معارج الأصول
معارج الأصول
الاجتهاد والتقليد (معارج الأصول)
تأليف
المحقق نجم الدين جعفر بن حسن الحلي
جميع الحقوق محفوظة لفريق مساحة حرة
[![](../Images/logo4.png)](http://www.masaha.org)
<http://www.masaha.org>
الباب التاسع في الاجتهاد
وفيه فصول
صفحہ 177
الفصل الأول وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في حقيقة الاجتهاد.
الاجتهاد: افتعال من الجهد، وهو في الوضع: بذل المجهود في طلب المراد مع المشقة، لأنه يقال: «اجتهد» في حمل الثقيل، ولا يقال ذلك في حمل الحقير.
وهو في عرف الفقهاء: بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع اجتهادا، لأنها (تبتنى) (1) على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر، وسواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.
فان قيل: يلزم على هذا أن يكون الإمامية من أهل الاجتهاد.
قلنا: الأمر كذلك، لكن فيه (إيهام) (2) من حيث أن القياس من جملة
صفحہ 179
الاجتهاد، فإذا استثنى القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس.
المسألة الثانية: لا يجوز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) متعبدا بالقياس في الأحكام الشرعية،
لأنا نستدل [على] أن العبادة لم ترد بالعمل به.
وهل يجوز أن يكون متعبدا باستخراج الأحكام الشرعية بالطرق النظرية الشرعية عدا القياس؟ لا نمنع من جوازه، وان كنا (لا نعلم) (1) وقوعه.
وعلى هذا التقدير، فهل يجوز أن يخطئ في اجتهاده؟ الحق أنه لا يجوز، لوجوه:
الأول: أنه معصوم من الخطأ، عمدا ونسيانا، بما ثبت في الكلام، ومع ذلك يستحيل عليه الغلط.
الثاني: انا مأمورون باتباعه، فلو وقع منه الخطأ في الأحكام، لزم الأمر بالعمل بالخطإ، وهو باطل.
الثالث: لو جاز ذلك لم يبق وثوق بأوامره ونواهيه، فيؤدي ذلك إلى التنفير عن قبول قوله.
احتج المجيز لذلك بوجهين:
الأول: قوله تعالى «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي»* (2) ويلزم من المماثلة جواز الغلط عليه.
الثاني: قوله (عليه السلام): «فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه ان ما أقطع له (3) قطعة من النار» وهذا يدل [على] أنه يجوز منه الغلط في الحكم والجواب عن الأول: انه لا يلزم من المماثلة في البشرية المساواة في
صفحہ 180
الغلط، لوجود الدلالة المانعة من ذلك في حقه.
والجواب عن الثاني: ان حكمه للإنسان بشيء من حق أخيه ليس بغلط، لأنه هو الحكم المأمور به شرعا، سواء كان مطابقا للباطن أو لم يكن، والإصابة ليس إلا [في] العمل بالأوامر الشرعية على الوجه الذي عين له وهو موجود فيما يحكم به.
المسألة الثالثة: الأحكام اما أن تكون مستفادة من ظواهر النصوص المعلومة على القطع،
والمصيب فيها واحد، والمخطئ لا يعذر، وذلك ما يكون المعتقد فيه لا [يتغير] بتغير المصالح.
واما أن تفتقر إلى اجتهاد ونظر، ويجوز اختلافه باختلاف المصالح، فإنه يجب على المجتهد استفراغ الوسع فيه، فان أخطأ لم يكن مأثوما، ويدل على وضع الإثم عنه وجوه:
أحدها: انه مع استفراغ الوسع يتحقق العذر، فلا يتحقق الإثم.
الثاني: أنا نجد الفرقة المحقة مختلفة في الأحكام الشرعية اختلافا شديدا حتى يفتي الواحد منهم بالشيء ويرجع عنه إلى غيره، فلو لم يرتفع الإثم لعمهم الفسق وشملهم الإثم، لأن القائل منهم بالقول اما أن يكون استفرغ وسعه [في تحصيل ذلك الحكم أو لم يكن، فان لم يكن، تحقق الإثم، وان استفرغ وسعه] ثم لم يظفر، ولم يعذر، تحقق الإثم أيضا.
