مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
مع الموسيقى: ذكريات ودراسات
اصناف
وعلى ذكر الأمم المتحدة، فقد كانت للمنظمة الدولية الكبرى بدورها حفلاتها الموسيقية التي تنظمها في مناسباتها المختلفة، ولا سيما في عيدها السنوي، وكان كبار الفنانين العالميين المستوطنين في أمريكا يتطوعون للاشتراك في هذه الحفلات دون مقابل؛ مشاركة منهم في أداء هذه الرسالة الإنسانية للمنظمة العالمية. وأذكر من الفنانين الذين شهدتهم في هذه الحفلات، عازف الفيولينة العظيم «ياشا هايفتز»، الذي يحيط به الجلال منذ لحظة دخوله القاعة حتى انصرافه عنها وسط تهليل المستمعين، وكان بمشيته عرج خفيف، لا أدري إن كان دائما أم مؤقتا، ولكن أحد الحاضرين أكد لي أن أصل هذا العرج يرجع إلى أيام زيارة هذا الفنان (وهو يهودي) لإسرائيل؛ إذ انتقد الأوضاع فيها وسخر من حياة أهلها، فضربوه «علقة» أحدثت به هذه العاهة - وهي رواية أشك جدا في صحتها! وعلى أية حال فإن كل ضربة قوس من هذا الفنان الذي أذهل العالم بعزفه منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره، كانت تنم عن خبرة وحساسية نادرة، وكان رنين الفيولينة «الستراديفاريوس» التي يعزف عليها رائعا بحق. ولولا مسحة من الروح التجارية تجلت في بعض تسجيلاته المتعجلة خلال السنوات العشر الأخيرة، لظل على الدوام يحتل مع دافيد أويستراخ - أعلى قمم العزف على الفيولينة في العصر الذي نعيش فيه.
ويذكرني «ياشا هايفتز» بعازف آخر من أساطين الفيولينة شاهدته مرة واحدة، هو «يهودي مينوهين»، واسمه يغني، بالطبع، عن معرفة أصله، ولكنه بدوره من اليهود خصوم إسرائيل، وأبوه من الكتاب المشهورين الذين انتقدوا سياسة هذا البلد وأسلوب حياته. وقد كان هذا العازف ملء الأسماع والأبصار في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من هذا القرن، وكان «طفلا معجزا» بكل ما تحمله الكلمة من معان، ولكنه انصرف في الأغلب إلى قيادة الأوركسترا في الآونة الأخيرة برغم أنه لم يزل في أوج نضوجه، ولست أدري لذلك سببا سوى أن عازفين آخرين أشد منه تحمسا لبلد «الشعب المختار» قد رفعوا إلى القمة، مثل إيزاك (إسحاق) ستيرن وناثان ميلستين (والسين في الاسمين الأخيرين تنطق في أصلها الألماني شينا، ولكن التأمرك جردها مما يغطيها من النقط). •••
والحق أن حديث اليهودية والموسيقى في نيويورك وفي أمريكا حديث طويل؛ ففي هذه المدينة، التي يعيش فيها من اليهود عدد أكبر من ذلك الذي يعيش في دولة إسرائيل كلها، والتي تزيد نسبة اليهود فيها عن ثلث مجموع السكان البالغ ثمانية ملايين ونصف المليون، في هذه المدينة يسطر اليهود بالطبع على كل منافذ الشهرة، ويتحكمون في سوق الفن تحكما يكاد يكون تاما، ومن يسيطر على قاعات نيويورك الموسيقية ومسارحها فقد سيطر على الفن في أمريكا كلها. وأوركسترا النيويورك فيلهارمونيك، الذي هو أشهر فرقة موسيقية في الولايات المتحدة، يكاد يكون كله مؤلفا من اليهود، وهذا ليس في ذاته بالأمر المستغرب؛ إذ إن من المعروف أن اليهود عازفون بارعون. أما عدد المؤلفين الموسيقيين منهم فليس كبيرا، وفيما عدا مندلسون، وربما «مالر»، فإن معظمهم - من أمثال مايربير وأوفنباخ وسان صانس - هم من موسيقيي الدرجة الثانية، أو «من أعظم غير العظماء»، كما يقول التعبير المعروف (وربما كان إيثارهم للعزف راجعا إلى أنه يجلب مزيدا من الربح؛ إذ إن العازف البارع يربح أضعاف ما يربحه المؤلف المشهور).
