وكذلك صور أبو العلاء في هذه القصيدة الرائعة تشاؤمه المظلم القاتم في ألفاظ رقيقة شفافة، ولكنها تشف عن هذا الحزن المؤلم المظلم.
والغريب أني شغلت بهاتين القصيدتين، وبقصائد أخرى تشبههما في اللزوميات، وتركت صاحبي يمضي في قراءة ذلك الكتاب السخيف الذي اشتريناه لنستعينه على القطار، يظن أني أسمع له، وأصغي إليه، والله يشهد أني ما كنت أسمع إلا للشيخ ينشد شعره هذا الرائع الحزين!
والقطار ينهب الأرض بنا نهبا، يجن حينا، ويعقل حينا آخر، وأنا عن هذا كله لاه، ولهذا كله ناس، لا أحفل إلا بهذا السجن المظلم الذي أقام فيه الشيخ، واقتحمته أنا على الشيخ. وما أزال كذلك حتى نبلغ باريس. والمقبلون على باريس حين يبلغونها يعنون بأشياء كثيرة مختلفة، ولكن أقل ما يعنون به لأول قدومهم الكتب والنظر فيها.
والله يشهد ما بلغت الفندق حتى طلبت إلى صاحبه أن يضيف إلى الغرفات التي نحتاج إليها غرفة أخلو فيها إلى أبي العلاء. وما كان الغد حتى كانت كتب أبي العلاء قد خرجت من مكامنها، وحتى كنت مقبلا على الشيخ في سجنه أسمع منه، وأتحدث إليه، ولكن لا من طريق اللزوميات، بل من طريق الفصول والغايات.
الفصل التاسع
وكان القدماء يظنون بهذا الكتاب الظنون، ويقولون فيه عن علم وعن غير علم، منهم من لم يقرأه وإنما سمع عنه، ومنهم من قرأه ولم يفهم عن أبي العلاء فيه، منهم من أساء الظن بالشيخ، فقضى في الكتاب بما استقر في نفسه من سوء الظن، ومنهم من أحسن الظن بالشيخ فأحسن الظن بالكتاب. فرأى بعضهم أن الكتاب معارضة للقرآن، ورأى فيه لونا من ألوان الكفر، ورأى بعضهم أن الكتاب تمجيد لله وثناء عليه، فرأى فيه لونا من ألوان الدين والتقوى.
وأقبلت أنا على الشيخ وهو يملي هذا الكتاب، لا أحفل برأي الناس فيه، وإنما أحفل بما سيتركه في نفسي من أثر، وأحفل بهذه النغمات التي يترنم بها الشيخ حين يتحدث إلى نفسه بما ألف من هذه الفصول حين تستأثر به الخلوة، فيردد ما ألف، يجري به لسانه ليسمعه، وليحقق أمستقيم هو أو معوج، وحين كان يملي هذا الذي ألفه على طلابه راضيا عنه معجبا به، ثم يملي عليهم تفسير ما وقع فيه من غريب.
وأشهد لقد تصورت الشيخ في حالين مختلفتين، كان في إحداهما فيلسوفا مفكرا، وفي الأخرى أستاذا معلما. وكان في إحداهما ساخطا على نفسه، مصغرا لها، وكان في الأخرى راضيا عن علمه معجبا به.
كان فيلسوفا ساخطا في الليل حين يخلو إلى نفسه، فتضاف ظلمة الليل إلى ظلمة بصره، وإلى ظلمة يأسه وبأسه، ويتردد في هذه الظلمات المتكانفة المتراكبة ضوء ضئيل، ولكنه قوي عزيز، هو ضوء عقله وقلبه يهديه من ضلال، ويرشده حين تشتبه عليه الطرق. يهديه إلى هذه المعاني الكثيرة المختلفة المختلطة التي حفظها من علم الأولين. وإذا هو يميز منها ما يلائمه، ويهديه إلى هذه الألفاظ الكثيرة المختلفة التي حفظها من لغة الأولين، وإذا هو يميز منها ما يلائم معناه، ويهديه في طريقه الفنية، فإذا هو يصب معناه في ألفاظه صبا، ثم يتناولها بالتقريب والترتيب، وبالحذف والزيادة، حتى تستقيم له فصلا ممتعا يسيرا أو عسيرا، منتهيا إلى غايته التي أرادها له على كل حال. فإذا بلغ من ذلك ما أراد أجرى هذا الفصل على لسانه، فسمعته أذنه، وطابت عنه نفسه، واستأنف السير في طريقه يلتمس معنى آخر وألفاظا أخرى؛ ليضيف فصلا إلى فصل، وغاية إلى غاية، وما يزال كذلك حتى يبلغ منه الجهد ويدركه الإعياء، ويضمه النوم في رفق بين ذراعيه. وما أرى إلا أن نفسه كانت تعمل نائمة كما كانت تعمل مستيقظة؛ وما أرى إلا أن لسانه كان يدور في فمه ببعض الأسجاع، حتى إذا استيقظ وجد في ضميره آثار هذا الجهد النائم فادخره إلى أن يأتي المساء.
وكان أستاذا معلما حين يقبل عليه طلابه مع الضحى فيملي عليهم ما أعد لهم من ليلته، فيبسمون ويرضون ويعجبون، ويكتبون ويستفسرون ويستوضحون. ويملي عليهم الشيخ تفسير ما عمي عليهم من الألفاظ مكتفيا بالبيان حينا، مستشهدا على ما يقول حينا آخر. وما أرى إلا أنه كان يرضى عن نفسه حين كان يفسر، فيرضي العقول، ويشفي الصدور، وينقع غلة طلاب المعرفة.
نامعلوم صفحہ