ولكن ابن جامع أبى إلا أن ينزل القصاص بالقائد الحكيم، فأغرى الناصر به متهما إياه بالتقصير والخيانة؛ فقتل المسكين وطابت نفس الحاجب الماكر، فاستاء الناس لهذا الحادث ولا سيما الأندلسيون، وكانوا يكرهون ابن جامع لتكرار مكايده، فأبدوا نفورهم من عمل الناصر، وهم إنما جاءوا للحرب متثاقلين، ساخطين على الموحدين كما سخطوا من قبل على المرابطين.
كيف لا وما زالوا يشعرون بضياع حقوقهم شعورهم بالأمس، أفتراهم يحسنون القتال، ويثبتون للضرب والطعان، وفي الصدور حرازات وشهوات لا يسكنها إلا انخذال الموحدين، لعل الاستقلال إليهم يعود؟ ومثل هذه الحالة النفسية، في جيش يتأهب للكفاح، ينذر - ولا بد - بخطب جليل.
وكذلك العساكر المسيحية لم تسلم من التصدع على أثر استنزال الحامية من قلعة رباح مأمونة؛ فإن وفود الفرنجة ما لبثوا أن جاهروا بامتعاضهم من الإسبانيين، فقفلوا راجعين إلى أوطانهم متهمين ملك قشتالة بأنه استأثر بنفائس القلعة وأموالها، وقيل: إن عدد الذين رجعوا يبلغ خمسين ألفا من مائة ألف، إلا أن انفصالهم عن الجيش - قبل المعركة - كان أخف ضررا مما لو انفصلوا في أثنائها، وأوقعوا خللا فجائيا يصعب تلافيه في ترتيب الصفوف وتنظيم أجزائها.
فقد استطاع الإسبانيون بعد رجوع هؤلاء المحاربين أن يجمعوا أنفسهم، ويدلفوا بقدم ثابتة على حصن الأرك - ولهم فيه أوجع الذكريات - فيفتتحوه بيسر مستبشرين، وفيما هم يتقدمون على لقاء الناصر، وافاهم شانجه ملك النافار بجيشه، فرأب الخلل الذي أحدثه إياب الفرنجة المتطوعين.
روى المستشرق جوزف أشباخ أن الناصر بقي يتحامى اصطلاء المعركة على ضخامة جيشه؛ خوفا من المحاربين الصليبيين؛ لأن شجاعة فرسان الفرنجة طارت شهرتها من الشرق إلى الغرب، فلما بلغه أنهم انفصلوا عن الإسبانيين ورجعوا إلى بلادهم، زالت وساوسه ووطن النية على طلب القتال، والسير إلى العدو.
وكان الإسبانيون قد نفذوا إلى جبل الشارات (Sierra Morena)
في 12 حزيران، وامتلكوا على بعض قممه قلعة للموحدين، فبادر الناصر فعبر الوادي الكبير إلى الموضع المعروف بالعقاب
1 (Las Navas de Tolosa)
وسد بجيشه منافذ جبل الشارات، فتأزم موقف المسيحيين في شعافه؛ إذ أصبحوا متعذرا عليهم هبوط السهل لملاقاة الموحدين، فهم مضطرون إلى أحد أمرين: إما البقاء وتعريض النفس للجوع والعطش، وإما الرحيل حيث يتحدث الناس عنهم بالهزيمة بعد أن حشدوا قوات الممالك الإسبانية.
وفصل المستشرق جوزف أشباخ هذه المعركة تفصيلا دقيقا ورأينا أن نستند إليه في وصفها وذكر أحوالها، فإن ملوك الإسبان بعدما وقفوا حائرين بين اللبث والقفول، وألفنس الثامن أشدهم عنادا وكرها للتقهقر والرجوع، تمكنوا من الانحدار إلى السهل بطريق خفي أرشدهم إليه بعض الرعاة، فسار أمامهم دليلا حتى بلغ بهم مسلكا صالحا ينزل منه إلى سهل أبدة (Ubeda) ، فاعتبر المسيحيون هذا الراعي رسولا من لدن الله، وانتقلت جيوشهم من الجبل إلى السهل دون أن ينتبه المسلمون لحركاتهم؛ ذلك بأن الملوك الثلاثة ظلوا في القلعة لا يغادرونها حتى تم انتقال العساكر.
نامعلوم صفحہ