فغضب الشيخ وعبس عبسة مظلمة، والتفت إلى الفتى قائلا: ألمثلي يقال هذا يا مجشر؟ أما والله لولا علمي بما عندك من المودة لأجبتك جوابا لا ترضاه ...
فقال المجشر معتذرا: لم أقصد يا أبا الأشرس أن أسيء إليك، بل أقصد أن أقول لك إنه قد جد في الأمر جديد لا تعرفه، وقد كنا نحسبك قد سمعت بما كان.
فسكن ابن الحر وقال هادئا: وما ذاك الجديد يا مجشر؟
فقال الشاب في حنق: الجديد أن البصرة تحترق في ثورة جديدة. خرج ابن أبي عبيد: المختار بن أبي عبيد الثقفي، وثار أتباعه اليوم فقتلوا الشرط، وهرب الأمير ابن مطيع عامل ابن الزبير.
فوجم ابن الحر ونظر إلى القوم فاتحا عينيه كأنه لا يصدق ما يسمع، ثم قال في شيء من الحزن: أهي فتنة أخرى؟
فصاح جرير: هي صفقات بيع وشراء ... خرج المختار مناديا بدم الحسين ليقبض لنفسه ميراث الحسين!
فقال ابن الحر في حنق: برئ الحسين منهم. أشهد لقد سمعت الصادق يحكي عن هذا الرجل أنه ما كان يبغض في الناس أكثر من بغضه عليا وولد علي.
وأخذ الفتيان يصفون ما يعلمون من حال البصرة وما صارت إليه أمورها.
وصاح المجشر متحمسا: نحن اليوم بين أمرين لا غنى لنا عن اختيار بينهما: نقيم في يد المختار الثقفي، أو نقاومه لنمنع طغيانه ونفاقه.
وشمل الجمع سكون مدة لحظات طويلة، كانوا فيها ينتظرون جواب ابن الحر. كانوا ينظرون إليه ويرقبون حركات وجهه إذ هو مطرق واجم محمر الوجه، كأنما ينتظرون صوت القضاء. وكان ابن الحر في إطراقه يفكر وتتقاذفه الخواطر وتتجاذبه الميول. أيخرج من عزلته التي ركن إليها وأمل أن يبعد فيها عن الفتن ليذوق السلام فيما بقي له من أيام؟ أم يتبع أصحابه ويعود إلى المعامع القاسية مرة أخرى غضبا من أن يتولى الأمر طاغية ظالم؟! أيجدر به أن يبقى على عزلته ويترك الأمر يئول إلى المختار بن أبي عبيد ويتحمل ذنب كل ما يقع منه من المفاسد والمظالم؟ ولكن ما هناك في الزعماء إلا ظالم وطاغية؟ ... إنهم جميعا يبيعون ويشترون ولم يكن منهم من يقصد إلا أن يحرز لنفسه منفعة.
نامعلوم صفحہ