123

لم نكن نعلم قبيل الوصول فيما إذا كنا سننزل في الإسكندرية أو في بورسعيد (كانت الباخرة تتابع رحلتها إلى الشرق الأقصى). وكان بصحبتنا دبلوماسيان مسافران إلى الهند، وكنت أحاول عبثا أن أبرق لطه الذي كان عليه المجيء لانتظاري مع أمينة. وكانا، هما الآخران، لا يتلقيان سوى معلومات متناقضة. وأخيرا قادوهما إلى الإسكندرية في حين رست الباخرة في بورسعيد، وقاما خلال الليل بسباق عنيف للوصول إلي، وعندما توجب علينا مغادرة الباخرة والنزول منها إلى الزورق لم يكونا قد وصلا بعد؛ ومن ثم، لم يكن ثمة بانتظاري زورق يحملني حتى الشاطئ؛ فقدمت لي إحدى رفيقاتي - بعد أن أخطرت بذلك زوجها - مكانا في زورقهم. وفي مكتب الجمارك الذي كان سيئ الإضاءة، كان أحدهم يركض نحوي صائحا: «لا تقلقي؛ فهما على وشك الوصول.» والحق أنه لم تمض لحظة حتى وصلا لاهثين، ضالين، لكنهما كانا سعيدين.

وعلى امتداد سبعة وعشرين عاما منذ ذلك الفراق، لم يفترق أحدنا عن الآخر إلا عندما كان طه يضطر للذهاب إلى العربية السعودية أو إلى تونس أو إلى دمشق لعدة أيام. •••

كنا نقوم بنشاط هائل في القاهرة، وكانت حفلات الاستقبال والمحاضرات وفيرة (فقد كانت المحاضرة حتى ذلك الحين حدثا اجتماعيا)، ولم يكن الناس يريدون أن يفوتوا شيئا. وكنت ترى الناس عجولين، لاهثين، يدلفون إلى المصعد الذي تركته لتوك، وترى آخرين ضائقي الأنفاس يتقاطرون وراءك في الدهليز حيث تتناول معطفك.

كنت أفضل على هذا النشاط تلك الاجتماعات البسيطة في ملجأ العجزة بشبرا.

ففي 19 مارس، وكان يصادف عيد القديس يوسف، راعي هذا الملجأ، أقيمت حفلة عشاء متواضعة في الحديقة في الساعة الخامسة بعد الظهر. لم يكن المدعوون إليها شبانا بطبيعة الحال، فقد كان المونسنيور جيرار الذي منح بركته في الكنيسة في الخامسة والثمانين من عمره، أما الرئيسة فقد تجاوزت السبعين؛ كانت امرأة ممتازة وذكية وحيوية. وألقى أحد النزلاء خطابا تقليديا، لا يتغير مع الأعوام - وإن نوع فيه قليلا على كل حال - ثم سلم الخطاب بعد ذلك معقودا بشريط إلى سفير فرنسا الذي شكره بتهذيب بالغ. وأخذت تعزف فرقة موسيقية تبرعت بالحضور، كانت مؤلفة من إيطاليين يسكنون الحي الذي يقوم فيه الملجأ. كان الاحتفال قد افتتح بالنشيد الوطني المصري والنشيد الوطني الفرنسي (المارسيلييز)، ثم اختتم بأغنية «أو سولو ميو»: يا شمسي!

ويخيل إلي أن الجميع كانوا سعداء، على أن الرجال كانوا سعداء أكثر من النساء. ويرجع السبب في ذلك، فيما يبدو لي، إلى أن النساء أقل تحملا للشيخوخة من الرجال وأقل صبرا على الافتقار للبيت العائلي، ولا يمكن للمرء إلا أن يلاحظ ضيقهن ومرارتهن القصوى أحيانا. لقد كنت دوما أشعر بذلك بألم، وكانت أمي تدهش عندما كنت أكرر على مسامعها ولم أكن قد تجاوزت سن الطفولة: «إنه لمن السهولة بمكان أن يهتم المرء بالصغار؛ فهم مرحون. إنهم المستقبل، كما أنهم في أغلب الأحيان وسيمون. ما أكثر ما أعجب بأولئك الذين يكرسون أنفسهم للعجائز، وهم غالبا، مرضى ومزعجون!»

كان الملجأ قد نقل إلى مصر الجديدة، ولم أعد أذهب إليه كما كنت أفعل من قبل، ثم انقطعت عن الذهاب إليه نهائيا منذ أن لم يعد بوسعي أن أترك طه فترة طويلة.

ومع ذلك، لم تكن مصر هادئة تماما. كانت وزارة صدقي في الحكم آنذاك. وقد كتب مؤنس لأبيه وهو الذي لم ينس أحداث 1932: «لا تسبب لنفسك السجن!» ثم تلقى مؤنس بعد ذلك رسالة من أبيه وصلته بعد أن تمت مراقبتها؛ فغضب لذلك. لا أدري إذا كانت وزارة صدقي لا تزال في الحكم إذ ذاك، على أن الحرية لم تكن موجودة على كل حال.

ثم حدث التقسيم المريع لفلسطين، وأعقبته الحرب. لم تبق فرنسا شومان حيادية كما وعدت في موقفها من مسألة فلسطين.

208

نامعلوم صفحہ