الثالث: الأحكام الشرعية تابعة للمصالح، فجاز أن تختلف بالنسبة إلى المجتهدين، كاستقبال القبلة، فإنه يلزم كل من غلب على ظنه أن القبلة في جهة أن يستقبل تلك الجهة- إذا لم يكن له طريق إلى العلم- ثم تكون الصلوات مجزية لكل واحد منهم، وان اختلفت الجهات.
فان قيل: لا نسلم أن مع استفراغ الوسع يمكن الغلط في الحكم، و
صفحہ 181
ذلك لأن الواقعة لا بد فيها من حكم شرعي، ولا بد من نصب دلالة على ذلك الحكم، فلو لم يكن للمكلف طريق إلى العلم بها، (لكان) (1) نصبها عبثا (و) (2) لما كان لذلك المخطئ طريق إلى العلم بالحكم مع تقدير استفراغ الوسع، وذلك تكليف بما لا يطاق.
والجواب: قوله: [و] لا بد من نصب دلالة. قلنا: [مسلم، لكن ما المانع أن يكون فرض المكلف مع الظفر بتلك الدلالة العمل بمقتضاها، ومع عدم الظفر بها يكون الحكم في الواقعة لا ذلك الحكم، ومثاله: جهة القبلة فإن مع العلم بها يجب التوجه، ومع عدم العلم [يكون] فرضه التوجه إلى الجهة التي يغلب على ظنه أنها جهة القبلة، وكذلك العمل بالبينة عند ظهور العدالة و(خفاء) (3) الفسق، [ولو ظهر] فسقها لوجب اطراحها، فما المانع أن يكون الأدلة التي وقع فيها النزاع كذلك؟ ألا ترى أن العموم يخص مع وجود المخصص، ويعمل بعمومه مع عدم المخصص؟
الفصل الثاني في القياس،
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: القياس في الوضع: هو المماثلة.
وفي الاصطلاح: عبارة عن الحكم على معلوم بمثل الحكم الثابت لمعلوم
صفحہ 182
آخر، لتساويهما في علة الحكم.
فموضع الحكم المتفق عليه يسمى: أصلا.
وموضع الحكم المختلف فيه يسمى: فرعا.
والعلة: هي الجامع الموجب لإثبات مثل حكم الأصل في الفرع، فان كانت العلة معلومة، ولزوم الحكم لها معلوما من حيث هي، كانت النتيجة علمية، ولا نزاع في كون مثل ذلك دليلا، وان كانت العلة مظنونة، أو كانت معلومة، لكن لزوم الحكم لها (1)- خارجا عن موضع الوفاق- مظنونا، كانت النتيجة ظنية، وهل هو دليل في الشرعيات؟ فيه خلاف.
المسألة الثانية: النص على علة الحكم وتعليقه عليها مطلقا، يوجب ثبوت الحكم ان ثبتت العلة،
كقوله: الزنا يوجب الحد، والسرقة توجب القطع. أما إذا حكم في شيء بحكم ثم نص على علته فيه: فان نص مع ذلك على تعديته وجب، وان لم ينص، لم يجب تعدية الحكم الا مع القول بكون القياس حجة، مثاله: إذا قال: الخمر حرام لأنها مسكرة، فإنه يحتمل أن يكون [التحريم] معللا [بالإسكار مطلقا، ويحتمل أن يكون معللا] بإسكار الخمر، ومع الاحتمال لا يعلم وجوب التعدية.
المسألة الثالثة: من الناس من منع من التعبد بالقياس عقلا، وأكثرهم قالوا بجوازه.
احتج المانع بوجوه:
أحدها: ان العمل [بالقياس] أقدام على ما لا يؤمن كونه مفسدة، فيكون قبيحا، كالإقدام على ما يعلم كونه مفسدة.
الثاني: ان القياس موجب للظن مع إمكان العمل بالعلم، فيكون باطلا.
