ثم دعا المسيب فارسين ليسبقا الكتيبة في حذر إلى القصر، ويحملا إلى من فيه نبأ النجدة، ويأمرا حاميته بالصبر والدفاع.
وأقبل الليل ولف المروج في ظلمة حالكة، لا يلوح فيها غير وميض نيران العدو تملأ الأفق من بعيد. وهبط على الفضاء سكون تخرقه صيحات تتموج مع الريح، وتصل إلى الآذان مبهمة، فتزيد الظلام رهبة ووحشة. وما هي إلا ساعات حتى عاد الرسولان، فكان أول من لقيهما المسيب وهو يسير في المرج ينتظر عودتهما في قلق. وما كاد يراهما حتى سألهما بلهفة: هل بلغتما القصر؟
فقال أحدهما: لم نستطع الدخول، فقد كاد حراس القصر يرموننا بالسهام يحسبوننا أعداء، لولا أن سمعوا كلامنا العربي، فطلبت منهم أن يدعوا أمير القصر ليكلمني، فما أبطأ حتى أتى، وأخبرته بقرب الغياث.
فسأل المسيب ولا يزال متلهفا: وماذا وجدت منه؟
قال الرجل: لقد اعتزموا أن يقدموا النساء دونهم، ويقاتلوا حتى يفنوا جميعا.
فسري عن المسيب وتنفس نفسا عميقا، وقال: هؤلاء قومي ...
ثم أسرع إلى رجاله، فنادى قائلا: القتال في ليلتنا هذه ...
فلم يجبه أحد بكلمة، بل وثب الجميع على خيولهم وتجهزوا للمسير، فاتجه إليه المسيب وقد اعتلى جواده قائلا: خفضوا الأصوات واهدءوا في السير، حتى إذا اقتربنا منهم فكبروا تكبيرة واحدة واجعلوا شعاركم «يا محمد!»
ثم اندفع يسير في طليعتهم سيرا وئيدا في صمت وسكون، حتى لاحت لهم خيام الترك في ضوء النيران وقد همدت الأصوات والقوم من تحتها نيام. فاقترب المسيب برجاله حتى إذا صار من الخيام على مرمى سهمين صاح مكبرا، واندفع مع أصحابه يصيحون صيحة رجت جوانب الفضاء: «الله أكبر! يا محمد!»
ولم يلبث المعسكر الفسيح بعد هذه الصيحة أن صحا وتحرك وماجت جموعه مضطربة، وقد خالطتها سيوف قاطعة، ورماح طاعنة، كأن السماء قد صبتها على رءوسهم بغتة. وما هي إلا ساعة حتى سالت المروج بالرجال والخيل، وصار العرب في وسط المروج الزاخرة كالشعرات البيضاء في الفرس الأدهم، لا يعرف بعضهم بعضا إلا بصيحة «يا محمد».
نامعلوم صفحہ