلاء - وهذا لا يضير عصمته التي تزعمونها له - قد تغزل كالشعراء؛ لأنه أحب مثلهم - الحب لا يضر يا سادة - وأحس بما أحس به كل مركب من نفس وجسد وله دماغ وقلب، إنه لم يقل عبثا:
أيا دارها بالخيف إن مزارها
قريب ولكن دون ذلك أهوال
وقال أيضا:
أيا جارة البيت الممنع جاره
غدوت ومن لي عندكم بمقيل
لغيري زكاة من جمال فإن تكن
زكاة جمال فاذكري ابن سبيل
وأبو العلاء مدح كالشعراء، وهنأ بالزفاف وغيره مثلهم، ولم يقصر عن أبي الطيب في غلوه وإيغاله، حتى قال لأحد زعماء الشيع يهنئه في عرس:
نامعلوم صفحہ
كأنها سر الإله الذي
عندك دون الناس يستكتم
وليس يبالغ هذه المبالغة إلا من يطمع في حطام الدنيا؛ فأبو العلاء قد جنى مثل غيره غلة الشعر، وذاق بواكير محصوله - قبل نسكه - وأبو العلاء رثى كالشعراء، وهجا مثلهم، ولكن هجوه لا هجر فيه، وافتخر وادعى مثل الشعراء بل أكثر منهم. فلنثق جيدا أن المعري إنسان مثلنا، أكل وشرب وتلذذ مثل الناس، وهو لم يكذب علينا حين قال:
تنسكت بعد الأربعين ضرورة
ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ
فكيف ترجي أن تثاب وإنما
يرى الناس فضل النسك والمرء شارخ
ويقول أيضا معبرا عن اختباره الواسع الدائرة:
إن الشبيبة نار إن أردت بها
أمرا فبادره إن الدهر مطفئها
نامعلوم صفحہ
أصاب جمري قر فانتبهت له
والنار تدفئ ضيفي حين أدفئها
وهو يعترف بأخذه قسطا وافرا من نعيم الحياة حين يقول:
خبرت البرايا والتصعلك والغنى
وخفض الحشايا والوجيف مع السفر
ويقول عن الدنيا ورياء البشر وإظهارهم الصدوف عنها:
من لم ينلها أراك زهدا
ومن لعير بصليانه
ثم لا يكتفي بإخبارنا عن هذا الترك، بل يقول لماذا فعل ذلك:
ولم أعرض عن اللذات إلا
نامعلوم صفحہ
لأن خيارها عني خنسنه
ويقول أيضا في آخر الشوط:
غنى وتصعلك وكرى وسهد
فقضينا الحياة بكل فن
زمان لا ينال بنوه خيرا
إذا لم يلحظوه من التمني
عرفت صروفه فأزمت منها
على سن ابن تجربة مسن
لم ينزه أبو العلاء نفسه عن كل هذا، ومع ذلك يقوم فينا، بعد عشرة قرون، من يغار عليه، ويأبى أن يقر له بذاك، ليرينا إياه رجلا حلت عليه النعمة في البطن ... ثم يتساءل: «من أين له الغنى وخفض الحشايا؟» «ما نشك في أنه قد مر بهما مرور الطيف في يوم من أيامه التي قضاها عند أخواله بحلب، أو عند أصحابه بمدينة السلام. ولعله ظن جلوسه على الفراش الوثير وتمتعه بالطعام الشهي ساعة من نهار في دار سابور بن أزدشير، أو عبد السلام بن الحسين، ابتلاء للغنى.»
عجيب وألف عجيب أمر صاحبنا هذا. ترجح دائما كفة الغرض حيث ينصب ميزانه؛ فهو إن وزن المعري تقصر جميع أثقال الدنيا عن أن تزنه وتعادله، وإن وضع فيه المتنبي شال ولم تواز شخصيته حبة خردل.