صفحہ 183
الثالث: ان عمومات القرآن والسنة المتواترة كافلة بتحصيل الأحكام الشرعية، والقياس: ان طابقها فلا حاجة إليه، وان نافاها لم يجز العمل به.
[و] احتج شيخنا المفيد (رحمه الله) لذلك [أيضا] بأنه لا سبيل إلى علة الحكم في الأصل، فلا سبيل إلى القياس، أما الأولى: فلان العلة اما أن تعلم بطريق علمي أو ظني، والقسمان باطلان أما العلم فظاهر، وأما الظن فلأنه لا حكم له الا عن أمارة، والأمارة مفقودة، ومع عدم الوقوف على علة الحكم تستحيل تعديته.
والجواب عن الأول: ان الأمن [من] المفسدة يحصل بتقدير وجود الدلالة الشرعية، كما في غيره من الأمور المظنونة.
والجواب عن الثاني: انا لا نستعمل القياس في موضع يكون العلم بالحكم ممكنا، بل في موضع يفقد العلم [بالحكم].
و[الجواب] عن الثالث: لا نسلم أن عمومات القرآن كافلة بالأحكام، فان في مسائل الديات والمواريث والبيوعات وغيرها، ما يعلم خروجه عن مدلولات العموم.
والجواب عن احتجاج المفيد أن نقول: لا نسلم أنه لا سبيل إلى تحصيل علة الحكم.
قوله: اما أن يعلم بطريق علمي أو ظني. قلنا: لم لا يجوز أن يكون علميا؟ كما إذا نص الشارع على العلة، سلمنا أنها لا تكون علمية، فلم لا تكون ظنية؟.
قوله: الظن لا حكم له الا عن أمارة. قلنا: سلمنا ذلك، والأمارة قد تحصل بالطرق التي أشار إليها مثبتو القياس، كالدوران والسبر، فإنه مهما ثبت الحكم عند شيء، وانتفى عند انتفائه، كان ذلك أمارة دالة على التعليل،
صفحہ 184
وكذلك إذا (عددت) (1) أوصاف محل الوفاق، وأبطلت إلا قسما واحدا، غلب على الظن أنه علة الحكم، وذلك كاف في حصول الظن أن الحكم معلل بتلك العلة.
المسألة الرابعة: الجمع بين الأصل والفرع قد يكون بعدم الفارق،
ويسمى: تنقيح المناط. فان علمت المساواة من كل وجه، جاز تعدية الحكم إلى المساوي، وان علم الامتياز أو جوز، لم تجز التعدية إلا مع النص على ذلك، لجواز اختصاص الحكم بتلك المزية، وعدم ما يدل على التعدية.
وقد يكون الجمع بعلة موجودة في الأصل والفرع، فيغلب على الظن ثبوت الحكم في الفرع، ولا يجوز تعدية الحكم- والحال هذه- بما (سندل) (2) عليه.
فان نص الشارع على العلة، وكان هناك شاهد حال يدل على سقوط اعتبار ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم، جاز تعدية الحكم، وكان ذلك برهانا.
ولنفرض أمثلة توقف (منها) (3) على التحقيق:
الأول: قوله (عليه السلام)- وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر مثلا بمثل-:
«أينقص إذا جف؟ فقيل: نعم، (فقال) (4): لا، اذن» فقد علل التحريم بنقصانه عند الجفاف، وشاهد الحال (يقضي) (5) أنه لا اعتبار بما عدا تلك العلة من
صفحہ 185
أوصاف الأصل، فكأنه نص على أن كل ما نقص بعد الجفاف من الربويات، لا يجوز بيعه مثلا بمثل.
ويمكن التوقف هنا، فان من المحتمل أن يكون النقصان موجبا للمنع من البيع في الرطب بالتمر خاصة، لجواز اشتماله على ما يوجب اختصاص النهي. غاية ما في الباب أن ذلك لا يعلم، لكن عدم العلم بالشيء لا يدل على انتفائه في نفس الأمر.
الثاني: انه إذا قال: وطئت عامدا في شهر رمضان، فقال: عليك الكفارة أو قال: ملكت عشرين دينارا وحال عليها الحول، فقال: عليك الزكاة، علم أن الحكم متعلق بذلك، ولا اعتبار بأوصاف السائل، بل يحكم بأن كل من اتفق له ذلك، ثبت له ذلك الحكم.
