124

وكان ذلك حزنا آخر ينضاف إلى بقية الأحزان، حزنا لمؤنس أيضا الذي كان ينظر إلى الناس في قاعات السينما وهو يتابع الجريدة السينمائية وهم يصفقون لليهود طويلا في حين يصفرون للعرب.

ثم ستغمرنا الأحزان من جديد، وكان أكثرها إيلاما الموت السريع والمفاجئ لمصطفى عبد الرازق. لم يكن ذلك سرا بالنسبة لأحد، لقد كانت الفترة التي قضاها شيخا للأزهر كارثة؛ إذ إنه كان أكثر تنورا من أن تحتمله العقلية التي كانت لا تزال سائدة في الجامعة القديمة؛ ولذلك بقي فيها غير مفهوم يواجه الأحاديث الجارحة والظالمة بحقه، تلك التي كانت تؤلمه بصورة خطيرة.

كنت قبل وفاته بفترة قصيرة قد رجوته الحضور لتناول العشاء مع جورج ديهاميل الذي كان في زيارة للقاهرة؛ إذ لم يكن يلتقي بطه كثيرا تلك الأيام لانشغال كل منهما في عمله، فكتبت له: «تعال إذن مرة أخرى كما كنت تفعل.» (أو شيئا من هذا القبيل)، فأجابني: «مرة أخرى سيسعدني المجيء.» «مرة أخرى»؟ لقد كانت المرة الأخيرة!

كان «داردو

Dardaud » هو الذي اتصل بنا هاتفيا ليعلمنا بالنبأ، وكانت أمينة هي التي تناولت سماعة الهاتف ثم انفجرت في نحيب تشنجي. كانت مدعوة ذلك المساء لقضاء سهرة في السفارة الفرنسية، واستطاعت بصعوبة بالغة أن تتلفظ ببعض كلمات الاعتذار عن عدم حضورها. في حين أن طه في اليوم التالي، وهو الذي قضى ليلة لم يعرف النوم خلالها إلى عينيه سبيلا، أصيب بإغماء محزن كان يصاب به في أزماته العنيفة.

وبوفاة مصطفى بعد وفاة حسن باشا وحسين بك تنتهي مرحلة كاملة من حياتنا بشكل نهائي. لقد بقي علي خلال حياته بالنسبة إلينا صديقا عزيزا جدا، غير أن صداقتنا معه لم تكن تنطوي على تلك الصداقة الحميمة التي تولد من اللحظات التي يعيشها الأصدقاء معا.

لم نعد إلى «أبو جرج»؛ فالحياة قد تغيرت مثلما تغير هذا الريف الذي أحببناه.

ذات يوم من أيام الخريف في قرية «أبو جرج» تركنا بيت العائلة الكبير، وها نحن في «بيت الماكينة» وعلى الشرفة الكبرى التي تحيط به من كل جهاته، فوق المحرك المغلق، كان الهواء يهب فوق الخيم الكبيرة، يعبث بشعرنا ويقلب صفحات كتابنا. كان الأطفال يلعبون في الحديقة، وكان احمرار البلح متألقا، في حين يتناهى إلى السمع صوت ارتطام الرمان المتساقط بالأرض، ويملأ العين اخضرار الليمون الصغير، والشمس التي تغيب على حين تذهب العنب على الكروم. لم تكن نظراتي تصطدم أمامها بشيء يحد منها على امتداد الوادي الواسع، كما لو كنت على ظهر باخرة في عرض البحر. كان النسيم رقيقا، والليل يوشك أن يخيم، وكان لا بد من العودة بهدوء. ربما كان مصطفى بصحبتنا ذلك اليوم، أو لعله كان عليا. لم يكن مصطفى يمشي بسرعة مطلقا، وسيقوم الآخرون باستقبالنا ببساطة وحرارة الصداقة الأليفة المشتركة، وربما أوقد الموقد وربما شويت بعض أكواز الذرة، وسيهجع الأطفال عما قريب.

تلك كانت بلدتك تقريبا يا طه. أحلم بها أحيانا، كما لو أني أنعم النظر الحالم في صورة قديمة جدا.

كما سيرحل عنا علي باشا إبراهيم أيضا. كان جراحا شهيرا، لكنه كان أيضا صديقا حقيقيا، إنسانا لا يخشى الحياة؛ كان مرحا، وكنا سعداء حين كنا بصحبته.

نامعلوم صفحہ