13
وكان في الأمم المتحدة آنذاك، الوصول مساء الإثنين. وأعيد فتح المطار يوم الثلاثاء، ووصل ابني من عمله في باريس إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل، وعلمت بعد ذلك أنه لم يجد سيارة يستأجرها، وكان الحزن والإجراءات الإدارية قد أنهكته، فقد أغمي عليه في المترو، الأمر الذي فوت عليه الطائرة التي كان يفترض أن يلقى فيها أخته وصهره. «مساء الخير يا أمي.» وألمح ابتسامة الحنان والشجاعة على الوجه المنهك الذي تجلى علي في منتصف الدرج حيث كنت أهرول للقائه.
لن أتحدث شيئا عن المأتم. فقد علقت عليه الصحف والإذاعة والتليفزيون مطولا. لكني سأقوم شيئا ما كان يمكن للصحافيين أن يعرفوه. فأمام المسجد، كنت وابنتي أمينة ننتظر في السيارة انطلاق أولئك الذين كانوا سيذهبون إلى المقبرة. وكان كثير من أهالي الحي في ذلك المكان ينتظرون أيضا في صمت عميق. وكان من بينهم، بالقرب منا، صف من الأطفال والراشدين. وكنت أكرر لنفسي: «إنه من أجلهم ما بذل طه من جهود كثيرة.»
14
وإليهم إنما كنت أود الحديث ذلك الصباح. ومددت يدي نحو أقربهم، فأذهلته حركتي في البداية ثم ما لبث أن نظر إلي بابتسامة جميلة وتناول يدي. وسرعان ما امتدت إلي الأيادي: عشرون، خمسون ... وفي تلك اللحظة انطلقت السيارة، فتراكضوا على مقربة من بابها وهي تنطلق، وكانت يدي لا تزال خارجها، لعلهم لو انتزعوها تلك اللحظة مني ما كنت لأحس أي ألم. •••
أول مرة التقينا فيها كانت في 12 مايو 1915 في مونبلييه
15 (ومنذ زواجنا كنا نحتفظ لهذا اليوم بوضع خاص).
16
لم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمي التي كانت بصحبتي أن تتصور أمرا مماثلا. وكنت على شيء من الحيرة؛ إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمت أعمى. لقد عدت إليه أزوره بين الحين والآخر في غرفته التي كانت غرفة طالب جامعي. كنا نتحدث وكنت أقرأ له بعض الفصول من كتاب فرنسي. ولعل القدر كان قد أصدر قراره بالفعل؛ فقد كان هناك أعمى آخر، هو الأستاذ الإيطالي الذي كان يدرسه اللغة اللاتينية، قد أدرك ذلك وقال له: «سيدي، هذه الفتاة ستكون زوجتك.»
كنا في غمرة الحرب. وكانت الجامعة المصرية تتصل بمبعوثيها بصعوبة؛ كان نسف البواخر يزداد؛ واستدعي المبعوثون إلى القاهرة. فيعود طه إلى مصر ويوشك أن يقع مريضا لشدة ما كان تعسا لعدم استطاعته متابعة دراسة كانت لا تزال في بدايتها. وأخيرا حصل مع آخرين على إذن بالعودة في عام 1916.
نامعلوم صفحہ