الثالث: إذا حكم في واقعة وعلم بشاهد الحال أن الحكم فيها باعتبارها لا باعتبار محلها، عدي الحكم (لما روي) (1) أن عليا (عليه السلام) قضى في دابة تنازعها اثنان، وأقاما البينة: أنها لمن شهد له بالنتاج، فلا يقصر الحكم على الدابة، بل يعدي إلى كل ما حصل فيه هذا المعنى.
المسألة الخامسة: ذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا،
وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر على معارضه.
ويمكن أن يحتج لذلك: بأن الحق في أحد الخبرين، فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما، فتعين أن يعمل بأحدهما، وإذا كان التقدير تقدير التعارض،
صفحہ 186
فلا بد (في) (1) العمل بأحدهما من مرجح، (والقياس مما يصلح) (2) أن يكون مرجحا، لحصول الظن به، فتعين العمل بما طابقه.
لا يقال: أجمعنا على أن القياس مطرح في الشرع.
لأنا نقول: بمعنى أنه ليس بدليل على الحكم، لا بمعنى أنه لا يكون مرجحا لأحد الخبرين على الأخر، وهذا لأن فائدة كونه مرجحا كونه (دافعا) (3) للعمل بالخبر المرجوح، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض، ويكون العمل به، لا بذلك القياس، وفي ذلك نظر.
المسألة السادسة: قال شيخنا المفيد ره: «خبر الواحد القاطع للعذر هو الذي يقترن إليه دليل يفضي بالنظر فيه (4) إلى العلم،
وربما يكون ذلك إجماعا أو شاهدا من عقل، أو حاكما من قياس».
فإن عنى بالقياس البرهان، فلا إشكال، وان عنى القياس الفقهي، فموضع النظر، لأن الخبر بتقدير أن لا يكون حجة، فمع انضياف ذلك القياس الفقهي [ان] صار حجة: فاما لكونه خبرا، وذلك نقض لما يذهب إليه من طرح العمل بالخبر، وان كان بالقياس، لزم منه إثبات حكم شرعي بالقياس الفقهي، وهو باطل، إذا لا فرق بين أن يثبت به الحكم أو الدلالة الدالة على الحكم.
المسألة السابعة: القائلون بجواز التعبد بالقياس عقلا، منهم من يقول: ورد التعبد به، وهم الأكثر،
وأطبق أصحابنا على المنع من ذلك الا شاذا [منهم].
صفحہ 187
لنا وجوه:
الأول: ان العمل بالقياس عمل بالظن، والعمل بالظن غير جائز، أما الأولى فظاهرة. و[أما] الثانية: فبقوله تعالى «ولا تقف ما ليس لك به علم» (1) وبقوله «إن الظن لا يغني من الحق شيئا»* (2) وبقوله «وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون»* (3).
لا يقال: مع وجود الدلالة عليه، لا يكون عملا بالمظنون، بل بالمقطوع به، كالعمل بالشاهدين والحكم (بالأرش) (4) واستقبال القبلة.
لأنا نقول: وجد المنع فوجب طرده فإذا خرج ما أشرتم إليه وجب تناوله لما بقي، عملا بمقتضي الدليل، وسنبطل ما يزعمون أنه دليل على العمل به، فيبقى ما ذكرناه من الدليل سليما عن المعارض.
الثاني: أجمعت الإمامية على ترك العمل به، ونقل عن أهل البيت (عليهم السلام) المنع منه متواترا نقلا ينقطع به العذر.
الثالث: لو تعبدنا بالعمل به لوجدت الدلالة عليه، لكن الدلالة مفقودة، فالعمل به غير جائز.
أما الملازمة: فلان التكليف يستدعي وجود دلالة، والا لكان التكليف به- من دون دلالة [عليه]- تكليفا بما لا سبيل إلى العلم به، وهو تكليف بالمحال.
وأما بطلان [اللازم]: فبالاستقراء.
