95

كان طه يلقي خطاب الجامعة المصرية، وكان كل مندوب يلقي خطاب جامعته في جلسة مهيبة في القاعة الكبرى بجامعة السوربون. وعندما وصلنا، طه وأنا، إلى المنصة الكبرى، نزل بول دومير درجات المنصة وجاء إلينا، ثم تناول ذراعي طه بذراعيه؛ فصفق الحاضرون تصفيقا بلغ من القوة حدا أثار ذهول أمي التي كانت تستمع إلى الاحتفال منقولا عبر الإذاعة. واستقبلنا كذلك في حفل الاستقبال بقصر الإليزيه بالود الرقيق نفسه. ولقد كنا نفكر بكل ذلك في غمرة حزننا بسبب هذا الموت الظالم.

كانت هناك وفيات ظالمة أخرى. فالأحداث التمهيدية للمأساة الكبرى التي كانت على وشك أن تقع لم تكن غائبة عن هموم طه ومشاغله فيما أعتقد.

وأخيرا، لماذا لا أعترف وأقول إنه بدلا من أن يحتمي وراء همومه الخاصة لم يكف قط عن بذل وقته لأولئك الذين كانوا يطلبونه منه، وعن بذل تشجيعه لأولئك الذين كانوا يبحثون عنه عنده، حتى ولو لم يكن يستطيع أن يقدم سوى المودة كما فعل مع السنهوري مثلا عندما وجد نفسه محطما تماما ومعزولا كليا لدى إحالته على المعاش بصورة تعسفية؟! لقد بذل طه كل جهده ليجعله يجتاز هذه الأزمة. لقد استبقاه للعشاء، ثم أخذا يثرثران بعد ذلك حتى الساعة الواحدة أو الثانية صباحا. إن طه، وهو الذي لم يكن ينجز أشغاله اليومية دائما، لم يكن يستعجل اللحظة التي يفترقان فيها.

على أنه كان يجب التخلص من هذه الحقبة من حياتنا التي سميتها «المجاعة»؛ فقد استقال صدقي في سبتمبر 1933. وكان لهذا الإنسان الصلف كلمة بدت لنا عذبة الرنين: «إن الدكتور طه لا يعوض في الجامعة.» كما صرح في مقابلة أجريت معه. على أن خلفاءه كانوا أعداءنا على الأقل مثلما كان هو عدونا. وأخيرا أصبح نسيم باشا رئيس مجلس الوزراء

155

في نوفمبر 1934. وأعيد كرسي الجامعة إلى طه في شهر ديسمبر. لقد كانت فرحة طلابه الذين حملوه منتصرين في ساحة الجامعة متفجرة وغامرة.

لكن الانتصار مر؛ فقد كان طه يحمل الصحيفة على ساعديه وحده، مثقلا بالديون، ولم يكن يتلقى أي مساعدة. وكان ثمة حديث عن تعويض كان يمكن أن يسد ثغرة لو أنه جاء على الأقل. ويتخبط طه في تصفية الصحيفة التي كانت عملية أكثر من صعبة. كان متعبا متقززا، وكان الناس يتوافدون علينا. لا شك أنه كان من بينهم مخلصون، ولكن كم كان أولئك الذين تحاشونا من قبل بحرص أكثر الناس الآن عجلة في المجيء إلينا! كانوا يجلسون على راحتهم ويثرثرون ويماحكون ويعبون كيلوجرامات عديدة من القهوة، ونحن مرهقون.

في الساعات الأخيرة من تلك السنة العصيبة، كنت أشعر أنني مثقلة القلب، قلقة إلى حد ما ... لكني لن ألعن هذه الأيام السيئة؛ ذلك أننا كنا خلالها، أربعتنا، موجودين نقف على أقدامنا بصلابة.

8 سبتمبر 1975، ريفا دل جاردا

لم تكن محطة التوقف الأخيرة قبل الوصول إلى جنوة سوى إقامة قصيرة. وهناك أيضا كانت غرفتي بالقرب من «غرفتنا». وصلت إلى هذا المكان مع مؤنس الذي تركني في الغداة بعد أن خصني بالأسبوع الأخير من إجازته. كان ثمة حضور عذب على طريقي المتوحد، كما كانت هناك باقة من القرنفل الأحمر تنتظرني تحية لطه أكثر مما هي تحية لي. لم يكن الجو رائعا؛ فالبحيرة رمادية وكذلك السماء، بيد أنه عند بزوغ الصباح، كانت السماء تغدو للحظة وردية رقيقة على القمم كما لو كان ذلك وعدا بنهار أشد إشراقا وبسماء أخرى!

نامعلوم صفحہ