نامعلوم صفحہ
فإما أن أبا العلاء صادق، وإما أنه غير صادق، فإن كان صادقا فقد أقر وأظهرنا على ضعفه هذا - إن سميناه ضعفا. وإن كان غير صادق، فلماذا نصدق ما زعمه ورواه عن زهده؟ بل لماذا لا نشك بقوله على الأقل، إن لم نكذبه؟ فالذي عندي هو أن أبا العلاء بلا الدنيا، وذاق حلاوتها، وتكلم عن اختبار واعتبار، فلا ننزهه عما لم ينزه هو نفسه عنه، ولنصدق معاصره الذي وصفه بالظرف. هبوه أبا حنيفة الإمام المتبوع؛ فقد كان في أول عهده من عشراء حماد عجرد وجماعته. وهبوه القديس أوغسطينوس يعترف؛ فما ضر اعترافه علمه ولا قداسته.
فلنسمع اعتراف أبي العلاء. قد نسك شيخنا وتزمت بعدما أخفق، أو قل «تحول» ظرفه حين مشى في جادة أخرى، وأمسى حبيسا. إنه لم يولد في البصرة، بل في معرة النعمان، والمعرة بلد منعزل ضيق ما فيه إلا قيود وتقاليد.
تذكر الشيخ قول أبي نواس: «نعم إذا فنيت لذات بغداد.» فقصدها، ولكنه عاد خائبا من باريس العالم القديم؛ لأنه غير مستطيع، فكان من أمره ما كان. انزوى في بيته يعلم الناس كبارا وصغارا ويهزأ بالناس أجمعين، ويضحك من مطامعهم العجيبة، وغلواهم فيه. قال شيخنا الجليل:
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستخلص من جماد
قال قوم، ولا أدين بما قا
لوه، إن ابن آدم كابن عرس
فقام منا من يزعم أنه سبق داروين إلى علم النشوء والارتقاء.
إنه لا يعني فيما يقول أكثر مما نعتقده؛ أي إن الإنسان مخلوق من تراب ولا يعني بقوله: «إن ابن آدم كابن عرس.» أكثر مما يظن الفلاسفة الماديون.
وغضب أبو العلاء على البشر حين اعتقد «الخير» مذهبا فقال:
نامعلوم صفحہ
أقلقتم السابح في لجة
ورعتم في الجو ذات الجناح
هذا وأنتم عرضة للفنا
فكيف لو خلدتم يا وقاح؟
فقام أيضا من يظن أنه ممن كشفت لهم حجب الغيب، وقد نظر إلى ما سيكون، فحدثنا عن الطائرات والغواصات، وأبو العلاء المسكين لا يعني إلا قنص الطير وصيد السمك ...
ألزم شيخنا نفسه ما ليس يلزمها فسخط على المتساقطين على مائدة الدنيا كالذباب. ولو كان عنده علم هذا الزمان لحرم علينا شم الهواء وشرب الماء؛ لأن فيهما حياة، ولامتنع عن أكل العدس لأنه يلد الطويرات، ورفع يده عن سلة التين لأن التين، إذا خم، يولد بنات عم البرغش.
ضلالة هندية اعتقدها أبو العلاء، وأراد أن يجعل نفسه حقل اختبار لفلسفته كما فعل تولستوي حين خرف.
هكذا ظننت قبلما عرفت رأيه في «النفس»، وقبلما بان لي أنه يرجو ثوابا.
اعتكف أبو العلاء على درس أبي الطيب فكانت أولى صرخاته: «نقمت الرضا حتى على ضاحك المزن.» وأبغض الدنيا وأهلها مثله فاختار لها أبشع الألقاب وأوخمها، وهذه الكنية النتنة التي أطلقها عليها مأخوذة من قول معلمه أبي الطيب:
وقتلن دفرا والدهيم فما ترى
نامعلوم صفحہ
أم الدهيم وأم دفر ثاكل
ثم ذهب في ذمها مذاهب أبعد يعرفها كل من له إلمامة بالأدب.
أعجب شيخ المعرة بالمتنبي فتناول كلياته الفلسفية وطفق يبسطها ويمططها، فكان في نظري مكبرا فوتوغرافيا لصور المتنبي، فترك لنا هذا الميراث الفلسفي المنظوم؛ فما لزوميات أبي العلاء إلا كألفية ابن مالك؛ هذه تتضمن صرفا ونحوا، وتلك تتضمن فلسفة لمها صاحبها من هنا وهناك، فهو لمام فلسفة لا فيلسوف. وأعرف كثيرا من معازة وبقارة وبغالة عندنا يقولون عن الطقوس وغيرها ما قاله أبو العلاء، وقد يعبر بعضهم أحيانا بسخر مثل سخره، ولكنه لا يحسن النظم مثله.