الرابع: لو ورد التعبد به، لاشتهر ذلك بين أهل الشرع، لكن ذلك
صفحہ 188
باطل.
أما الملازمة: فلان الاستدلال به مما يعم، والوقائع التي تستدرك بالقياس كثيرة عندهم، والعادة قاضية بأن مثل ذلك مما يشتهر العلم به، فلما لم يشتهر دل على بطلانه.
لا يقال: قد اشتهر ذلك بين الصحابة حتى أن خصومكم (تدعي) (1) الإجماع عليه.
لأنا نقول: لو كان كذلك لما اختص الخصم بعلمه دوننا، لما ذكرناه من عموم البلوى به، وزوال الأغراض الباعثة على إخفائه.
[و] احتج بعض أصحابنا [أيضا]: بأن القول بورود التعبد به مع بطلان الحجج التي ذكرها الخصم مما لا يجتمعان، والثابت بطلانها، فلا يكون التعبد به ثابتا.
بيان أنهما لا يجتمعان: أن القائل بكونه حجة يتمسك في ذلك بالوجوه التي يذكرونها، فهو يقول: انها حق والمنكر له يبطلها ويمنع من كونه حجة فالقول بكونه حجة مع أن تلك الحجج باطلة، قول ليس لأحد، فيكون منفيا.
لا يقال: نحن نجوز أن يكون غير ما ذكر دليلا على كون القياس حجة، فلا يلزم من القول ببطلان هذه الحجج بطلان القياس.
لأنا نقول: مع القول بكونه حجة وتجويز وجود حجة لم يذهب ذاهب إلى القول ببطلان هذه الحجج المذكورة.
واحتج الجمهور على وقوع التعبد به بوجوه معقولة ومنقولة.
أما المعقول: فقالوا: القياس يفيد الظن، والعمل بالظن واجب. أما إفادة الظن فظاهرة، وأما [أن] العمل بالظن واجب، فلما ثبت من أن التحرز
صفحہ 189
من الضرر المظنون واجب كالمعلوم.
وأما المنقول: (فوجوه) (1):
الأول: قالوا: أجمعت الصحابة على العمل بالقياس، فيكون حجة.
أما أن الصحابة عملت به، فلان بعض الصحابة عمل به، ولم يظهر من الباقين إنكار [ه]، وقد بينا أن مثل ذلك حجة، فيما سلف.
أما أن بعض الصحابة عمل به فمن وجهين:
أحدهما: أن الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة، وليس تمسكهم فيها بالنص، فتعين أنهم عولوا على الاجتهاد.
الثاني: انهم استدلوا في كثير من المسائل بالقياس وأشاروا إلى التشبيه بين المسائل، كما قال ابن عباس: «ألا يتق الله زيد يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا». وما روي من قول عمر لأبي موسى: «وقس الأمور برأيك». وما روي عنه أنه قضى في زوج، وأم، وإخوة لام، وإخوة لأب وأم، أن للأم: السدس، وللزوج: النصف، وللأخوة من الأم: الثلث، فقال الباقون: «هب أن أبانا كان حمارا، ألسنا من أم واحدة؟» فشرك بينهم، وغير ذلك من المسائل.
وأما أن الباقين لم ينكروا، فلأنه لو حصل ذلك لظهر، لأن القياس من الأصول التي لو وقعت فيها المناكرة لظهرت.
وأما أن مثل ذلك إجماع، فلان سكوتهم لا يحتمل الا الرضا به، لما عرف من تحرج الصحابة في إنكار الباطل والمنع من العمل به.
الوجه الثاني: قوله (عليه السلام) لمعاذ وأبي موسى: «بم تقضيان؟ قالا: إذا لم
صفحہ 190
نجد الحكم (في) (1) الكتاب والسنة، نقيس الأمر بالأمر، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به. فقال: أصبتما». وقوله (عليه السلام) لابن مسعود: «اجتهد برأيك».
