فأجابه المعتمد بكلمته المأثورة: «رعي الجمال خير من رعي الخنازير»، أي أنه يفضل أن يكون مأكولا ليوسف بن تاشفين يرعى جماله في الصحراء، على أن يكون أسيرا عند ألفنس، يرعى خنازيره في قشتالة.
وتلقى أمير المرابطين دعوة ابن عباد - وكان ينتظرها - فحشد جيشه في سبتة، ثم اجتاز المضيق إلى الجزيرة الخضراء، في شهر ربيع الآخر 479ه/آب 1086م، فوجد أمير إشبيلية قد خف لاستقباله في مائة فارس ووجوه أصحابه، فتقدم المعتمد يريد تقبيل يده؛ إظهارا لطاعته، فمنعه يوسف، فتصافحا وتعانقا كصديقين، لا كتابع ومتبوع، ثم تسلم الزعيم الإفريقي الجزيرة ليتصرف فيها، فاحتل بجيشه قلعتها، واهتم بتعزيز حصونها، وتنظيم حاميتها، وإعداد المؤن والذخائر فيها لتكون له موئلا يفزع إليه إذا لم يحالفه النصر في حملته.
فلما أتم تجهيزها شخص إلى إشبيلية فلبث ثمانية أيام يؤهب جيوشه منتظرا في الوقت نفسه قدوم الأمراء الأندلسيين بقواتهم لينضموا إليه، حتى إذا اكتملت عدة الجيوش المتحالفة، زحفت من إشبيلية تجوز أملاك أمير بطليوس، فسار فرسان المرابطين في الطليعة وعدتهم عشرة آلاف يقودهم داود بن عائشة، ثم الجيش الأندلسي، وعلى رأسه المعتمد، ثم الجيش الصحراوي يتقدمه يوسف بن تاشفين، وبينه وبين جيش ابن عباد يوم واحد، حتى بلغوا بطليوس، فنزلوا بظاهرها، فخرج إليهم أميرها المتوكل بن الأفطس، فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات.
وكان ألفنس لا يزال يحاصر سرقسطة، ويرميها بالحملة إثر الحملة وهي تدافع عن نفسها يائسة، فلما عرف بمجيء المرابطين وزحفهم إليه مع القوات الأندلسية، خاف على طليطلة والممتلكات الجنوبية أن يقع فيها العدو؛ فرفع الحصار عن العاصمة الهودية، وارتد إلى طليطلة يحشد العساكر من قشتالة ولاون وجليقية (Galice)
وبسكونية (Biscaya)
وأشتوريش (Asturias) ، ومن الأراضي الإسلامية التي افتتحها وأخضعها، وجاءته النجدات المتطوعة من ولايات فرنسة الجنوبية طامعة في المغانم أو مجاهدة في سبيل الدين، ودعا إلى معونته حليفيه شانجه أمير أرغون ونافار، ورمند أمير برشلونة.
فلبيا دعوته وانضما إليه بقواتهما، فاجتمع لديه جيش عظيم، تختلف الروايات الإسلامية في تقديره؛ فمنها ما يبالغ فيه فيجعله مائتي ألف راجل، وثمانين ألف فارس، ومنها ما يذهب إلى الاعتدال فلا يرتفع به عن الثمانين ألفا، منهم أربعون ألفا من ذوي الدروع الثقيلة، ويقدره ابن الأثير بخمسين ألف مقاتل، ويجعله ابن خلكان أربعين ألف فارس غير ما انضم إليه من الأتباع، ولا تتفق الروايات الإسلامية على عدد جيوش المسلمين؛ فمنها ما يرفعه إلى ثمانية وأربعين ألفا، نصفهم من الأندلسيين، ونصفهم الآخر من المرابطين، ومنها ما يهبط به إلى العشرين ألفا، ولكنها تجمع كلها على أن عدد المسلمين كان أقل من عدد المسيحيين.
وأما الروايات المسيحية، فإنها لا تشير إلى عدد الجيوش النصرانية، وإنما تذهب إلى تقدير الجيوش الإسلامية بزهاء مائة ألف، أو تظهر عجزها عن إحصائها، فتقول إنها كانت كالجراد المنتشر، ويفترض المستشرق الألماني جوزف أشباخ عددا متساويا للفريقين، فيقدر أن كل واحد منهما كان يجمع نحو مائة وثلاثين ألفا إلى مائة وخمسين.
ونحن إذا نظرنا إلى الولايات المتسعة في مملكة ألفنس، وما يحتمل استمداده من القوات الحليفة والمتطوعة، لا نستكثر خروجه بمقدار مائة ألف لقتال عدو يشعر بخطره بعد اجتماع الإفريقيين والأندلسيين عليه، وكذلك لا يعقل أن يوسف بن تاشفين يعبر إلى الأندلس بأقل من أربعين إلى خمسين ألفا، وهو مقدم على الحرب في بلاد غريبة منيعة، رأينا كاتبه عبد الرحمن يجتهد في تحذيره منها، وإذا كانت فرسانه عشرة آلاف كما ذكرنا، فلا ينبغي أن يقل عدد الرجالة عن الثلاثين أو الأربعين ألفا، ثم إن أمراء الأندلس في تحالفهم على الكارثة المشتركة لا يستغرب أن يبلغ حشدهم خمسين ألفا على أقل تعديل ليتخلصوا من عدو مخيف طالما هدد وجودهم، وقد سنحت لهم الآن فرصة تمنوها طويلا حتى حصلوا عليها.
فإن تكن العساكر الصحراوية والأندلسية دون العساكر الإسبانية في مجموعها بحسب رواية المؤرخين المسلمين، فلا يمكن التسليم بأنها تقل عنها كثيرا، فكلا الجيشين قوي متأهب أحسن الأهبة، والموقف خطر رهيب، والمصير غامض لا ينجلي إلا في اللقاء.
نامعلوم صفحہ