77

126

وكان ليتمان يشعر نحوه بود عظيم، ولا أدري أيهما كان أشد انفعالا من الآخر لرؤية صاحبه ذلك الصباح. لكني أعرف أن ليتمان بكى وهو يعانق تلميذه.

في هذه المرة لم أكن أنا التي قرأت نص محاضرة طه «ناهضا لحرب الشعوبية». لقد بحثنا عن تمهيد أقل شراسة لهذا البحث الجاد الذي يعالج البلاغة العربية من الجاحظ حتى عبد القاهر. ولقد ظل عنوان هذا النص شهيرا لدى الطفلين.

لم يكن الدمار الذي خلفته الحرب قد أعيد ترميمه وإصلاحه بعد، ولم يكن هناك أي فندق في ليدن. وقد أقام أعضاء المؤتمر، الذين لم يكن من الممكن جعلهم يقيمون مثلنا لدى سكان المدينة، في لاهاي، وفي أمكنة أخرى. كان الشيخ مصطفى في لاهاي، وقد دعانا للعشاء ذات مساء، وفي أثناء عودتنا، لمحت ابنتي في الفندق لوحة كبيرة؛ فصاحت: «من هي هذه المرأة المخيفة؟!» فانحنى مدير الفندق باحترام وقال: «إنها ملكتنا يا آنستي!» إن ابنتي، وقد غدت زوجة دبلوماسي، تذكر ذلك بمزيج من الارتباك والضحك.

ودعينا للقيام بنزهة جميلة على مركب عبر القنوات التي تجتاز الحقول والبساتين. وكان ثمة امرأة شابة لا تكف عن رسم أعضاء المؤتمر الذين كانوا على المركب، وأهدتني رسم طه ورسم الشيخ مصطفى، وما كان أشد اختلاف صورة الشيخ مصطفى وهو يرتدي البذلة والقبعة! وكان الأجانب يعجبون به أكثر وهو في ثيابه الحريرية الجميلة.

أفي هذه السنة نفسها ذهبنا إلى لوفان؟ أم بمناسبة مؤتمر آخر في بروكسل بعد ذلك بسبع سنوات؟ كان اليوم الذي كنا فيه يوم الكرمس؛ وهو يوم احتفال شعبي. وكنا قد اجتمعنا في سوق الحبوب القديمة حيث استقبلنا رئيس الجامعة الرائع. كان عليه أن يصحبنا إلى المكتبة الجديدة التي كانوا يجددونها. وقد قال لي الأب قنواتي إنها قد تهدمت مرة أخرى في الحرب العالمية الثانية، إلا أنها قد أعيد بناؤها الآن بفضل المساعدات التي وردت من كل مكان تقريبا، وأنها تحفل بالكتب الجميلة والقيمة.

كان الرئيس يسير على رأس الفريق، وكنا نحذو حذو خطواته ونتقاطر في لوفان على أنغام «تعالي يا بوبول» التي تطلقها الرقصات الدائرية في المعرض، وكنا نمشي بالرغم عنا سيرا إيقاعيا وراء الثوب البنفسجي الذي كان يتقدم أيضا حسب الإيقاع.

كان طه قد ذهب في السنة السابقة إلى فيينا مع فريد. كان توفيق قد غدا رب عائلة بعد وفاة أبيه، وكان طه قد جعله يتمم بأسرع وقت ممكن دراسته في الحقوق؛ فأحل توفيق أخاه محله بالقرب من طه. ولما لم تكن مصاريف رحلتي على حساب المؤتمر فقد عهد بنا إلى عوض وذهبنا ننتظره في باريس. لم يكن انتظارنا لحسن الحظ طويلا، كان سليم حسن قد بقي مع طه للعناية به. غير أن هذه الأيام القليلة من الفراق كانت مؤلمة جدا. وقد كتب لي: «علينا ألا نكرر على الإطلاق هذا الفراق الحكيم الأحمق. فبدونك أشعر أني أعمى حقا. أما وأنا معك، فإنني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وإلى أن أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي.» ويستشهد لي ببيت من الشعر العربي: «ناقتي في البيد تجري ...» أمامه كانت فيينا، ووراءه باريس ومن يحبهم.

تأثرت لقراءتي هذا الاستشهاد. ففي كثير من المرات التي كنا نتحدث فيها، كان يستشهد ببيت من الشعر أو بمثل أو بآية من القرآن الذي كان يحب أن يقرأه لي وأن يترجمه لي. وكنا في السنوات الأخيرة، نقضي لحظات طويلة في العربة التي لم تكن تجري بسرعة، ليتمكن من تحسس رائحة العشب، وسماع تغريد العصافير، ونهيق الحمير، وصوت الطاحونة وسط الحقول بين بنها وطوخ.

حاول أن يفهم مدينة فيينا وأن يتعاطف معها. وعثر فيها على أصدقاء له: ليتمان، و«بيرجشتراسه

نامعلوم صفحہ