الوجه الثالث: نبه النبي (صلى الله عليه وآله) على القياس، وذلك اذن في العمل به، أما تنبيهه فبقوله لعمر- وقد سأله عن القبلة-: «لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه؟» وقوله (صلى الله عليه وآله) للخثعمية: «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان يجزي؟ فقالت: نعم، فقال (صلى الله عليه وآله): فدين الله أحق أن يقضى».
الوجه الرابع: قوله تعالى «فاعتبروا يا أولي الأبصار» (2) والاستدلال بهذه الآية ضعيف.
والجواب عن الأول: قوله: العمل بالظن واجب. قلنا: متى؟ إذا أمكن العلم، أو [إذا] لم يمكن، ونحن قادرون على تحصيل الأحكام من ظواهر النصوص المعلومة، سلمنا أنه لا طريق إليها إلا بالقياس، لكن لا نسلم وجوب العمل بالظن، إذ لو وجب ذلك، لوجب العمل بقول الشاهد الواحد، لا بل كان يجب العمل بقول المدعي بمجرده إذا غلب على ظن الحاكم صدقه، حتى يعمل بقول مدعي النبوة من دون المعجز.
لا يقال: منعت الأدلة من العمل بما ذكرته.
لأنا نقول: لو كان الظن وجها لوجوب العمل، لا طرد ذلك، كما أن رد الوديعة لما كان وجها موجبا لم يختلف وجوب الفعل الذي يقع عليه، [على] أن الدلالة قد منعت من ذلك، وهو قوله تعالى «وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون»* (3).
صفحہ 191
وأما الجواب عن المنقول فنقول: لا نسلم أن الصحابة عملت به، قوله:
عمل بعض ولم ينكر الباقون. قلنا: لا نسلم أن بعضا عمل، قوله: اختلاف الصحابة مع استبعاد أن يكون مستندهم [النص دليل على العمل. قلنا: لم لا يجوز أن يكون مستندهم] النصوص؟ والاستبعاد الذي ذكرتموه لا يفيد اليقين قوله: استدلوا على كثير من المسائل بالقياس. قلنا: هذا منقول بطريق الآحاد فلا يثمر العلم، سلمنا [صحة] نقلها، لكن لا نسلم أنهم استندوا في ذلك إلى القياس، وان كان معنى القياس فيه موجودا.
أما (قصة) (1) ابن عباس فإنه يحتمل أنه رأى ابن الابن يسمى ابنا، وكذلك أب الأب يسمى أبا، (فألزمه) (2) التسوية ظنا أنه انما عمل (في) (3) أحدهما بوقوع الاسم عليه، والأخر مثله في تناول اللفظ، وليس ذلك قياسا.
[وأما] قول عمر: «قس الأمور برأيك» فغاية ما أمره بالمقايسة، فجائز أن يكون أراد التسوية في مدلولات الألفاظ.
وأما (الشركة) (4): فلا نسلم أن الإخوة للأب والأم استدلوا بالقياس، بل بطريق أن ولد الأم يستحقون الثلث، ومن كان من ولد الأب والأم فهو من ولد الأم.
قوله: لو أنكر الباقون لظهر. قلنا: أولا لا نسلم أن السكوت دليل الرضا فإنه يحتمل وجوها كثيرة غير ذلك، وقد ذكر [نا] ذلك في باب الإجماع، سلمنا أنه يدل على الرضا، لكن لا نسلم أنهم سكتوا، ولم لا يجوز أن يكونوا
صفحہ 192
أنكروا ذلك، قوله: لو كان لنقل. قلنا: لا نسلم ذلك، سلمنا [ه] لكن لا نسلم أنه يجب استمرار النقل حتى يتصل بنا، ثم نقول: يجب أن ينقل ذلك متواترا أو آحادا، الأول ممنوع، والثاني مسلم وقد نقل الإنكار في مواضع:
منها: ما روي عن أبي بكر أنه قال: «أي سماء تظلني؟ وأي أرض تقلني؟ إذا قلت في كتاب الله برأيي».
وعن عمر أنه قال: «فان جاءك ما ليس في الكتاب والسنة، فاقض بما أجمع عليه أهل العلم، فان لم تجد فلا عليك أن لا تقضي».
وعن ابن عباس: «تتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم».