2
ولكن القائد الدائم لهذا الأوركسترا العظيم - وهو منصب يتهافت عليه معظم قواد الأوركسترا في العالم - كان يهوديا صهيونيا متعصبا اسمه ليونارد (أو لينارد كما ينطقونه هناك) برنستين (وهي بدورها نفس السين التي يرفع عنها الأمريكان برقع الحياء، فضلا عن إزالة الفتحة الأصلية من التاء بحيث يصبح المقطع الأخير على وزن «طين»). هذا «البرنستين» لم يكن له تاريخ معروف في قيادة الأوركسترا، وكل ما في الأمر أن قائدا تغيب ذات مرة، فاضطروا في آخر لحظة إلى الاستعاضة عنه بهذا الشاب «المغمور»، «وعندما أصبح عليه الصباح وجد نفسه مشهورا»، وحشر برنستين حشرا مع القائد الأصلي للأوركسترا، وهو اليوناني البارع ديمتري متروبولوس، ليكون له «شريكا مخالفا». ولم تدم الحال طويلا؛ إذ إن القائد اليوناني مات بعد عام واحد من حضوري إلى نيويورك (1958م)، وخلا الجو لبرنستين ليصبح قائدا للأوركسترا العظيم، ويحتل أكبر منصب مرموق بين المشتغلين بالموسيقى في أمريكا.
ولعل القارئ يظن أن للاعتبارات السياسية أو القومية دخلا في حكمي على جدارة قائد الأوركسترا هذا بمنصبه ، ولكن حقيقة الأمر أن الكثيرين من المحايدين سياسيا، بل من الأمريكيين الخلص، لم يكونوا مقتنعين بكفاءة برنستين. وكان من أبرز العوامل التي تقلل من قدره أمام الجمهور، حركاته المضحكة أثناء قيادته للأوركسترا؛ فمن حق كل قائد للأوركسترا أن ينفعل بالموسيقى التي يؤديها، ولكن هذا الانفعال لا ينبغي أن يصل أبدا إلى حد الابتذال، ولقد كان برنستين يتراقص بوسطه حينا، وبكتفيه حينا آخر، بطريقة تحسده عليها «عوالم» شارع محمد علي. وأنا لا أقول ذلك مبالغة أو تشنيعا، وإنما أصف ما شاهدته بالفعل، ولم يكن في أدائه الموسيقي، على أية حال، أي عنصر غير عادي، يبرر شغله للمنصب الذي كان يحتله قبل سنوات غير طويلة «أرتورو توسكانيني» العظيم. ولكنه، في مقابل ذلك، كان «يحج» إلى إسرائيل بانتظام، وفي أول زيارة له إلى «أرض الميعاد» سجد على الأرض، بمجرد هبوطه من سلم الطائرة، وقبل التراب، والتقطت له عندئذ مئات الصور والأفلام، وسرعان ما كانت جميع أجهزة الإعلام الأمريكية تذيع على الملايين ذلك المشهد العجيب.
