ولم ير بغا أن في مراجعته نفعا، فأمسك عن الجواب وسار الجميع إلى مضارب خيامهم في صمت ووجوم.
وقضى صول تلك الليلة مترددا في شجونه، لا يستطيع أن ينسى صورة عاتكة التي علقت بقلبه منذ رآها. لقد رآها عرضا منذ شهرين، وبقيت صورتها ماثلة في خياله، لا تفارقه في صباح ولا مساء. وكان يتعرض لها كلما سنحت له في المرج، فلا يفوز منها في كل مرة إلا بإعراض وصمت، فكان ذلك لا يزيده إلا وجدا بها. ثم رأى أن يخطبها من أبيها، فدافعه صديقه بغا مرارا، ولم تزده نصيحته إلا عنادا وإصرارا على خطبتها، بل لقد دفعه حبه على أن يعزم على الحرب من أجلها، إذ كان العرب في قصر الباهلي فئة قليلة لا تستطيع أن تقوم لها قائمة إذا صدمها صول بالألوف المؤلفة من قبائل السغد الذين كانوا لا ينتظرون منه إلا أن يأمر فيبادروا إلى طاعته سراعا.
وبكر صول في الصباح فذهب مع بعض أتباعه إلى باب القصر يطلب الإذن على نهشل بن يزيد أبي عاتكة. وأذن له نهشل وأنزله ضيفا وأكرمه وحدثه وآنسه، فقد عرف أنه سيد السغد، وأنه في ذروة القوم غنى ونسبا. وكان الفتى في تمام شبابه وكرم شيمه مما يزيده منزلة وكرامة.
ثم أفضى صول إلى نهشل بما جاء له، وكانت مفاجأة وجم لها العربي، فأطرق لحظة ثم قال بصوت خافت: لولا أنك ضيفي لما نجوت من عقوبتي.
فوثب صول على قدميه كأنه قد وطئ جمرا، ولم يجب بكلمة، بل خرج من القصر وهو لا يرى مواقع أقدامه من الغضب، وعاد إلى قومه والنار تلتهم قلبه التهاما.
ومضى شهر بعد ذلك على قصر الباهلي، ولا حديث لمن فيه إلا ذكر ذلك الأمير التركي الذي بلغت به الجرأة أن أتى إلى نهشل بن يزيد يخطب منه ابنته. وامتنعت عاتكة عن الخروج إلى المرج. وزاد حزنها على زوجها الحبيب ؛ لأن خطبة الفتى التركي أعادت إليها ذكرى فجيعتها.
ثم تحرك السغد فجأة، وإذا بقصر الباهلي ذات مساء مثل بقعة جزيرة في محيط من جموع الأتراك.
وبلغت أنباء الثورة إلى حامية العرب في سمرقند، وكانت الجيوش العربية غائبة في بعوث الفتح، موزعة في دروب سجستان وخراسان، فلم يبق في عاصمة الحدود إلا بضعة آلاف في وسط ألوف الألوف من قبائل الترك.
واجتمع قواد العرب في سمرقند يتشاورون في أمر القصر، وفي أمر من فيه من نساء وصبية، وفي عجزه عن الثبات لمن أحاط به من فرسان الترك وشجعانهم، وقد امتلأت قلوبهم حقدا على سادتهم المتكبرين.
وقال شعبة بن ظهير، وكان منذ حين أمير القوم ثم عزل عنهم: لو كانت هنا خيول خراسان لاستطعنا أن نذهب إلى نجدة هؤلاء، ولكن ماذا نستطيع وحدنا؟
نامعلوم صفحہ