وقال: إذا قلتم في دين الله بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله، وحرمتم كثيرا مما أحل الله».
والجواب عن خبر أبي موسى ومعاذ أن نقول: هو خبر واحد، لا يجوز العمل به في مسألة علمية، ثم هو مطعون فيه بوجوه: منها: أنه مرسل، ومنها:
أن بعض المحدثين روى أنه لما قال «اجتهد» قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) «اكتب [كتابا] إلي، أكتب إليك».
ثم نقول: لا نسلم أن قوله: « [أجتهد] برأيي» (1) إشارة إلى القياس، بل كما يحتمل ذلك، يحتمل أنه أراد الاجتهاد في العمل بدلالة الأصل، (وبدلالة) (2) الاحتياط، وغير ذلك من وجوه الاجتهاد، ومع الاحتمال يجب التوقف.
والجواب عن تنبيه النبي (صلى الله عليه وآله) على القياس أن نقول: هي أخبار آحاد لا توجب العمل في مسألة علمية، على أنا نطالب بصحتها، ولو سلمناها [لما]
صفحہ 193
كان ذلك أمرا بالقياس، لأن التشبيه لا يقتضي تعدي الحكم، كما لو قال: عبدي (سالم) حر لأنه حبشي، لم يغلب على الظن أنه يريد عتق كل حبشي له.
وأما الآية: فبعيدة عن الدلالة على مرادهم، لأن ظاهرها الأمر بالاتعاظ فأين ذلك من قياس الفرع على الأصل؟.
صفحہ 194
الباب العاشر وهي خاتمة الكتاب
في فصول مختلفة
صفحہ 195
الفصل الأول في المفتي والمستفتي،
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يجوز للعامي العمل بفتوى العالم في الأحكام الشرعية،
وقال الجبائي: يجوز ذلك في مسائل الاجتهاد، دون ما عليه دلالة (قطعية) (1) ومنع بعض المعتزلة ذلك في الموضعين.
لنا: اتفاق علماء (الأعصار) (2) على الاذن للعوام في العمل بفتوى العلماء من غير تناكر، وقد ثبت أن إجماع أهل كل عصر حجة.
الثاني: لو وجب على العامي النظر في أدلة الفقه، لكان ذلك اما قبل وقوع الحادثة أو عندها، والقسمان باطلان، أما قبلها فمنفي بالإجماع، ولأنه يؤدي إلى استيعاب وقته بالنظر في ذلك، فيؤدي إلى الضرر بأمر المعاش المضطر إليه، وأما عند نزول الواقعة فذلك متعذر، لاستحالة اتصاف كل عامي عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين.
لا يقال: هذا لازم في المسائل العقلية الاعتقادية، مع انه لا يسوغ فيها التقليد.
صفحہ 197
لأنا نقول: تلك حصولها سهل بأوائل الأدلة، وهي عقائد مضبوطة، وليس كذلك الفقه وحوادثه، لانتشارها، وانفراد كل مسألة منها بدليل [على] حياله.
واحتجوا لذلك أيضا: بقوله «فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون»* (1) ويمكن أن يقال: سلمنا وجوب السؤال، ولكن لا نسلم وجوب العمل.
واحتجوا أيضا: بقوله تعالى «فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون» (2).
ولقائل أن يقول: الانذار مما يوجب الحذر لكن قد يكون باعثا على النظر في الأدلة، فلم لا يجوز أن يكون هو المراد؟
واحتج المانعون بوجوه:
الأول: قوله تعالى «وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون»* (3)، و «لا تقف ما ليس لك به علم» (4)، و «إن الظن لا يغني من الحق شيئا»* (5) وثانيها: أنه عمل بما لا يؤمن كونه مفسدة، فيكون قبيحا، لأن المفتي جائز الخطأ، فكل ما يفتي به يجوز أن يكون مخطئا فيه، فيكون الإقدام على العمل، على ما لا يؤمن كونه مفسدة، وقبح ذلك ظاهر.
وثالثها: لو جاز التقليد في الشرعيات، لجاز في (العقليات) (6)، والثاني
صفحہ 198