وضع أبو العلاء الرجاز في آخر الجنة تحقيرا لفنهم، فأين كان يضع نفسه فيها لو سألناه ذلك؟ لا شك أنه لا يجيب ببيته المشهور:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لم تستطعه الأوائل
فقد أفحمه ذلك الصبي، إن صحت الرواية ... أما أنا فأراه صادقا في هذا البيت بالنظر إلى رسالة الغفران؛ فهو أروع أثر عربي ينم عن ظرفه ويبرئ تلك التسمية. فمن شاء أن يتعرف به فليطلبه هناك.
أما لزومياته فقلما تجد فيها شعرا. ولنعظمه لأجل ذلك الأثر الخالد.
قد أخفق فيما كتبه بعدها من رسائل وفصول، ولم يدرك غاية من الغايات؛ لأن فكرة صاحبنا واحدة؛ فهو منها كطائر في قفص، أو كجواد طول له ليرعى، فخط دائرة بمقدار ذلك الحبل.
إن رائحة أعزب الدهر لا تعجبني؛ فالشعر ابن الحياة، وكل شعر يبتعد عنها ينفر منه القلب وتشمئز النفوس؛ ففي شعر أبي العلاء رائحة يأس قتال، ومن يتبعه كان مغفلا يقع وإياه في حفرة.
نامعلوم صفحہ
قد تدخل عقلي أفكار أبي العلاء الزهدية حين أشبع ميولي، أما حين أنشط فأراه أخا البوم ينعب ولا يتعب.
إني لأكره النوح والنعيب، وأحب الفن راقصا في كل زمان ومكان حتى على القبور؛ فليتني أودع بطبل وزمر، فأدخل ذاك الباب بين أجواق الزامرين والراقصين، ولا أودع وداع يأس كما زعم هو ...
لست ألوم الشيخ إن قال:
ضجعة الموت رقدة يستريح ال
جسم فيها والعيش مثل السهاد
ربما كان صادقا، ولكن لا؛ فشعره غير مصداق لقوله، ورحم الله أستاذه أبا الطيب إذ أجابه عنا:
وإذا الشيخ قال أف فما مل
حياة ولكن الضعف ملا
لقد كان أبو الطيب يلم من كل فن بطرف؛ فللغيد عنده ساعة ثم تنقضي، أما أبو العلاء فيريد أن يجذبنا صوبه فما مثله إلا كمن ينادي: «ترمس أحلى من اللوز!»
هيه! يا أبا النزول، فليصدقك غيري، أما أنا فلست أذوق ترمسك ما استطعت أكل اللوز والجوز ...
نامعلوم صفحہ
إني لأعجب ممن يقول:
تحطمنا الأيام حتى كأننا
زجاج ولكن لا يعاد له سبك
ثم يدعو الناس إلى ترك أطايب الدنيا.
إن الفلسفة العلائية ترى كل ما على الأرض ضلالا وباطلا، ثم لا ترجو معادا، أليس هذا منتهى العجب؟
أنطقته بمزاعمه غريزته الموءودة؛ فجسمه مقبرة عواطف ترجو الحياة، فولد تساميه تشاؤما ويأسا، بل صاحت هامته: «اسقوني»، فقدم لها زاده الفلسفي المعفن.
شبع سليمان من لذائذ دنياه وأطايبها فقال لنا بعد أن مسح فمه: «باطل الأباطيل وكل شيء باطل.» ولكن هذا قالها ولم يذق من حلاوة دنياه غير التين، كما زعموا.
لا تصدق ذلك؛ فأبو العلاء عرف جميع ملاذ الدنيا، وذاق ضروب حلاوتها كلها إلا الخمرة.
إن أعجب فأعجب من أعميين هما الضدان اللذان لا يجتمعان: أبو معاذ، أكمه البصرة، الشره، القرم إلى الأحمرين، الخمر واللحم، وأبو العلاء، ضرير المعرة وهو بحق صائم الدهر:
أنا صائم طول الحياة وإنما
نامعلوم صفحہ