وقد يسأل سائل: وهل تبلغ سلطة التعصب اليهودي ذلك الحد الذي يجعل غير الأكفاء يرتفعون على حساب الأكفاء في ميدان الفن بدوره؟ وردي على ذلك أن المسألة لا تتعلق قطعا بوضع أشخاص خلوا من الكفاءة في مناصب لا يستحقونها، فكل هؤلاء موسيقيون موهوبون دون شك، ولكن سوق المواهب في بلد كبير كهذا حافلة بطلاب الشهرة والمجد، والتنافس في ميادين الفنون رهيب، فإذا وجدنا أن الفائزين هم في معظم الأحيان من ينتمون إلى الديانة اليهودية، فلا بد أن يكون ذلك شيئا لافتا للنظر. ويزول العجب إذا علمنا أن الفن، في بلد كالولايات المتحدة، يخضع لقواعد السوق الحرة، وأن هناك عددا من المتعهدين الكبار، كلهم من اليهود، وعلى رأسهم قيصر الحفلات الموسيقية الجبار، سول هوروك
Sol Hurok ، هم الذين يملكون القدرة على أن يرفعوا الفنان إلى عنان السماء أو ينزلوا به إلى سابع أرض؛ إذ إنهم هم الذين يملكون قدرة الإنفاق على إيجار القاعات الموسيقية، ودفع أجور الأوركسترا المصاحبة في فترة العزف وما يسبقها من تدريبات، ونفقات حملات الإعلان الباهظة. ومن جهة أخرى فإن المتنافسين على مراكز الشهرة عديدون، وفي كل عام يظهر مئات من الشبان كلهم يصلحون لأن يكونوا في الصف الأول من العازفين، وكثيرا ما يحدث أن يتفوق شاب في مسابقة من المسابقات الشاقة، ويظن الجميع أن أبواب الشهرة قد فتحت أمامه على مصراعيها، ولكن لا يمضي وقت طويل حتى يطويه النسيان.
وتحضرني في هذا الصدد قصة عازف البيانو «فان كلايبرن
Van Cliburn » الذي كان أمريكيا «صعيديا» من تكساس، وكان قد أحرز المركز الأول في عدة مسابقات محلية شديدة الصعوبة في أمريكا، ومع ذلك فإنه عندما سمع عن مسابقة «تشايكوفسكي» العالمية التي تجرى في موسكو، لم يستطع أن يجد أجر السفر ونفقاته، واضطر إلى الاقتراض والاستجداء من بعض المؤسسات الخيرية، وعندما سافر إلى موسكو ودخل المسابقة، كان نجاحه ساحقا، وأصبح معبود الشعب السوفيتي بين يوم وليلة، وانهالت التعليقات التي تشيد به وتبدي الإعجاب بمقدرته الفنية، وسرعان ما وصلت موجة الإعجاب إلى الصحف الأمريكية، حتى أصبح موضوع الساعة في طول البلاد وعرضها، واستقبل عند عودته استقبال الأبطال في موكب لا أول له ولا آخر، بل لقد أصبح نجاحه - خلال فترة ما - عاملا من عوامل تخفيف حدة الحرب الباردة بين البلدين. هذا الشاب ذاته كانت مواهبه معروفة قبل سفره، ولكن أحدا لم يعبأ به، ولم يساعده على تحقيق أمله، بل كان من الممكن أن تندثر مواهبه تماما، لولا أن ساعده «البلد الخصم» على إظهارها، وبمجرد عودته، استغل المنظمون الذين لم يلتفتوا إليه من قبل، نجاحه الساحق في تنظيم حفلات بلغت أسعارها أرقاما قياسية، وانهالت الدعوات عليه من كل المدن الكبرى، وغمرت أسطواناته السوق، كل ذلك في فترة وجيزة. ولكن موجة الحماسة سرعان ما انحسرت، وأخذ اسمه يختفي بالتدريج، وعادت الأسماء التقليدية إلى الظهور. ولست أدري ماذا آل إليه أمر هذا الشاب الموهوب اليوم، ولكنه على أية حال ليس من الأسماء اللامعة في حياة أمريكا الموسيقية، ولا أظن أن السبب في أفول نجمه يرتد إليه هو ذاته، بل الأرجح عندي أن المنظمين الذين اضطروا وقتا ما إلى الاعتراف به واستغلاله، قد «استهلكوه» بالدعاية المفرطة المركزة الخاطفة، ثم تخلوا عنه ليعودوا مرة أخرى إلى أبناء طائفتهم المفضلين! ومجمل القول أن المجال مفتوح دائما للاختيار بين فنانين كلهم أكفاء، وأن الاختيار يمكن في كثير من الأحيان أن يتم على أسس لا شأن لها بالفن ذاته. •••
نامعلوم صفحہ